نظام تسليم المجرمين بين قانون المسطرة الجنائية والاتفاقيات الدولية
الباحث/ عبد المالك حسين الكبسي
ماجستير في الحقوق
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية
جامعة محمد الأول بوجدة
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك
كان تسليم المجرمين إلى حقبة غير بعيدة من الزمن يخضع لمزاج وإرادة أصحاب السلطة الحاكمة دون أن تكون للقانون شان يذكر في هذا المجال غير أن التطور المهم الذي عرفته الحقوق الأساسية للأفراد والتي لم يكن معترفا بها في كثير من بلاد العالم أصبحت تفرض نفسها شيئا فشيئا في جميع الدول الخاصة بعد صدور الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948، والذي نص على وجوب احترام الحقوق المدنية والسياسية للأشخاص فكان لا بد أن يكون لذلك انعكاس على التشاريع الداخلية للدول..
جاء هذا التطور كنتيجة بديهية للتطور التكنولوجي الحاصل في وسائل المواصلات، وفتح طرق العبور والتنقل في وجه الأشخاص والمبادلات التجارية نظرا لمتطلبات العولمة وأنظمتها، وهو الأمر الذي لم يفلت من استغلال المجرم، حيث أصبح هروبه وإفلاته من العقاب يسيرا بسبب ضعف المراقبة في ظل الفوضى التي تسود العالم.
ومن هنا برزت ضرورة تفعيل التعاون القضائي الدولي لمواجهة العد المتسارع للإجرام، وقد تأكدت حتمية هذا التعاون مع ازدياد ضراوة الإجرام، حتى صارت كل دولة مهما بلغت قوتها لا يمكنها التصدي لد دون الدخول في علاقات تعاون متبادلة مع غيرها من الدول، خاصة مع اتساع مسرح الجريمة الذي أصبح يشمل قارات بدل دول نظرا لسهولة تحرك العناصر الإجرامية التي تتقن استغلال التسهيلات التكنولوجية والعراقيل التي تعترض ملاحقتهم عالميا كالسيادة الوطنية المطلقة ومحدودية تطبيق قواعد الاختصاص الجنائي.
وغني عن القول أن نظام تسليم المجرمين جاء لمنع الاعتداء على سيادة الدول فلا يحق لأي دولة مهما كان ثقلها ومركزها على الساحة الدولية ومهما كانت الدوافع التي لديها أن تستعمل رجالها لاختطاف شخص لا يوجد فوق ترابها لما في ذلك من اعتداء على سيادة الدول غير أن هذا لا يمنع من حدوث عمليات اختطاف كثيرة من ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية التي نصبت نفسها بوليسا دوليا لمكافحة الإرهاب والمخدرات قامت باختطاف الرئيس البنمي “نوريغا” من بلده وحاكمته في بلادها من أجل ترويج المخدرات كما عمدت إسرائيل إلى اختطاف “ايتشمان” التي لم تسمح الدولة التي يقيم بها بسليمه وهربته إلى بلدها وحاكمته بها وقضى عليه بالإعدام ونفذ فيه الحكم، إضافة إلى قتل مواطنين يمنيين على التراب اليمني بواسطة طائرات بلا طيار بدعاوي كثيرة وبتهمة القاعدة والإرهاب بعيدا عن نظر القضاء اليمني أو حتى الأمريكي (قتل عشوائي وبلا أي حكم قضائي ).
ونظام تسليم المجرمين من أهم وسائل التعاون الدولي في ميدان محاربة الجريمة، حيث تبرز مكانته في كونه يحرم المجرمين من العثور على مأوى لهم يعفيهم من الإفلات من العقاب.
وقد شهد هذا النظام تطورا مستمرا متأثرا في ذلك بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية في الدول، فبروزوه مرتبط ارتباطا وثيقا ببروز مفهومي الحدود والسيادة . حيث تغير في مفهومه و إبعاده تماشيا مع تطور الحياة الاجتماعية، وهو أمر ليس بالغريب باعتباره آلية قانونية يحكمها هدف زجر الجريمة ومنع إفلات المجرم من العقاب، وبذلك كان تطوره ضروريا حسب المعطيات الراهنة.
هذا التطور الذي طال نظام تسليم المجرمين منذ ظهور بوادره الأولى، انعكس على تعريفه، فمصطلح تسليم المجرمين يعتبر الترجمة العربية لكلمة extradition الفرنسية التي استعملت لأول مرة في مرسوم 19 فبراير 1791 في فرنسا، ولكلمة extradition الإنجليزية التي اشتقت من الفرنسية واستعملت لأول مرة في بريطانيا في قانون التسليم سنة 1870 .
وذهب إتجاه فقهي إلى أن “مسطرة تسليم المجرمين تخول الدولة التي تطالب بالتسليم حق الحصول من الدولة المرفوع إليها الطلب على تسليم متهم.
-أو محكوم عليه التجأ إلى ترابها، وقد حددت في النصوص الصادرة في هذا الشأن شروط تسليم المجرمين شكلا وجوهرا”.
في حين ذهب إتجاه آخر للقول بأن التسليم “إجراء تعاوني بين الدول في المادة الجنائية يهدف إلى ترحيل شخص متابع أو مدان، بطريقة جبرية من مجال السيادة القضائية لدولة ما إلى مجال سيادة دولة أخرى.
ومما سبق يظهر أن تسليم المجرمين يتفرع إلى فئتين، الأولى تخص الأشخاص المتهمين، بمعنى أن إجراءات المتابعة لا تزال قائمة في حقهم، يطلب تسليمهم من أجل إتمامها ومثولهم أمام القضاء لمحاكمتهم، أما الفئة الثانية، فتخص الأشخاص المحكوم عليهم والذين يطلب تسليمهم من أجل تنفيذ العقوبة المحكوم بها، وهذا ما أسماه الفقه الفرنسي التسليم لأجل المحاكمة والتسليم لأجل التنفيذ .
أولا: المصادر الأساسية لنظام تسليم المجرمين.
المصادر الأساسية عبارة عن مجموعة من السبل القانونية التي تلجأ إليها الدول للقيام بإجراءات التسليم في إطار شرعي.
والمشرع المغربي بدوره حدد مصادر أساسية لنظام التسليم تتجلى أساسا في الاتفاقيات الدولية والتشريع الوطني.
أ): الاتفاقيات الدولية:
حسب المادة الثانية من معاهدة فينا لسنة 1969 الخاصة بقانون المعاهدات، فإن هاته الأخيرة يقصد بها كل “اتفاق دولي يعقد بين دولتين أو أكثر كتابة، ويخضع للقانون الدولي سواء تم في وثيقة واحدة أو أكثر، وأيا كانت التسمية التي تطلق عليه”، وتنقسم حسب أطرافها إلى اتفاقيات ثنائية وأخرى جماعية .
وتعتبر المعاهدات الدولية، أهم مصادر تسليم المجرمين، حيث تهدف إل تبيان الأسس والشروط الواجب إتباعها للقيام بهاته العملية.
-والمغرب بدوره عقد مجموعة من الاتفاقيات في ميدان التعاون القضائي وخاصة في مجال تسليم المجرمين.
ب): التشريع الوطني
لا يوجد نص في الدستور المغربي يقرر سمو المعاهدات، سواء كانت ثنائية أو متعددة الأطراف التي صودق عليها، كما هو الحال عليه في الدساتير الأجنبية، كالدستور الفرنسي لسنة 1958 والدستور الإيطالي لسنة 1947 و الألماني لسنة 1949، والتي أقرت في مجملها مكانة متميزة للقانون الدولي، فقد اكتفى المشرع في دستور 1996 على التأكيد على احترام المملكة المغربية للالتزامات الدولية دون تبيان المكانة الحقيقة لها .
لكن، وبخصوص مسطرة التسليم، فالمشرع حسم الأمر بمقتضى المادة 713 من قانون المسطرة الجنائية التي قضت صراحة بتطبيق أحكامها ما لم تكن هناك قواعد محدد بموجب معاهدة دولية، الأمر الذي يشكل تكريسا صريحا لسمو المعاهدات المبرمة من طرف المغرب في مجال التعاون القضائي والأمني الدوليين على القوانين الداخلية.
والمشرع المغربي بدوره وضع نصوصا تنظم مسطرة التسليم في قانون المسطرة الجنائية، ومن خلالها أعطى الأولوية للاتفاقيات التي صادق عليها سواء الثنائية أو الجماعية ، وقد أكد المجلس الأعلى على ذلك في إحدى قراراته حيث جاء فيه “…تسليم المجرمين خاضع للمعاهدات المبرمة بين المملكة المغربية والدول الأجنبية وللظهير الشريف المؤرخ في 25 ربيع الثاني 1378 الموافق لثامن نونبر 1958، وتبقى للمعاهدات المبرمة أسبقية التطبيق في هذا المجال…”، وفي فرنسا أكد قانون المسطرة الجنائية على نفس المقتضيات من خلال الفصل 696 منه.
ثانيا: المصادر الاحتياطية لنظام تسليم المجرمين
المصادر الاحتياطية أو التكميلية لا يتم اللجوء إليها إلا عند تعذر تطبيق المصادر الأصلية إما بسبب انتفاء وجودها أو عدم تنصيصها على مقتضيات معينة. ولما كان من نتائج نظام التسليم ربط دولة بأخرى أو أكثر، فإن للعرف الدولي مكانة متميزة خاصة في حالة عدم وجود اتفاقيات دولية أو قوانين داخلية لذلك. وتتجلى المصادر الاحتياطية أساسا في شرط المعاملة بالمثل (فقرة أولى) والعرف الدولي (فقرة ثانية).
أ): مبدأ المعاملة بالمثل
يعد مبدأ المعاملة بالمثل clause de réciprocité la مبدأ دوليا أساسه السابقة في التعامل ، أي أنه يستند على سلوك متبادل من جانب دولتين على إجراء تسليم الأشخاص فيما بينهما، ولو لم تكن هناك معاهدة تلزمهما، وقد يكون هذا المبدأ مبدأ احتياطيا في حالة اللجوء إليه رغم وجود اتفاقية، وأساسيا في حالة انعدامها. كما ليس مفروضا أن يكون منصوصا عليه كتابة، بل قد يمثل مجرد سلوك تأخذ به الدولتان مما يجعله صورة من صور العرف الدولي. وفي حالة النص عليه فقد يكتفي باعتباره مجرد سلوك متبادل له صفة التلقائية بين الدول تين أو يتقرر بناء على الخطابات المتبادلة بينهما .
وتختلف الدول في الأخذ بقاعدة تسليم المجرمين على أساس مبدأ المعاملة بالمثل في حالة عدم وجود معاهدة، فالدول اللاتينية لا تمانع في التسليم على أساس المعاملة بالمثل باعتباره مسألة سياسية يرجع الأمر لمطلق تقدير الحكومة، وليس من متطلبات العدالة، في حين تسيير الدول الأنجلوساكسونية على قاعدة تخالف ما سلف، حيث لا تسمح بتسليم المجرمين في حالة عدم وجود معاهدة في هذا الشأن، وكانت انجلترا في أول الأمر تأخذ بقاعدة التسليم بدون معاهدة تم عدلت عن ذلك وأصبح غير جائز لمخالفته أحكام الدستور.
والمغرب بدوره أخذ بهذا المبدأ وعمل به في العديد من القضايا، حيث نجد قائمة طويلة في هذا الشأن، لكنه رفض في بعض الحالات إجراء مسطرة التسليم على أساس نفس المبدأ، حيث قام بذلك مع إيطاليا سنة 1961 قبل إبرام اتفاقية معها بشأن التعامل القضائي وتنفيذ الأحكام وتسليم المجرمين بتاريخ 12 أبريل 1976، وذلك لرفضها طلب تسليم تقدم به المغرب. كما حدث ذلك أيضا مع سويسرا سنة 1975 قبل إبرام اتفاقية معها بشأن التعاون القضائي بتاريخ 14 يوليوز 2000.
وبسبب رفضها السابق تنفيذ إنابة قضائية وجهت لها من طرف المغرب ، كما أكد على ذلك قانون المسطرة الجنائية الحالي في مادته 722 .
ب): العرف الدولي
العرف الدولي سلوك يأتيه أشخاص القانون الدولي، ويراه البعض مؤديا بذاته إلى تكوين القاعدة القانونية الدولية العرفية، ويراه البعض الآخر كاشفا عنها، في حين أن فريقا ثالثا يراه عنصرا مشاركا في تكوينها .
وتلجأ الدول للعرف في حالة عدم وجود اتفاقيات أو قوانين داخلية تنظم أحكام التسليم لتتبع من خلاله الدول الإجراءات والقواعد التي استقر عليها لإتمام عملية التسليم.
ومن الدول التي لازالت تعتمد على هذا المصدر الجمهورية العربية المصرية التي قامت بتسليم عدم متهمين وباسترداد البعض الآخر اعتمادا على ما تم التعارف عليه دوليا .
أما المغرب فلا يعتمد هذا المصدر إلا نادرا بحكم إبرامه عدة اتفاقيات ثنائية ومصادقته على أخرى جماعية. لكن يبقى العرف مصدرا احتياطيا يمكنه سد الفراغ متى انتفى وجود مصدر أساسي.
خلاصة القول، أن نظام تسليم المجرمين وكيفما كان الأساس القانوني له سواء كان معاهدات أو قوانين داخلية أو مبدأ المعاملة بالمثل، فقد أصبح ضرورة حتمية للدول جعلت الاستجابة له ملحة في إطار التعاون الدولي لمكافحة الإجرام، وحتى يفعل هذا التعاون دون المساس بحقوق وحريات المطلوبين أو سيادة الدول المعنية.
مقال قانوني بخصوص نظام تسليم المجرمين بين القانون الجنائي والاتفاقيات الدولية
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك