العدالة الناجزة: بين حقيقة المقصود وواقع العمل

نطرح في هذا المقال فكرة العدالة الناجزة تأصيلاً وتخريجاً على رسالة القضاء الشهيرة، التي أرسلها سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لسيدنا أبي موسى الأشعري، لكي تتضح معالم هذا المبدأ الذي كانت رسالة القضاء أول كتابٍ قانوني يشير إليه، ويختزله في أجزل عبارة منضبطة فصيحة بليغة، يصعب أن تجُارى أو يُمارى في مدى دقتها وبلاغتها وحسن أدائها لمعناها. جاء في رسالة القضاء، في المقطع المتعلق بالعدالة الناجزة قوله رضي الله عنه يوجه سيدنا أبا موسى الأشعري ويخاطبه بصفته قاضياً:

“فافهم إذا أدلى إليك الخصمُ بحجته، فاقضِ إذا فهمت، وأنفذ إذا قضيت، فإنه لا ينفعُ تكلمٌ بحقٍ لا نفاذَ له..”

بهذا البيان الموجز، أعربت رسالة القضاء عن فكرة العدالة الناجزة، وأوجزت التعريف بها، وحددت المقصود منها، ولم تترك بعد سبيلاً لمن يقرأها إلا أن يوعبها شرحاً وتبياناً. فلقد ربطت رسالة القضاء سرعة الفصل في الدعوى بمعيار فاصل وحاسم هو المعيار الأهم، وهو الفهم، إذ ربطت الرسالة بأحرف عربية قليلة بين:

1) إصدار الحكم القضائي وبين

2) فهم الحجج التي يدلي بها كل خصم.

ويتجلى ذلك من “إذا” التي بيَّنت للقاضي أنه لا يسعه أن يقضي إلا عقب أن يفهم الدعوى بأن يستوعب حجج الخصوم فيها فهماً كاملاً شاملاً. أما إذا لم يفهم ولم يحط بالدعوى، أو بالمصطلح الأدق، بحجج الخصوم في الدعوى، فإنه ليس له أن يقضي أو يفصل في الخصومة.

ولم تشر رسالة القضاء إلى حجة الخصم تنفلاً في المقال، أو إطناباً في الحديث، وإنما أشارت إلى حجج الخصوم تحديداً لأنها هي الأهم، ولأن منطق المقال الذي يفيد به كل خصم، وما يسوقه من أسانيد، وما يومئ إليه من تحليلات في مقاله ومحاجته، هو عين الدعوى، ومحك الفصل فيها، فليس للقاضي أن يجاوز ما يورده كل خصم في مذكراته، أو أن يتجاوز تلك الحجج والأقوال قصدَ المسارعة في البت في الخصومة، إذ بتحليل مقال الطرفين، وما دوناه في مذكراتهما، وما ساقاه من مستندات، وبسبر أغوار تلك الحجج وتدقيق النظر فيها، تتجلى الحقيقة للقاضي ويمكنه أن يقضي ويفصل فصلاً حسناً عدلاً بين الخصمين.

فإذا استوعب القاضي تلك الحجج التي أدلى بها كل من الخصمين وأدى واجبه المفروض عليه في ذلك، فعندها وعندها فقط يقضي ويفصل، وهذا هو مغزى ربط الفهم بإصدار الحكم القضائي من خلال “إذا”. والهدف من هذا الربط هو ضمان صدور الحكم صحيحاً عادلاً، لأن ربط ميعاد إصدار الحكم القضائي بأي عامل أو معيار آخر يؤدي حتماً إلى ضياع الحقوق وإصدار الأحكام الخاطئة، ولا يسعف ها هنا القول بأن محاكم الدرجة الثانية ومحاكم القانون تتدخل في هذه الحالات للتصحيح، إذ إن العامل أو المعيار الذي أدى إلى استعجال إصدار الحكم ابتداءً هو نفسه موجودٌ وقائمٌ في المحاكم العليا، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى تكرار الخطأ أو إقراره على ما هو عليه، وهذا إذا افترضنا أصلاً أن الدعوى ستصل إلى محاكم ثاني درجة أو محاكم القانون، فنصاب الاستئناف أو الطعن، ورسوم الدعاوى المرهقة أحياناً، وغيرها من الإجراءات والمتطلبات، كل هذا يحول كثيراً من الأحيان دون الوصول إلى ثاني درجة أو محكمة القانون، ولا يصح أصلاً أن يُقبل الخطأ من قاضي البداية بناءً على مجرد افتراضٍ أو توقعٍ بأن قاضي ثاني درجة أو قاضي القانون سيصحح خطأه.

