إعادة نشر بواسطة لويرزبوك
يعتبر الزواج من أهم العقود كونه من الروابط الأبدية غير المعلقة على زمان أو فترة معينة، وفيه من التكاليف والالتزامات ما لا نجده في غيره من العقود؛ ولذلك اعتنى به المشرّع عناية كبيرة وجعل له مقدمة تعرف بالخطبة، وذلك بالنظر لما لهذا العقد من أهمية في حياة الرجل والمرأة على حد سواء، وعلى الأسرة والمجتمع ككل؛ فلا بد لكل من طرفيه أن يكون بصيراً وعالماً بالطرف الآخر الذي سوف يكون قريناً له في حياته، والطريق إلى ذلك كله الخطبة؛ إذ يتبيّن من خلالها لكل طرف صفات وطلبات ورغبات الطرف الآخر، ولأن أكثر مشاكل الزواج وانحلاله فيما بعد ناجمة عن التسرع في اختيار الشريك دون بحث أو تدقيق. وعلى هذا الأساس اعتاد الناس على ألا يقدموا على إبرام الزواج وإتمامه إلا بعد تفكير وتروي وتدبير.
من هنا نجد أن المشرّع الإسلامي أقر الخطبة كمرحلة تمهيدية تسبق الزواج، حتى تنشأ الرابطة الزوجية على دعائم قوية وأسس ثابتة تحقق الراحة والسعادة والصفاء والوئام، فتدوم العشرة.. وهو ما أخذت به أيضاً التقنينات الحديثة في مجال تنظيم الأسرة التي أباحت لكل من الخاطب والمخطوبة العدول عن إتمام عقد الزواج إذا وجد أنه لا يستطيع الاستمرار في هذه الرابطة وإبرام عقد الزواج؛ إذ تنص المادة 3 من قانون الأحوال الشخصية السوري على أنه: “لكل من الخاطب والمخطوبة العدول عن الخطبة”. وفي هذه الحالة لابد من البحث عن الآثار والنتائج التي تترتب على هذا العدول وبيان الأحكام التي قررها القانون في هذا الخصوص، لاسيما وأنه فرّق في المادة الرابعة من ذات القانون بين عدول الخاطب وعدول المخطوبة حيث جاء في تلك المادة أنه:
“1ـ إذا دفع الخاطب المهر نقداً واشترت المرأة به جهازها ثم عدل الخاطب فللمرأة الخيار بين إعادة مثل العقد أو تسيلم الجهاز.
2ـ إذا عدلت المرأة فعليها إعادة مثل المهر أو قيمته”.
وفي ضوء هذه المادة ونتيجة الرضائية في الخطبة التي تجعل من العدول أمراً طبيعياً إذا رفض أحد الطرفين إتمام الزواج. أما القول بغير ذلك فيجعل الخطبة عقداً ملزماً ويجعل الزواج يتم بالإكراه، وكلاهما لايصح باتفاق كافة المذاهب الإسلامية.. والقانون ألزم المرأة إذا كانت قد قبضت المهر برده لأن الخاطب لم يتبرع به لخطيبته؛ بل كان على أساس المعاوضة أي أنّ دفع المهر تم لغرض معين لم يتحقق، وهو الزواج، فوجب استرداده؛ فإذا كان مثلياً استرد مثله، وإن كان قيمياً استرد عينه، إلا إذا هلك فيسترد قيمته. ومثال ذلك إذا قدّم الخاطب لخطيبته مهراً غير النقد كأن يكون مواشي أو عقارات، ثم عدل عن إتمام الخطبة، فله أن يسترد المواشي مع مواليدها والعقارات مع ثمارها، على أن يدفع للخطيبة ما أنفقته لقاء ذلك. ولكن في الغالب تقوم المخطوبة بإعداد الجهاز من المهر الذي يدفع لها عند الخطوبة لتجهيز نفسها، فإذا عدل الخاطب عن خطوبته وأراد أن يسترد المهر نقداً، فقد تتضرر المخطوبة لأن قيمة الجهاز تقل عن سعر شرائه؛ فهل تتحمل المخطوبة هذا الفرق؟
لقد عالج القانون هذه الحالة بترك الخيار للمخطوبة بين رد المهر للخطيب أو إعطائه الجهاز بقيمة المهر؛ إذ ليس من المعقول أن تلزم المخطوبة بدفع بدل الجهاز وليس المهر، لأنه جرت العادة أن يقوم أهل الفتاة بدفع مبالغ أخرى، وأحياناً لا تقل عن قيمة المهر عند تجهيز الفتاة. ولذلك ترك القانون لها الخيار بين رد المهر كاملاً أو رد الجهاز بقيمة المهر.
وإذا كان العدول من جانب المخطوبة فيجب عليها في هذه الحالة رد المهر لأنها هي المسؤولة عن هذا العدول؛ فإن كان المهر مثلياً أو نقداً ردت مثله وإن كان قيمياً ردته بعينه، إن كان قائماً أو ردت قيمته إذا كان مستهلكاً.
إن المشرّع حدد الطبيعة القانونية للخطبة بأنها وعد بالزواج واعتبر أن هذا الوعد غير ملزم، فأجاز لكلا الطرفين العدول عن إتمام الزواج، وهذا واضح من نص المادة 2 من قانون الأحوال الشخصية، التي جاء فيها: “الخطبة وقراءة الفاتحة وقبض المهر وقبول الهدية لا تكون زواجاً”. وعلى هذا، فالخطبة لا تعتبراً عقداً ولا زواجاً؛ فلا إلزام ولا التزام. ويُلاحظ أن المشرّع لم يحدد المدة التي يجب فيها العدول عن الخطبة، وبالتالي يستوي في العدول طول المدة أو قصرها. كما أن المشرّع لم يهتم بالأسباب التي يتم بموجبها العدول إذ أعطى الحرية لكل من الخاطب والمخطوبة في العدول وقت ما يشاء كل منهما.
وبما أن الخطبة ليست عقداً بل هي وعد بإتمام عقد الزواج، فهل يترتب على هذا العدول تعويض للمتضرر أم لا يترتب شيئاً؟
لم يتطرق القانون لهذه المسألة، ولم يقل بها أحد من الفقهاء القدامى، وهي من الدعاوى الحديثة لأن الإجبار لا يتوافق مع طبيعة الخطبة.. ومع ذلك يمكن للمتضرر بحسب القواعد العامة للمسؤولية عن الفعل الشخصي ـ مادة 164 مدني وأحكام التعسف في استعمال الحق ـ المطالبة بالتعويض؛ فالخطأ الذي يرتكبه من يُقدم على فسخ الخطبة هو الانحراف عن السلوك المألوف للشخص العادي بالنظر إلى الظروف التي رافقت هذا العدول. ولذلك يرى العلامة السنهوري أن مجرد العدول لا يكون سبباً موجباً للتعويض، إلا إذا اقترن بأفعال أخرى ألحقت ضرراً بأحد الخطيبين جاز الحكم بالتعويض على أساس المسؤولية التقصيرية.
وفي هذا السياق، يرى الدكتور عبد الرحمن الصابوني أن حق العدول عن الخطبة هو حق طبيعي لكل من الخاطبين، لأنه لا يمكن أن نلزمهما بإتمام العقد وإلا كان إكراهاً. وإن ترتب على هذا العدول ضرراً بأي منهما، كان للمتضرر طلب التعويض.. ولا فرق أن يكون الضرر مادياً أو معنوياً، لأن المرء كما يتضرر من الضرر المادي، يتضرر من الضرر المعنوي. ولكن يجب أن يكون تقدير التعويض عنده مقيداً بنصف المهر، لأنه لا يجوز الحكم بالتعويض عن فسخ الخطوبة بأكثر مما يدفعه المطلق فيما لو تم العقد بينهما وطلق زوجته قبل الدخول. كما أنه لا يجوز تحديد التعويض بما لا يتجاوز نصف المهر خشية التعسف في تقديره.
ونرى أنّ هذا الرأي فيما يخص تقدير التعويض فيه بعض المغالاة، وأن نصف المهر يتجاوز بكثير حجم الضرر اللاحق بأحد الطرفين، خصوصاً ما يجري العمل به في مجتمعاتنا اليوم من مغالاة بالمهور، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن نصف المهر الذي يدفع في الطلاق قبل الدخول ليس تعويضاً، بل هو حق للمطلقة، فلا يجوز قياس المطلقة قبل الدخول بالفتاة المخطوبة التي لم تتزوج بعد. كما أن الإشكال العملي الأكبر هو في إثبات وقوع الضرر، لا سيما الضرر المعنوي، لأنه من الأمور النفسية والشخصية التي تختلف من فرد لأخر. وعليه، فإن تحديد مسألة التعويض، مرتبطة بوقائع الدعوى، التي تخضع لسلطة القاضي التقديرية التي لا معقب عليها.
غير أنه يجب التفرقة بين تقدير سلطة القاضي في تقدير التعويض، وبين بيان عناصر تقدير التعويض؛ فالأولى، مسألة واقع خاضعة لتقديره وفق ما توضح له من جسامة أو يسر الضرر دون رقابة محكمة النقض. أما الثانية، وهي تحديد كيفية هذه الجسامة؛ بمعنى كيفية تطبيق القانون على الوقائع، فتخضع لرقابة محكمة النقض. وقد استقر الاجتهاد القضائي في سورية على أن البحث بالهبات والهدايا يخرج عن اختصاص المحكمة الشرعية النوعي ويدخل في اختصاص المحاكم المدنية.
ويُلاحظ أن المشرّع أغفل نقطة في غاية الأهمية، ألا وهي حكم المتسبب بالعدول عن الخطبة؛ فقد يُقدم الخاطب المهر والهدايا للمخطوبة، وبعدها تلجأ إلى التحايل وتقوم بتصرفات لا ترضي خطيبها أو تتعمد الخصام معه، فتدفعه إلى العدول عن الخطبة، أو يمكن أن يكون العدول اضطرارياً لاكتشاف عيب أو نقص أو مرض في الطرف الآخر.
وبالتالي على القاضي عند النظر بطلب التعويض عن العدول التوقف عند هذه المسألة، لاسيما أن هذه الإشكاليات وغيرها تثار عند الخلاف على الهدايا في معظم الأحيان؛ فالخاطب أو المخطوبة في فترة الخطبة يقدمان الهدايا لتقوية الصلات بينهما، وعند فسخ الخطبة يثور التساؤل حول استرداد هذه الهدايا التي اعتبر المشرّع في المادة الرابعة من قانون الأحوال الشخصية أنه يجري على الهدايا أحكام الهبة؛ حيث أخذ المشرّع برأي الحنفية عندما اعتبر أن هدايا الخطبة بمثابة هبة، وللواهب أن يرجع في هبته، إلا إذا وجد مانعاً من موانع الرجوع، كهلاك الشيء أو استهلاكه؛ فإذا كان ما أهداه الخاطب موجوداً فله استرداده؛ وإذا هلك أو استهلك أو حدث فيه تغيير،
كأن ضاع الخاتم، أو أكِل الطعام أو صُنع من القماش ثوباً، فلا يحق للخاطب استرداده؛ وهذا رأي الدكتور وهبة الزحيلي: أن المرأة تستحق جميع ما قدم لها من قبل العقد؛ كالهدايا بدليل ما رواه الخمسة إلا الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله (ص)، قال: “أيما إمراة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح، فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه”
ولكن المشرّع والفقهاء لم يتطرقوا إلى مسألة الهدايا المقدمة من أهل أحد الخطيبين أو أقاربهما؛ فهل يحق لأحدهما استردادها عند العدول وهل تجري عليها الأحكام السابقة؟! كذلك تبقى مسألة غاية في الأهمية لم يتعرض لها النص، وهي اتفاق الطرفين على فسخ الخطوبة بسبب الاختلاف في وجهات النظر؛ وهنا يعتقد كل طرف بأن من حقه استرداد الهدايا أو الاحتفاظ بها، وبالتالي لابد من تدخل المشرّع لحسم مثل هذه الحالات.
وثمة أمر آخر لم يعالجه القانون؛ هو وفاة أحد الخطيبين بعد الخطبة؛ فالوفاة لا دخل لإرادة الإنسان فيها؛ فهل يحق لأهل الخطيب المتوفي المطالبة برد المهر والهدايا؟!
ختاماً، نرجو، في ضوء قلة النصوص الناظمة لموضوع الخطبة، من المشرّع عند تعديل قانون الأحوال الشخصية وضع نصوص واضحة ومفصلة بخصوص الخطبة حتى يسهل معرفة أحكام كل المسائل المشار إليها أعلاه، وتوحيدها وإيجاد الحلول لإشكالاتها.
الوضع القانوني للمهر في حالة العدول عن الخطبة
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك