ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” صدق الله العظيم (سورة آل عمران الآية 104)
تمهيد: الحمد لله الذي جعل القضاء قبس من نور الحق وجعل العدل من أسمائه سبحانه وتعالى قال: “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل” ، وقال رسول الله: إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ، وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (إذا كان في القاضي خمسة خصال فقد كمل: علم لمن كان قبله ونزاهة عن الطمع وحلم على الخصم واقتداء بالأئمة ومشاركة أهل العلم والرأي).

وحيث أن القانون ظاهرة اجتماعية لصيقة بالمجتمعات البشرية المنظمة وأهم مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية المنظمة وأهم مظاهر التعبير عن الإرادة الجماعية والقيم السائدة في المجتمع حيث تتضمن مجموعة من القواعد التي تنظم سلوك الأفراد والتي تكفل الدولة احترامها عند الاقتداء عن طريق توقيع الجزاء على من يخالفها، ومخالفة قواعد السلوك في صورتها الجنائية يكون ما يسمى بالجريمة وبقيام هذه الجريمة ينشأ حق الدولة في العقاب الذي يتطلب معرفة مرتكب الجريمة والتحقق من نسبتها إليه وتنظيم الوسائل التي يمكن على أساسها اقتضاء هذا الحق ولا يحدث ذلك تلقائيا أو دفعة واحدة وإنما يتم طبقا لقواعد معينة تحكم هذا الحق والذي يقوم على مراحل إجرائية تستقر جميعا فيما يسمى بالدعوى الجنائية والنيابة العامة هي الشخص الإجرائي الرئيس الذي وكلت إليه الدولة صلاحية مباشرة اقتضاء حقها في العقاب .

وحيث من المعلوم أن لكل دعوى طرفان المدعي والمدعى عليه سواء كانت هذه الدعوى مدنية أو جنائية وإذا كان المدعي في الدعوى المدنية شخصا طبيعيا أو معنويا همه الأول في دعواه مصلحة شخصية يبغي من وراء إدعائه تحقيقها إلا أن الأمر في الدعوى الجنائية يختلف حيث أن المدعي في الدعوى الجنائية هو الهيئة الاجتماعية أو المجتمع صاحب الحق في الحق في العقاب الذي تقوم الدعوى من أجل تقريره واستخلاص النتائج القانونية المترتبة على ذلك ولكن من المستحيل على مجتمع في مجموعة أن يباشر الإدعاء في الدعوى الجنائية بالإضافة أن المشرع الفلسطيني قد استبعد نظام الاتهام الشعبي

والنظام التنقيبي و أخذ بالنظام المختلط تيمنا بما فعله المشرع في كل من مصر والأردن وتتضح معالم هذا النظام بشكل واضح في نصوص قانون الإجراءات الفلسطيني رقم 3 لسنة 2001 ومن ذلك أنه بين حقوق الاتهام وحقوق الدفاع فأخذ بسرية التحقيق (المادة 59 )وعلنية المحاكمة (المواد 207 و 237) منه كما أنه أعطى القاضي حرية الاقتناع ولم يقيده بأدلة معينة حيث يمكن أن يستخلصها من أي دليل يراه (المواد 207 و 273 ) وأخيرا فقد أعطى للقاضي دورا إيجابيا في البحث عن الحقيقة ونظم إجراءات جمع الأدلة وكشف ملابسات الجريمة (المادة 208) منه.

ولذلك أقام عن المجتمع ممثلا قانونيا هو النيابة العامة ومن ثم كان التكييف الصحيح بمركز النيابة العامة في الدعوى الجنائية بأنها النائب القانوني عن المدعي وليس المدعي نفسه أما المدعى عليه في الدعوى الجنائية فهو المتهم ، ولذلك جاء النص في قانون الإجراءات الجنائية الفلسطيني في المادة الأولى منه ( تختص النيابة العامة دون غيرها بإقامة الدعوى الجزائية ومباشرتها و لا تقام من غيرها إلا في الأحوال المبينة في القانون )

فالنيابة العامة هيئة قضائية إذ يشاركون في جلسات المحاكم بحيث يبطل تشكيل المحكمة إذا لم تكن النيابة العامة ممثلة بالجلسة ولا يغير من هذه الحقيقة توزيع أعباء القضاء بين سلطة مباشرة الدعوى من ناحية وسلطة الحكم من ناحية أخرى كما لا يغير من ذلك الواقع كون أعضاء النيابة العامة في بعض القوانين المقارنة جعلت تبعية النيابة العامة لوزير العدل الذي له حق الإشراف عليهم والتأكد من أدائهم في الأعمال الموكلة إليهم و ورقتنا حول دور النيابة العامة في تجسيد العدالة يستتبع أن نتحدث عن :

أولا : موجز عن التطور التاريخي النيابة العامة في فلسطين .
ثانيا : الإدعاء العام في الشريعة الاسلامية
ثالثا : الطبيعة القانونية للنيابة العامة
رابعا: تشكيل النيابة العامة .
خامسا : اختصاصات النيابة العامة .
سادسا : واجبات أعضاء النيابة والأعمال المحظورة عليهم
سابعا : خصائص النيابة العامة
ثامنا : المعوقات الفنية والإدارية التي تعوق عمل النيابة العامة في تجسيد العدالة الجنائية في فلسطين
تاسعا : التوصيات .

المطلب الأول
أولا :موجز عن التطور التاريخي للنيابة العامة في فلسطين
أ ـ المرحلة التاريخية قبل قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية

لم يكن خافيا على أحد التأثيرات السياسية التي مرت بها فلسطين والتي كان لها انعكاسات في كافة المجالات وإن كنت أخص منها القانونية وحيث أن فلسطين كانت خاضعة للنفوذ العثماني ووقوعها بعد ذلك تحت الانتداب البريطاني ومن ثم السيطرة الإدارية لقطاع غزة إلى الحاكم الإداري المصري والضفة الغربية إلى الاندماج الكامل مع الضفة الشرقية حيث توالت إصدار التشريعات حيث خضعت الضفة الغربية إلى الوحدة الاندماجية التي تمت بينها وبين المملكة الأردنية الهاشمية لسريان نصوص الدستور الأردني لعام 1952 والقوانين الأردنية من قانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 26 لسنة 1952 وقانون استقلال القضاء رقم 19 لسنة 1955 وقانون أصول المحاكمات الجزائية لسنة 1961 و قانون العقوبات لعام 1960

وقد تم العمل بمجموعة من التشريعات الأردنية والتي حل محل القوانين الفلسطينية الصادرة في عهد الانتداب البريطاني أما في قطاع غزة فقد خضعت لتشريعات الانتداب البريطاني فصدر مرسوم فلسطين لعام 1922 وأخص بالذكر بما يتعلق بالشأن القضائي قانون تعديل أصول المرافعات رقم 21 لسنة 1934 وهو يقضي بوضع أحكام بشأن إقامة الدعاوي والسير بها وبعض المسائل التي تتعلق بها والذي قام بسنه المندوب السامي في فلسطين في 17 آب 1934 والعديد من قرارات الحاكم الإداري المصري وكان أهمها الأمر رقم رقم 6 لسنة 1948 والذي بموجبه تم تنظيم العمل القضائي في قطاع غزة والصادر من اللواء / أحمد سالم باشا الحاكم الاداري المصري

وكذلك أمر رقم 473 لسنة 1956 بشأن اختصاصات النيابة العامة والصادر من اللواء /محمد فؤاد الدجوي والذي نظم بموجبه اختصاصات وتشكيل وتعيين النيابة العامة في قطاع غزة الصادر بتاريخ 19/9/1956 وكذلك الأمر الصادر من الحاكم الإداري لقطاع غزة بتعيين النائب العام ومن يمثله من قضاة التحقيق في الوفيات المشتبه بها وكذلك قرار الحاكم الإداري رقم 17 لسنة 1959 بإنشاء نيابات جزئية في قطاع غزة وكذلك قرار الحاكم العام لقطاع غزة بإنشاء وظيفة وكيل أول للنيابة العامة في قطاع غزة .ومن الملاحظ أن السيطرة المصرية أبقت على سريان القوانين الفلسطينية مع إصدار العديد من القرارات الصادرة من قبل الحاكم الإداري المصري .

ثم جاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية فأصدرت قيادة قوات الاحتلال الاسرائيلي المنشور العسكري رقم 2( المنشور بشأن أنظمة السلطة والأمن ) والذي خول بمقتضاه القائد العسكري الاسرائيلي ممارسة جمع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على صعيد الأراضي الفلسطينية المحتلة وتوالت في أعقاب ذلك المناشير والأوامر العسكرية التي أعادت من خلالها دولة الاحتلال الاسرائيلي تنظيم الأوضاع الإدارية وحقوق الفلسطينيين وحرياتهم بطريقة تتلاءم مع توجيهات ورغبات المحتل وأهدافه ومخططاته السياسية .

ب ـ المرحلة التاريخية بعد قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية
لقد عملت السلطة الوطنية الفلسطينية منذ قدومها على توحيد التشريعات في شطري الوطن وخلق انسجام قانوني بما يكفل تحقيق العدالة الجنائية وكان للمجلس التشريعي الفلسطيني الفضل في إصدار العديد من التشريعات الموحدة والمتطورة والتي تتطلبها حركة التطور الانساني .

