المفهوم القانوني و الاصطلاحي لقواعد الإسناد

المؤلف : ميثم فليح حسن
الكتاب أو المصدر : طبيعة قواعد الاسناد
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك

اصطلاح قواعد الإسناد
لو استعرضنا كتابات الفقهاء في القانون الدولي الخاص، وتحديداً في مادة تنازع القوانين، لتبين لنا ان الفقه لم يورد تسمية محددة لقواعد الإسناد، بل نجده يشير إلى هذه القواعد باصطلاحات متعددة ومختلفة. فمرةً يطلق على القواعد المذكورة اصطلاح قواعد القانون الدولي الخاص، وأخرى ينعتها بقواعد توزيع الاختصاص التشريعي، كما يسميها أحياناً قواعد تنازع القوانين(1). وهذه الاصطلاحات المتعددة لقواعد الإسناد هي اصطلاحات متباينة في مفهومها وفي دلالتها على هذا النوع من القواعد بالتحديد من بين القواعد القانونية عموماً أو من بين القواعد التي يضمها القانون الدولي الخاص على وجه الخصوص، بل ان بعضها ربما لا يتفق مع وظيفة قواعد الإسناد في هذا الفرع من فروع القانون. فاصطلاح قواعد القانون الدولي الخاص هو اصطلاح ذات مفهوم أوسع من أن يدل على قواعد الإسناد بالتحديد من بين قواعد القانون الدولي الخاص الأخرى(2).

ذلك أن النطاق الموضوعي للقانون الدولي الخاص، بوصفه فرع من فروع الدراسات القانونية، وبعد أن كان يقتصر على موضوع قواعد الإسناد بما تقدمه من حلول في نطاق نظرية تنازع القوانين، وذلك منذ القرن الثالث عشر، فان هذا النطاق لم يَبْقَ على سالف عهده، بل أصبح يضم إلى جانب تنازع القوانين موضوعات أخرى هي الاختصاص القضائي الدولي والجنسية والموطن والمركز القانوني للأجانب(3)، وإنْ كان موضوع التنازع لا يزال إلى اليوم الموضوع الأساسي لهذا الفرع القانوني وان البحث في الموضوعات الأخرى يُعد بمثابة مقدمات لتنازع القوانين.

وبناءً على ذلك فان إطلاق تسمية قواعد القانون الدولي الخاص على قواعد الإسناد يوحي بأن فرع القانون الدولي الخاص لا يتضمن سوى هذا النوع من القواعد القانونية، وهو ما لا يتفق مع تعدد الموضوعات وضرورة وجود قواعد قانونية تحكم كل موضوع منها ضمن الفرع المذكور من فروع القانون. أما بشأن اصطلاح قواعد توزيع الاختصاص التشريعي، فان هذا الاصطلاح لا يمكنه التعبير بشكل دقيق عن طبيعة قواعد الإسناد وما تتميز به عن باقي القواعد القانونية(4)، وذلك من جهتين، الأولى ان الاصطلاح المذكور لا يتفق مع وظيفة قواعد الإسناد في ميدان تنازع القوانين، فهو يوحي بأن هذه القواعد بتحديدها القانون الواجب التطبيق فإنها تمنح دولة ذلك القانون اختصاصاً تشريعياً بحكم النزاع، في حين ان أية دولة لا يمكنها، واقعاً، أن تشرِّع لدولة أخرى أو أنْ تَفرض قوانينها على إقليم دولة أجنبية(5)، وأن وظيفة قواعد الإسناد لا تتعدى اختيار القانون المناسب لحكم النزاع من بين القوانين المتزاحمة، وذلك وفقاً لوجهة نظر المشرع الوطني، وفي حدود الاختصاص المكاني لقانونه.

ومن جهة ثانية فان عبارة توزيع الاختصاص التشريعي هي عبارة مُجانبة للدقة، وذلك لأن الاختصاص عادة ما يتعلق بالمحاكم التي تنظر في النزاع، أما القانون فلا يقال انه مختص بالنزاع، وإنما هو يُطبق عليه من قبل المحكمة المختصة(6). كما ان عبارة الاختصاص التشريعي قد تشتبه مع موضوع الاختصاص القضائي في القانون الدولي الخاص، وتؤدي بالتالي إلى الإشكال بين الموضوعين. وفيما يتعلق باصطلاح قواعد تنازع القوانين، والذي كثيراً ما يتردد على لسان فقهاء القانون الدولي الخاص(7)، فان هذا الاصطلاح كان في حدِّ ذاته دالاً بوضوح على قواعد الإسناد، وذلك حين كانت هذه القواعد هي الوسيلة الفنية المعتادة لحل مشكلة التنازع، إذ كانت مرتبطة بشكل وثيق بعلم تنازع القوانين.

ففي ذلك الحين كان اصطلاح قواعد تنازع القوانين مرادفاً لاصطلاح قواعد الإسناد، وكان الفقه يَستعمل أيٍّ من هذين الاصطلاحين للإشارة إلى الاصطلاح الآخر(8). غير أن قواعد الإسناد، بعد التطور الذي حصل في ميدان القانون الدولي الخاص، لم تعد الوسيلة الوحيدة لحل التنازع، بل ظهرت إلى جانبها قواعد أخرى شاركتها ذلك الحل، ومن هذه القواعد ما تقدِّم حلولاً مباشرة لنزاعات جانب من العلاقات ذات العنصر الأجنبي، وهي تعرف بالقواعد الموضوعية للتجارة الدولية(9)، ومنها ما تَفرض تطبيقها على جميع العلاقات الداخلة في نطاق إعمالها بغض النظر عن اشتمالها على العنصر الأجنبي، وتعرف بالقواعد ذات التطبيق الضروري(10)، وإنَّ دراسة هذين النوعين من القواعد القانونية أصبحت تشكل مناهج مستقلة في نطاق موضوع تنازع القوانين إلى جانب منهج قواعد الإسناد، والذي أضحى معروفاً لدى الفقه بمنهج التنازع التقليدي. ولهذا فان اصطلاح قواعد تنازع القوانين قد أخذ مفهوماً أوسع من مفهوم قواعد الإسناد، وهو ما يجعل دلالته على هذه القواعد محل نظر(11).

وزيادة على ذلك فان اصطلاح تنازع القوانين بحدٍّ ذاته كان ولا يزال عرضة للنقد من قبل فقه القانون الدولي الخاص، فهذا الاصطلاح يوحي بوجود تضارب أو صراع بين القوانين ذات الصلة بالعلاقة مثار النزاع، في حين إن الأمر لا يعدوا أن يكون عملية مفاضلة بين تلك القوانين، واختيار للقانون الأكثر ملاءمة من بينها لحكم النزاع(12).ومما تقدم يظهر ان اصطلاح قواعد الإسناد يَفضل الاصطلاحات الأخرى التي أطلقت على هذا النوع من القواعد القانونية، وذلك لكونه الأقرب إلى طبيعتها والأكثر تعبيراً عن وظيفتها في ميدان تنازع القوانين. وهذا الأمر هو الذي دفعنا إلى إطلاق هذه التسمية على القواعد محل البحث، وقد جارينا بذلك ما جرى العمل عليه لدى فقه القانون الدولي الخاص على نحوٍ متواتر.
_________________
1- د. عز الدين عبد الله. القانون الدولي الخاص. الجزء الأول (الجنسية والموطن وتمتع الأجانب بالحقوق). ط9. دار النهضة العربية. القاهرة. 1972. فقرة 1. ص6.
2- من الفقهاء الذين أشاروا إلى قواعد الإسناد باصطلاح قواعد القانون الدولي الخاص د. علي الزيني. القانون الدولي الخاص المصري والمقارن. الجزء الأول. ط1. المطبعة الرحمانية بمصر. 1930. فقرة 7. ص8.
3- وهذه الموضوعات هي ما يُدرس في مادة القانون الدولي الخاص في بلاد القانون المكتوب كالعراق ومصر وفرنسا. انظر في ذلك د. ممدوح عبد الكريم حافظ. القانون الدولي الخاص وفق القانونين العراقي والمقارن. ط2. دار الحرية. بغداد. 1977. ص8.
4- هذه التسمية لقواعد الإسناد أطلقها عليها الأستاذ الفرنسي أنطوان بيليه، إذ يرى هذا الفقيه ان تطبيق القانون الذي تعينه قاعدة الإسناد، بحسب تعبيرنا، لا يأتي عن طريق اختيار ذلك القانون، وإنما عن طريق عقد الاختصاص التشريعي للمشرع الذي سن القانون الواجب التطبيق A.Pillet، Principes de droit international prive، Grenoble، Paris، 1903، p.50.
5- انظر في ذلك د. احمد عبد الحميد عشوش و د. عمر ابو بكر باخشب. الوسيط في القانون الدولي العام، دراسة مقارنة (مع الاهتمام بموقف المملكة العربية السعودية). مؤسسة شباب الجامعة. الإسكندرية. 1990. ص14 وما بعدها.
6- د. جابر جاد عبد الرحمن. القانون الدولي الخاص. الجزء الثاني (تنازع القوانين. تنازع الهيئات. تنازع الاختصاص). ط2. مطبعة التفيض. بغداد. 1948. فقرة 284. ص427.
7- من الفقهاء الذين عَبروا عن قواعد الإسناد بهذا الاصطلاح د. حامد زكي. أصول القانون الدولي الخاص المصري. ط3. مكتبة عبد الله وهبه بمصر. من دون طبع. فقرة 67 وما بعدها. ص55 وما بعدها، وكذلك د. جابر جاد عبد الرحمن. المصدر السابق. فقرة 284 وما بعدها. ص426 وما بعدها.
8- انظر في وسائل فض تنازع القوانين د. هشام خالد. المدخل للقانون الدولي الخاص العربي (نشأته. مباحثه. مصادره. طبيعته)، دراسة مقارنة. ط1. دار الفكر الجامعي. الإسكندرية. 2003. ص180 وما بعدها.
9- بعض الفقهاء والباحثين يطلق على القواعد المذكورة تسمية القواعد المادية للقانون الدولي الخاص. انظر في ماهية هذه القواعد احمد مهدي صالح. القواعد المادية في العقود الدولية، دارسة مقارنة. رسالة ماجستير. كلية القانون. جامعة بغداد. 2004. ص1 وما بعدها.
10- راجع في هذه القواعد ما يأتي بحثه ص160 وما بعدها.
11- هناك من الفقهاء مَن يُعبر عن قواعد الإسناد بكلا الاصطلاحين، فيشير إليها مرةً بهذا الاصطلاح وينعتها أخرى باصطلاح قواعد تنازع القوانين، ومن هؤلاء د. حسن الهداوي. تنازع القوانين وأحكامه في القانون الدولي الخاص الكويتي. جامعة الكويت. 1974. ص55 وما بعدها.
12- د. فؤاد عبد المنعم رياض و د. سامية راشد. مبادئ القانون الدولي الخاص. الجزء الثاني (تنازع القوانين). دار النهضة العربية. القاهرة. 1996. فقرة 1. ص4.

 
تعريف قواعد الإسناد
فتعريف قواعد الإسناد يساعدنا على تمييزها عن القواعد القانونية الأخرى في فروع القانون المختلفة، كما يميز هذه القواعد عن سائر ما سواها من قواعد القانون الدولي الخاص، ويكون ذلك من خلال إبراز مضمونها ووظيفتها داخل هذا الفرع من فروع القانون، زيادة على إظهار خصوصيتها كمنهج لتنظيم العلاقات الخاصة الدولية إلى جانب المناهج الأخرى التي ظهرت في ميدان هذه العلاقات. ولكن قبل أن نتطرق لتعريف قواعد الإسناد بمعناها الإصطلاحي فإن من الأولى بيان المعنى اللغوي للإسناد بشكل عام، وذلك بغية التعرف على مدى ملاءمة هذا اللفظ من الناحية اللغوية مع طبيعة القواعد محل البحث.

وفي هذا الشأن فقد جاء في كتب اللغة ان السَّند: ما قابَلَك من الجبل وعَلا عن السَّفْح، ويُقال فلانٌ سَنَدٌ، أي مُعتَمَد(1). ووردَ كذلك ان الإسناد في الحديث: رفعُهُ إلى قائِلهِ، ويُقال سَنَدَ في الجَبَل وأسْنَدَ، بمعنى رَقِيَ(2). ويُقال أيضاً سَنَدَ إليه سُنُوداً، أي اعتمد عليه واسْترفَدَ به، وأسْنَدَه إليه: جَعَله مُتَّكئاً له. ومِثله يُقال تَسانَدَ إليه واستَنَدَ، أي اعتَمَدَ عليه(3). هذا عن المعنى اللغوي للفظ الإسناد، وأما ما يتعلق بقواعد الإسناد، فان من خصائص هذه القواعد، … أنها ذات طابع إرشادي، أي أنها لا تقدم حلاً موضوعياً للنزاع بل تشير فقط إلى القانون الذي يتضمن ذلك الحل. وهذه القواعد بتحديدها للقانون المختص تكون، بحسب التعبير اللغوي، قد أسندت إليه حل النزاع المعروض، ويصير القانون المذكور هو القانون المسند إليه أو المعتمد عليه، وذلك باعتبار انه القانون الذي رُفع إليه موضوع النزاع وترك له أمر الفصل فيه(4).

بعد أن اتضح لنا المعنى اللغوي لقواعد الإسناد، نُعِّرج على التعريف الاصطلاحي لهذه القواعد في إطار القانون الدولي الخاص. وفي هذا الخصوص يمكننا القول ابتداءً انه لا يوجد في الحقيقة تعريف محدد لهذا النوع من أنواع القواعد القانونية، ويظهر لنا من كتابات الفقهاء ان غالبيتهم يتحاشون إيراد أي تعريف لقواعد الإسناد، وعند تعرض قسم منهم للحديث عن القواعد المذكورة نراهم يكتفون بالقول انها وسيلة من وسائل حل تنازع القوانين، أو انهم يقتصرون على بيان مهمتها في الإرشاد إلى القانون الواجب التطبيق، وقد يكتفي البعض منهم بعرض أوصاف هذه القواعد أو تحديد خصائصها. ولكن مع ذلك فان كتابات أولئك الفقهاء لا يمكنها أن تعبر عن جميع الاتجاهات في فقه القانون الدولي الخاص، ذلك انه مع وجود هذا الاتجاه السلبي فان هناك من الفقهاء من تطرق إلى تعريف قواعد الإسناد، وإنْ لم تكن تعريفاتهم لهذه القواعد متشابهة أو متقاربة، إذ نراهم قد أوردوا في كتبهم تعريفات متعددة لا يكاد يجمعها نسق واحد.

