نصت مجلة القانون الدولي الخاص بفصولها 3 و 4 و 5 و 6 و7 و8 على الحالات التي تنظر فيها المحاكم التونسية في الدعاوى المدنية والتجارية ذات الصبغة الدولية، وقد اعتمدت لتحديد هذا الاختصاص عنصرين هما ارتباط العلاقة أو المال بالنظام القانوني التونسي، والسيادة الوطنية (مذكرة شرح الأسباب ص 2)، من ذلك وجود مقر المطلوب بتونس أو ارتكاب الفعل الضار بها أو وجود المنقول أو العقار بها أو تعلق الدعوى بالجنسية التونسية. وقد اختلف القضاء والفقه في تحديد طبيعة هذا الاختصاص.
1- اتجاهات القضاء والفقه
أكدت محكمة التعقيب في قرارها عدد 3035 المؤرخ في 07/05/1964 أن الاختصاص الدولي للمحاكم التونسية اختصاص حكمي يمس النظام العام (النشرية 1964 ص 23)، وصرحت بالرأي نفسه في قرارها عدد 22813 المؤرخ في 13/05/2003 (مجلة المحاماة 2005 ص 183).
لكن المحكمة العليا عدلت عن رأيها معتبرة أن هذا الاختصاص هو اختصاص ترابي (قرار تعقيبي مدني عدد 3823 مؤرخ في 16/12/2004 النشرية 2004 ج 1 ص 195) وعللت موقفها” إن إقرارالمشرع بإمكانية الدفع بعدم الاختصاص أمام المحاكم التونسية قبل الخوض في الأصل بالفصل 10 من م.ق.د.خ. يؤدي حتما إلى اعتبار اختصاصها القضائي الدولي اختصاصاً ترابياً…” (قرار تعقيبي مدني عدد 2830 مؤرخ في 07/12/2006 النشرية 2006 قسم المرافعات المدنية والتجارية ص 283).
أما في الفقه فقد قال اتجاه بترابية الاختصاص ( A.Mezghani, Droit international privé, Etats nouveaux et relations privées internationales, Système de droit applicable et droit judiciaire international, CERES, CERP 1991 p 378)، في حين ذهب فريق آخر إلى أنه اختصاص ذو طبيعة خاصة لا هو بالحكمي ولا بالترابي ( K.Meziou, Les relations en droit international privé de la famille entre les systèmes tunisien et français, le cas du divorce des couples mixtes, thèse, Faculté de droit et des sciences politiques de Tunis 1982 p315 et s).
2 – رأينا
يبدو لنا أن المشرع تجاوز التفرقة الموجودة في النظام الداخلي بين الاختصاص الحكمي والاختصاص الترابي لأن هذه التفرقة تستوجب وحدة النظام القانوني الذي يوزع كل اختصاص داخله، وأقر تمييزاً جديداً بين الاختصاص المبدئي أو الممكن أي الذي يمكن أن يكون مشتركاً بين المحاكم التونسية والأجنبية، وهو لا يهم إلا مصالح الأطراف والاختصاص الاستثنائي أو الاقصائي الذي يعود إلى المحاكم التونسية وحدها ويتعلق بالنظام العام كالدعاوى المتعلقة بالجنسية التونسية أو بالعقار الموجود بتونس.
إن القول بأن الاختصاص المبدئي هو الذي يمكن أن يكون مشتركاً بين المحاكم التونسية والأجنبية هو استنتاج من نص الفصل 10 من مجلة القانون الدولي الخاص” يجب إثارة الدفع بعدم اختصاص المحاكم التونسية قبل الخوض في الأصل”، فجلي من هذه الصياغة أن الاختصاص الدولي متروك مبدئياً لإرادة الأطراف سواء بالمنح أو بالسلب ما لم يقضِ القانون خلاف ذلك (يراجع الفصل 4 من م.ق.د.خ الذي يحجر الاتفاق على اختصاص المحاكم التونسية في دعاوى الحقوق العينية المتعلقة بعقارات موجودة خارج تونس، والفصل 8 من المجلة ذاتها الذي يسند اختصاصا اقصائيا للمحاكم التونسية دون سواها في بعض الدعاوى).
ويتدعم هذا التحليل بما يقتضيه الفصل 8 من م.ق.د.خ لأن التنصيص على اختصاص اقصائي يستوجب وجود اختصاص يمكن أن تشترك فيه المحاكم التونسية والأجنبية (لطفي الشاذلي ومالك الغزواني، مجلة القانون الدولي الخاص معلق عليها، تونس 2008 ص 178). ولا يفوتنا الإشارة إلى تخويل المشرع صراحة الاتفاق على منح الاختصاص لمحكمة أجنبية في المادة التعاقدية طبق الفصل 5 ثانياً من م.ق.د.خ.
بقلم:
يوسف الصابري | مكتب يوسف الصابري للمحاماة