في البداية جاء القرار رقم 287 لسنة 1995 من رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والذي بموجبه تم توحيد النيابة العامة في قطاع غزة والضفة الغربية وتعيين نائب عام يرأس هذه النيابة بين شطري الوطن وإلغاء نظام رئيس النيابة العامة لدى محكمة التمييز والنائب العام لدى كل من محكمة من محاكم الاستئناف وإعطاء الاختصاص للنائب العام وبعد صدور ذلك القرار

ومع إصدار رزمة من القوانين والتي تتعلق بالعمل القضائي والتي أخص بالذكر منها القانون الأساسي وقانون تشكيل المحاكم النظامية رقم 5 لسنة 2001 وقانون الإجراءات الجزائية رقم 3 لسنة 2001 وقانون أصول المحاكمات المدنية والتجارية رقم 2 لسنة 2001 وقانون استقلال القضاءرقم 1 لسنة 2002 مما أحدث طفرة نوعية في إثراء الثقافة القانونية وتحقيق العدالة القانونية وتوحيد التشريعات بين شطري الوطن حيث راعت كافة التشريعات الصادرة وأخص بالذكر منها ما يتعلق بالعمل القضائي على ضمان وتوفير الحماية للمتهم طبقا للمواثيق والاتفاقيات الدولية والإقليمية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية وقد أصبحت بذلك من التشريعات الوطنية مما يكفل الحقوق والحريات الأساسية للمواطن الفلسطيني .

المطلب الثاني
الإدعاء العام في الشريعة الإسلامية
نزلت الشريعة الإسلامية على مجتمع ضارب في البداوة ، قائم في المجال الجنائي على الانتقام والإيغال فيه حتى أن القبيلة تتباهى وتقدر بين القبائل بشدة بأسها في الانتقام والتوسع فيه ممن يعتدي على مصالحها أو على أحد أفرادها .

ولم تكن هناك سلطة حاكمة تدير أمورهم وتذود عنهم وإنما الأمر ملاك كل قبيلة ومشيئة كل جماعة ثم تطور المجتمع الإسلامي بعد ذلك عندما اشتد عود المسلمين فأنشأوا في المدينة مجتمعا منظما له قاعدة إدارية أو سياسية يمكن الركون إليها في حماية المصالح العامة التي نشأت بعيدا عن أفراد ذلك المجتمع ، ثم تطور الأمر إلى إقامة دولة الإسلام حيث القوة والمنعة وحيث السلطة الآمرة القادرة على الدفاع عن مصالح أفراد المجتمع ومصالح الدولة معا .

وظل الاتهام العام أو الإدعاء العام مواكبا تطور المجتمع ومرتبطا بحركته ، فحيثما كان مجتمع المسلمين في ( مكة ) مجرد أفراد لا تجمعهم سلطة قائمة قادرة على الحساب والمساءلة كان الاتهام فرديا متروكا للأفراد في جميع صوره وكل حالاته وشخصيا يمارسه المضرور أو ذووه .

وعندما قام مجتمع (المدينة ) المنورة وأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم يمارس النبوة إدارة شؤون هذا المجتمع وحمايته من الخارجين عليه ، توظيفا لسلطة النبي في هذا المجتمع وإعمالا لمسؤليته في حمايته والدفاع عنه وعن دين الله واستكمال ملامحه وتشييد بنيانه ، قام (الادعاء العام ) إلى جانب الادعاء الفردي كوسيلة لحماية المجتمع من كل عدوان يمتد إليه .

وعندما قامت الدولة بكل ما لها من سلطان ومنعة تطوّر (الادعاء العام ) وبات من عمل الدولة ومن أهم واجباتها دفاعا عن المجتمع الإسلامي والأفراد فيه ، وأصبح الادعاء العام منبسطا على جميع الجرائم وليس للأفراد من دور في مباشرته كقاعدة واقتصر دور الأفراد على مجرد الإبلاغ عن الجرائم ، حيث تتولى السلطات تحقيق الأمر ومباشرة الإدعاء العام لإنزال العقاب على الجاني وما للفرد في مجال الجرائم إلا المطالبة بالتعويض عما أحدثته الجريمة به من أضرار .

في ظل هذا البيان نتحدث عن تطور ومراحل ( الإدعاء العام ) في شريعة الاسلام .
المرحلة الأولى ـــ مرحلة الملاحقة الشخصية :
كان المجتمع الذي بعث فيه الرسول مبشرا بدين الإسلام مجتمعا قبليا وكانت القبائل متناحرة تعيش على قاعدة الانتقام والمبالغة فيه ، فعندما تقع جريمة من شخص على آخر تقوم قبيلة المعتدى عليه برد العدوان أضعافا مضاعفة إلى قبيلة المعتدي ، بحيث إنها تتجاوز في عدوانها ما حاق من ضرر بقبيلة المعتدي ،

ولا تحرص على يوجه الانتقام إلى شخص الفاعل في هذه الجريمة وتعايشت القبائل على هذه القواعد الظالمة وباتت تتباهى وتقدر بقدر ما تغالي في العدوان ، وما تسوقه على جميع أفراد القبيلة المعتدية أو على الأقل غالبية أفرادها ، وإذا لم تكن للمسلمين في (مكة ) ساعتئذ شوكة أو سلطة حاكمة جديرة بحماية العدل والذود عن المظلومين في كلا الطرفين لم يكن للإدعاء العام وجود حيث لا توجد سلطة حاكمة قادرة على حماية أفراد المجتمع ورد المعتدي عن عدوانه .

في ظل هذه الظروف نجد أن التشريع الإسلامي يتعامل مع هذه الأوضاع على أساس من التدرج وليس على أساس من المجابهة التي لم تكن عناصرها قد استجمعت بعد ، ولذلك نجد أن خطاب الإسلام في هذه المرحلة يأتي قابلا لهذه الأوضاع بصفة عامة من حيث الإقرار بفكرة الجزاء ،

بشرط تعديلها بعدم الإسراف في رد العدوان وبإنزال رد الفعل على شخص الجاني وفي ظل هاتين القاعدتين نستطيع أن نتبين مرامي الآية الكريمة (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) وهي آية مكية تقر فكرة الجزاء ولكنها تضبطه بقاعدتين أساسيتين هما : عدم التجاوز أو الإيغال فيه على أساس قوله تعالى (فلا يسرف في القتل ) وأن تراعى قاعدة أخرى في شخصية العقاب وهي التي تستمد من قوله تعالى ( ولا تز وازرة وزر أخرى ) (كل نفس بما كسبت رهينة ) .

وفي الأثر (إن أعتى الناس على الله يوم القيامة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل قتل بمقابل ) ويقول صاحب الكشاف ( إن قتل النفس لا يكون بالحق إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة وفي الأثر (لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم ) وإن ولي القتيل هو الذي بينه وبينه قرابة وتوجب المطالبة بدمه والسلطان يعني التسلط على القاتل في الاقتصاص منه أو حجة يثبت بها عليه وإن على الولي ألا يسرف في القتل أي لا يقتل غير القاتل أو أكثر منه كعادة الجاهلية إذ كان قتل منهم واحد قتلوا به جماعة ،

وقيل الإسراف هو المثلة (إنه كان منصورا ) يعني يكفيه أن الله سبحانه قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك وبأن الله قد نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين ، فلا يبغ ما وراء حقه ويقول (ابن كثير ) في تفسيره (جعلنا لوليه سلطانا ) أي جعلنا لوليه على القاتل ، فإنه بالخيار فيه إن شاء عفا عنه على الدية وإن شاء عفا عنه مجانا كما ورد في السنة وألا يسرف في القتل أي لا يقتل غير القتل أو أن يقتص من غيره .

وهذه القواعد تتناسب مع مراحل الإسلام الأولى حيث لم يكن له سلطة بعد يمكنها أن تباشر الإدعاء العام وتفرض مشيئة الله في خلقه وتأخذ بالعدل الذي هو اسم من أسماء الله وشريعة أصيله في دينه ، ولذلك نجد الآيات ترى لدعم هذا الأسلوب في هذه المرحلة الاجتماعية ، من ذلك الآية التي تقول ( فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) وأيضا (فمن تصدق به فهو كفارة له ) والعفو في معنى الصفح والإسقاط وقد حض الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء المؤدي وذلك على سبيل الوجوب .

وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (من قتل له قتيل فهو بالخيار إما أن يفتدي وإما أن يقتل وإما أن يعفو ) وكل هذه الآثار تشعر بحقيقة الأمر وهو أن الأفراد هم أصحاب الحق في المساءلة والمجني عليه ملاك العقوبة في يده ، إلا أن حق العبد فيه هو الغالب لذلك فإنه يترك أمر المطالبة بالعقاب في هذه الجرائم للمجني عليه أو أوليائه ، إن شاء طالب بالقصاص إن شاء عفا عن الدية أو بدونها .

أما دور الدولة في المطالبة بالحق العام فهو دور ثانوي لا يظهر بجلاء إلا عند العفو عن القصاص .

المرحلة الثانية ـ حق المجتمع في الملاحقة :
في هذه المرحلة حيث مجتمع المدينة المترابط القوى وعلى رأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استقر فيه من ضرورة حماية المصالح العامة لأفراد المجتمع وهي : الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال ـ أدرك المؤمنون أن الجريمة عندما تقع لا تصيب المجني عليه وحده وإنما تصيب المجتمع في الصميم وعلى ذلك ينقبض كل من ترامى إلى سمعه خبر الجريمة من المؤمنين ،

ويكون تبعا لذلك مضطرا إلى رد فعل من جانبه إزاء الجرم الذي اخترق به فاعله نظام الجماعة وخدش استقرارها ومزق الأمن فيها ، حتى استقر في ضمير الجماعة عندئذ أنه ما من حق للعبد إلا ولله فيه حق وما حق الله إلا حق المجتمع لأن الله ما شرع إلا لخلقه ، وفي ظل هذا التطور أصبح على الحاكم دور في مواجهة الخارجين على شرع الله وأصبح على الأفراد جميعا واجب التصدي للجناة سواء كانوا مجنيا عليهم أو حتى من آحاد الناس ممن سمعوا بخبر الجريمة .

وطبقا لما تقدم نستطيع فهم مرامي آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تتصل بهذه المرحلة ، ذلك أننا نلاحظ عليها أن الخطاب موجه فيها إلى المجتمع الإسلامي بكل ما فيه من أفراد ، فآية السرقة جرى نصها ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا ) وفي جريمة الزنا نجد الخطاب موجها كذلك لأفراد المجتمع حيث يقول سبحانه ( والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) وكذلك يوجه الخطاب إلى أفراد المجتمع بصدد الجرائم عندما يقول سبحانه (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر )

وفي السنة المطهرة يحذر الرسول عليه الصلاة والسلام من النكول عن هذا الواجب ، أي واجب مجابهة الجناة فيقول (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه ) وبذلك وقر في المجتمع الإسلامي شعور بعمومية الضرر الناشئ عن الجريمة وأصبح على الجميع بما فيهم ولي الأمر أن يهبوا للذود عن المجتمع وطلب إنزال العقاب على الجاني والشخص الذي لا صلة له بالجريمة عندما يمارس الادعاء فيها ،

إنما يقوم بذلك العمل حسبة لوجه الله وطلبا لثوابه وإعرابا عن الشعور العام السائد في المجتمع من التضرر من الجريمة وفاعلها ، وأخذا بقاعدة قرآنية أرساها الشارع الحكيم في لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى ذلك تكون مباشرة الادعاء ضد الجاني تطبيقا لهذه الآية وإعمالا لمدلولها ولقد نصبت الجماعة من يقوم بهذا الدور عن ولي الأمر متمثلا في (المحتسب ) الذي يباشر الاتهام ضد الجاني لا بصفته الوظيفية فقد تخرج مهمة الادعاء العام عن مدلول وظيفته ولكن باعتباره مواطنا صالحا ضمن المواطنين في المجتمع الذي وقعت فيه الجريمة .

وهذا النظام هو الذي عرفته المجتمعات الغربية باسم (النظام الاتهامي ) حيث يقرر حق الفرد في الخصومة الجنائية ولكن في نطاق من وقعت عليه الجريمة دون سائر المواطنين والقاعدة أن حق الفرد في مباشرة الاتهام ضد الجاني قصد إنزال العقاب عليه حق عام في هذه المرحلة قرره الفقه الإسلامي ومؤدي توجيه الخطاب إلى الجماعة وجود نقلة فكرية تلزم الجماعة بتوقيع العقاب الوارد في النص بمعرفة الجماعة وليس بمعرفة المجني عليه ـ كما سبق ـ والجماعة لا تستطيع أن تجتمع كلها لإنزال حدّ أو تنفيذ قصاص لاعتبارات عمليه لا تخفى وعلى ذلك لا بد لولي الأمر وهو ممثل الجماعة من تنفيذ الجزاءات الجنائية نيابة عن الجماعة ، وهنا يبدو تطوير الحق العام من مرحلة تمليكه للمجني عليه إلى مرحلة إسناده للجماعة ممثلة في سلطة ولي الأمر ، وهو الأمر الذي هيأ للاتجاه إلى المرحلة التالية حيث ظهرت صعوبات في الاعتماد على الأفراد للقيام بهذا الدور ممثلا في ولي الأمر أو من يمثله .

المرحلة الثالثة ــ قيام الإدعاء العام أو قيام السلطة بالملاحقة
في هذه المرحلة الأخيرة من تطور المجتمع الإسلامي نلاحظ قوة المسلمين وقيام السلطة أقوى من ذي قبل ، وهي المناسبة التي يتكرس عندها حق الادعاء العام للدولة ، خاصة إذا اتسع نطاق المجتمع واكتظ أفراده ولم تعد العلاقات بالأفراد فيه قائمة على المعرفة الشخصية والعلاقات الحميمية بل أصبح المجتمع قائما على أساس ذرية الأفراد فيه وما الشخص عندئذ إلا ذرة في بحر عارم من البشر ، عند ذلك لا يتصور أن يعني شخص بآخر لا يعرفه ولا تربطه به علاقة ما ،

وعلى ذلك لا يتصور أن يترك حق الادعاء العام لمثل هؤلاء الأفراد الغارقين في حياتهم الخاصة ومن ثم لا محيص عن اضطلاع ولي الأمر بهذا الدور أو من يمثله في القيام به ، وهذا عين ما حدث في المرحلة الثالثة من مراحل تطور الادعاء العام في الإسلام ولقد أرشد القرآن الكريم إلى الإدعاء العام واعتبار سلطة ولي الأمر في القيام بهذا الدور وحقه في تعيين نائب عنه بدور المدعي العام ، ونورد فيما يلي الأسانيد الشرعية للإدعاء العام في الإسلام .

أولا : إن الآية الكريمة التي تقطع بأن الجريمة لا تقع على المجني عليه وحده وإنما تتجاوزه إلى المجتمع بأسره ، هذه الآية ترشدنا إلى هذا المعنى إذ تقول (أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض

فكأنما قتل الناس جميعا ) فهي تقرر ترسيخ أساس وعلة قيام الإدعاء العام ، إذ ما دامت الجريمة تصيب المجتمع بأسره ـ وما القتل إلا نموذج للجرائم وتأخذ سائر الجرائم حكمه ـ فلا بد من رد فعل جماعي باسم المجتمع الذي وقعت فيه الجريمة لينتصر المجتمع بعيدا عن المجني عليه وحقوقه التي وقعت الجريمة عدوانا عليها ذلك أن المجني عليه وأي فرد في المجتمع المنظم المكتظ بأفراده لم يعد قادرا على مباشرة الادعاء العام لعدم توطيد العلاقة بين الأفراد وأن الفرد قد يرد عليه ما يرد على البشر من الخوف والرجاء الذي يقعد الفرد عن الوفاء بهذه المهمه

فكثيرا ما يتكاسل الفرد في مباشرة الادعاء وقد يمتنع عن القيام به خوفا من الجاني أو طمعا في مناعم يمنحا له وغير ذلك من الآفات الإنسانية التي لا تدع للفرد قدرة على حمل لواء الادعاء العام ويكون ولي الأمر بما له من سلطة وبما هو منوط به من حماية للحقوق ورعاية لمصالح الأفراد فيه هو المرشح للاضطلاع بمهمة الادعاء العام ويتحدث (الإمام التفتازاني )في هذا السياق فيقول ( لابد للأمة من إمام يحيي الدين ويقيم السنة وينتصف للمظلومين ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها ) ولا يستطيع الإمام الوفاء بهذا الدور إلا ممتطيا صهوة (الادعاء العام ) الذي بموجبه يتحرك نحو إنزال العقاب على الجناة عن طريق القضاء .

ثانيا : ورد في الآية الكريمة التي تقول ( إنا أنزلنا إليك الكتاب لتحكم بين الناس بما أراك الله ) ما يدل على أن الخطاب القرآني قد توجه إلى الرسول مباشرة دون الأفراد وهو بهذا النص يكون ممثلا لجميع الم ؤمنين وليا ومؤولا عن أمورهم ودعم القرآن الكريم هذا البناء الاجتماعي بقوله سبحانه وتعالى( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) إذ تكرست سلطة ولي الأمر ممثلة في النبي صلى الله عليه وسلم وفيمن يلي من بعده للوفاء بواجبات الحماية والرعاية لأفراد المجتمع فإن مؤدي ذلك ان يباشر الادعاء العام وصولا إلى هذه الغاية وقديما قال الفقهاء إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فليس من سبيل لإقامة حدّ إلا بإقامة الادعاء العام باسم المجتمع لإنزال العقاب على كل من يخترق محارمه ويمتد ذلك إلى جرائم القصاص وجرائم التعزير كذلك على نحو ما أسلفنا وأصبح هو القاعدة .

ثالثا :إن المرحلة الأولى والتي كان أمر الجزاء فيها بيد المجني عليه استنادا إلى قوله تعالى
( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) هذه الآية هي تواجه جريمة القتل في مجتمع لا تقوم فيه سلطة نرى مدلولها في آية أخرى في ظرف اجتماعي مختلف حيث قامت السلطة في البلاد لذلك نجد آية أخرى تعالج ذات الجريمة بكيفية أخرى فتقول (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى )

وهنا نلاحظ كما سبق وأشرنا أن الآية الأولى مكية تفوض أمر العقاب إلى ولي الدم وذلك بالقتل بينما الثانية مدنية تخاطب المؤمنين جميعا وتعلن القصاص أي المساواة بين الجاني والجاني عليه وعندما يتوجه الخطاب إلى المؤمنين وهم لا يجتمعون لتنفيذ الأمر وإنما يركنون فيه إلى ولي الأمر الذي عليه أن ينفذ أمر الله وبالتالي لإمكان بلوغ هذه الغاية لابد من مباشرة الادعاء العام أمام القاضي بإنزال العقاب المقرر شرعا على الجناة ويتولى ولي الأمر تنفيذه وإذا لابد من إسناد الأمر إلى ولي الأمر وليس له من سبيل إلا بمباشرة الادعاء العام .

وعلى ذلك لا تسوغ العودة إلى الانتقام من جانب ولي الدم استنادا إلى هذه الآية التي خولته هذا الحق عند غياب السلطة في مرحلة من مراحل تطور المجتمع الإنساني لأن مرحلة تالية تخول ولي الأمر الإدعاء العام وإنزال العقوبة على الجاني عن طريق سلطان الدولة ممثلة في اجهزتها التنفيذية و القضائية والمتمسك بالانتقام من طرف ولي الدم إعمالا للآية سالفة البيان كمن يتمسك بشرب الخمر بعد الصلاة استنادا إلى صريح الآية الكريمة التي تقول (يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون )

وذلك غير جائز لأن حكم الخمر قد انتهى بآية تالية تقول ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) وبالتالي أصبحت الخمر محرمة على المسلمين في جميع صورها إعمالا بصريح هذه الآية وما الآية التي تقدمتها إلا حكم مرحلي قد انتهى مجال تطبيقه وكذلك الشأن في حق ولي الدم في القتل أصبح حكما تاريخيا يعكس مرحلة من تطور المجتمع الاسلامي ولا يعد أمام المسلمين إلا سلوك سبيل الادعاء العام من جانب ولي الأمر باسم المجتمع لإنزال العقاب على الجناة بموجب حكم يصدر من السلطة القضائية ويبقى دائما لولي الدم الحق في الدية في جرائم القصاص وهي مجال اختصاصي بعيدا عن الحق العام والقصاص مأخوذ من ( القص) الأثر وهو اتباعه ومنه (القاص )

لأنه يتبع الآثار والأخبار فكأن القاتل سلك سبيل المقتول قص أثره فيها ومشى في سبيله ومنه قوله تعالى (فارتدا على آثرهما قصصا )وقيل (القص ) هو القطع يقال قصصت ما بينهما أي قطعت وإذا ما استقر في الأذهان حق ولي الأمر بالقيام بدور المدعي العام حيث السعي في توقيع العقاب عى الجاني من جانب القضاء فيما يسمى بمباشرة الحق العام فإن المرحلة التالية هي أن يعهد ولي الأمر لمن يختاره بالقيام بهذا الدور نيابة عنه بسبب الأعباء الثقال التي يباشرها ولي الأمر في هذا الزمان سواء في المجال الداخلي أو الخارجي .

والشخص الذي يعهد ولي الأمر بمباشرة الحق العام في المجال الجنائبي هو الذي يعرف باسم المدعي العام أو النائب العام .

رابعا : إن الآية الكريمة التي تقول : ( ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب ) تدل بصريح نصها وفحوى دلالتها على أن أمر العقاب يوقع على الجاني لا يوجه استجابة لمصلحة المجني عليه بل إنه يوجه لصالح جماعة المسلمين

حيث أنه بموجب القصاص الذي يوقع على الجاني تستفيد منه الجماعة وبالتالي فهو يوقع لحسابها وإلى هذا ألمح النص القرآني بالقول (ولكم في القصاص حياة ) أي أن حياة الأفراد في المجتمع هي التي تستفيد من وراء القصاص حيث لا يقع عدوان عليها أو يمسها عاد أو جان إلا كان جزاؤه مثلما فعل فينتهي عما اعتزل من مساس بحق الحياة لأي من أفراد مجتمعه وبما أن مصلحة العقاب تعود إلى الجماعة فإنه يكون من الطبيعي أن تطالب الجماعة بتوقيعه على من يخترق شرع الله فيه وما الادعاء العام إلا هذه الصورة ويقوم ولي الأمر أو من يمثله بهذه المهمة دفاعا عن مصلحة المجتمع وحماية شرع الله فيه .

وإذا تأملنا الجزاء المقرر في القتل الخطأ وهو الدية والكفارة فإننا نجد أن الدية تعود إلى ولي الدم تعويضا عن خسارته في فقد المجني عليه ولكن الكفارة لا ينال منها شيئا ولكنها حق للمجتمع لا يستفيد منها إلا المجتمع الذي يضاف إليه حق جديد بتعويض ما فقدته الجماعة من خسارة لفقد المجني عليه الأمر الذي يؤكد أن العقاب يوقع على الجناة لصالح الجماعة أصلا وللمضرور تبعا وهو يقتضى أن يكون للمجتمع حق في طلب العقوبة على الجناة بعيدا عن المجني عليهم أو أفراد المجتمع وما ذلك إلا الادعاء العام الذي يباشره ولي الأمر أو من ينوب عنه لصالح الجماعة وحماية لشرع الله فيها .

خامسا: تروي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهوديا في المدينة قتل إمرأة وسرق مالها وأخذه القوم إلى رسول الله فسأله فاعترف بجريمته فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله على الصورة التي قتل بها الفتاة ولم ينتظر طلبا من أولياء الدم لأن الأمر لم يعد بيدهم وحدّهم بل للجماعة أولا ولهم ثانيا حيث لم يعد في مكنة ولي الأمر وهو المنوط به حفظ الأرواح والحقوق أن يتربص لحين التحرك من جانب أولياء الدم وقد لا يتحركون إطلاقا لاعتبارات تخصهم فتفسد حياة الجماعة ويضطرب نظامها وأمنها وأمن ومصالح الأفراد فيها.

ولا يغير ذلك من حق أولياء الدم في المطالبة إذا شاؤوا باعتباره حقا ماليا يطالبون به من تركة المحكوم عليه مادام للجماعة حق مستقل عن حقهم يطالب به ولي الأمر عن جماعة المسلمين مهما كانت اتجاهاتهم في شأن المطالبة بحقوقهم المالية .

وواضح من الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين سلطة الادعاء العام وقاضي الحكم وذلك راجع لخصوصية الرسول صلى الله عليه وسلم ولعدم شك في الواقعة وللتسليم بجزئياتها ولكن ذلك لا ينفي قيام الادعاء العام ممثلا في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم عندما واجه اليهودي بجريرته وإذ أقر الجاني بها أوقع عليه العقاب بعد ما ثبت بموجب القصاص منه وقيام الحق العام بعيدا عن ولي الدم .

سادسا : وهي حجة منطقية وواقعية إذ لو تصورنا أن أمر العقاب الجنائي مرجعه إلى المجني عليه أو أفراد المجتمع هم كثيرا ما ينكلون عن أداء هذا الواجب لاعتبارات تخصهم من خوف وأمل ورجاء وإشفاق على أنفسهم من المكابدة في داواوين الحكومة فكيف يكون أمر المجتمع وليست فيه سلطة تطلب العقاب وتتخذ الإجراءات ضد الجناة ؟ لا شك أن المجتمعات لا محال تضطرب وتفسد ويستطيع كل شخص أن يفعل ما يشاء أمنا من المحاكمة أو حتى من المساءلة.

وليس أخطر على المجتمع من قيام سلطة فيه غير قادرة على حمايته وحماية الأفراد فيه وحماية مصالحهم في ربوعه ، إن ذلك يساوي عدم وجود ولي الأمر وكما نعلم فإن نصب ولي الأمر واجب وإقامته عبادة وتمكينه من أداء دوره شريعة مسلم بها ، وذلك لتحقيق غايات الجماعة وبدونها لا تقوم ولا تحفظ فيها الأرواح والحقوق إذا يكون من مصلحة الجماعة تمكين ولي الأمر من أداء دوره في حمايتها وحماية حقوق الأفراد فيها وذلك لا يتأتى إلا بإمكان ممارسة حق الادعاء ضد كل من ينتهك محارم المجتمع ,

يعتدي على حق من حقوقه أو يمس مصالح العباد فيه سواء كان ذلك بمعرفة ولي الأمر ذاته أو عن طريق ممثله في القيام بمهام الادعاء العام ومطالبة بالحق العام مما تقدم يتضح بجلاء أن الشريعة الإسلامية تقوم بالأخذ بفكرة الادعاء العام الذي يقوم بدوره على فكرة أساسية خلاصتها أن الجريمة عندما تقع في المجتمع الإسلامي لا تصيب المجني عليه وحده وإنما تصيب المجتمع كله وهذا هو المعمول به في المملكة العربية السعودية

وما الإدعاء العام إلا رد الفعل الجماعي ضد الجريمة والمجرم باسم المجتمع لحمايته والدفاع عن شريعة الله فيه ولذا نقول إن دولة الاسلام قد مارست الإدعاء العام منذ فجر الاسلام وأنها لم تنشأ له هياكل يمارس منها دوره ولكنه كان مطبقا بالفعل ثم حدث ــ عندما قامت الدولة باسطة نفوذها على جميع التراب الوطني واتحد الناس بعد التفرق وقامت السلطة في المجتمع بعد انقسامها ــ أن شعر ولي الأمر عندئذ بضرورة الدفاع عن الحق العام وأقام له مؤولا نيابة عن ولي الأمر.

وقبل أن ينتهي هذا المطلب نريد أن نلفت الأنظار إلى حقيقة مهمة وهي أنه على حين نجد سهولة القول بقيام نظام الإدعاء العام في شريعة الاسلام والإشارة إليه منذ مايربو على ألف وثلاثمئة سنة نجد أن نظام الإدعاء العام في فرنسا مثلا لم يعرف إلا منذ القرن الثامن عشر حيث تكاملت ملامح النيابة العامة بعد عصور مختلفة منذ القرن الرابع عشر إذ كان الملك يوفد محاميا له في المحاكم بقصد التحقيق في الحكم بالغرامة ليحصلها المحامي نيابة عن الملك ثم رؤي إعطاء دور لهؤلاء بوصفهم ممثلين للملك في متابعة الإدعاء العام في المطالبة بالحق العام وخصهم بهذا الدور واستكمل النظام ملامحه فقط في القرن الثامن عشر مع الإبقاء على حق المضرور من الجريمة في المطالبة بالتعويض الناشئ عنها .

المطلب الثالث
الطبيعة القانونية للنيابة العامة
الفرع الأول :الطبيعة القانونية للنيابة العامة في الفقه والقضاء المقارن
تتولى النيابة العامة وظيفة الاتهام في الدعوى الجنائية ووصفها كسلطة اتهام لا خلاف عليه عالميا بعد أن انقضى نظام الاتهام الفردي ولم يبق له من أثر في العالم إلا في النظام الأنجلوسكسوني وحتى في هذا النظام نشأت كذلك النيابة العمومية كسلطة اتهام تتدخل في الدعوى الجنائية عند اللزوم ،

بيد أن هناك خلافات هامة بين تشريعات الدول حول تحديد الطبيعة القانونية للنيابة العامة وما إذا كانت تنتمي إلى السلطة التنفيذية أو السلطة القضائية أو إلى الاثنين معا أو لا تنتمي إلى هذه و لا تلك إلى جانب هذا فإن وظيفة الاتهام قد ميزت النيابة العامة بثلاث خصائص رئيسة على التوالي:

التبعية التدريجية ، وعدم التجزئة ، وعدم الرد ، فضلا عن الاستقلال .
أثار تكييف الطبيعة القانونية للنيابة العامة وتحديد وضعها من السلطة التنفيذية أو القضائية والفصل في انتمائها إلى أي منهما، الكثير من الجدل في الفقه الفرنسي ومن ورائه الفقه المصري وقد ساعد على ذلك موقف المشرع الفرنسي نفسه بما نص عليه من تبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية لذلك لم يكن رأي الفقه الفرنسي إلا مجرد تحليل وشرح للقانون الوضعي الفرنسي ،

ولم يكن يهدف إلى بحث الوضع الأمثل الذي يجب أن تكون عليه النيابة العامة الحديثة ويمكن رد هذا الخلاف إلى أربع اتجاهات تتحصل فيما يلي :

الاتجاه الأول : تبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية
كان للأصل التاريخي للنيابة العامة في فرنسا ــ باعتبارها مجرد أداة لتمثيل الملك وحماية مصالحه ـــ تأثيرا كبيرا في موقف المشرع والفقه الفرنسيين من تحديد وضع النيابة العامة القانوني ، وفي علاقتها بالسلطة التنفيذية . فذهب البعض إلى أن النيابة العامة جزءا من السلطة التنفيذية وتابعة لها ، وأن أعضاءها ليسوا سوى وكلاء لهذه السلطة لدى المحاكم ، وتبريرا لهذا الرأي استند أنصاره إلى ما نصت عليه المادة الثامنة من المرسوم 16ــ24 الصادر في أغسطس سنة 1790 على أن ‘أعضاء النيابة العامة الذين كانوا يسمون رجال الملك (صاحب السيادة )

في الماضي هم حاليا وكلاء السلطة التنفيذية لدى المحاكم .هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن رفع الدعوى الجنائية على الجرائم يعتبر إحدى وظائف السلطة التنفيذية ، فهذه الأخيرة باعتبارها ممثلة للشعب في القيام على شؤونه ورعاية مصالحه وتطبيق القوانين وضمان حسن تنفيذها وعدم الخروج عليها ،

الحق في الدعوى الجنائية من أجل توقيع العقوبة على كل مخالف للقانون ، ضمانا للمجتمع وصيانة لحقوق الأفراد ، وتعد مباشرة هذا الحق من مستلزمات عمل السلطة التنفيذية والسلاح الذي أعطاه المشرع إياها لتستعين به في أداء مهمتها.

وعلى هذا الأساس فإن الحكومة هي التي تقوم بتعيين أعضاء النيابة العامة ويكون من سلطتها أن توجه إليهم الأوامر لتنفيذها وبناءا على ذلك فهي مسؤولة عن أعمال النيابة العامة وهذه المسؤولية تتداخل مع المسؤولية الوزارية أمام البرلمان التي قد تتعرض لها الحكومة فيما يتعلق بإقرار النظام وتبرير رفع الدعوى الجنائية عما يرتكب من جرائم أما حرية النيابة العامة في إبداء رأيها أمام المحكمة فيرجع إلى ما جرت عليه التقاليد وما تتمتع به النيابة العامة من مكانة واحترام .

ويتجه هذا الفقه إلى تعريف النيابة العامة بأنها (الهيئة التي تمثل الحكومة والنظام العام والمصالح العامة للمجتمع أمام بعض الجهات القضائية والتي تسهر على تطبيق القوانين وتنفيذها ) أو ( الهيئة التي تضم وكلاء السلطة التنفيذية لدى المحاكم ) أو ( الممثل الرسمي للأمن العام ).

وقد تبنى هذا الرأي قانون تحقيق الجنايات لسنة 1810 حيث ورد في الأعمال التحضيرية لهذا القانون أن رفع الدعوى الجنائية عن الجرائم هو من المسائل التي تختص بها الحكومة لذلك خول هذا القانون وزير العدل سلطة رفع الدعاوي الجنائية مباشرة في بعض الأحوال (م 486) فضلا عن بعض الاختصاصات الإجرائية الأخرى ، مما أدى إلى اعتناق مبدأ تبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية بالرغم من أن قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي الجديد لسنة 1958 قد سلب من وزير العدل بعض اختصاصاته في الدعوى الجنائية (سلطة رفع الدعوى الجنائية وسلطة طلب إحالة الدعوى الجنائية إلى محكمة أخرى ) إلا أنه لم يخرج عن كون النيابة العامة تابعة للسلطة التنفيذية .

وقد أخذ بهذا الرأي جانب من الفقه المصري كما اتجهت إليه محكمة النقض المصرية في حكم قديم لها حيث قررت أن النيابة العامة هي من النظم المهمة في الدولة المصرية ، أشار الدستور إليها في كلامه عن السلطة القضائية وهيـ بحسب القوانين التفصيلية المعمول بها ـ شعبة أصيلة من شعب السلطة التنفيذية خصت بمباشرة الدعوى العمومية نيابة عن تلك السلطة وجعل لها وحدها التصرف فيها تحت إشراف وزير الحقانية ومراقبته الإدارية وهي بحكم وظيفتها مستقلة استقلالا تاما عن السلطة القضائية .

الاتجاه الثاني : الطبيعة المزدوجة للنيابة العامة
لم يسلم الرأي السابق من النقد إذ وجه الفقه إليه انتقادات من نواح كثيرة فمن ناحية أولى إذا سلمنا بأن الملك كان صاحب السيادة قبل الثورة فإنه لا يمكن التسليم بأن السلطة التنفيذية هي صاحبة السيادة بعد الثورة ، لتبني الثوار مبدأ سيادة الأمة لذا يكون من الخطأ اعتبار أعضاء النيابة العامة تابعين للسلطة التنفيذية التي حلت محل الملك فهذه السلطة الأخيرة مثلها مثل باقي سلطات الدولة (التشريعية والقضائية ) تابعين للأمة صاحبة السيادة فهذه السيادة لا تبرر تبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية ،

وإلا لكان من الممكن القول بأنها تابعة كذلك للسلطة التشريعية أو القضائية وإذا كانت المادة الثامنة من المرسوم 16ــ24 أغسطس 1790 قد نصت على أن أعضاء النيابة العامة هم وكلاء السلطة التنفيذية لدى المحاكم فإن نص هذه المادة لا قيمة له إلا من الناحية النظرية كما أن هذه النص جاء متناقضا مع بعض النصوص الأخرى التي وردت في ذات المرسوم فقد نص على أن يختار ممثل الاتهام عن طرق الانتخاب وهو دليل على أن سلطة الاتهام تنبع من الأمة بأسرها لا من السلطة التنفيذية فحسب ، وأخيرا فقد أصدرت وزارة العدل الفرنسية منشورا في أول أكتوبر سنة 1790 جاء فيه أن أعضاء النيابة العامة هم (قضاة )ملحقون بمختلف الأجهزة القضائية ومهمتهم هي الدفاع عن مصالح المجتمع والحرص على تنفيذ القوانين .

ومن ناحية ثانية لا يمكن تبرير تبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية بحجة أن وظيفة هذه الأخيرة هي تطبيق القوانين وأن أعضاء النيابة العامة هم وكلاء الحكومة بهذه المهمة ، فإذا كان دور الحكومة هو تطبيق القوانين فإن هذه مهمة السلطة القضائية أيضا لذلك ذهب رأي في الفقه الدستوري إلى أنه لا توجد بالدولة سوى وظيفتين (التنفيذية والتشريعية )والسلطة التنفيذية تشمل السلطة القضائية فيمكن الاستناد إلى هذه الحجة للقول بتبعية النيابة العامة للسلطة القضائية وطالما توجد سلطات أخرى تسهر على تطبيق القانون فمن غير المفهوم إسناد سلطة الرقابة والإشراف على النيابة العامة للحكومة دون غيرها ( السلطة القضائية ) .

ومن ناحية ثالثة فإنه من غير المنطقي أن يقال بتبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية ثم يسمح لها بإبداء رأيها في حرية تامة أمام المحاكم فالقول بهذه التبعية يعني عدم استقلال النيابة العامة حتى بالنسبة إلى جهات القضاء إنما تمارس الدعوى الجنائية وهذه الممارسة تعتبر نوعا من وظائف السلطة التنفيذية ــ وفقا لهذا الرأي ــ ومن ثم فإنه لايمكن أن تتمتع النيابة العامة بحرية مطلقة في شأنها ولا يحول دون هذه النتيجة ما تتمتع به من مكانة احترام إذ إن اعتبارها جزءا من السلطة في أعمالها كافة دون أن يؤثر ذلك على مكانتها أو احترامها .

لذلك ذهب غالبية الفقه الفرنسي إلى اعتبار أعضاء النيابة العامة أصحاب وظيفة مزدوجة، أعضاء في السلطة التنفيذية ـ موظفين ـ وقضاة في نفس الوقت، وباعتبارهم موظفين يتعين عليهم إطاعة أوامر رؤسائهم وباعتبارهم هم قضاة يمكنهم في الجلسة عرض إحساسهم الشخصي وصياغة طلباتهم الشخصية بالمخالفة لقراراتهم المكتوبة ولقد قضت محكمة النقض الفرنسية بأنه يجب التمييز بين صفتين للنيابة العامة الأولى كأداة لحماية المجتمع من الجريمة والثانية كأداة لحماية القانون في طلبات توقيع العقوبة على المتهمين .

وقد أيد جانب من الفقه المصري هذا الرأي فذهب إلى تقسيم نشاط النيابة العامة إلى قسمين أحدهما ذو طابع قضائي فهي في مباشرة الاتهام تمثل الدولة بصفتها سلطة تنفيذية تطالب بحقها في عقاب المتهم لإقرار الأمن والنظام وهي في مباشرتها لأعمال التحقيق تقوم بعمل قضائي تحل محل قاضي التحقيق ويخلص هذا الرأي إلى أن النيابة العامة ـ بالنظر إلى نشاطها ـ

تتمتع بمركز خاص فلا هي شعبة تنفيذية خالصة ولا هي هيئة قضائية محض وإنما وسط بين هذه وتلك ولقد أيدت محكمة النقض المصرية هذا الرأي في بعض أحكامها حيث قضت بأن النيابة العامة لاتزال تجمع بين طرف من السلطة القضائية وآخر من السلطة الإدارية وأنها بهذه الصفة قد تحتاج في تصرفها إلى قسط من المرونة لا يرى قاضي التحقيق أنه بحاجة إلى مثله لأن مهمته قضائية كما ذهبت المحكمة الإدارية العليا إلى ذلك إذ قررت أن ( قضاء هذه المحكمة جرى على أن النيابة العامة هي في حقيقة الأمر شعبة أصيلة من شعب السلطة التنفيذية تجمع بين طرف من السلطة القضائية وآخر من السلطة الإدارية . . . ) .

الاتجاه الثالث : الطبيعة القضائية للنيابة العامة
إلا أن هذا رأي لم يسلم بدوره من النقد إذ ذهب جانب من الفقه الحديث إلى القول بصعوبة التوفيق بين الوصفين فكون أعضاء النيابة العامة موظفين يتعين عليهم المحافظة على مصالح الحكومة وباعتبارهم قضاة يتعين عليهم السهر على مصلحة القانون والمحافظة على مصلحة القانون والحكومة معا يؤدي إلى إنكار إحداهما بلا شك أو أن يكون تمثيل عضو النيابة لأحدهما غير كاف فلا بد من تخليص النيابة العامة من إحدى الصفتين ولن يتم ذلك إلا بالنظر إلى طبيعة الوظيفة التي تقوم بها وجوهر هذه الوظيفة هو تطبيق قانون العقوبات وينتمي هذا العمل إلى أعمال السلطة القضائية باعتبار هذه السلطة هي المختصة وحدها بتطبيق القانون على المنازعات والخصومات لذلك تعتبر النيابة العامة هيئة قضائية خاصة قائمة امام الجهات القضائية من أجل تمثيل المجتمع والعمل باسمه والدفاع عن مصالحه والحرص على تنفيذ القوانين وأعضائها قضاة وليسوا وكلاء للسلطة التنفيذية.

وقد أخذ المشرع الفرنسي بهذا الرأي الأخير فبمقتضى التعديل الدستوري الصادر في 27 يوليه سنة 1993 أصبحت النيابة العامة جزءا من السلطة القضائية فقد نصت المادة 64 من الدستور الفرنسي على أن رئيس الجمهورية يضمن استقلال السلطة القضائية ويساعده في ذلك المجلس الأعلى القضاء وطبقا للمادة 65 من الدستور بعد تعديلها أصبح للمجلس الأعلى للقضاء تشكلان الأول خاص بشؤون القضاة والثاني خاص بشؤون أعضاء النيابة العامة وجاء القانون الأساسي الصادر في 3فبراير سنة 1994 فعدل نظام القضاء مشيرا إلى استقلال السلطة القضائية سواء تلك التي يقوم بها قضاة الحكم أو أعضاء النيابة العامة وقرر المجلس الدستوري الفرنسي دستورية هذا القانون إلا أن انتماء النيابة العامة للسلطة القضائية لم يحل دون اشتراط القانون الفرنسي عدم جواز اتخاذ إجراءات جنائية إلا من قضاة الحكم .

وقد أخذ غالبية الفقه المصري بهذا الرأي حيث ذهب إلى أن عمل النيابة العامة يغلب عليه ـ الوجه الفنية ـ لتولي القضاء ويؤكد هذا الطابع كذلك اعتبار النيابة العامة جزءا متمما ولازما في تشكيل القضاء الجنائي وهذه الاعتبارات في مجموعها تقود إلى القول بانتماء النيابة العامة إلى السلطة القضائية تطبيقا لذلك قضت محكمة النقض المصرية في حكم حديث لها بأن:

( النيابة العامة شعبة من شعب السلطة القضائية خول أعضائها من بين ما خول سلطة التحقيق ومباشرة الدعوى العمومية )

الاتجاه الرابع : النيابة العامة منظمة إجرائية تنتمي إلى الدولة
ينفرد رأي ــ في الفقه المصري ــ بالقول بأن النيابة العامة منظمة إجرائية تنتمي إلى الدولة كنظام قانوني وينطلق صاحب هذا الرأي من نقطة أساسية مؤداها أن النيابة العامة لا تنوب عن السلطة التنفيذية وإنما تنوب عن الدولة في اقتضاء حقها في معاقبة مرتكب الجريمة كما أنهالا تعتبر بالتالي أعمالها أعمالا قضائية إذ لا يمكن التسليم لمن يدعي نيابة عن غيره بحق من الحقوق ـــ شخصيا أم عينيا ،

وخاصا أم عاما ـــ بأنه جزء من السلطة التي تقضي في هذا الحق أو شعبة من شعبها ويخلص هذا الرأي إلى أن النيابة العامة لا تعتبر جهازا من أجهزة السلطة التنفيذية ولا شعبة أو جزءا من شعب السلطة القضائية وإنما هي منظمة قانونية بصفة عامة وإجرائية بصفة خاصة تنبثق عن الدولة كنظام قانوني يستهدف الصالح العام .

وعلى الرغم من وجاهة هذا الرأي إلا أننا نستطيع التسليم به فقد استبدل المشكلة بأخرى عندما قرر أن النيابة العامة منظمة إجرائية تمثل الدولة كشخص معنوي فإذا طرحنا الخلاف الفقهي حول الاعتراف للدولة بالشخصية المعنوية جانباــ والواقع أن بعض الفقهاء ينكرون فكرة الشخصية المعنوية أصلا ويسمى هذا الاتجاه بالمذهب الواقعي إلا أن الرأي الراجح في الفقه الإداري والدستوري يميل إلى الاعتراف للدولة بالشخصية المعنوية وأنصاره يسمون بالمذهب الشخصي ـ وسلمنا لها بهذه الشخصية فإن لهذا الشخص المعنوي ( الدولة ) ـ وفقا لتقسيم مونتسكيو ــ ثلاث وظائف ( قضائية وتنفيذية وتشريعية ) وتقوم على كل من هذه الوظائف الثلاث هيئة او سلطة مختصة تسمى بالسلطة القضائية أو السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية حسب الأحوال .

فإلى أي من هذه السلطات تنتمي المنظمة الإجرائية ؟ هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإن فكرة المنظمة أو الهيئة ــ وفقا لتعريف فقهاء القانون الإداري ـ عبارة عن مرفق عام يدار عن طريق منظمة عامة تتمتع بالشخصية المعنوية ، فالمنظمة العامة طريقة من طرق إدارة المرفق العام فنقطة البداية أن يكون ثمة نشاط إداري تتوافر فيه صفات المرفق العام وهذا الأخير هو أحد صور نشاط الإدارة ويترتب على ذلك نتائج عديدة أهمها : أن القرارات الصادرة من الهيئة أو المنظمة العامة هي قرارات إدارية وعمالها موظفون عموميون غير أنهم مستقلون عن موظفي الدولة وعلى ذلك فإن الرأي المتقدم يقودنا إلى اعتبار نشاط النيابة العامة جزءا من نشاط الإدارة ( الحكومة أو السلطة التنفيذية )

يضاف إلى ذلك أن عنصر تحقيق الصالح العام كأحد العناصر المكونة لفكرة الدولة محل خلاف في الفقه الدستوري فضلا عن ذلك فإن هذا الفقه بعد أن قام بنفي الصفة القضائية عن النيابة العامة عاد وعرف الدعوى الجنائية بأنها سلطة قضائية يمارسها النائب العام نيابة عن المجتمع أمام المرجع القضائي المختص .

وفي ضوء ما تقدم ذهب رأي في الفقه إلى اعتبار النيابة العامة جهازا اجتماعيا من أجهزة الدولة يسعى دائما إلى تحقيق الصالح العام وحماية المجتمع عن طريق إصلاح المجرم وتقويمه إذ يمارس في الخصومة الجنائية وظيفة ذات سلطة معينة ولا يزاول حقا شخصيا إن شاء باشره وإن أراد التفت عنه فله سلطة وعليه واجب وكلا الأمرين متلازمان لا ينفصلان وسلطته أو واجبه في الاتهام يخضع دائما لاعتبارات الصالح العام وبناء على ذلك تعتبر النيابة العامة أداة لحماية القانون والشرعية في المجتمع وقد اقتضى هذا الدور أن يكون لجهاز النيابة العامة ذاتية خاصة بعيدة عن السلطة التنفيذية ذلك أن النيابة العامة تؤدي وظيفة قضائية فمن المنطقي تبعا لذلك أن تتبع السلطة القضائية .

لذلك فإننا لا نملك إلا الانضمام إلى الرأي الراجح فقها وقضاء باعتبار النيابة العامة شعبة من شعب القضاء تقوم بالسهر على تحقيق مصلحة المجتمع وحسن سير العدالة فهي أداة لحماية الشرعية والقانون يضاف إلى ذلك أن أعضاء النيابة يخضعون لنظام مخاصمة القضاة وتأديبهم من اختصاص مجلس تأديب القضاة والعقوبات التأديبية هي نفس العقوبات التي يجوز الحكم بها على القضاة بيد أن هذا لا يمنع من أن يخصها القانون بخصائص تميزها عن قضاة الحكم نظرا لكونها الجهاز المنوط به مباشرة كل ما يتعلق بالدعوى العمومية .

الفرع الثاني : الطبيعة القانونية للنيابة العامة في فلسطين
بعد استعراض السابق بيانه حول طبيعة النيابة العامة في الفقه المقارن والذي أثار الكثير من الاشكاليات واختلاف المدارس التي تتبع النيابة العامة لتلك النظرية دون أخرى ومن خلال استقراء القانون الأساسي الفلسطيني وقانون الإجراءات الجزائية رقم 3 لسنة 2001 و قانون تشكيل المحاكم الجزائية فإننا نتفق مع وجهة النظر القائلة بتبعية النيابة العامة إلى السلطة القضائية وأعلل ذلك بما يلي:

1)ورود النيابة العامة في القانون الأساسي الفلسطيني تحت عنوان السلطة القضائية وجعل النيابة العامة شعبة من شعب القضاء وأن النائب العام هو صاحب الحق الأصيل في تحريك واستعمال الدعوى الجنائية بل وأن 

تعيين النائب العام عن طريق تنسيب المجلس القضائي .

2) بالرغم من عدم النص على اعتبار أن أعضاء النيابة العامة هم قضاة كما ورد في قانون استقلال القضاء الأردني لعام 1955 وقانون أصول المحاكمات الأردني لعام 1961 إلا أن تبعية أعضاء النيابة العامة لنفس الضمانات من حيث التأديب وشروط التعيين والتقاعد وعدم القابلية للعزل هو يقطع بشكل واضح باعتبار النيابة العامة وأعضائها هي شعبة من شعب القضاء .

3) إن دور وزير العدل كما هو واضح طبقا لما ورد له من صلاحيات في قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002 وقانون الإجراءات الجزائية هو دور إداري بحت يتعلق بحسن سير في مرفق النيابة العامة بانتظام واضطراد وليس له دخل في التدخل في الأمور الفنية للنيابة العامة .
4) إن طبيعة الاختصاصات الموكلة للنيابة العامة في فلسطين من حيث الجمع ما بين سلطتي التحقيق و الاتهام مع توفير كافة الضمانات القانونية باستقلالية النيابة العامة هو خير دليل على الطبيعة القضائية للنيابة العامة .

5) إننا لو سلمنا بتبعية النيابة العامة للسلطة التنفيذية بحكم أن تبعيتها لوزير العدل وطبيعتها بصفتها كسلطة اتهام مما يجب الفصل بينها وبين سلطة الحكم فإنه يجوز الطعن في قرارات النيابة العامة أمام المحكمة الإدارية بحكم أنها قرارات إدارية وليست قرارات قضائية بالطبع هذا ينتفي مع ما هو جاري من عدم جواز الطعن في قرارات النيابة العامة باعتبارها قرارات قضائية بل إنه حتى في الدول التي لا تأخذ بالنظام الاتهامي فإنها قامت بإنشاء جهاز للنيابة العامة حتى ولو كان يتبع للسلطة التنفيذية وإن هذا القول أيضا ينتفي مع تصنيف النظام الإجرائي المتبع في فلسطين بالنظام المختلط .

المطلب الرابع
تشكيل النيابة العامة
تشكيل النيابة العامة تكفل به قانون السلطة القضائية وقانون الإجراءات الجزائية حيث نصت المادة 60 من قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002 على أن تؤلف النيابة العامة من :
1ـ ـالنائب العام 2ــ نائب عام مساعد أو أكثر
3ــ رؤساء النيابة 4ــ وكلاء النيابة
5ــ معاون النيابة .
والنيابة العامة هيئة قضائية تتكون من عدد من رجال القضاء يقومون بأعمال قضائية إذ يشاركون في جلسات المحاكم بحيث يبطل تشكيل المحكمة إذا لم تكن النيابة العامة ممثلة في الجلسة .

ولا يغير من هذه الحقيقة توزيع أعباء القضاء بين سلطة مباشرة الدعوى من ناحية وسلطة الحكم من ناحية أخرى .
وكذلك لايغير من هذا الواقع كون أعضاء النيابة العامة تابعين لوزير العدل في بعض القوانين المقارنة لأن هذه التبعية مقصورة على حق الوزير في الإشراف عليهم والتأكد من أدائهم الأعمال الموكلة إليهم والنائب العام هو قمة هيكل النيابة العامة ورأسها وله حق الرئاسة على باقي أعضاء النيابة العامة من الناحية الإدارية وفي حدود معينة من الناحية القانونية واختصاصه يمتد إلى نطاق جميع أراضي السلطة الوطنية .أما باقي أعضاء النيابة العامة فيقتصر اختصاصهم على نطاق مكاني معين يتحدد بقرار من وزير العدل بناء على اقتراح النائب العام ومن الملاحظ خلو كل من قانون السلطة القضائية وقانون تشكيل المحاكم وقانون الإجراءات الجزائية من بيان تحديد اختصاصات كل من رئيس النيابة العامة ومعاون النيابة وهذا نقص تشريعي مما يقتضي تدخل المشرع لبيان تلك الاختصاصات .

تعيين أعضاء النيابة العامة
النائب العام يعين بقرار من رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية بناءا على تنسيب من مجلس القضاء الأعلى ويحدد القانون اختصاصات النائب العام وواجباته ويؤدي النائب العام اليمين القانونية أمام رئيس السلطة أما باقي أعضاء النيابة العامة فيؤدون اليمين القانونية أمام وزير العدل بحضور النائب العام .

ويكون تعيين محل إقامة أعضاء النيابة العامة ونقلهم خارج النيابة التابعين لها بقرار من وزير العدل بناء على اقتراح النائب العام وبغير موافقة مجلس القضاء الأعلى وللنائب العام حق نقل أعضاء النيابة العامة بدائرة المحكمة المعينين بها وله حق ندبهم خارج هذه الدائرة لمدة لا تزيد على ستة أشهر وطبقا للمادة 62من قانون السلطة القضائية فإن تعيين أعضاء النيابة العامة يشترط فيه نفس شروط المتطلبة لتعيين القضاة طبقا للمادة 16 من نفس القانون ولكن من الملاحظ أن الذي يقرر تعيين وكيل النيابة هو وزير العدل بعد التقرير المقدم من النائب العام بحق معاون النيابة العامة طبقا للمادة 62 من قانون السلطة القضائية ما يجعل التعيين بيد وزير العدل .
تأديب أعضاء النيابة
يكون تأديب أعضاء النيابة العامة بجميع درجاتهم من اختصاص مجلس تأديب وهي نفس الإجراءات المتبعة في تأديب القضاة وترفع الدعوى من قبل النائب العام من تلقاء نفسه أو بطلب من وزير العدل طبقا للمادة 72 من قانون السلطة القضائية .

المطلب الخامس
اختصاصات النيابة العامة
أولا : الاختصاصات العامة والثانونية
نصت المادة الأولى من قانون الإجراءات الجزائية على أن (تختص النيابة العامة دون غيرها بإقامة الدعوى الجزائية ومباشرتها ولا تقام من غيرها إلا في الأحوال المبينة في القانون )
ولا يجوز وقف الدعوى أو التنازل عنها أو تركها أو تعطيل سيرها أو التصالح عليها إلا في الحالات الواردة في القانون ،ومن ثم فإن الاختصاص الأساسي للنيابة العامة هو تحريك الدعوى الجنائية ومباشرتها وتقوم النيابة العامة بهذه المهمة باعتبارها وكيلة عن المجتمع الذي أخلت الجريمة بأمنه ولذلك فيجب أن تلتزم حدود الوكالة وأن تقوم بعملها باعتبارها جهازا من أجهزة الدولة يسعى إلى الحقيقة مدفوعا بمقتضيات المصلحة العامة لا فردا عاديا يتنازع مع المتهم فالنيابة العامة خصم غير عادي إذ يسعى إلى إظهار الحقيقة المجردة ولو لصالح المتهم.

ويترتب على ذلك عدة نتائج :
أولا: لا تملك النيابة العامة ـ باعتبارها نائب عن المجتمع ـ أن تتنازل عن حقها في رفع الدعوى وهي إن فعلت فإن ذلك لا يقيدها ولا تمنعها من تحريك الدعوى لأن حدود وكالتها عن المجتمع تقتصر على مباشرة الدعوى دون التنازل عنها .

ثانيا :إذا رفعت الدعوى أمام المحكمة فلا يجوز للنيابة العامة أن تسحبها ولو تبين لها أنها رفعت خطأ فهي لاتملك حينئذ إلا أن تعرض الأمر على المحكمة التي يكون لها مطلق الحرية في تقدير الأمر وإصدار الحكم .

ثالثا :لا يجوز للنيابة العامة التنازل صراحة أو ضمنا عن حقها في الطعن في الحكم ولا يجوز لها من باب أولى أن تتنازل عن الطعن بعد رفعه وقد قضى بأنه ليس للنيابة العامة أن تتنازل عن الدعوى العامة فإنها أئتمنت عليها لمصلحة الجماعة وإذن فلها أن تستأنف الحكم الصادر في الدعوى حتى ولو كانت قد أمرت بحفظها لأي سبب من الأسباب أو كان قد بدا منها موافقة على الحكم .

رابعا :لا تتقيد النيابة العامة بالطلبات التي قدمتها فإذا رفعت الدعوى بناء على حجج معينة ثم صدر الحكم مؤيدا لطلباتها فإنها تستطيع أن تطعن فيه بناءا على حجج أخرى وإذا تبين لها إنهيار أدلة الاتهام تستطيع أن تطلب من المحكمة الحكم ببراءة المتهم أو تفوض الأمر للمحكمة كذلك إذا تبين لها حكم الإدانة غير صائب تستطيع أن تطعن فيه لصالح المحكوم عليه.

خامسا :لا يجوز للنيابة العامة أن تعقد صلحا مع المتهم بعوض أو بغير عوض فتتفق معه على عدم تحريك الدعوى الجنائية قبله نظير شروط كتعويض المجني عليه أو إزالة الأضرار الذي قامت به الجريمة فيعد باطلا كل اتفاق من هذا القبيل ونتيجة لهذا البطلان فإن تحريك الدعوى يكون صحيحا على الرغم من هذا الاتفاق .

سادسا : لا يجوز الاحتجاج على النيابة العامة بموقف اتخذته في استعمال الدعوى الجنائية .

سابعا :لا يجوز للنيابة العامة أن تمتنع عن تنفيذ الحكم أو أن تعفي المحكوم عليه منه فقد صدر لمصلحة المجتمع لا لمصلحة خاصة للنيابة .

بيان اختصاصات النيابة
أجملت محكمة النقض اختصاصات النيابة العامة في الدعوى الجنائية فقالت ( النيابة العامة بوصفها نائبة عن المجتمع وممثلة له هي المختصة دون غيرها بتحريك الدعوى الجنائية وهي التي نيط بها وحدها مباشرتها وذلك بإجراء التحقيق بنفسها أو بمن تندبه لذلك من مأموري الضبط القضائي أو بتكليف المتهم بالحضور أمام المحاكم الجزئية المختصة لمحاكمته في ضوء المحضر الذي حرره مأمور الضبط وبمتابعة سيرها حتى يصدر فيها حكم نهائي )

أولا : إدارة أعمال الاستدلال نصت المادة 20 من قانون الإجراءات الجزائية لسنة 2001 ( 1ـ يشرف النائب العام على مأموري الضبط القضائي ويخضعون لمراقبته فيما يتعلق بأعمال وظيفتهم 2ــ للنائب العام أن يطلب من الجهات المختصة اتخاذ الإجراءات التأديبية بحق كل من يقع منه مخالفة لواجباته أو تقصير في عمله ، ولا يمنع ذلك من مساءلته جزئيا ) وعلى الرغم من أن القانون يشترك مع النيابة العامة سلطات أخرى في القيام بهذه الأعمال فإن لها دورا أساسيا في هذه المرحلة فهذه السلطات تابعة لها ومن ثم كان عليها أن تشرف على من يقوم بهذه الأعمال وتوجهه وتحول بينه وبين مخالفة القانون والافتئات على حرية الأفراد وتجتهد أن تلزمه بالموضوعية التي تلزم نفسها بها ، ومن المعلوم أن أعمال جميع الاستدلال ليست من إجراءات الدعوى الجنائية وإنما هي من الإجراءات الأولية التي تسلسل لها سابقة على تحريكها .

ثانيا : مباشرة التحقيق الإبتدائي
ويتجه عمل النيابة العامة وهي تباشر التحقيق إلى الكشف عن أدلة الجريمة وتعتبر النيابة العامة هي سلطة التحقيق الرئيسية والتحقيق الذي يباشره أعضاء النيابة العامة عملا قضائيا .

والجمع في يد النيابة بين سلطة الاتهام والتحقيق يصطدم مع العدالة إذ يجعل فيها خصما وحكما في ذات الوقت وهذا الوضع يميل إلى التشدد مع المتهم وإساءة الظن به قد يؤثر في عنايتها بتقدير دفاعه الذي يكون مستندا إلى أساس قوي يؤدي إلى براءته فضلا عن أن النيابة العامة طبقا لقانون السلطة القضائية المعدل الذي يدور حاليا مناقشته وتخضع النيابة العامة من حيث الإشراف الإداري إلى سلطة وزير العدل مما قد يؤثر في نزاهة التحقيق ويجعله عرضة للتعرض للأهواء السياسية كما يخشى مع هذه الإزدواجية إذا أخطأت النيابة العامة في الاتهام أن تستمر في خطئها عند التحقيق إلا أن هناك رأي آخر يرى باعتبار أن النيابة العامة هي الأمينة على الدعوى الجنائية بدءا من وقوع الجريمة وحتى رفع الأمر إلى المحكمة الجنائية المختصة وبما لها من ثقة باعتبارها جزءا من السلطة القضائية فضلا عن معايشتها أوراق الدعوى من فجرها وحتى توجيهها الاتهام ثم إحالة الأمر إلى المحكمة وهو ما يعطيها بعدا وفهما لواقع الدعوى ولا يخشى من جمع سلطتي التحقيق والاتهام في يد النيابة العامة بعد أن أحاط القانون أعمالها بضمانات حماية للمتهم .

ثالثا :الإحالة إلى القضاء وتمثيل الاتهام أمامه
بعد أن تنتهي مرحلة التحقيق الإبتدائي وهو كما قلنا عملا قضائيا تحيل النيابة العامة الدعوى إلى المحكمة الجنائية المختصة ولها وبدون إجراء تحقيق الإحالة إلى المحكمة بناءا على محاضر الاستدلال .

بعد الإحالة لها تمثيل الاتهام أمام القضاء وإن كان هذا لا يعفيها من الالتزام بالموضوعية ولذلك كان لزاما عليها أن تطرح على المحكمة عناصر الدعوى وأدلتها جميعا ولو كان فيها ما هو إلى مصلحة المتهم وعليها أن تقدم إلى القضاء كل معونة كي يصل إلى حكم مطابق للقانون وإذا تبين لها أثناء إجراءات المحاكمة إنهيار أدلة الاتهام فواجبها أن تطالب بالبراءة صراحة ويدخل في اختصاصها الطعن في الحكم كما قلنا ولو كان لصالح المتهم .

رابعا : تنفيذ الأحكام الجنائية
نصت المادة 395 من قانون الإجراءات الجزائية على أنه (تتولى النيابة العامة تنفيذ الأحكام الصادرة في الدعاوي الجزائية وفقا لما هو مقرر بهذا القانون ولها عند اللزوم الاستعانة بقوات الشرطة المباشرة )وتنفيذ الأحكام يشمل الأحكام الفاصلة في الموضوع والأحكام السابقة على الفصل فيه إذا احتاجت إلى تنفيذ كالقبض على المتهم وحبسه احتياطيا أو إطلاق سراحه إذا كان محبوسا من قبل والإشراف على تنفيذ عقوبة الإعدام طبقا للمادة 410 من قانون الإجراءات الجزائية كما يشمل تنفيذ الأحكام الصادرة بالغرامات والمصاريف وهذه واجبة التنفيذ فورا .

رؤية متعمقة فيما يجب أن تقوم به النيابة العامة من أجل تجسيد العدالة