فقد عرف بعض الفقهاء قواعد الإسناد بأنها (القواعد القانونية التي ترشد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق على المراكز القانونية ذات العنصر الأجنبي) (5)، كما عرفها غيرهم بأنها (القواعد التي يتعين بموجبها القانون الواجب التطبيق على … العلاقات الحقوقية أو القانونية المشتملة على عنصر أجنبي) (6)، ومن الفقهاء من عرفها بأنها القواعد التي (تسند العلاقة القانونية المشوبة بعنصر أجنبي إلى قانونٍ ما، قد يكون وطنياً أو أجنبياً، تتكفل قواعده الموضوعية بحكم العلاقة القانونية موضوع النزاع) (7)، في حين قال فقيه آخر أن قواعد الإسناد هي (قواعد قانونية وطنية من صنع المشرع الوطني أو مَن يفوضه في ذلك لا تعطي الحل المباشر للنزاع وإنما ترشد وحسبْ للقانون الذي يجب تطبيقه باعتباره أكثر القوانين اتصالاً بالعلاقة) (8)، أو بحسب تعبير بعض الباحثين انها (تلك القواعد في القانون الوطني أو في اتفاقية دولية تقوم بتعيين قانون دولة معينة ليكون واجب التطبيق لحكم علاقة قانونية خاصة دولية) (9)، وفي تعريف آخر جاء فيه ان قاعدة الإسناد (هي القاعدة القانونية التي ترشد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق على المراكز القانونية ذات العنصر الأجنبي، وهي قاعدة من صنع المشرع الوطني، وبمقتضاها يختار من بين القوانين المتزاحمة أكثرها ملاءمة لحكم العلاقة الخاصة الدولية بما يحقق مصالحه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية) (10).

ومن استعراضنا للتعريفات الواردة بشأن قواعد الإسناد يتضح أن هذه التعريفات لم تبرز طبيعة القواعد المذكورة على نحوٍ تام، بل نجد انها قد اكتفت بتسليط الضوء على جانب واحد أو اكثر لتلك الطبيعة من دون الجوانب الأخرى. فنرى بعض التعريفات قد أكدت على صفات قواعد الإسناد، إذ منها ما التفت إلى عدم إعطاء هذه القواعد حلاً مباشراً للنزاع وإرشادها فقط إلى القانون الواجب التطبيق، ومنها ما أشار إلى صفة الازدواجية في قواعد الإسناد وما تقود إليه تلك الصفة من تساوي القانون الوطني والقانون الأجنبي أمام القواعد المذكورة، علاوةً على أن بعض التعريفات قد أكد على نطاق تطبيق قواعد الإسناد والذي، بحسب التعريف، لا يتعدى العلاقات القانونية الخاصة ذات العنصر الأجنبي.

وهذا بخلاف التعريف الأخير لقواعد الإسناد، إذ كان أوفى من باقي التعريفات الواردة للقواعد محل البحث. فهذا التعريف قد تطرق لما سبق وأنْ أشارت إليه تلك التعريفات وزاد عليها بتأكيده على الطابع الوطني لقواعد الإسناد، زيادة على إبرازه وظيفة هذه القواعد في حكم العلاقات الخاصة الدولية. ولكن مع ذلك نجد ان من الفقهاء مَن عرَّف قواعد الإسناد على نحوٍ حاول فيه أن يكون التعريف أكثر إحاطة بخصائص هذه القواعد وعناصرها، واكثر توضيحاً لدورها في ميدان القانون الدولي الخاص. ولعل من أوفى التعريفات بياناً لقاعدة الإسناد ذلك الذي أشار إليها أنها (قاعدة قانونية وضعية ذات طبيعة فنية، تسري على العلاقات الخاصة الدولية، فتصطفي أكثر القوانين مناسَبة وملاءَمة لتنظيم تلك العلاقات حينما تتعدد القوانين ذات القابلية للتطبيق عليها) (11). فهذا التعريف كما يبدو هو الأقرب لطبيعة قواعد الإسناد من التعريفات الأخرى التي وردت في هذا الشأن. ذلك ان التعريف المذكور يبين ان قواعد الإسناد هي قواعد قانونية تضعها السلطة التشريعية في الدولة، وهي ذات طبيعة فنية محددة ومتميزة، وان لها مجالاً معيناً للتطبيق، كما ان هذا التعريف يحدد وظيفة القواعد محل البحث وذلك باعتبارها أداةً لاصطفاء القانون الملائم لتنظيم العلاقات القانونية الداخلة في مجال انطباقها(12).

