اتفاق التحكيم وفق القانون الاتحادي رقم (6) لسنة 2018 بشأن التحكيم في دولة الإمارات العربية المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن التطور السريع في مجالات التجارة الدولية، ومقتضيات السرعة، ومستحدثات العصر، أثرت بلا شك على المجال القانوني كسائر المجالات الأخرى. ومن تلك التأثيرات الكبرى على العالم، ما نراه الآن من تصاعد موجة التحكيم، كوسيلة بديلة للقضاء في فض المنازعات وحل الخلافات، وذلك لما في التحكيم من ميزات عديدة لا تتوافر في القضاء العادي.
ومواكبةً لهذه التطورات، أظهرت القيادة الرشيدة لدولة الإمارات العربية المتحدة مرونتها التشريعية، وقدرتها الفائقة على مسايرة مستحدثات عصر السرعة والعولمة، من خلال إصدار قانون التحكيم الاتحادي، وهو القانون الاتحادي رقم (6) لسنة 2018 الصادر بتاريخ 3/5/2018، والذي قامت فيه بتنظيم هذه الوسيلة الهامة لفض المنازعات من خلال (61) مادة قانونية تجمع بين المرونة والانضباط التشريعي. وعليه، فإننا نقدم هذه المقالة القانونية تعريفاً باتفاق التحكيم، وتوضيحاً موجزاً لأحكامه حسب القانون الاتحادي الصادر بشأن التحكيم:
أولاً: ما هو التحكيم؟
التحكيم في تعريف القانون الاتحادي في مادته الأولى هو “وسيلة ينظمها القانون يتم من خلالها الفصل بحكم ملزم في نزاع بين طرفين أو أكثر بواسطة هيئة التحكيم بناءً على اتفاق الأطراف.” والحقيقة هي أننا نرى أن هذا التعريف كان من الممكن أن يتم إيضاحه بشكل أفضل، فقد تم تعريف التحكيم في الشريعة الإسلامية على أنه: “اتفاق الخصمين على تولية شخص معين ليحكم ويفصل في الخصومة بينهما.” ونرى أن هذا التعريف أوضح وأوجز. وفي هذا الصدد يُسمى طالب التحكيم “المحتكِم”، ويُسمى المطلوب خصم طالب التحكيم “المحتَكَم ضده”. ويكون الطرف الذي يفصل بينهما هو “المحَكِّم”، وهو الذي يُشكل وحده أو بمن معه من محكِّمين آخرين، هيئة التحكيم.
فالتحكيم ببساطة، هو أن يقوم طرفان بالاتفاق على اللجوء إلى طرف ثالث يفصل بينهما وينهي خصومتها، بدلاً من اللجوء إلى المحاكم. وهذا الطرف الثالث هو هيئة التحكيم التي أشار إليها القانون في تعريفه. فلا بد من اللجوء إلى التحكيم من اتفاق الطرفين، أو الأطراف على اللجوء إلى التحكيم عوضا ًعن القضاء. وهذا هو ما يُعرف باتفاق التحكيم. واتفاق التحكيم يكون إما شرط تحكيم أو مشارطة تحكيم. وسيأتي بيان الفرق بينهما.
وعلى كل حال، يظهر أن التحكيم هو وسيلة لفض المنازعات خارج القضاء عبر اتفاق الأطراف على جهة ثالثة تفصل بينهما بحكمٍ ملزم. ولكن، لا يجوز الاتفاق على التحكيم إلا في المسائل التي يجوز فيها الصلح. فلا يجوز التحكيم في مسائل الجرائم الخاضعة لقانون العقوبات، ولا تحكيم في الحقوق السياسية، ولا تحكيم في أي مسألة لا يجوز للأطراف أن يحسموا النزاع المثار فيها بالصلح فيما بينهم. ولكن، لماذا قد يُرغب في اللجوء إلى التحكيم؟ للتحكيم مزاياً عديدة، قد تجعل الشركات الكبرى والمستثمرين الأجانب يؤثرونه على القضاء العادي، ومن هذه المزايا:
1- السرعة: إن القضاء في دولة الإمارات العربية المتحدة مشهودٌ له بسرعته في إنجاز العدالة. ومع ذلك، يظل التحكيم وسيلةً أسرع نسبياً في الفصل في المنازعات. إن من أهم ميزات التحكيم أنه يعطي المحتكمين الخيار في تحديد المدة التي يجب على هيئة التحكيم أن تفصل أثنائها. وهذه المزية منفردةً من أكبر مزايا التحكيم.