وعوداً إلى مقاصد ربط ميعاد إصدار الحكم بإيعاب الحجج فهماً وسبر أغوارها إدراكاً نقول: إنه ما من وسيلة لضمان تحقيق العدالة أولاً وقبل كل شيء إلا أن نضمن أن يفهم القاضي قضيته وحجج خصومه، ولو استغرق ذلك وقتاً، إذ مفاصل الحقوق بين الناس هي الدعاوى القضائية، ولا بد عند معالجتها من الدقة، والدقة مرتبطة – فيزيائياً – بالتمهل والتؤدة، لا بالاستعجال والتسرع، وقد قال الشاعر العربي قديماً:

قد يدرك المتأني بعض حاجته      وقد يكون مع المستعجل الزللُ.

وقال غيره:

وذو التثبتِ من حمدٍ إلى ظفرٍ     من يركب الرفق لا يستحقب الزللا

ونحن يجب ها هنا أن ننوه إلى أننا لا ندعو إلى البطء الشديد، وإنما نتكلم عن التأني والتروي، فلا يحسن بالقاضي أن يصدر حكمه في يوم واحدٍ خاطئاً مدمراً حياة شخصٍ ما، إذ يجب دائماً أن يؤخذ في الحسبان أن مصطلح “العدالة الناجزة” يتضمن مفردين: العدالة و الناجزة. والعدالة هي المصطلح الأول والأهم، فإذا كانت سرعة الإنجاز تفضي إلى أحكام خاطئة، فهذا تطبيق عكسي تماماً للمراد المقصود، إذ هذا يصبح ظلماً عاجلاً، لا عدالةً ناجزة. فإذا تحقق المراد من تطلب الفهم شرطاً للفصل في الخصومة، بأن صدر الحكم القضائي سليماً منصفاً، فإن ذلك يعقبه المسارعة في التنفيذ، ذلك أن رسالة القضاء قررت ذلك حيث قالت: “وأنفذ إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلمٍ بحق لا نفاذ له”.

فمتى صدر الحكم الصحيح السليم المتأتي عن فهم محيط، فإنه ما من خوف من آثار تنفيذه على المحكوم عليه، ومن ثم يتبين أن رسالة القضاء بيَّنت أن وصف “الناجزة” الذي يتبع العدالة، يتمثل في المسارعة في تنفيذ الأحكام وعدم تعليقها وإرجائها، لأن الحق ثبت فعلاً لمستحقه، بناءً على حكمٍ قضائي سليم صدر عن تؤدة وفهم، لا يُخشى معهما أن يكون قد صدر خطأً، ولا يجوز إلا أن يُحترم وينفذ، ومن ثم يكون التنفيذ مربوطاً بمجرد صدور الحكم القضائي، وهذا هو معنى “إذا” الثانية، فهي تقتضي الفورية، من القضاء إلى التنفيذ. فالتنفيذ السريع العاجل للأحكام المنضبطة هو العدالة الناجزة، إذ ما نفع حكمٍ قضائي صدر سريعاً إذا كان تنفيذه سيستغرق سنوات؟ وهذا إذا افترضنا أن الحكم القضائي السريع صدر صحيحاً أصلاً، أما إذا صدر خاطئاً، فسبيل تصحيحه شاقٌ وطويل، ومن ثم يكون النقيض من الغاية هو الذي تحقق.

