ماهية رقابة الامتناع

تعتبر رقابة الامتناع من إبداع القضاء في الولايات المتحدة، نظرا لخلو الدستور الأمريكي من نص يخوله الاختصاص بالرقابة على دستورية القوانين الاتحادية. مما يستدعي التعريف بها، وبيان الأسباب الممهدة لنشأتها، و موقف المحكمة الاتحادية العليا في الاقرار بها وإرساء قواعدها.

التعريف برقابة الامتناع:

تفترض هذه الطريقة أن هناك دعوى مقامة لدى القضاء أيا كان موضوعها، فقد يكون النزاع مطروحا أمام محكمة جنائية أو حقوقية أو ادارية، فيدفع أحد الخصوم بعدم دستورية القانون الذي سيفصل في النزاع سندا إليه، مطالبا بعدم تطبيقه. فإذا أقره القاضي على طلبه و حجته فإنه يمتنع عن تطبيق ذلك القانون دون أن يحكم بإلغائه أو بطلانه( ).
وعليه يمكن تعريف رقابة الامتناع بأنها: طريقة دفاعية يلجأ إليها صاحب الشأن المضرر من تطبيق قانون معين، أثناء نظر دعوى أمام القضاء، طالبا استبعاد تطبيق هذا القانون لمخالفته للدستور( ).
ويحدث اللجوء الى هذا الأسلوب في حالة سكوت الدستور عن تنظيم موضع الرقابة على دستورية القوانين، فهو لا يحتاج إلى نص دستوري يقرره( )، لأنه يتصل بطبيعة عمل القاضي حينما يدفع المدعى عليه بعدم دستورية قانون معين، فإن من واجب القاضي أن يتحرى عن صحة هذا الدفع، فإذا تبين له أن القانون متفق مع أحكام الدستور قضى بتطبيقه، أما إذا تأكد من جدية الدفع ومخالفة القانون للقواعد الدستورية، فعليه أن يرجح كفة الدستور بإعتباره التشريع الأعلى مقررا الامتناع عن تطبيق هذا القانون في القضية المطروحة( ).
وبما أن الحكم يقتصر فقط على الامتناع عن تطبيق القانون لتعارضه مع أحكام الدستور، كما أنه ذو حجية نسبية، إذ يقتصر أثره على أطراف الدعوى فقط، فإن هذا القانون يبقى قائما و موجودا، و يمكن للمحاكم الأخرى أن تطبقه إذا لم يدفع بعدم دستوريته أمامها، أو إذا قررت هذه المحاكم دستوريته( ). وعليه فإن من المحتمل أن تتضارب الأحكام الصادرة عن المحاكم بأنواعها، ولكن الملاحظ من الناحية العملية أن صدور الحكم بالامتناع عن تطبيق قانون ما لعدم دستوريته من محكمة عليا يقيد سائر المحاكم على اختلاف درجاتها، ويكون سببا في شل تطبيق ذلك القانون( ).

الأسباب الممهدة لنشأة رقابة الامتناع:

كانت البداية لظهور هذه الطريقة في الولايات المتحدة الأمريكية، فهي المهد الذي نشأت وترعرعت في ربوعه الرقابة على دستورية القوانين( ) وقد مهد لذلك عدد من العوامل الرئيسية، من أهمها:

أولا: الشكل الاتحادي للدولة
من المعلوم أن الولايات المتحدة تتكون من مجموعة ولايات كان عددها عند نشأة الاتحاد ووضع الدستور الاتحادي ثلاث عشرة ولاية، وأخذ هذا العدد بالتزايد حتى تجاوز الخمسين ولاية في الوقت الراهن، لهذا نص الدستور الاتحادي على توزيع السلطات والاختصاصات بين الدولة الاتحادية والولايات، فلكل منها دستورها وسلطاتها العامة التشريعية والتنفيذية والقضائية. ويصبح هذا التوزيع الدستوري مجردا من قيمته وغايته في إقامة التوازن بين طرفي المعادلة إذا خالفت أيا من السلطات العامة اختصاصاتها سواء في الدولة الاتحادية أو الولايات. ومقتضى ذلك ضرورة قيام جهة معينة، للتأكد من اتفاق أعمال هذه السلطات مع النصوص الدستورية الاتحادية وخاصة في المجال التشريعي.
والملاحظ أن الدستور الاتحادي قد وضع حلا جزئيا لهذه المعضلة وذلك فيما يتعلق بعدم تعارض دساتير الولايات و قوانينها مع دستور الاتحاد أو قوانينه، وسطر هذا الحل في المادة السادسة منه: ” يكون هذا الدستور و قوانين الولايات المتحدة التي ستوضع بموجبه و جميع المعاهدات المبرمة أو التي ستبرم بموافقة الولايات المتحدة، القانون الأعلى للبلاد، ويلتزم بها القضاة في كل ولاية بصرف النظر عما يرد خلاف ذلك في دستور أو قوانين أية ولاية “( ).
ولكن من الزاوية الأخرى فإن هذا الدستور لم ينص على الحل الذي يمكن اتباعه إذا تجاوزت السلطات الاتحادية حدود اختصاصاتها التي رسمها الدستور واعتدت على الاختصاصات المقررة لسلطات الولايات.
ويعلق الفقيه الفرنسي موريس دوفرجيه على ذلك بقوله:
لقد توسعت وتطورت فكرة الدستورية أولا في الولايات المتحدة الأمريكية، بسبب بنيتها الاتحادية، لذا حاولت الولايات الأعضاء في الدولة الاتحادية أن تحمي نفسها من تجاوزات الكونجرس على استقلاليتها، ومن هنا نشأت قاعدة أن أعمال الكونجرس ومن ضمنها القوانين يجب أن تخضع وتمتثل للدستور( ).

ثانيا: بعض الأحكام الصادرة عن محاكم الولايات قبل قيام الدولة الاتحادية
كالحكم الصادر عن محكمة ولاية نيوجرسي في قضية هولمز سنة 1780
(Holmes V.Walton) ويتلخص بعدم دستورية قانون ينص على تكوين هيئة محلفين من ستة اعضاء مما يخالف قاعدة دستورية عرفية مستقرة بتشكيلها من اثني عشر عضوا( ).
والحكم الصادر عن محمكة ولاية رود أيلاند في قضية تريفت سنة 1786 (Trivet V.Weedeen) ، والمتعلق برفض المحكمة تطبيق قانون يجعل من بعض أنواع النقود عملة إلزامية، لأنه يخالف دستور الولاية( ).
وأخيرا الحكم الصادر عن المحكمة العليا لولاية كارولينا الشمالية في قضية بيرد سنة 1787 (Bayard V. Singleton) حيث قضت بعدم دستورية قانون يجيز شراء ملكية عقارات مصادرة بخلاف ما يقضي به الدستور ( ).
ويعلق بعض الفقه على هذه الأحكام بقوله:
كان رفض بعض المحاكم تطبيق القانون بحجة مخالفته لدستور الولاية، مثارا لسخط أهاليها، فلم يجددوا انتخاب القضاة، فتهيبت المحاكم وكفت عن التصدي لهذه المسألة إلى أن أنشئت المحكمة الاتحادية العليا( ).

موقف المحكمة الاتحادية العليا وآثاره:

يمكن القول بأن الأسباب الآنفة الذكر قد ساهمت في تهيئة المناخ المناسب لنشأة مبدأ الرقابة على دستورية القوانين وذيوعه، إثر الحكم الشهير الذي أصدرته المحكمة الاتحادية العليا برئاسة القاضي مارشال Marshal.
ونظرا لأهمية هذا الحكم وأثره البالغ في وضع الأسس لرقابة الامتناع، سنخصه بشيء من التفصيل:

– قضية ماربوري ضد مايسون سنة 1803( ). (1803) Marbury V. Madison تتلخص وقائع هذه القضية بقيام الاتحاديين في نهاية فترة الرئيس آدمز Adams ، بإصدار عدد من القرارات تتعلق بتعيين قضاة لبعض المحاكم. إلا أن الوزير المعني لم يتمكن من تسليم بعض هذه القرارات لأصحابها، بسبب الظروف والملابسات الصعبة التي واكبت انتهاء مدة ولاية الرئيس الذي لم يتمكن من تصديق تلك القرارات إلا في الساعات الأخيرة لولايته. ومنها تعيين ماربوري Marbury و ثلاثة آخرين، وعلى أثر فوز الرئيس توماس جيفرسون Thomas Jefferson و هو من الجمهوريين، عين ماديسون Madsion وزيرا في حكومته، فرفض تسليم ماربوري وزملائه قرارات تعيينهم محتجا بالسلطة التقديرية التي تتمتع بها الادارة.
لجأ ماربوري إلى المحكمة العليا مطالبا إياها بإصدار أمر قضائي للوزير ماديسون يقضي بتسليمه قرار تعيينه. وفي هذا المأزق الحرج تجلت براعة المحكمة برئاسة القاضي مارشال حيث قضيت لماربوري بأحقيته في التعيين لكنها لم تصدر أمرا للوزير ماديسون لتسليمه نسخة من القرار، لعدم دستورية القانون الذي يخولها سلطة اصدار الأوامر، وهكذا امتنعت المحكمة عن تطبيق مضمون هذا القانون. ومما جاء في حيثيات هذا الحكم:
“كل من يضع دستورا مكتوبا جامدا إنما يهدف ولا شك أن يجعله القانون الأسمى للأمة وحيث يتنازع التطبيق في قضية ما القانون والدستور يكون من واجب المحكمة أن تقرر أيهما الذي يسري، وطالما أن الدستور أسمى من أي قانون عادي فهو الذي يجب أن يطبق”.
وتبدو أهمية هذا الحكم في إقراره للقضاء بحقه في رقابة دستورية القوانين، وقد استندت المحكمة العليا في تبرير ذلك الى مبدأين أساسين( ):
الأول: سمو الدستور الجامد على القوانين ،
الثاني: طبيعة وجوهر وظيفة القضاء. أما بالنسبة للمبدأ الأول فتقرره المحكمة أضافة إلى ما ورد في الفقرة السابقة من حكمها، بقولها:
وآية ذلك أن الدستور هو القانون الأساسي المنظم للسلطات الثلاث والتي يجب عليها أن تمارس اختصاصاتها في الحدود التي أقرها الشعب صاحب السيادة، فإذا تجاوزت السلطة التشريعية حدود اختصاصها الدستوري وسنت قانونا مخالفا للدستور، فإن مقتضى مبدأ تدرج القواعد القانونية يوجب تغليب القانون الدستوري واتباع حكمه، وإهمال القانون العادي المخالف له وطرحه جانبا.

وتبرر المحكمة المبدأ الثاني أي قيام القضاء بهذه الرقابة استنادا لوظيفته بقولها:
ان رفض السلطة القضائية تطبيق قانون مخالف للدستور لا يمثل اعتداء على اختصاص السلطة التشريعية، لأن الأمر لا يخرج عن ممارسة السلطة القضائية لوظيفتها واختصاصها بحل المعضلة القانونية الناجمة عن تعارض القوانين الدستورية والعادية في النزاع المطروح عليها.
ورغم أن قضاء المحاكم الأمريكية هو مجرد قضاء امتناع إلا أن أثره يزداد قوة من الناحية الواقعية استنادا الى نظام السوابق القضائية حيث تتقيد كل محكمة بالحكم الذي تصدره كما تتقيد به المحكمة التي في درجتها والمحاكم الأدنى منها درجة. لذا فإن الحكم الصادر عن المحكمة الاتحادية العليا بإعتبارها أعلى محكمة والقاضي بعدم دستورية قانون يلزمها، كما تتقيد به سائر المحاكم الاتحادية و محاكم الولايات.

وقد توسعت المحكمة الاتحادية العليا و أسرفت في رقابتها لدستورية القوانين. ولعل من أبرز العوامل التي شجعتها على هذه المغالاة صياغة الدستور الأمريكي حيث كان في بداية عهده قاصرا عن استيعاب كثير من الأحكام الجوهرية، وكانت المحكمة تدرك ما فيه من نقص فأحلت تقديرها محل تقدير المشروع الدستوري وابتدعت شتى المعايير وتذرعت بما اعتبرته روح الدستور لتستبعد تطبيق القوانين التي لا تراها بحسب تقديرها ملائمة لظروف ومصالح المجتمع. مما حمل العديد من الفقهاء على نقد هذا التوسع ووصف هذه المحكمة بأوصاف لاذعة مثل حكومة القضاة( ) government by judges، والتشريع المقنع covert legislation أو المجلس التشريعي الثالث( ).

وقد بلغ تمادي المحكمة ذروته عندما وقفت في وجه القوانين الاصلاحية التي سنها الكونغرس تنفيذا لبرنامج الانعاش الاقتصادي الذي وضعه الرئيس فرانكلين روزفلت حيث قضت بعدم دستورية العديد من هذه القوانين بحجة مخالفتها لروح الدستور الاتحادي المتمسك بالمذهب الفردي في المجال الاقتصادي.
وهذا حدا بالرئيس روزفلت ومن بعده الرئيس ترومان الى التشكيك في مسلك المحكمة الاتحادية العليا ومحاولة الحد من سلطاتها. ونتيجة لهذه الضغوط وللظروف التي أحاطت بالمحكمة في هذه الفترة أصبح قضاؤها أكثر اعتدالا وواقعية( ).
وما زال القضاء الأمريكي يدافع بقوة عن مبدأ سمو الدستور وحماية نصوصه من تجاوزات السلطتين التنفيذية والتشريعية كما حدث في قضية الولايات المتحدة ضد نيكسون (1974)
United States v. Richard Nixon ( ).
ومن باب الانصاف فإن هذه المحكمة قد وضعت الأساس لمبدأ الرقابة على دستورية القوانين بطريق الامتناع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، ثم مضت قدما في اشادة صرحه واعلاء بنيانه الى ان انتشر وذاع صيته، وبدأ القضاء المقارن يقتبس من معينها ويسير على نهجها، فبعد أن كان القضاء في كثير من الدول يرفض أو يتهيب من ممارسة سلطته في الرقابة على دستورية القوانين، بدأ تدريجيا يحذو حذو القضاء الأمريكي ويقر لنفسه هذا الحق، متأثرا بالحجج القوية التي استندت إليها المحكمة الاتحادية العليا.
ففي سنة 1890 أصدرت محكمة النرويج العليا حكما يؤيد هذا الاتجاه، وفي رومانيا طرح هذا الموضوع أمام محكمة افلوف (Iflov) في قضية شركة ترام بوخارست حيث دفعت الشركة بعدم دستورية القانون الصادر سنة 1911 الذي تذرعت به الحكومة في تلك الدعوى، وطالبت الحكومة بوجوب تطبيقه محتجة بأنه ليس للمحاكم أن تبحث في دستورية القوانين. فقضت المحكمة في حكمها الصادر سنة 1912 بحقها في ذلك مرتكزة الى الأسانيد الدامغة التي ذكرتها في معرض تسبيبها لحكمها، وتكاد تكون ذات الحجج التي استند اليها القضاء الأمريكي( ). وعلى هذا الطريق سار القضاء المصري في ظل دستور سنة 1923 نظرا لعدم وجود أي نصوص دستورية أو تشريعية تنظم حق القضاء في مراقبة دستورية القوانين( ).وقد حسمت محكمة القضاء الاداري تردد القضاء المصري في هذا المجال في حكمها الشهير الصادر بتاريخ 10 فبراير 1948، مقررة حق المحاكم في بحث دستورية القوانين، وصاغت أسانيدها بعبارات دقيقة محكمة مما جعل هذا الحكم من الأحكام الكبرى الشهيرة في تاريخ القضاء المصري، ومما جاء في حيثياته( ):
ومن حيث أنه ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم من التصدي لبحث دستورية القوانين سواء من ناحية الشكل أو الموضوع.

وقد قدمت هذه المحكمة تسبيبا رائعا لهذا الحكم يستند الى المفهوم السليم لمبدأ الفصل بين السلطات وضرورة احترام كل منها للمبادىء التي قررها الدستور حال قيامها بوظائفها، وإلى تحديد وظيفة المحاكم إزاء تعارض قانون عادي مع الدستور، بقولها:
فهي أي المحاكم تملك الفصل عند تعارض القوانين في أيها الواجب التطبيق إذ لايعدو أن يكون هذا التعارض صعوبة قانونية مما يتولد عن المنازعة فتشملها سلطة المحكمة في التقدير لأن قاضي الأصل هو قاضي الفرع.
ولا ريب بأن العبارات والحجج التي صاغتها محكمة القضاء الاداري تتطابق مع تلك الأدلة التي قررتها المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة الامريكية.

هاني علي الطهراوي

التعريف القانوني برقابة الامتناع