1- عرض موقف محكمة التعقيب
تقول محكمة التعقيب في هذآ القرار”وحيث لا جدال في أن دعوى التعويض عن غرامة الحرمان على معنى الفصل 27 من القانون عدد 37 لسنة 1977 هي دعوى شخصية بامتياز باعتبارها تهدف إلى وضع حد لعلاقة تعاقدية كرائية من جانب واحد إثر رفض مالك الجدران المسوغ استمرارها وترتب التعويض لمن تضرر من العقد أي المتسوغ.
وهذا ما يجعل المحكمة المختصة ترابياً للنظر في النزاع هي المقر الذي يوجد بدائرته المطلوب المطالَب بالتعويض عملاً بأحكام الفصل 30 من م.م.م.ت الذي اقتضى أن المطلوب شخصاً كان أو ذاتاً معنوية تلزم محاكمته لدى المحكمة التي بدائرتها مقره الأصلي أو مقره المختار.
وحيث وبالرجوع إلى أحكام القانون الخاص عدد 37 لسنة 1977 فإنه يتبين أن المشرع بالفصل 27 من القانون لم يعين المحكمة المختصة ترابياً واكتفى بتحديد الأجل للمطالبة بالغرامة من قبل المتسوغ وأسند تقديرها إلى المحكمة ذات النظر دون أن يحدد ترابياً ورتب فقط الجزاء عن عدم احترام أجل القيام دون أن يخصص المحكمة، فهل هي المحكمة المعينة بالفصل 19 من القانون أم هي المحكمة بمقر المطلوب أو بمكان الأصل؟
وحيث وخلافاً لما دفع به الطاعنان، فإن الفصل 19 من القانون عدد 37 لسنة 1977 تعلق بحالة مخصوصة وهي تمكين المالك المتسوغ من غرامة وقتية حتى يخلي له المحل المسوغ في انتظار صدور حكم يقضي بالغرامة النهائية، إذ أسند الفصل 19 المذكور لرئيس المحكمة النظر استعجاليا في الغرامة الوقتية.
كما أحال إلى الفصل 28 من نفس القانون في خصوص الاختصاص الترابي لرئيس المحكمة الابتدائية بالجهة الكائن بها العقار المستغل به الأصل التجاري فتكون المحكمة المختصة ترابياً في الغرامة الوقتية هي محكمة مكان العقار المستغل به الأصل التجاري.
ولكن هذا التخصيص مفقود عند تعهد المحكمة – المجلس بتقدير الغرامة النهائية وهو ما يستشف منه أن إرادة المشرع اتجهت إلى الإبقاء على الاختصاص العادي للمحاكم وفق قواعد مجلة المرافعات المدنية والتجارية عندما يتعلق الأمر بدعوى تقدير غرامة الحرمان النهائية من أصل تجاري.
وحيث تجدر الإشارة إلى أن التخصيص لا يمكن التوسع فيه إذ لا يسري إلا على الحالة والصورة التي تعلق بها ذلك التخصيص عملاً بالقاعدة العامة إذا خص القانون صورة معينة بقي إطلاقه في جميع الصور الأخرى (فصل 534 من م.ا.ع) وبالتالي يقع الرجوع إلى القواعد العامة عند عدم توفر التخصيص وذلك بأن تكون المحاكم المختصة هي المحاكم التي يوجد بدائرتها مقر المدين المطلوب.”
يبدو لنا موقف محكمة التعقيب غير وجيه، وهو ما سنبينه فيما يلي.
2- مناقشة موقف محكمة التعقيب
تعد دعوى المطالبة بغرامة الحرمان دعوى شخصية لأنها مبنية على التزام شخصي مصدره عقد الكراء، إذ يحق للمتسوغ عند قطع المسوغ للعلاقة الكرائية دون سبب قانوني، أن يطلب غرامة حرمان تعويضاً عن الضرر طبق الفصل 7 من القانون عدد 37 لسنة 1977.
غير أننا لا نفهم ماذا تقصد المحكمة بقولها دعوى شخصية بامتياز، ذلك أن الفصل 20 من م.م.م.ت ينص على أن “توصف بدعاوى شخصية الدعاوى المبنية على التزام شخصي مصدره القانون أو العقد أو شبه العقد أو الجنحة أو شبه الجنحة”، ولا نجد به تصنيفاً لدعوى شخصية بامتياز.
إذا سلمنا بأن دعوى المطالبة بغرامة الحرمان دعوى شخصية، فإن الاختصاص بنظرها محل جدل. ترى محكمة التعقيب أنه في غياب نص خاص يسند الاختصاص إلى محكمة معينة يتعين الرجوع إلى القواعد العامة، فتكون المحكمة المختصة ترابياً هي محكمة مقر المطلوب.
لكن المحكمة العليا تجاهلت الفصل 31 من القانون عدد 37 لسنة 1977 الذي يقتضي “إن جميع الدعاوى المقامة بناء على تطبيق هذآ القانون غير القضايا المنصوص عليها بالفصول 27 إلى 30 من هذا القانون يقع النظر والبت فيها طبق أحكام القانون العام.”
لقد استثنى المشرع صراحة دعوى المطالبة بغرامة الحرمان، موضوع الفصل 27، من النظر فيها طبق القواعد العامة، والنظر عند المشرع هو الاختصاص، وهذا ما أكدته محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة في قرارها عدد 60951 المؤرخ في 04/05/2000.
“وحيث أن الترابط بين الفصول صلب القانون ذاته يقتضي العمل بنفس الاختصاص الترابي لمحكمة مقر العقار للنظر في دعاوى غرامة الحرمان طالما أن كل الدعاوى المشار إليها بالفصول 27 و28 و29 مستثناة من أحكام القانون العام وخاضعة للإجراءات الواردة بالقانون عدد 37 لسنة 1977 بصريح الفصل 31 من القانون المذكور” (سامي بن فرحات، الاكرية في القانون التونسي وفقه القضاء، سلسلة المكتبة القانونية 2005 ص 151).
لقد خالفت محكمة القانون نص الفصل 31، ولم تساير موقف الدوائر المجتمعة، وليتها أتت بما لم يأت الأوائل.
من المتفق عليه أن نصوص القانون وحدة متكاملة ومتجانسة، ويجب قرن بعضها ببعض والبحث عن تأويل يزيح عنها كل تضارب أو تناقض، وقد اقتضى الفصل 19 من القانون عدد 37 لسنة 1977 أنه لا يمكن إخراج المتسوغ من المحل قبل توصله بالغرامة إلا إذا دفع له المالك غرامة على الحساب يقدرها رئيس المحكمة الابتدائية طبق شروط الفصل 28، وبذلك كان رئيس المحكمة الابتدائية التي بدائرتها العقار المستغل به الأصل التجاري هو المختص بنظر هذه الدعوى.
كما نص هذا الفصل في فقرته الثانية على أن “هذه الغرامة تحط من مقدار الغرامة التي تقدر بصفة نهائية إما بالتراضي أو بواسطة المحكمة”.
والملاحظ ان عبارة “المحكمة” وردت معرفة، وأداة التعريف هنا للعهد الذكري كما يقول النحاة، آي إنها تشير إلى ما سبق ذكره في سياق الكلام، فتكون المحكمة المعنية في الفقرة الثانية للفصل 19 أي المحكمة التي تقدر الغرامة تقديراً نهائياً هي المحكمة الابتدائية التي يقع بدائرتها العقار المستغل به الأصل التجاري، إذ أن هذا هو المعهود الذكري أي السابق ذكره بالفقرة الأولى للفصل 19.
أكدت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة في قرارها المذكور آنفاً هذا الفهم السليم للقانون، وإن لم تعتمد الحجة اللغوية التي بسطناها (سامي بن فرحات، مرجع مذكور، ص 151 تقول المحكمة “حيث يؤخذ من الفصل 19 من قانون الملك التجاري أن للمالك حق إخراج المتسوغ قبل اتصاله بالغرامة المستحقة بشرط أن يدفع له غرامة على الحساب يحددها رئيس المحكمة الابتدائية بالجهة الكائن بها العقار فتكون بذلك محكمة مكان العقار بمقتضى تلك الإحالة القانونية في الفصل المذكور هي المختصة ترابياً بالنظر في طلب غرامة الحرمان النهائية وتقدير الجزء الذي يقضى به منها على الحساب وذلك تحقيقا لحسن سير القضاء وتكريسا للتناسق بين الفصول المتعلقة بنفس الموضوع صلب القانون الواحد”).
ما نقول به أن المشرع قد تخلى عن معيار مقر المطلوب في دعوى المطالبة بغرامة الحرمان لفائدة معيار موقع العقار لتحديد الاختصاص الترابي، وبذلك تكون القاعدة منظمة لمرفق العدالة وراعية لحسن سير القضاء. وهي آمرة تثيرها المحكمة من تلقاء نفسها حسب قرار الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب عدد 749 المؤرخ في 09/03/2006 (عصام الأحمر، فقه قضاء الدوائر المجتمعة 1961-2007، تونس 2008 ص 51).
لقد كثرت عثرات محكمة التعقيب في هذا القرار، ولم تكن من عثرات الكرام حتى يجبرها جابر.
بقلم:
يوسف الصابري | مكتب يوسف الصابري للمحاماة