ولذا نرى رسالة القضاء تقول: “فإنه لا ينفع تكلم بحقٍ لا نفاذ له”، فلن يثمر الحكم المكتوب شيئاً إذا كانت آلية التنفيذ ثقيلة متهالكة تستغرق السنين وتطلب التكلف والتجشم، وهنا ينعكس قولٌ لا يحب كثير من القانونيين سماعه هو: “التنفيذ مقبرة الأحكام”، والحقيقة أنه ليس مقبرةً للأحكام إذا كان بطيئاً، بل هو مقتلٌ للعدالة نفسها، فالحكم غير المنفذ ليس بشيءٍ بالنسبة لصاحب الحق المظلوم الذي يسعى إلى تحصيل حقه بيده فعلاً، ولا يهمه صدور حكمٍ مكتوب مهما فصحت صياغته ونُمِّقت عبارته. وعليه نرى أن العدالة طبقٌ يطبخ على نار هادئة، ثم تقدم للضيفان فوراً وسريعاً لتؤكل حارة.

أي أن المهم هو صدور العدالة عدالةً فعلاً، لا عدالة مشوهة بسبب الاستعجال أو المسارعة غير المبررة ليصدر حكمه في يوم أو أسبوع أو اثنين، فلا يصدر القاضي حكمه حتى يفهم القضية كاملةً باطلاع وافٍ على كل الحجج، دون أن يعني ذلك أن يستغرق القاضي الدهرَ كله، أو الأشهر دون حاجة، ولكن الأمر الأهم، هو أنه بعد صدور الحكم، يجب أن تكون آلية التنفيذ سريعةً وقوية وفعالة، فلا معنى لإصدار الحكم سريعاً ما دام التنفيذ بطيئاً، وعلى هذا نفهم ما قاله الفقهاء في شرحهم لرسالة القضاء: “هذا حثٌ للحاكم ألا يقضي إلا إذا فهم، وأن ينفذ ما حكم به، فهو تحريض على العلم بالحق، والقوة على تنفيذه، وإلزام الخصم وقهره على ذلك، فهنا فرقٌ بين إثبات الحق وتنفيذه”.

وملاحظة هذا الفرق الذي أشار إليه الفقهاء هو أهم اعتبار يُؤخذ به عند مناقشة فكرة العدالة الناجزة وتطبيقها. وإن إنفاذ الأحكام بسرعة وتحصيل الحقوق بشكل فوري، ينسي المتقاضي أي تأخير يسير استغرقه القاضي إلى حين فهمه للقضية. أما استغراق التنفيذ دهراً بعد صدور حكم سريع، فهذا يفضي إلى نسيان المتقاضي سرعة الفصل، ولا يغني عنه بذل القاضي الجهد الجهيد للإسراع بالفصل شيئاً، وينشغل ذو الحق بهمِّ وإحباطين جديدين.

أخذاً بجميع ما سبق، نحث القانونيين على تبني المعنى الصحيح للعدالة الناجزة متمثلاً فيما أوجزته رسالة القضاء، وتوجيه أعمالهم الفكرية والأدبية نحو التنفيذ، من أجل تحسين الطرق التي يمكن من خلالها تنفيذ الأحكام بشكل سريع وفعال بعيداً عن مساوئ البطء والتعطيل والتكليف، لأن الاستنجاز إنما محله التنفيذ، وليس إصدار الحكم، فهذا الأخير يتطلب شيئاً من التروي المناسب – لا البطء الممل ولا التعجل المخل – لكي تدرس المحكمة الدعوى دراسةً تقودها إلى إلمامٍ تام يؤدي إلى إصدار حكمٍ رصين، يمكن للسلطات أن تنفذه بأقصى سرعة وتستوفي الحق لصاحبه عاجلاً وبشكلٍ فوري.

 

بقلم:

أحمد محمد بشير | مكتب أحمد محمد بشير للمحاماة والاستشارات القانونية