2- المرونة: يسمح القانون الاتحادي رقم (6) لسنة 2018 للمتحكمين أن يختاروا القانون الذي يريدون تطبيقه على نزاعهم، وفي هذه الحالة تكون هيئة التحكيم ملزمةً به. وهذا على النقيض من القضاء العادي المقيد بنصوص محددة، والمطالب بتطبيق قانون دولته – في غالب الأحيان. كما أنه يجوز للمحتكمين أن يطلبوا من هيئة التحكيم أن تقضي عنهم بموجب العدل والإنصاف، أي بما يمليه عليها ضميرها من غير تتبع لأحكام قانونٍ معين. وهذه خاصية لا عديل لها في القضاء.
3- السرية: على عكس القضاء العادي ذو الطبيعة العلنية – كقاعدة عامة. يمتاز التحكيم بالسرية، ولا يجوز نشر أحكامه إلا بموافقة الأطراف. مما يحمي مصالح الشركات الكبرى وغيرها من المحتكمين من آثار العلنية السلبية كالتأثير على قيمة الأسهم على سبيل المثال، أو على سمعة تاجر معين في حال تكلمنا عن الأشخاص.
4- التخصص: يستطيع المحتكمان أن يحتكما لأي هيئة بحسب تخصصها الفني أو العلمي، وهذا يتيح على المحتكمين عرض محل نزاعهم على أشخاص ذوي إحاطة وثقافة ودراية بموضوع النزاع، خصوصاً في المنازعات ذات الطبيعية العلمية أو الفنية البحتة، والتي تحتاج دقة بالغة في دراستها. فالتحكيم يتيح عرض هذه الخلافات على أشخاص ذوي خبرة مباشرة، عوضاً عن عرضها أمام القضاء الذي يحيلها إلى خبير قد لا يكون على قدر الدراية الذي يكون عليه أهل الاختصاص.
إلا أن كل هذه المزايا لا تعني أن التحكيم هو وسيلة مثالية لا يشينها عيب، بل على العكس، للتحكيم كسائر وسائل فض المنازعات الأخرى عيوب، من أهمها:
1- التكلفة: إن التحكيم ذو كلفة عالية جداً. وهذا بلا شك أمر معروف عنه، ومن أسوأ خصائصه، حيث إن هيئات التحكيم تتقاضى مبالغ وأتعاباً كبيرة. ولا ريب في ذلك، إذ أنها تقدم كل المزايا التي أسلفنا ذكرها أعلاه.
2- تفويت الطعن: لا يجوز الطعن على حكم التحكيم حال صدوره إلا بدعوى بطلان حكم التحكيم في حال كان الحكم الصادر عن هيئة التحكيم مشوباً ببعض العيوب التي حددها قانون التحكيم على سبيل الحصر. وهذا مؤداه أن فرصة الاستئناف على الحكم، أو الطعن بالنقض عليه، ليست متاحةً كما في القضاء العادي، مما قد يخلق بعض الإشكاليات في الحال التي تقع هيئة التحكيم فيها بأخطاء في حكمها.
اتفاق التحكيم في الشريعة الإسلامية
بسبب انتشار ظاهرة التحكيم على نطاقٍ واسع مؤخراً، التبس الأمر على كثير من الناس، حيث ظنوا أن التحكيم فكرة مستحدثة أو جديدة. والحق أنها على الخلاف من ذلك، فهي فكرةُ قديمة جداً ضاربة القدم في تاريخ الإنسانية. بل إن فريقاً من العلماء يرون أنها الأصل لفكرة القضاء. وقد عرفت الشريعة الإسلامية التحكيم، وأصلت له القواعد، ورتبت عليه الأحكام، ونستدرك هنا بنبذة عن التحكيم في الشريعة الإسلامية.
الأصل في التحكيم في الشريعة الإسلامية: الحديث الشريف المروي عند أبي داوود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي شريح – سمع قومَه يكنونه: أبا الحكم- فقال له: ((إن الله تعالى هو الحكَم، وإليه الحُكم، فلمَ تُكنى أبا الحكم؟)) فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحسن هذا، فما لك من الولد؟)) قال: لي شريح… إلى آخر الحديث الشريف.
قال القرافي، وبجواز التحكيم قال الأئمة، واستدل بهذا الحديث… قال: ولأن التحكيم عقد، فيندرج في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}. فيظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي شريح ما كان يصنعه عندما يحكِّمه قومه. مما يتبين معه جواز التحكيم بالسنة كذلك. بل إنه يظهر استحسان النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أظهر في عدم إنكاره. وعلى هذا الجواز أحاديث وآثار كثيرة أخرى.
وتلخيصاً نرى أن الشريعة الإسلامية تعتبر سلطة المحكم منبثقةً من اتفاق الأطراف ذوي الشأن على تحكيمه، أي بناءً على إرادتهم وسلطانها. لذلك يصدق القول بأن النظرة الحديثة للتحكيم ونظريته في القانون، هي مشابهة جداً، إن لم نقل مماثلة لها في الشريعة الإسلامية. حيث إن الشريعة الغراء سبقت القوانين الوضعية في تقرير التحكيم ومنحه القوة الإلزامية بناءً على إرادة الأطراف.
اتفاق التحكيم وفق القانون الإماراتي
جاء القانون الإماراتي على منوال معظم القوانين الدولية، فجعل التحكيم أمراً اتفاقياً بين الأطراف. فلا تحكيم إلا باتفاق الأطراف. ثم جعل القانون من أركان هذا الاتفاق، الاتفاق على التحكيم كتابةً. وعليه، يعتبر باطلاً الاتفاق الشفوي على التحكيم. فلا بد في اتفاق التحكيم أن يكون مكتوباً وإلا فلا قيمة له. جديرٌ بالذكر أيضاً، أنه يُشترط لإبرام اتفاق التحكيم، أن يكون الوكيل الذي يقوم بهذا الاتفاق موكلاً وكالةً خاصة بهذا الشأن. فالوكالة العامة وحدها لا تصلح. بل لابد أن يكون لدى الوكيل تفويض خاص، ووكالة تتيح له إبرام اتفاقات التحكيم، وإلا، فإن اتفاقه على التحكيم يكون غير ذي قيمة.
لذلك ننصح أصحاب الشركات دائماً، في العقود الكبرى التي ينوون فيها الاتفاق على التحكيم، أن يوكلوا مهمة صياغة العقد وكتابته إلى خبير متقن، وأن يمنحوا مبرم العقد وكالة خاصة تخوله إبرام اتفاقات التحكيم، لكيلا يضيع اتفاق التحكيم هباءً مثنوراً.
وكما سبق وقررنا، لاتفاق التحكيم تسميتان، الأولى شرط التحكيم، وهو اتفاق التحكيم السابق على حدوث نزاع. فلو تم إبرام عقدٍ ما، ونُص فيه على أن أي خلافات بصدد هذا العقد يُلجأ فيها إلى التحكيم، فإن هذا يسمى شرط التحكيم. ويمتاز شرط التحكيم بعمومه، حيث إنه يصاغ بطريقة عامة وفضفاضة لتنطوي تحته كل المنازعات المتعلقة بالعقد وآثاره. فالطرفان عندما يتفقان على شرط التحكيم، يكونان غير عالميْن بما سيقع في المستقبل من نزاعات، لذا فإن شرط التحكيم يصاغ بعبارة عامة لتشمل كافة المنازعات المحتملة.
كما يوجد صنف من الشروط يسمى التحكيم بالإحالة، وبعضه يعتبر صنفاً ثالثاً لاتفاقات التحكيم، بعد الشرط والمشارطة. وهو ببساطة أن يحيل العقد أو الاتفاق إلى أحكام عقد أو اتفاق أو وثيقة نموذجية تحوي شرط تحكيم. ونرى أن التحكيم بالإحالة يندرج ضمن شرط التحكيم، لأنه ليس سوى شرطاً محالاً عليه. والحق أنه لا ثمرة حقيقية تذكر من الاختلاف في أمر تصنيف التحكيم بالإحالة.
الثانية مشارطة التحكيم، وهي اتفاق التحكيم اللاحق على حدوث نزاع معين. ففي هذا الفرض، يكون الطرفان بصدد نزاع بالفعل، وعوضاً عن اللجوء إلى القضاء، يتفق الطرفان على اللجوء إلى التحكيم. وهنا يتوجب أن تتم صياغة المشارطة بدقة، بحيث يتم تعيين النزاع محل مشارطة التحكيم تعييناً دقيقاً، على عكس التجريد والعموم الذي يُضفى على شرط التحكيم. جديرٌ بالذكر أنه يجوز أن يتم الاتفاق على اللجوء إلى التحكيم بموجب مشارطة تحكيم أمام القضاء نفسه وأثناء نظر الدعوى، وفي هذه الحالة تُقبل مشارطة التحكيم إذا كانت محددة بدقة لموضوع النزاع وفق الشروط والضوابط المطلوبة في مشارطة التحكيم بشكلٍ عام. وكلا هذين المسميين هما في نهاية المطاف اتفاق تحكيم. والاتفاق بطبيعة الحال هو العقد.
وبالتالي فإنهما ينطبق عليهما ما ينطبق على العقد من أركان وشروط عامة تطلبها القانون كما هو مشروح ومفصل في كتب القانون المدني بشكل موسع. ولكن، لماذا يقال اتفاق التحكيم، ولا يقال عقد التحكيم؟ ببساطة، لأغراض التمييز. حيث أن شرَّاح القانون اصطلحوا على هذه التسميات ودرجوا عليها تمييزاً لاتفاق التحكيم الذي يُجرى بين الأطراف فقط على سبيل الشرط أو المشارطة، وبين الأطراف وهيئة التحكيم لاحقاً عندما يصلون إليها بالفعل، وهذا النوع الأخير يصطلح على تسميته عقد التحكيم. مع أن حقيقة الأمر هي أن كلا الاتفاقين هما: عقد تحكيم. إلا أن هذا الاصطلاح وُضع لكيلا يحصل الخلط بين الصنف الأول والثاني.
استقلالية اتفاق التحكيم عن العقد
نصت المادة (6) من قانون التحكيم الإماراتي على أن شرط التحكيم، أو بمسمىً آخر اتفاق التحكيم، يعد مستقلاً عن عقد التحكيم نفسه. فإذا بطل العقد لأي سبب كان، فإن اتفاق التحكيم يظل قائماً ولا يتأثر بالبطلان، ولا بالفسخ. لأنه يعد عقداً آخر مضمناً داخل عقد، فلا يتأثر بما يطرأ على العقد الأصلي الذي يرد فيه على شكل الشرط. بل إن لهيئة التحكيم المتفق على تحكيمها أن تنظر في العقد الحاوي لشرط التحكيم وتبحث صحته أو بطلانه وأن تفصل في ذلك.
وقد كان الاتجاه القضائي في دولة الإمارات العربية المتحدة على خلاف هذا النهج فيما سبق، فجاء قانون التحكيم بمادته السادسة مغيراً الاتجاه القضائي بنصٍ حاسم، تماشياً مع الاتجاه القانوني الحديث والتوجه القضائي الذي سلكته غالبية المحاكم على المستوى الدولي. يجدر التنويه إلى نقطة بالغة الأهمية، أن اتفاق التحكيم لا فائدة منه في حال تم رفع دعوى قضائية أمام محاكم الدولة، ولم يدفع الطرف المتمسك بالتحكيم بوجود شرط التحكيم في أول جلسة يحضرها. لذلك كان لزاماً على أي طرف له مصلحة في التحكيم أن يكون متيقظاً على أتم الجاهزية للدفع بشرط التحكيم في أول جلسة يحضرها في الدعوى.
جاء في حكم محكمة نقض أبوظبي، الطعن رقم 458 لسنة 2009، س 3 ق أ تجاري بجلسة 26/7/2009 ما يلي: ((الأصل هو أن الاتفاق على التحكيم، شرطاً كان أو مشارطة، في نزاع معين، يمنع المحكمة المختصة به أصلاً من نظره، وهذا هو الأثر السلبي لاتفاق التحكيم، وأن الاستثناء هو إمكان نظر ذات النزاع أمام القضاء ما لم يعترض الخصم في الجلسة الأولى منكراً أي حق لخصمه في الالتجاء إلى القضاء..)).
لذلك، يتعين على الجهات التي تريد إحالة أي نزاع إلى التحكيم أن تتحرى بعناية:
1- دقة وحسن صياغة اتفاق التحكيم سواءً كان شرطاً أم مشارطة.
2- صحة تمثيل الشخص الموقع على العقد المتضمن اتفاق التحكيم.
3- التمسك بشرط التحكيم في أول جلسة حال رفع الخصم أي نزاع قضائي.
بقلم:
أحمد محمد بشير | مكتب أحمد محمد بشير للمحاماة والاستشارات القانونية