ولكن مع ذلك فإن التعريف المذكور، مع ما اشتمل عليه من إحاطة بطبيعة قواعد الإسناد، إلا انه قد تضمن بعض الإطراد أو التكرار في عباراته، وهو ما لاحظناه في موضعين، أولهما إن التعريف قد أشار إلى طبيعة قواعد الإسناد باعتبارها قواعد وضعية ذات طبيعة فنية تسري على العلاقات الخاصة الدولية، ومع ذلك فقد عاد وبيَّن وظيفتها في اصطفاء القانون الذي يحكم تلك العلاقات، في حين ان بعض التوضيح لطبيعة القواعد محل التعريف كان من شأنه أن يستوعب تلك الوظيفة. وثانيهما ما أشار إليه من أن اصطفاء القانون الملائم لا يكون إلا عندما تتعدد القوانين ذات القابلية للتطبيق على العلاقة موضوع النزاع، ومن المعلوم أن الاصطفاء أو الاختيار الذي تقوم به قاعدة الإسناد مُترتب يقيناً على تعدد القوانين المتزاحمة لحكم تلك العلاقة، وبالتالي فلا حاجة لوجود العبارة الأخيرة الواردة في التعريف.

وبعد هذا العرض لعدد من التعريفات التي أوردها فقه القانون الدولي الخاص لقواعد الإسناد وبياننا لبعض مضامينها، فقد أصبح من اليسير وضع تعريف محدد لهذه القواعد تبرز من خلاله طبيعتها الفريدة والمميزة عن عموم القواعد القانونية العادية، وذلك بعيداً عن السرد أو الاقتضاب، ومن غير تركيز على بعض خصائصها أو عناصرها من دون البعض الآخر. وبهذا الصدد يمكن تعريف قواعد الإسناد بأنها قواعد قانونية وضعية، تصطفي القانون الأكثر ملاءمة لتنظيم العلاقات الخاصة الدولية من بين القوانين ذات القابلية لهذا التنظيم. وهذا التعريف يلقي الضوء على طبيعة قواعد الإسناد بمختلف صور الطبيعة وأشكالها، وهو ما يَظهر فيما يلي من خلال توضيحنا لعناصر التعريف المذكور وجلاء ما تتسم به هذه العناصر من دلالات.

فتعريف قواعد الإسناد بأنها قواعد قانونية وضعية يبين الطبيعة الوضعية لهذه القواعد، وذلك باعتبار أنها غالباً ما تكون قواعد من وضع المشرع الوطني في الدولة أو أن المشرع لا بد من أن يَعترف بها فيما لو لم تكن من وضعه، كما هو شأن القواعد ذات الأصل العرفي أو القضائي(13). ولهذا تشترك قواعد الإسناد مع سائر القواعد القانونية في جميع ما لتلك القواعد من الصفات العامة كصفة العمومية أو التجريد أو الإلزام، مع ان هذا لا يمنع من أن تكون لقواعد الإسناد بعض الصفات الذاتية التي تفردها عن القواعد القانونية الأخرى وتقتضيها وظيفتها في القانون الدولي الخاص(14).

أما القول بأن قواعد الإسناد تصطفي القانون الأكثر ملاءمة لحكم النزاع فانه يبين الطبيعة الفنية للقواعد محل البحث، وذلك من منظور أنها قواعد ذات بناء فني مميز وتقوم على أركان أو عناصر ذاتية تختلف عن عناصر القواعد القانونية العامة(15). كما ان هذا القول يركز على وظيفة قواعد الإسناد في الحياة الخاصة الدولية باعتبارها أداة مفاضلة بين القوانين المتزاحمة واختيار القانون الملائم لحكم النزاع. وأما ذكر العلاقات الخاصة الدولية على وجه التحديد فانه يدل على الطبيعة النوعية لقواعد الإسناد ويوضح نطاق تطبيقها. فقواعد الإسناد لا تسري على مجمل العلاقات القانونية في النظام القانوني للدولة، بل تسري على نوع محدد من العلاقات، هي تلك التي تربط بين أشخاص القانون الخاص وتكون من العلاقات ذات الطابع الدولي(16).
_____________________
1- أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي. الصّحاح. الجزء الأول. ط1. دار الفكر. بيروت. 1998. ص417-418.
2- ابن منظور. لسان العرب. الجزء السادس. ط3. دار إحياء التراث العربي. بيروت. من دون طبع. ص387.
3- سعيد الخوري الشرتوني اللبناني. أقرب الموارد في فصَح العربية والشوارد. الجزء الثاني. ط1. دار الأسوة. طهران. 1416هـ. ص727.
4- د. ممدوح عبد الكريم حافظ. القانون الدولي الخاص وفق القانونين العراقي والمقارن. ط2. دار الحرية. بغداد. 1977. ص272-273.
5- د. هشام خالد. المدخل للقانون الدولي الخاص العربي (نشأته. مباحثه. مصادره. طبيعته)، دراسة مقارنة. ط1. دار الفكر الجامعي. الإسكندرية. 2003.ص207.
6- نعوم سيوفي. الحقوق الدولية الخاصة، أمالي ومحاضرات. مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية. 1965-1966. ص505.
7- د. حسن الهداوي. القانون الدولي الخاص، تنازع القوانين (المبادئ العامة والحلول الوضعية في القانون الأردني)، دراسة مقارنة. ط2. مكتبة دار الثقافة. عمّان – الأردن. 2001. ص49.
8- د. عكاشة محمد عبد العال. أحكام القانون الدولي الخاص اللبناني، دراسة مقارنة. الجزء الأول (تنازع القوانين). الدار الجامعية. بيروت. 1998. ص7-8.
9- عبد الحميد محمود حسن السامرائي. تنازع القوانين في المسؤولية التقصيرية، دراسة مقارنة. رسالة دكتوراه. كلية القانون. جامعة بغداد. 1990. ص7-8.
10- د. حفيظة السيد الحداد. القانون الدولي الخاص. الكتاب الأول (تنازع القوانين). منشورات الحلبي الحقوقية. بيروت. 2002. فقرة 34. ص23.
11- د. احمد عبد الكريم سلامة. علم قاعدة التنازع والاختيار بين الشرائع أصولاً ومنهجاً. ط1. مكتبة الجلاء الجديدة. المنصورة. 1996. فقرة 16. ص24.
12- في نطاق عمل قواعد الإسناد راجع ما يأتي ص121 وما بعدها.
13- انظر في التأكيد على الصفة الوطنية لقواعد الإسناد د. حامد زكي. مصدر سابق. فقرة 36. ص29.
14- د. عكاشة محمد عبد العال. أحكام القانون الدولي الخاص اللبناني، دراسة مقارنة. الجزء الأول (تنازع القوانين). الدار الجامعية. بيروت. 1998. ص13-16، وراجع في صفات قواعد الإسناد ما يأتي بحثه ص40 وما بعدها.
15- في طبيعة قواعد الإسناد ودورها في حلول تنازع القوانين انظر د. فؤاد عبد المنعم رياض و د. سامية راشد. مبادئ القانون الدولي الخاص. الجزء الثاني (تنازع القوانين). دار النهضة العربية. القاهرة. 1996. فقرة 1. ص29 وما بعدها.
16- د. حسن الهداوي. تنازع القوانين وأحكامه في القانون الدولي الخاص الكويتي. جامعة الكويت. 1974. ص16-17.

المفهوم القانوني و الاصطلاحي لقواعد الإسناد