الدكتور هيثم مناع

الحصانة القانونية و الجرائم الجسيمة

==ولكن السؤال المطروح على المجتمع البشري اليوم وقد أصبحت السيادة مفهوما نسبيا بكل المعاني: ما معنى أن تبقى حصانة رؤساء الدول؟ وهل هذه الحصانة مطلقة؟ هل هي مقدسة؟ وهل يمكن قبول مبدأ الحصانة لإغماض العين في القرن الواحد والعشرين عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، جريمة الإبادة الجماعية وجريمة العدوان؟

من الضروري لمناقشة موضوع الحصانة الفردية التذكير بأن هذه الحصانة، هي تعبير عن حالة استثنائية، وبالتالي لم يكن السبب الأول لها الطبيعة المطلقة للسلطات في الأزمنة القديمة، بقدر ما كانت ابنة وضع غير عادي يستلزم استثناءا قانونيا أكثر منها امتياز شخصي. هذه الحالة تعود بنا بعيدا في الذاكرة البشرية، حيث كان حامل الرسائل بين الحكومات والدول بالعرف يمتلك الحماية ولو كانت الرسالة التي بحوزته تتضمن إعلان حرب. وبهذا المعنى فقط يمكن القول أن الحصانة في المجتمع البشري قبل الحضارة الغربية كانت عالمية الطابع. أما مفهوم حصانة رئيس الدولة، ملكا أو أميرا أو رئيسا، فلم تكن موضوع إجماع عالمي قديم.

أصالة الموقف العربي الإسلامي

من المعروف الموقف الصارم في صدر الإسلام، لأي استثناء لمسئول أو قريب مسئول من مواجهة القضاء كغيره من الناس. فإن كان القرآن الكريم ينطلق من موقف أخلاقي عالمي سام أكثر منه إجابات قانونية محدودة الزمان والموضوع، فقد شهدت العقود الأربعة الأولى في حياة الدين الجديد عدة مواقف أساسية تنم عن رفض فكرة التمايز والحصانة القضائية من حيث المبدأ. فقد جاء عند الإمام أحمد ومسلم والنسائي مأثورة الرسول العربي: “إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده ! لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها”. وأما عن غياب الحصانة حتى عن الأنبياء، فقد أطلق الرسول قبيل وفاته:

“ألا من كنت جلدت له ظهرا، فهذا ظهري فليستقد، ومن كنت شتمت له عرضا، فهذا عرضي فليستقد” (أي يطلب القود وهو القصاص).

لقد طالب الخليفة أبو بكر الصديق المسلمين بتقويم الاعوجاج في سلوك الخليفة لا السكوت عنه، في حين اختصر الإمام علي بن أبي طالب في عهده إلى مالك الأشتر النخعي إقامة القضاء بين الناس بجملة جامعة: “الحكم في إنصاف المظلوم من الظالم والأخذ للضعيف من القوي وإقامة حدود الله”.

غياب أي نوع من الحصانة أو القدسية للحاكم في الإسلام بلغت أوجها في الانتفاضة على الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان وهو على المنبر ثم حصاره في بيته ثم الانقضاض الجماعي على بيته. وبعد تنفيذ حكم المنتفضين عليه، مبايعة الإمام علي خليفة له. كذلك في أكثر من حادث في التاريخ العربي الإسلامي.

إن كان ما يهمنا من هذا التناول التاريخي السريع التذكير بشي، فهو أن مفهوم التقدم نسبي جدا، والمطالبة بالحصانة لمجرد التمتع بمنصب سلطة، هي من نقائص الأعراف القانونية الغربية التي أصبحت بقوة التأثير وإعادة الاستهلاك من قبل دول لا يملك حكامها حتى حق التعبير عن سيادة الدولة أو تمثيلها، أصبحت بفضل هذا وذاك عالمية الطابع، كما أن نمو اتجاه مقاوم مختلف سيأخذ حقه عالميا في العقود، إن لم نقل السنوات القادمة. فإن كانت المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان تعتبرسلطة الحصانة حصنا لتعسف السلطة، وتطالب في حال وجودها للنائب أو الصحافي أو الناشط الحقوقي، بالتزام أخلاقي وقانوني منه بأن لا يسئ استعمال ما يحميه أثناء ممارسة مهامه. فهي لا تقبل الحماية من العقاب في الجرائم الجسيمة لأي متمتع بحصانة مهما كان نوعها. من هنا الدور المتميز الضروري للعالمين العربي والإسلامي في معركة رفع الحصانة. وطموحنا بأن تجد أصوات الإلغائيين (المطالبون بإلغاء الحصانة الرئاسية)، في كل المدافعين عن المقومات الحضارية الكبرى في الإسلام وعن مبادئ العدالة المتساوية في التاوية وغيرهما من المنادين بنصرة الضعفاء ومناهضة عنجهية القوة، حليفا طبيعيا لهم.

الحصانة في الثقافة الغربية

حتى اليوم، لا يوجد اتفاقية دولية لحصانة الدول، وهناك فقط اتفاقية صادرة عن مجلس أوربة صدق عليها عدد قليل من الدول الأوربية ويحق للدول غير الأوربية التصديق عليها. وهي اتفاقية 16 مايو (أيار) لعام 1972. في عام 1991 أحالت لجنة القانون الدولي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع اتفاقية حول الحصانة، وحتى اليوم لم يتم صدور أي قرار بهذا الخصوص لعدم إمكانية التوصل إلى اتفاق حول الموضوع. ولكن يبقى العرف الدولي بقيمة القانون الملزم حتى في غياب اتفاقية دولية تحدد معالمه.

هناك عرف دولي يمنح رؤساء الدول حصانة أثناء قيامهم بمهامهم. هذا العرف ملزم كأي قانون. ولم تكتف الدولة الحديثة بهذا المستوى من الحماية بل توسع الأمر ليشمل رئاسة الوزراء ووزارات سيادية في عدة بلدان. والعالم يذكر، كيف رفضت محكمة العدل الدولية في القرار الذي اتخذته في القضية المرفوعة من الكونغو ضد بلجيكا في 14 شباط (فبراير) 2002 رفع الحصانة عن وزير الخارجية الكونغولي لأن هناك عرف دولي يحمي القنصل العام والسفير. كان منطق المحكمة يقول: ما دام هناك حصانة لهؤلاء فلا يجوز محاكمة أو ملاحقة من قام بتعيين القنصل العام والسفير. وللتذكير فقد رفضت فرنسا وبلجيكا الطلبات التي تقدمت بها المنظمات الحقوقية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1998 لمحاكمة لوران كابيلا، رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، أثناء زيارته لتلك الدولتين.

على صعيد الدساتير والقوانين الأساسية الوطنية طبعا لا حاجة للاستشهاد بأكثر من النظام الأساسي لدولة إسرائيل، الذي يعطي المثل الأسوأ لإطلاق الحصانة والذي جاء فيه:

” أ‌. لا يحاكم رئيس الدولة أمام أية محكمة عادية أو خاصة تتعلق بأمر ذي صلة بوظائفه وصلاحياته، بحيث تكون حصانته مطلقه.

ب‌. يحق لرئيس الدولة الامتناع عن الإدلاء بأي شهادة تتعلق بعمله كرئيس للدولة.
ج‌. تبقى حصانة رئيس الدولة سارية المفعول حتى بعد انتهاء مدة رئاسته.”.

نحو عهد جديد

في 16 أكتوبر(تشرين الأول) 1998، كان لوصول أوغستو بينوشيه إلى لندن لإجراء عملية جراحية لفتق صغير أن زعزعت ما قام عليه مفهوم الحصانة في أوربة. فقد أوقف البوليس دكتاتور تشيلي السابق بالاعتماد على مذكرة توقيف دولية أصدرها قاضيان إسبانيان بتهمة الإبادة الجماعية والتعذيب بحق أشخاص يحملون الجنسية الإسبانية. بعد عشرة أيام طلب المكتب الفدرالي للشرطة السويسرية بدوره تمديد التوقيف الاحترازي بحقه بتهمة خطف وتعذيب وقتل مواطن سويسري. تم تقديم ثماني شكاوى من لاجئين تشيليين أمام القضاء السويدي تبع ذلك شكاوى في بريطانيا وفرنسا. مفهوم الحصانة لرئيس الدولة يهتز، والنقاش في الأوساط الحقوقية والقانونية يفتح على مصراعيه. إلا أن الدولة المسماة بالحديثة تكاتفت لمنع سقوط مبدأ حصانة الرئيس. ويمكن القول أنه بالمعنى الآني، خسرت المنظمات الحقوقية والقضاة معركة محاكمة بينوشيه خارج الأراضي التشيلية، إلا أننا ونحن نكتب هذه الأسطر، كسب شعب تشيلي المعركة مرتين، ليس فقط بانتخاب ابنة أحد ضحايا الدكتاتورية، ولكن عبر قرار قضائي صدر بين جولتي الانتخابات الرئاسية وبالتحديد في الحادي عشر من يناير (كانون الثاني) 2006، حيث رفعت محكمة الاستئناف التشيلية بسبعة عشر صوتا مقابل ستة أصوات، الحصانة عن دكتاتور تشيلي السابق ليحاكم وهو في التسعين من العمر في قضية تتعلق بجريمتي قتل خارج القضاء في عام 1973. وتبنت المحكمة الدستورية العليا في إسبانيا مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي الذي سبق وتبنته بلدان أوربية أخرى, بل في الولايات المتحدة نفسها ثمة هجمة مضادة للمحافظين الجدد تحاول وقف التدهور القضائي والحقوقي.

نذكر دائما بأن الانجازات القانونية الكبيرة تأتي في عصر التحركات الكبرى للشعوب كما تصدر عن القادة الكبار، أما التراجعات فيما يحقق الناس من تقدم، فابنة الحقب الرديئة وقياداتها الضحلة.

رغم أنها لا تشكل أنموذجا للعدالة، كمحكمة عسكرية استثنائية نصبها الغالبون في الحرب العالمية الثانية، فقد كان من مبادئ القانون الدولي التي أقرتها المحكمة المبدأ الثالث الذي ينص على: “لا تعفي حقيقة أن الشخص الذي ارتكب فعلا يشكل جريمة بموجب القانون الدولي والذي يعمل بصفته رئيس دولة أو موظف حكومي مسئول بموجب القانون الدولي”.

وقد جاء في المادة السابعة الفقرة الثانية من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة (1993) وفي المادة السادسة الفقرة الثانية من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا(1994)ما يؤكد على أن الصفة الرسمية للشخص باعتباره رئيساً للدولة لا تعفيه بحال من الأحوال من المسؤولية الجنائية.

ويمكن القول أن النصر الأهم جاء عام 1998، عندما أكدت المحكمة الجنائية الدولية في المادة (27) نظامها الأساسي على عدم الاعتداد بالصفة الرسمية حيث نصت على:

1.يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية. وبوجه خاص، فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثلا منتخباً أو موظفاً حكومياً، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسئولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكل، في حد ذاتها سبباً لتخفيف العقوبة.

2.لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كانت في إطار القوانين الوطنية أو الدولية، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص.

رغم الهزة الأرضية التي أصابت مفهوم حصانة رئيس الدولة في 1998 في القانون (نظام روما الأساسي) وفي الواقع (ملاحقة بينوشيه)، تمكن منطق الدولةLa raison d’Etatمن المقاومة ليجسد بحقLa déraison d’Etat. وبقي العالم من حيث المبدأ بين ملاحقة ومضايقة للضعيف وتغييب لمحاسبة القوي. فمن يحترم اليوم الأعراف والقوانين الدولية تقليدية كانت أم تقدمية؟ عندما غزت الولايات المتحدة وبريطانيا العراق لم يكن هناك أية حماية قانونية دولية لهذا العمل الذي اعتمد منطق القوة. الإدارة الأمريكية تفرض على الدول التي تحصل على مساعدات أمريكية أن توقع اتفاقيات ثنائية تضعها فوق المحاسبة أمام المحكمة الجنائية الدولية. هل هذا قانون دولي ؟ بهذا المعنى، يمكن لمجلس الأمن، الذي أقر متابعة ملف دارفور أمام المحكمة الجنائية الدولية (التي لا تعترف عليها إدارة بوش أو الحكومة السودانية كلاهما) أن يلاحق دول أخرى مثل سورية أو إيران بنفس المنطق السريالي.

لقد وجهت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة كما هو معروف الاتهام في عام 1999 إلى سلوبودان ميلوسيفيتش، رئيس جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية. ولكن هذا المبدأ لا يطبق بعد في المحاكم الوطنية في أي بلد عربي، وحتى لا نذهب إلى أبعد من ذلك، نقول أن تسليم المسئول الصربي كان بتفسير واسع الذمة لدستور يوغسلافيا الذي يمنع تسليم رئيس البلاد لدولة أخرى حيث اعتبر التسليم للأمم المتحدة لا لبلد آخر.

الإدارة الأمريكية تخوض منذ استلام جورج دبليو بوش معركة مفتوحة مع القانون الجنائي الدولي في محاولة إنشاء منظومة عدالة موازية تخضع لشروطها السياسية ومصالحها القومية.

رغم أن المحكمة الجنائية الدولية لم تأت كما طالبت المنظمات غير الحكومية والمجتمعات المدنية في العالم. فمجلس الأمن يستطيع رفع دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية ويستطيع سحب دعوى من أمام هذه المحكمة أيضا. وكما قلت يوما، مشكلة العدالة الجنائية الدولية أنها قضاء جالس (القاضي) وقضاء واقف (المحامي) وذئب متربص (مجلس الأمن).

هل من الضروري التذكير، أن العرف الدولي بالتعريف هو أولا تراكم شروط وممارسات مادية وثانيا شرط نفسي واعتباري. من هنا ضرورة تفعيل أشكال المحاكمات الرمزية والاعتبارية وبناء جبهة عالمية للتحسيس بأهمية عدالة دولية متساوية على مستوى الأشخاص ومستوى الدول. فكلما تزايد عدد الشخصيات والمنظمات والهيئات والدول المطالبة برفع الحصانة سنصل إلى ذلك. عندها يجب أن يكون المبدأ:

لا حصانة لأحد في الجرائم الجسيمة، لا أن يكون حصانة للقوي واستباحة للضعيف.

لا حصانة لأحد في الجرائم الجسيمة مقالة للدكتور هيثم مناع