قراءة للفصل 175 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية

رغم المبررات المذكورة يبدو لنا هذا القول قابلاً للنقاش، إذ لا يجوز التسليم بوحدة حالات الطعن إلا إذا استحال الفصل بينها، وهذا ما لا يستنتج من قراءة الفصل 175 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية “م.م.م.ت”، الذي يوجب التأمل في حالته الأولى التوقف والنظر في دلالة عبارة الحكم المبني قبل البحث في دلالة لفظ القانون.

1- دلالة الحكم المبني

يقال بنى بمعنى شيد بناء وأقامه، ضد هدمه. يدفعنا هذا المعنى اللغوي إلى أن نستغرب كون الحكم مبيناً ومخالفاً للقانون في آن واحد، ولذلك ونظراً لقرينة حكمة المشرع يجب إعطاء معنى مفيد للفظ “مبنياً”. يجب القول إن عملية بناء الحكم تتخذ بعدين، بعداً إجرائياً وآخر موضوعياً.

أما البعد الإجرائي فنعني به استتمام الحكم مقوماته الإجرائية الشكلية والأصلية فيكون بذلك سليم المبنى إجرائياً، وأما البعد الموضوعي فهو احترام القواعد القانونية غير الإجرائية، فإذا كان الحكم مطابقاً لهذه القواعد عـُـدَّ سليم المبنى موضوعياً. جليٌّ أن المشرع لم يقصد هذا البعد إذ أنه يرى الحكم الخارق للقانون مبنياً، ونتيجة لذلك نرى أن الحكم المبني عند واضع التشريع هو الحكم المستوفي شروطه الإجرائية الشكلية والأصلية، أي أن كل البناء الإجرائي قائم ومؤسس على خرق قاعدة قانونية موضوعية، وحجتنا في ذلك أن أول ما تقع رقابته في الأحكام نواحيها الإجرائية فنعرف طبيعة الحكم أمبنياً كان أم غير مبني لنبحث بعد ذلك في مطابقته للقانون.

ونستنتج من هذا الطرح أن الحالة الأولى للفصل 175 من م.م.م.ت لا تتعلق بالقواعد الإجرائية، بل هي تقصر الطعن على القواعد القانونية الأصلية، فكلما كان الحكم مشوباً بخلل إجرائي إلا واستحال تطبيقها، ولنا في الفصل 175 رابعاً من م.م.م.ت سند لهذا التأويل إذ جعل عدم مراعاة الصيغ الشكلية الأساسية للإجراءات حالة خاصة للطعن بالتعقيب. كما أن القانون المصري، الذي أخذ عنه المشرع الحالة الأولى، يجعل بطلان الحكم وبطلان الإجراءات بطلاناً مؤثراً في الحكم حالة مستقلة (المادة 248 مرافعات).

ويبدو هذا الموقف التشريعي مستمداً من آراء فقهية، إذ ذهب المستشار Faye أن مدلول خرق القانون ينحصر في مخالفة القواعد الأصلية règles de fonds (Faye,Traité de la cour de cassation Paris 1903 ns 62 s et)، وهو الرأي الذي استقر عليه العميد مارتي (Marty , cité par Boré La cassation en matière civile,Sirey 1980 n 1866). نخلص مما تقدم إلى أن الحالة الأولى للفصل 175 من م.م.م.ت لا تتعلق إلا بالحكم المبني، أي المستكمل شروطه الإجرائية ولكنه مبني على خرق قاعدة موضوعية.

2- دلالة القانون

لقد ذهب بعض الشراح إلى وجوب فهم لفظة “القانون” بأوسع معانيها، فهي تشمل التشريع والعادة والعرف، وكل الترتيبات والتنظيمات التي السلط المختصة (الأستاذ محمد بن سلامة، حول محكمة التعقيب ،مجلة القضاء والتشريع، جوان 1975 ص 82). ويبدو لنا هذا القول متعسفاً فيه لأن لفظ “القانون” يدل أصلاً على جملة القواعد التي تضعها السلطة التشريعية، وذلك ما نص عليه الدستور الذي حدد في الفصل 65 دلالة القانون بضبط مجال كل من القوانين الأساسية والعادية ضبطاً مفصلاً معقباً بفقرة أخيرة نصها “يدخل في مجال السلطة الترتيبية العامة المواد التي لا تدخل في مجال القانون”.

ومن المواد التي تدخل في مجال القانون الإجراءات أمام المحاكم، والالتزامات المدنية، والأحوال الشخصية…إلخ. ونشير إلى أن في هذا التأويل احتراماً لنص الدستور، وتحقيقاً لانسجام مختلف القواعد في النظام القانوني. وزيادة على ما تقدم، فإن عدم اكتفاء المشرع بالحالة الأولى وتنصيصه على ست حالات أخرى يرجح عدم انصراف قصده إلى الأخذ بلفظ القانون بأوسع معانيه (يراجع الرأي المخالف، الأستاذ محمد كمال شرف الدين، قانون مدني، النظرية العامة، الأشخاص، إثبات الحقوق، الطبعة الأولى، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية 2002 ص 118).

ننتهي إلى القول بأن لفظ “القانون” ينحصر في التشريع، ويجد حدوده في مضمون الفصل 175 من م.م.م.ت (دلالة الحكم المبني وبقية حالات الطعن بالتعقيب)، فلا يمكن تحديده إلا في إطار مفهوم هذا النص، الذي نرى أنه يتضمن حالات يستقل بعضها عن بعض.

(وردت بهذا الفصل بقية أسباب الطعن بالتعقيب:

ثانياً: إذا كان الحكم صادراً فيما يتجاوز اختصاص المحكمة التي أصدرته.

ثالثاً: إذا كان هناك إفراط في السلطة.

رابعاً: إذا لم تراع في الإجراءات أو في الحكم الصيغ الشكلية التي رتب القانون على عدم مراعاتها البطلان أو السقوط.

خامساً: إذا كانت هناك أحكام نهائية متناقضة في نصها وكانت صادرة بين نفس الخصوم وفي ذات الموضوع والسبب.

سادساً: إذا صدر الحكم بما لم يطلبه الخصوم أو بأكثر مما طلبوه أو أغفل الحكم الاستئنافي النظر في بعض الطلبات التي حكم فيها ابتدائياً أو كان نص الحكم مشتملاً على أجزاء متناقضة.

سابعاً: إذا صدر الحكم على فاقد الأهلية بدون أن يقع تمثيله في القضية تمثيلاً صحيحاً أو وقع تقصير واضح في الدفاع عنه وكان ذلك هو السبب الأصلي أو الوحيد في صدور الحكم المطعون فيه).