نفقة الزوجة.. حدودها وصورها
البحث العلمي مجموعة من العناصر الشاملة لمفردات موضوع النفقة من الناحية الفقهية، فتعرض التعريف بأنواعه، والصور التي تشملها النفقة، ومن ثم تسرد أدلة المشروعية والتي تضم جميع أنواع الأدلة المتفق عليها لدى جمهور الأصوليين مع بيان وجه الدلالة من كل دليل، ثم تختم البحث بالشروط الواجب توفرها لثبوت النفقة على الزوج.. وهي بذلك تكون قد سارت على المنهج الفقهي، المقتصر على التعليل والتدليل، دون ذكر الِحكم والتوجيهات التربوية والأخلاقية التي لا تشمل منهج البحث الفقهي، عناصر البحث:
o تعريف النفقة
o ما تشمله نفقة الزوجة.
§ أولاً : الطعام.
§ ثانياً: الكساء.
§ ثالثاً: المسكن.
§ رابعاً: الخادم.
§ خامساً: العلاج.
o أدلة مشروعية نفقة الزوجة.
§ أولاً: الأدلة من الكتاب.
§ ثانياً: الأدلة من السنة النبوية.
§ ثالثاً : الإجماع.
§ رابعاً: المعقول.
o شروط وجوب نفقة الزوجة.
تشتمل مادة (نفق) على حروف النون والفاء والقاف على أصلين صحيحين.
1-مصدر مأخوذ من النفوق، يقال: نفق الفرس، والدابة، وسائر البهائم، ينفق، نفُوقأ، أي: ماتت، وفي حديث جابر بن سمرة: فأبى، فنفقت..”(1) الحديث، أي: ماتت.
2-مصدر مأخوذ من الإنفاق، وهو صرف المال وفناؤه، ومنه قوله تعالى{إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق}(2). أي: خشية الفناء والنفاد(3).
3-مصدر مأخوذ من النفاق، يقال: نفق البيع نفاقاً، أي راج، ونفقت السلعة، أي: غلت ورغب فيها. ونفقة الزوجة والأقارب والمماليك مأخوذة من هذا الأصل، فالنفقة: ما أنفقت واستنفقت على نفسك وأولادك(4).
مأخوذ من النفق، وهو السرب في الأرض له مخلص إلى مكان ومنه قوله تعالى: {فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض..}(5) الآية
والنفق في الأرض: المدخل وهو السرب(6) والجمع أنفاق، والنفقة، والنّافقاء: جحر الضب.
ومن هذا الأصل اشتقاق النفاق، لأن صاحبه يخفي خلاف ما يظهر، فكأن الإيمان يخرج، أو هو يخرج من الإيمان في خفاء، لذا فالأصل في الباب واحد وهو الخروج(7).
النفقة في اصطلاح الفقهاء:
اختلفت آراء الفقهاء – رحمهم الله – في تعريف النفقة،
لكن لعل أقربها إلى الصواب ما ذكره علماء الحنابلة، وهي أن النفقة:
“كفاية من يمونه خبزاً وأُدماً وكسوة وسكنى وتوابعها”(.
1-كفاية: بيان بأن الواجب بالنفقة هو قدر الكفاية للمنفق عليه، ويخرج ما زاد عن الضرورة والحاجة فلا تسمى نفقة وإنما هي من باب التبرعات والهبات.
2-من يمونه: بيان لمن تشمله النفقة من زوجة أو قرابة ومن في حكمهم.
3-خبزاً وأدما وكسوة وسكنى: بيان لأنواع النفقة، وهي الحاجات التي لا يقوم حال الإنسان إلا بها.
4-وتوابعها: بيان لتوابع النفقة كثمن الماء، وتكاليف الوقود ونموهما.
العلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي:
بالنظر إلى المعنى اللغوي والاصطلاحي للنفقة، فيظهر بينهما عموم.
وخصوص، فاللغوي عام في الإخراج، والمعنى الاصطلاحي خاص بإخراج كفاية من يمونه في حال الحياة، لذا فيكون التعريف الاصطلاحي للنفقة أخص من التعريف اللغوي.
لما كانت النفقة من ضروريات حفظ الحياة، وبها يقوم حال المنفق عليه، فقد أوجب الله تعالى للزوجة ما يقوم به حالها من مستلزمات الحياة الضرورية، وهي:
للزوجة على زوجها قدر الكفاية، لقول الله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}(9)، والمعروف هو: قدر الكفاية. ولقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهند بنت عتبة رضي الله عنها: “خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف”(10)، فذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم الإنفاق مطلقاً دون تقييد ولا تحديد ورده للعرف(11).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية(12): “الصواب المتطوع به ما عليه الأمة علماً وعملاً، قديماً وحديثاً، أن تأخذ الزوجة قدر الكفاية، ولم يقدر لها نوعاً ولا قدراً، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين القدر والنوع، كما بين فرائض الزكاة والديات”.
الكساء الواجب للزوجة هو الكساء الكامل الكافي لها بحسب العرف، وهو ما جرت به العادة في البلد من ثياب البدن بلا تقتير أو إسراف.
وهو مقدر بكفايتها، لأن الشرع أوردها غير مقدرة، وليس لها أصل يرد إليه، فيرجع في عددها وقدرها إلى العرف(13).
لما كانت حاجة الزوجة قائمة للإيواء، وحفظ النفس والمتاع، فقد جعل الله تعالى سكنى الزوجة حقاً من حقوقها، على أنه يشترط فيه ما يلي:
1-أن يكون على قدر حالهما يسارا أو إعسارا(14).
2-أن يكن المسكن آمناً، بحيث تأمن على نفسها فيه، كإسكانها بين جيران صالحين(15).
3-أن يسكن الزوج زوجته في دار مفردة ليس فيها أحد من أهله، وقد اختص علماء الحنفية(16) والمالكية(17) بهذا الشرط وزاد المالكية أنه خاص بالشريفة.
وبناء على هذا القول فإذا اشترطت الزوجة على الزوج عند العقد أن تكون في بيت مستقل، فيتعين الوفاء بهذا الشرط لخبر “المسلمون على شروطهم”(1 وأما إذا لم تشترط عليه فالعرف جار على إسكانها مع أهله دون نكير. والله أعلم.
ذهب جمهور الفقهاء على أنه يجب على الزوج أن يخدم زوجته إذا كانت مريضة عاجزة عن القيام بأمور نفسها، وكذلك إذا كانت غير مريضة ولكنها ممن لا يخدم نفسه في العرف، بأن كان لها خادم في بيت أبيها، فإن على زوجها في هذه الحال إخدامها بخادم واحد لا يزاد عليه، وذهب أبو يوسف إلى أن لها أكثر من خادم إذا كانت ممن يستحق ذلك في العرف.
فإذا كانت معافاة وهي ممن يخدم نفسه في العرف، لم يجب عليه إخدامها، لأن العرف في حقها خدمة نفسها(19).
ذهب الأئمة الأربعة(20) على أن العلاج لا يجب على الزوج لزوجته، ولكنه واجب عليها في مالها، فإذا لم يكن لها مال وجب على من تجب عليه نفقتها لولا زوجها كالأب والأبن، لأن الواجب على الزوج النفقة العادية، وهذه نفقة طارئة فلا تجيب عليه. لكن هناك من قال بوجوب تكفل الزوج بنفقات علاج الزوجة وهو قول لبعض علماء الحنفية وبعض علماء المالكية(21) وهو الراجح – إن شاء الله – للأدلة التاليــة:
1-أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال لهند بنت عتبة “خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف. وهنا أمر بأخذ الكفاية بلفظ عام، باعتبار لفظ ما، ومن كفايتها: القيام بعلاجها.
2-قوله ـ صلى الله عليه وسلم -: “ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف”(22). فأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – برزق الزوجات، وهو لفظ عام، ومن الرزق: القيام بعلاجها.
3-لأن علاج الزوجة مراد لحفظ الروح، فكأن شبيها بالنفقة(23).
4-لأن الحاجة إلى الدواء والعلاج أشد من الحاجة إلى المأكل والمشرب، فإذا وجبت النفقة وجب الدواء وهو أولى.
5-لأنه ليس من مكارم الأخلاق التخلي عن الزوجة في حال مرضها، حيث لا يخلوا حالها من أن تكون غنية فتستطيع القيام بأمر نفسها، وإما فقيرة لا مال لها، فمن أين لها المال لعلاج نفسها، هل من إكرامها ردها لأهلها ليداووها وقد قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(24) ومن تمام الأخلاق القيام بعلاجها.
لقد ثبت وجوب النفقة للزوجة بالكتاب العزيز والسنة المطهرة والإجماع والمعقول.
1-قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}(25).
أمر الله – عز وجل – بنفقة وسكنى المطلقة المعتمدة، فيجب لمن هي في صلب النكاح بطريق الأولى(26).
2-قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}(27).
3-قال الله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}(2.
فرض الله تعالى فرائض للزوجات وما ملكت الأيمان، ومن تلك الفرائض النفقة(29).
4-قال الله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(30).
خص الله تعالى وجوب النفقة في حالة الولادة وهي تتشاغل بولدها عن استمتاع الزوج، ليكون ذلك أدل على وجوبها عليه في حال استمتاعه بها”(31).
1-قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهند بنت عتبة: “خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف”.
2-عن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه، قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال” “تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت”(32).
3-قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: “ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف”.
اتفق أهل العلم – رحمه الله تعالى – على وجوب نفقة الزوجات على أزواجهن البالغين إلا الناشز منهن، والممتنعة عن الطاعة، أو من حبس زوجها بدعوى منها”(33).
أن الزوجة محبوسة المنافع عليه، وممنوعة من التصرف لحقه في الاستمتاع بها، فوجب عليه مؤنتها من طعام وكسوة وسكنى، لقول – صلى الله عليه وسلم –: “الخراج بالضمان”(34) كالعبد الموقوف على خدمة السيد، وكما يلزم الإمام في بيت المال نفقات أهل النفير، لاحتباس نفوسهم على الجهاد”(35).
يشترط لوجوب نفقة الزوجة على زوجها ما يأتي:
1-أن يكون عقد زواجهما صحيحاً.
فإذا كان عقد النكاح فاسداً كالعقد بلا شهود، أو كان باطلاً كالعقد على المجوسية والمرتدة ومن لا دين لها، لم تجب النفقة لها على العاقد مطلقاً؛ لأن سبب وجوب نفقة الزوجة على زوجها عامة الاحتباس، ولا احتباس على المعقود عليها فاسداً، أو باطلاً، لوجوب التفرق عليهما، فلا تجب النفقة لها عليه لذلك.
وهذا الشرط محل اتفاق بين أهل العلم(36).
2-أن تسلم المرأة نفسها لزوجها أو وليها.
وذلك لأن مقصود النكاح لا يتم إلا بالتسليم، ويحصل ذلك بأن تصرح أو يصرح الولي باستعدادهما للتسليم، أو أن يظهروا بما يجري به العرف.
وكذا أن يطلب الزوج التسلم بدون ممانعة، أما إذا رضي الزوج ببقاء الزوجة عند أهلها فهذا في حكم التسلم، لأن فوت حقه في الاحتباس باختياره.
أما لو تساكتا، ومضت مدة معتبرة أو امتنعت الزوجة أو الولي من التسليم، فلا تجب لها النفقة، والدليل هو فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – في قصة عائشة فإنه عقد عليها لسبع سنين وبنى بها لتسع و بقيت في بيت أبيها ولم يدفع نفقة ما مضى.
3-أن يكون الرجل والمرأة من أهل الاستمتاع.
والمعنى بأن يكون الرجل ممن يطأ مثله عادة، وكون المرأة ممن يوطأ مثلها عادة.
فإذا كانت الصغيرة لا تقدر على المعاشرة الزوجية ولا إيناس الزوج أو القيام بمهام بيت الزوجية فهذه لا تستحق نفقة على زوجها.
وإن كانت تقدر على مصالح بيت الزوجية وإيناس الزوج وإمتاعه نفسياً، ولكن لا تقدر على إشباع رغبته الجنسية وجبت النفقة لها.
وبالأولى تجب النفقة لها لو كانت تقدر على إشباع رغبته الجنسية حيث لا فرق بينها وبين الكبيرة حينئذ.
هذا رأي أبي يوسف بن الحنفية(37) ورأي لبعض الشافعية(3 والحنابلة(39) والظاهرية(40) لأن الزوج بتسلمه للمرأة قد رضي بحقه ناقصاً وهو الوطء والحق له، ثم إننا لا نسلم أن الاستمتاع مقصوراً بالوطء فقط، لتحققه فيما دون الوطء، فيمكن الاستئناس والسكن إليها وهذا قدر من الاستمتاع، وهو الراجح –إن شاء الله.
وأما إن كان الزوج صغيراً لا يصلح للمعاشرة الجنسية، فالصحيح من أقوال العلماء أن هذه المرأة لها النفقة، لأن المانع من كمال الاستمتاع ليس من جهتها بل من جهته، فيقاس على ما إذا كان كبيراً وسافر وتركها أو كان كبيراً ورضي ببقائها في بيت أهلها، فلا يمكنه الاستمتاع ومع ذلك عليه النفقة.
4-ألا يفوت حق الزوج في احتباس الزوجة من أجله إلا بمسوغ شرعي أو بسبب من جهته؛ لأن الاحتباس في الجملة حق للزوج، فإذا فات حقه فات ما يقابله وهو النفقة.
1-لو امتنعت من تسليم نفسها، كما إذا امتنعت عن الانتقال إلى بيت الزوجية دون مبرر شرعي وقد دعاها الزوج، فإن كان لها مبرر شرعي في امتناعها فلا تعتبر ناشزاً، وبالتالي لا يسقط حقها في النفقة، وذلك كما لو كان امتناعها بسبب مطالبتها الزوج في دفع معجل صداقها، وكما لو كان بيت الزوجية مشغولاً بأناس يضرها ويؤذيها وجودهم معها فيه.
2-إذا امتنعت عن السفر والانتقال معه إلى بلد آخر اضطرته ظروف عمله إلى الانتقال إليه وكان مأمونها عليها.
أما لو كان سفره بقصد الإضرار بها والكيد لها فلا يعتبر امتناعها نشوزاً ومن ثم لا تسقط نفقتها.
3-إذا خرجت من بيته بلا أذن أو عذر شرعي، فإذا أذن لها وكان خروجها بسبب عذر يحتم ذلك لا تكون ناشزاً ولا تسقط نفقتها.
4-إذا فات حق الزوج بسبب من جهته، كأن يسافر فيتركها، فتجب لها النفقـة، فكأن الزوج تنازل عن حقه.
قال العلامة ابن سعدي رحمه الله:
“والصحيح وجوب النفقة لكل زوجة غير ناشز – حتى الصغيرة والمسافرة لحاجتها بإذنه ونحوهما – لأن الأصل وجوب النفقة لكل زوجة، كما تجب بقة أحكام الزوجية، ولا نسلم أن النفقة علتها إمكان التمكين فقط، بل العلة الأصيلة كونها زوجة غير ناشز، ويؤيد هذا وجوب النفقة على الزوج الصغير، وللزوجة المريضة، والحائض، المحرمة، ونحوهن، مع أن التمكين من الوطءِ غير ممكن حساً أو شرعاً. والله أعلم”[41].
بحث قانوني يشرح تفصيليا حدود وصور نفقة الزوجة