دراسة وبحث هام عن فلسفة الحق في المنظورين الإسلامي و الوضعي و دور الحقوق المدنية فيها

المؤلف : د. علي أحمد الهنداوي

المقدمة

لقد تجاذبت الإنسان، منذ القدم، قضيتان هما؛ العدل والمصلحة. كان تحديد ماهيتهما والتوفيق بينهما، وما زال، أمراً عسيراً عنده بحسب ملكاته الذهنية. وقد ظهرت محاولات جادة من قبل فلاسفة عظام في تحديد معنى العدل، وبقيت محاولاتهم تلك وبحسب ما صرحوا هم به، لا تعدو كونها مجرد ظنون خالية من اليقين( ).

وكذلك يمكن أن يقال في المصلحة التي هي مقصد كل فعل إرادي ومنها القانون، من حيث كونه خطاباً إرادياً عاماً مجرداً ملزما… ( )

أما التوفيق بينهما فهو أعسر من تحديد ماهيتهما، ذلك أن التوفيق بينهما ينبني على تحديد الماهية أولاً، ثم تحديد معايير التوفيق ثانياً، ثم يأتي بعد ذلك الفعل موافقاً أو مخالفاً. ولما تعذر تحديد الأولين تعذر تبعاً له تحديد كون الفعل موافقاً أو مخالفاً بيقين أو ظن غالب. فظل هم الإنسانية، في غير أهل الرسالات السماوية، البحث عن الأسس والضوابط والمقاصد ليجتمع الناس عليها، ولكنهم تفرقوا في ذلك لتفرق ثقافاتهم ومعتقداتهم ومقتضيات الواقع لكل منهم. ومن المعلوم أن تصادم مصالح الأفراد أمر ثابت لا مناص منه، وأن النفوس جبلت على الشح( ) وبالتالي لا مفر من إقامة النظام فيها. ولكن هذا يعيدنا إلى ما ذكر آنفاً، فكان الخروج من هذه الحيرة بالتصالح على أمر مفاده: كل ينظم واقعه بحسب ما يراه مناسباً. وعلى هذه الأرضية نمت وترعرعت وتكاثرت السفسطة( ) القانونية – (نسبية الحقائق).

فإذا جمعنا هذه النسبية مع الناموس الثابت تصادم المصالح مع شح النفوس، أنتج لنا هذا الجمع صراعاً داخلياً ودولياً مريراً. مبتدأه فلسفي، عقائدي ، فكري، ومنتهاه مادي وعسكري. وهذا هو سبب قيام الصراع الحضاري واستمراره. وأطراف الصراع الداخلي عادة هم الحاكم (المستأثر بالمصالح والمحكومون المحرومون منها إلا بالقدر الذي يبقيهم على وجه الأرض. وكان للقوة كلمة الفصل عند الحاكم، ثم تطورت وسائل الحكام من القوة المفرطة في تسخير المحكومين إلى إشاعة الوسائل الإقناعية بينهم من فكر وفلسفة مواليتين أو صراعات خارجية تصرف لها همم الرجال، ونحو ذلك ليكون التسخير بالإرادة لكل المحكومين أو لأكثرهم، فإن عارض الآخرون كانت القوة المفرطة بانتظارهم لتبطش بهم، وما من مغيث .

وانتهى المطاف إلى هذه المرحلة؛ تسخير الأضعف (المحكومين) للأقوى الحاكم أو أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، بالإرادة أو بالقوة. ولنجاح هذا الأسلوب داخلياً عمل به خارجياً أي في الصراعات الدولية التي تهدف إلى سيطرة الدول القوية على الدول الضعيفة ومن ثم على العالم بأسره لتغدو فيه قوة واحدة وفلسفة واحدة وبالتالي حضارة واحدة لا تنافس .

وقد اتخذ التصدير الحضاري هذا صوراً تقلب فيها تدرجاً نحو غايته تلك. فكان أن بدأ بالظهور بتطوره المادي ليبهر أنظار شعوب العالم ويصرفها إليه كمرحلة أولى، لخلق الشك بحضاراتهم لأنها لم تصل إلى ما وصل إليه الأقوياء، ولتهفوا النفوس من ثم إلى تلك الحضارة( ). ومن خلال ذلك، ومن خلال حجة إعمار الخراب في الدول الضعيفة، تغلغلوا فيها وأوقعوا خلالهم. ثم جاءت مرحلة السيطرة العسكرية تحت اسم الانتداب والاستعمار، وفي تلك المرحلة مُزقت الأمم الكبيرة إلى دول ودويلات ضعيفة يسهل السيطرة عليها، وأبعدوا عن حضاراتها مقوماتها، وخاصة الحضارة الإسلامية، بإسقاط الخلافة الإسلامية وإبعاد العمل بالشريعة الإسلامية واستبدال قوانين المعتدي بقوانينها، لكونه الأقوى في طرفي المعادلة والسعي الحثيث في استبدال الأخلاق الغربية المادية بالأخلاق الإسلامية.

وتطور الأمر من ثمّ إلى مرحلة ترسيخ المبادئ والمفاهيم ومناهج التفكير المادية لتقف، عند أعتاب العلوم التجريبية، وما تفرزه من قوانين متنكرة لكل ما سوى ذلك ما جاءت به الشرائع السماوية وخضع له العقل السليم. وعرف هذا الاتجاه بالعلمانية وأريد به معنيان، أحدهما؛ الإشارة إلى الوقوف عند العلوم التجريبية دون تخطيها إلى غيرها لتسهل بذلك سيطرة الأقوياء على شعوب العالم، إذا اشتركت معهم في هذه المنهجية المادية، من حيث أنهم متقدمون كثيراً في هذه العلوم على تلك الشعوب. والثاني؛ العالمية التي حلموا بتحقيقها منذ زمن أرسطو والرواقيين من بعده، الداعين إلى ضم العالم كله تحت حكم جمهورية عالمية واحدة( ).

وبعد فشل جميع هذه المحاولات في تحقيق الغاية لتبين زيفها من جانب، ولإصرار الشعوب على التمسك بهويتها من جانب آخر، وأمام إصرار الأقوى على تحقيقها كون إخضاع الأضعف لإرادة الأقوى سنة كونية، يظهر حكمها عند غياب العدل( ).

فقد كشر الأقوى هذه المرة عن أنيابه أكثر من ذي قبل، وكاد يرفع القناع ويسفر عن حقيقة وجهه لولا أنه تريث ليرى ثمرة المحاولة الجديدة، وقد تولى بنفسه وبشكل مباشر زمام أمورها وتسييرها على أكثر من طريق؛ تمثلت إحداها بإبعد القوى المنافسة بعد إضعافها، ونجح في ذلك إلى مدى ليس ببعيد، وتمثلت الثانية بالتدخل العسكري المباشر في أكثر من مكان في العالم، كلما دعت المصالح الاستراتيجية للقوى إلى ذلك، دون أن يأبه بالعالم ممثلاً بمنظمة دولية أو مشاعر ورأي عام دوليين. وتمثلت الثالثة بهجمة العولمة (السلاح الجديد) في غزوها الثقافي والاقتصادي لشعوب العالم وحضاراتها .

كما تمثلت الطريق الرابعة بإيجاد قاعدة عامة في تشريع القوانين وبناء مؤسسات، تتصف بالعالمية أيضاً تسمح للقوى بالتدخل في دول العالم كلما دعت مصالحه الاستراتيجية إلى ذلك، وسيكون تدخلهم هذه المرة مبرراً وشرعياً لدفاعه عن حقوق الإنسان، مرحباً به من قبل شعوب تلك الدول؛ لأن ظاهرة حماية حقوقهم ضد بطش حكامهم. وقد يعملون على ديمومة بطش الحاكم في أهم بقاع العالم ولو إلى حين، لإنهاك الشعوب وإضعاف الدول، ولديمومة تدخلهم في تلك البقاع.

فإذا ما انتهى الحاكم، اتجهت أنظار الشعوب إلى هؤلاء الفاتحين المحررين بالشكر والامتنان وظاهر مما تقدم أن فكرة الحق هي الأخطر في هذه المعادلة الشائكة المعقدة. لأنها الأساس في بناء التشريعات القانونية، والمعيار في تحديد أبرز المفاهيم الإنسانية، كالعدل والظلم والخير والشر والمشروعية واللامشروعية والمصالح – مقاصد التشريع – ونحو ذلك. وما كان سوى ذلك فهو فرع منه أو ثمرة له .

والعالم محكوم بمنهجين على وجه الإجمال: منهج سماوي، ومنهج وضعي. تمثل الأول الشريعة الإسلامية الخالية من التحريف والتبديل. وتمثل الثاني بما سوى ذلك. وكلا المنهجين يعتمد العقل في التشريع. أما العقل في المنهج الإسلامي فلفهم التنزيل وأسراره ومقاصده، ومن ثم العمل على كشف أحكام كل ما لم يرد به نص في ضوء ذلك وبما يُصلح الواقع. وأما المنهج الوضعي فلإبعاد نفسه عن الشرائع المنزلة أعتمد العقل في الأمر كله، وان تجاذبه تضارب المصالح وشح النفوس.

وبناء على ما تقدم أوزع البحث بعد هذه المقدمة، على أربعة مباحث وخاتمة .
أخصص المبحث الأول في : دور العقل في التشريع .
والمبحث الثاني في : فلسفة الحق في المناهج الوضعية ودور حقوق الإنسان فيها .
والمبحث الثالث في : فلسفة الحق في الشريعة الإسلامية ودور حق العبد فيها .
والمبحث الرابع في: موازنة بين أحكام الحقوق في المنهجين؛ الإسلامي والوضعي.
والخاتمة؛ وفيها نتائج البحث والتوصيات .

المبحث الأول
دور العقل في التشريع

غير خافٍ على أحد أن لهذا الوجود نظامين من حيث التفصيل .
أولهما : قائم في الموجودات جميعها، غير متوقف على تدخل الإنسان. والثاني : متوقف على تدخل الإنسان، ولما كان كذلك فهو نظام تكليفي من حيث أن يلقي بأعباء على الإنسان المكلف تتمثل بتحصيل علم بأنه مكلف وبما كلف به ثم بأداء إيجابي (القيام بعمل) أو سلبي (الامتناع عن عمل).
وهذا النظام، على هذا النحو، يستلزم وجود مكلّف (حاكم)، ومكلّف (محكوم عليه)، وتكاليف (محكوم فيه)، ومصلحة يتوقف تحققها الفعلي على أداء التكاليف (حكمة التشريع) ( )

والعلاقة بين النظامين قائمة مقام الدليل المرشد للإنسان إلى الحق في الاعتقاد والخلق والعمل وهذا ما تضاف عليه عمل العقل السليم مع ما نزل به الوحي.

فمن حيث الاعتقاد، فالموجودات لها موجد متصف بالوجود والقدرة. وكون كل موجود منها خصص بصفات وزمان لوجوده ومكان، فهذا يتوقف على مخصص( )، والتخصيص إرادة، والإرادة مسبوقة بعلم ( )، والعلم متوقف على حياة.

ومن حيث كون النظام فيها متقناً( ) مستمراً فإن ذلك يدل على العليم الحكيم الخبير المدبر( ). فكانت الموجودات بنظامها المتقن سبباً للبحث في خالقها ومدبرها ولحسن الاعتقاد به( ) ومن حيث الأخلاق: إذا كانت هذه صفات الموجد المدبر الذي أعطى كل شيء قدره، وهو العدل، فينبغي للوصول إلى الكمال الإنساني تخلق المكلف بهذه الأخلاق بمعنى محاكاتها والتحلي بها( ). ومن حيث العمل: إن هذا النظام المتقن هو الصورة الواجب محاكاتها من قبل الإنسان المكلف في أدائه لتكاليفه والامتناع عن كل ما يخل بميزانه ( ).

وبيان هذه الصورة النظامية المتقنة يعود إلى صفة المفصّل ( ). كل ذلك ليرتبط النظام التكليفي بالنظام الوجودي. عقيدة وخلقاً وعملاً. ولذلك جبل العقل على النظر في ملكوت السموات والأرض، والبحث عما وراء ذلك، أي في موجدها ومدبرها، وهذه من الفطرة التي فطر الله الناس عليها( ). واللازم لاكتمال هذا النظر قدرة العقل على الإحاطة أو العلم الكامل بهذا النظام الوجودي وبترابط العوالم فيه، وبوجه ترابطها وميزان ذلك. والعقل يظهر كلاله عند محاولته الخروج عن المحيط المحسوس لقدرته، وهو صور المدركات في عالمه الدنيوي. لأنه جبل عليها، وهي مادته في التفكير ( ) فاحتاج العقل لذلك إلى ما يحرر فيه كامل قدراته وطاقته ويسدد نظره.

وتحرر طاقات العقل يكون بجماع أمرين : أولهما قبول الوحي والإيمان بما جاء به والاستعداد للعمل به. وهذا هو الجانب العقائدي، والثاني محاربة شح النفس وفرط الشهوات؛ ليتحرر من أسرها وتسخيرها له لإشباع حاجاتها المتجددة غير المتناهية، وهذا هو الجانب الآخلاقي. والعمل يبنى على الجانبين معاً.

ومن ثم فبعد ورود الشرائع السماوية أصبح للإنسان دعامتان في نظره وتدبيره، النقل والعقل، أي أدلتهما.
ومعلوم أن البشرية مرت بمراحل تدرج تربوي عقائدي لتنتهي إلى الغاية في الكمال التشريعي والمنهجي؛ العقائدي والأخلاقي والعملي، في الشريعة الإسلامية، ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما كانت الشرائع السماوية قبل بعثته صلى الله عليه وسلم تركز على الجانب العقائدي وتعطيه المجال الأرحب في الأحكام. وعلاقة الشرائع السماوية بالعقل تظهر من خلال كونها مؤكدة لعمله، أو مرشدة ومسددة له، أو مخبرته عما لا طاقة به لإدراكه بنفسه دون خبر سماوي، كما في الأمور الغيبية ومنه أمور البرزخ والآخرة والحساب والنعيم والعذاب…، والعوالم من العرش وعالم الملكوت إلى الذرة وعالم الملك، وأنها عوامل مترابطة يتأثر كل منها بالآخر ويؤثر فيه( ).

وبذلك يكتمل عمل العقل لاكتمال بنائه على مقوماته الذاتية العلوية والسفلية، أو الروحية والمادية. معتمداً في ذلك على ما جاءت به الشرائع السماوية( ). وبذلك وحده يظهر المنهج المتكامل الذي تظهر فيه صور العوامل وآثار ترابطها. فكمال النظام في الواقع وتمامه لازم لكامل العقل الذي يعبر عن نفسه بواسطة الأداء الإيجابي والسلبي. وكمال العقل لازم لاكتمال جميع مقوماته: النظر السليم والوحي ويمكن عرض ذلك بمعادلتين :
الأولى : عقل سليم (أي نظر سليم) + وحي صحيح = منهج تام وصالح .
والثانيه : منهج كامل + أداء صادق موافق = واقع صالح سعيد .

ومما تقدم يعلم أن غياب الشرع السماوي لعدم بلوغ الدعوة، أو تغييبها لعدم الاعتقاد بها أو بالامتناع عن العمل بها كلاً أو جزءاً، تكبراً أو جهلاً، يوجب بقاء العقل غير مكتمل البناء مهما سمت منازل أصحابه ( )، هذا في الحالة الأولى. ويوجب وهن بنائه مع وجوب نقصانه في الحالة الثانية.

وعلى ذلك فموازنة العقل الكامل بالوحي بالعقل الذي ينقصه الوحي وعلومه، موازنة لبيان ما فات الثاني من العلوم والمعارف التي يقتضيها صلاح واقعه وقد يعبر عن الأول بالحق والثاني بالباطل، من حيث مطابقة الأول للواقع دون الثاني( ). وقد يعبر عن الأول بالصواب لإصابته الحق وعن الثاني بالخطأ لعدم قدرته على بلوغ الحق في المسائل، ونحو ذلك. بمعنى أنه لا منافرة بينهما بإطلاق وتضاد من جميع الوجوه. ويجب الفهم بأن أحدهما جوهر له استعداد تام على إدراك العلوم والحقائق، وله قدرة على بثها في الواقع. والثاني استعداده في الإدراك وبالتالي قدرته على البث يقصران عن بلوغ منزلة العقل الكامل بمنازل، ولذلك لا يصدر عنه صلاح كامل في الواقع فلا ينصلح الواقع به الانصلاح الواجب .

وإذا غاب الشرع السماوي أو غُيب ، مع أنه لا بد من نظام يحكم العلاقات الإنسانية والواقع، برز السؤال:
من هو الحاكم؟ ومن هو المحكوم عليه؟ ومن هو المحكوم فيه” وما هي المصالح المرجو تحقيقها حينئذ. وبمعنى آخر ما المنهجية التي ستحكم الواقع؟ ما حقيقتها ووسائلها وغايتها؟ ولمحاولة الإجابة عن ذلك ظهرت الفلسفات الوضعية التي سنتعرض لها بإيجاز في المبحث الثاني من هذا المبحث .

الحق وصلته بما تقدم من الكلام :
ورد في بيان معنى الحق تعاريف كثيرة ( )، ورُجح فيه أنه : مكنة أو مركز شرعي أو استئثار بقيمة معينة يحميه الشرع أو القانون بغية تحقيق مصلحة مشروعة ( ).
وللحق الأثر البالغ في بناء التشريعات القانونية، والاجتهادات الفقهية، سواء أكان الحق أساس القانون، وهو ما يراه أنصار الفلسفة الفردية، أم كان القانون أساس الحق أو مصدره. كما يراه غيرهم. فتبين فلسفة الحق تبين لفلسفة القانون، وتحديد مسار الحق تحديد لمقاصد القانون. وقد اشتهر عند القانونيين الوضعيين تقسيمان للحقوق بحسب الرسمين (الأول والثاني):

الرسم الأول

وتعرف الحقوق المدنية العامة في التقسيمين المذكورين بـ “حقوق الإنسان” أو “الحقوق الطبيعية” من حيث إنها تثبت للإنسان باعتباره إنساناً( )، كحقه في الحياة وسلامة جسده وكرامته، وحقه في العمل والسكن والتنقل، وحقه في تميزه عن غيره باسم خاص به. وهي حقوق لا يجوز التنازل عنها لأنها لصيقة بالشخصية، ولا تنتقل بالميراث لأنها حقوق غير مالية. وهذه الحقوق عُرفت بأنّها “حقوق إنسان” بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر نهاية سنة 1948، محاولة لتخطي الآثار السلبية التي شهدتها الإنسانية جراء النهج العنصري لبعض الدول كألمانيا وإيطاليا، والدمار الذي خلفته الحربان العالميتان الأولى والثانية وثبت واضعوا الإعلان في ديباجته معياراً مرناً لهذه الحقوق بقولهم : “إنه لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة، هو أساس الحرية والعدل والسلام العالمي” .

الرسم الثاني

فلم يُحدد المعنى الدقيق للكرامة المتأصلة والحقوق المتساوية الثابتة، ولم توضع لها ضوابط موضوعية رغم أنهم جعلوها علة تحقيق السلام العالمي وديمومته، بل إن وصفها بالمتأصلة والمتساوية الثابتة في الإنسان الدليل، على اعتدادها بالفلسفة الفردية ونظرتها إلى الحقوق. ثم إنهم جعلوا الحقوق أساس الحرية والعدل والسلام العالمي، ولحماية ذلك كله وجب على الدول رعايتها وحمايتها، وقد ورد ذلك في الديباجة أيضاً. فكان ذلك تمهيداً لإضفاء المشروعية على تدخل الدول العظمى في شؤون العالم حفظاً للسلام العالمي، الذي قد يهدده بزعمهم انتهاك حقوق الإنسان هنا وهناك، رغم أن اللائحة صدرت على شكل توصيات غير ملزمة. وعلى الدول، لتحفظ هذه الحقوق، أن تبني تشريعاتها القانونية وفاقاً لما تراه الدول العظمى في تحديد مفرداتها ومضامينها .

وهذه الحقوق وردت مستقلة عن الحقوق السياسية بحسب التقسيمين السابقين؛ فالثانية تثبت للشخص بوصفه مواطناً في دولة، فهي تبين مدى العلاقة بين الدولة ومواطنيها في تنظيم الشؤون العامة .

إلا أن إمكانية تداخلهما، على أساس أنّ حرية التعبير عن الرأي والمعتقد تُعدّ حقوقاً عامة أو طبيعية، أعطى المبرر لمحاولة التقريب بينهما استعداداً لضم الحقوق السياسية إلى الحقوق الطبيعية في وقت لاحق، سعياً منهم إلى تثبيت سيطرتهم ونشر مبادئهم .

ومحاولات التقريب تلك ظهرت في الاتفاقية الدولية في شأن الحقوق المدنية والسياسية التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1966. إذ جمعت بينهما في العنوان وكذلك في مضمون الاتفاقية. ولما كانت هذه التشريعات وضعية. والعقل فيها لم يكتمل بناؤه بالوحي بحسب ما تقدم، فلا مناص من ظهور القوي بقانونه. وخضوع الضعيف له بالإرادة أو القوة أو قيام التصادم بينهما بشكل دائم .

المبحث الثاني : فلسفة الحق في المناهج الوضعية ودور حقوق الإنسان فيها :

الكلام في هذا المبحث ينقسم إلى مطلبين، أخصص أولهما للبحث الموجز في طبيعة الحق، ومصدره، ونطاقه، ووظيفته، وغايته في المنهجين الفلسفيين الوضعيين ، الفردي والاجتماعي.
وأخصص المطلب الثاني لبيان انتساب ما يعرف بـ “حقوق الإنسان” إلى أحد المنهجين المذكورين، والآثار المترتبة عليه، وأبعاد ذلك .

المطلب الأول : ماهية الحق، ونطاقه، ووظيفته، وغايته، في الفلسفة الوضعية

البحث في معلوم – وهو ما يمكن تصوره وإدراكه – إنما يراد لجمع صورته في الذهن، وذلك يستلزم الكشف عن حقيقيته (ماهيته)، وقد تتنوع حقيقته بتنوع الاعتبارات. ويستلزم أيضاً بيان مصدره وتحديد غايته. وببيان مصدريته يتبين مدى نطاقه، وبتحديد غايته تتعين وظيفته.

وقد تصدرت المناهج الوضعية فلسفتان لبيان : ماهية الحق، مصدره، نطاقه، وظيفته، غايته، وهما: الفلسفة الفردية والفلسفة الاجتماعية. وتفرع عنهما مذهبان آخران على وجه التفصيل، منهجيتهما محاولة الجمع بين هذين المنهجين الرئيسيين .

أحدهما اعتد بالفلسفة الفردية مع محاولته التخفيف من غلوائها أو إفراطها في الاعتداد بحقوق الفرد وإطلاق حرياته، فأمكن تسمية هذا الاتجاه بـ الفردية المعدّلة. والثاني اعتد بالفلسفة الاجتماعية مع محاولته التخفيف من تفريطها بحقوق الفرد وحرياته، فأمكن تسمية هذا الاتجاه بـ: المذهب الاجتماعي المخفف أو المعدل .

ويمكن الجمع بين هذين الاتجاهين تحت اسم المذهب المختلط. ويمكن ضمهما إلى المذهبين الرئيسيين فيصبح لكل مذهب اتجاهان اللاحق منهما أخف وطأة وأكثر اعتدالاً من سابقه. وعلى الطريقة الأولى سار شراح القانون( ).

وماهية الحق تتنوع بتنوع الاعتبارات، فمن حيث تعلق الحق بشخص دون غيره هو استئثار. ومن حيث النظر إلى مصدره هو منحة ممن صدر عنه إلى غيره من غير إيجاب موجب، أو بإيجاب لاستحقاق، أو تكليف منه لمصلحة له.

ومن حيث النظر إلى الخطاب المعبر عنه بالحكم فهو حكم وضعي أو تكليفي( ) أو هو الاثنان معاً مع اختلاف النسبة.
ومن حيث النظر إلى غايته فهو وسيلة تحصيلها. والاستئثار قد يكون بقيمة معينة يعود نفعها لصاحب الحق، وقد يكون الاستئثار بتكليف معين يقع على عاتق صاحب الحق. والأول هو اتجاه الفلسفة الفردية، والثاني هو اتجاه الفلسفة الاجتماعية.

الفلسفة الفردية :

يرى أصحاب هذه الفلسفة أن الإنسان يملك حقوقاً طبيعية مستمدة من ذاته بوصفه إنساناً، ولذلك كان وجودها لازماً لوجود الإنسان، فأمكن وصفها بأنها حقوق أو امتيازات مطلقة سابقة في وجودها وجود المجتمع والقانون، فقيام المجتمع يستلزم تعدد الأفراد، ووجود القانون الوضعي لا يقوم بغير مجتمع لأنه يحكم العلاقات، والعلاقات تستلزم تعدد الأطراف (أشخاص العلاقة)، وتعدد الأطراف يعني قيام المجتمع. وهي من هذا المنطلق سميت حقوقاً طبيعية، فليس القانون أو المجتمع مصدرها، بل هي أساس القانون، وما القانون إلا الوسيلة المعبرة عن هذه الحقوق والحامية لها من الاعتداء .

أما السلطة القائمة على المجتمع فليس لها أن تخلق حقوقاً لأن الحقوق موجودة قديمة بقدم الإنسان، وليس لها أن تلغي حقوقاً لأنها لا تملك صلاحية ذلك من جهة، ولأن هذه الحقوق طبيعية فهي غير قابلة للإسقاط أو التعديل أو التنازل عنها من جهة أخرى، وبالتالي انحسر دور السلطة في نطاق حراسة هذه الحقوق( )، ولذلك عرفت بالدولة الحارسة. وإذا فرضت أحياناً قيوداً فذلك استثناء من الأصل وجب للضرورة، والاستثناء لا يتوسع فيه، والضرورة تقدر بقدرها( ).
ومن آثار هذا الاتجاه تعريف أنصاره الحق بأنه: القدرة الإرادية التي تخول الفرد أو الأفراد القيام أو الامتناع عن عمل معين أو أعمال معينة( ). فجوهر الحق في السلطة الإرادية، فهي وحدها التي تصنع وتغير وتنهي الحقوق ( ).

ويصح القول بأن هذه الفلسفة تنامت وتعاظمت، على أرضية مذهب القانون الطبيعي باتجاهه اللاديني (العقل المحض) الذي نادى به المفكر الهولندي كروسيوس وليس باتجاهه الديني الذي نادى به القديس توما الاكويني( ).
فقد ذهب كروسيوس، نتيجة لنمو البرجوازية ومطالبة الفرد بحماية حقوقه وحرياته، إلا أن أساس القانون الطبيعي يكمن في الطبيعة البشرية – أم القانون الطبيعي على حد تعبيره – وهي التي تقتضي منه العيش وفقاً لغريزته الاجتماعية في مجتمع هادئ منظم، وكل ما يفرزه العقل في هذا الاتجاه فهو من القانون الطبيعي. ومن هذا الأساس يُستنتج أن مبادئ هذا القانون واحدة وعالمية.

وللتعرف على قواعد القانون الطبيعي بالعقل المحض، يتبع كروسيوس طريقتين إحداهما : الطريقة الاستنباطية؛ أي أنّ العقل يستنبط شرية قواعد القانون الطبيعي من الطبيعة البشرية. والثانية : الطريقة الاستقرائية أو طريقة الحكم اللاحق بمعنى تتبع تطبيقات الشعوب التي يمكن عدها طبيعية، لكونها تعبر عن مبدأ الغريزة الاجتماعية بشكل واضح ( )، ومن ثمّ التعرف من خلالها على قواعد القانون الطبيعي .

وبنا ءعلى ذلك قيل أن كروسيوس قد قطع الصلة بين القانون الطبيعي واللاهوت، وبين القانون الطبيعي والأخلاق أو الفلسفة الأخلاقية الكاثوليكية( ). وهذا يعني أن العقل الذي زعم كروسيوس استنباطه من الطبيعة البشرية، قد فُرغ من مضمونه واصطبغ بالصبغة المادية البحتة؛ بسبب فصله عن العقيدة السماوية والأخلاق. وبذلك يلتقي هذا المذهب مع مذهب الوضعية القانونية في دعواه بفصل القانون عن الدين والأخلاق .

الفلسفة الاجتماعية (مذهب التضامن الاجتماعي) :

ينطلق هذا المذهب في رؤيته لطبيعة الحق ومصدره، من معتقده بأن القانون بوصفة ظاهرة اجتماعية، يجب أن يبنى على أساس واقعي معلوم بالمشاهدة أو التجربة. فخرجت بذلك الأسس المبنية على مثل عليا ميتافيزيكية، وهو ما يذهب إليه أنصار مذهب القانون الطبيعي، وكذلك ما كان محض افتراض وتخيل لا يشهد به الواقع، وهو ما عليه أنصار الفلسفة الفردية. فما يشهد به الواقع، وهو مشاهد معلوم، أن الإنسان كائن اجتماعي لا يسعه العيش إلا في جماعة يتضامن أفرادها لإشباع حاجاتهم وأن هذا التضامن يفضي إلى نظام ينتظم سلوك الأفراد وفقه، وهذا يفضي عندهم إلى نتيجة مفادها ، أن التضامن الاجتماعي هو الأساس الوحيد والمعقول للقانون بوصفه القاعدة الضرورية لحياة الجماعة، ويمكن صياغة قاعدة التضامن الاجتماعي على النحو الآتي : إن الفرد – حاكماً كان أو محكوماً – ملزماً بالامتناع عما يخل بهذا التضامن، وعليه إنجاز كل فعل يؤدي إلى صيانته وتنميته .
هذه القاعدة الأساسية بناحيتيها، الإيجابية والسلبية، يجب أن يصاغ القانون وفقها ليكون تطبيقاً لها( ). وبالتالي فإن التشريعات القانونية وكذلك العرف، لا ينشئان الحقوق لأنها مراكز قانونية أو وظائف اجتماعية تخلقها حالة التضامن الاجتماعي، ودورها ينحصر في الكشف عنها .

وتأسيساً على ما تقدم يرى أصحاب هذه الفلسفة أن الحقوق من الجماعة وإلى الجماعة وليس للفرد حظ فيها أصالة على وجه الاستقلا ل، وأن ما يتمتع به الأفراد من حقوق إنما هي : اختصاصات أو وظائف اجتماعية، وأصحابها موظفون عامون موكلون باستعمالها على وجه يحقق الصالح العام( ). وبمعنى آخر: إنّما هي سلطة أو مكنة تمنحها الجماعة لأفرادها ليقوموا بالواجبات التي تقتضيها حالة التضامن الاجتماعي.

على أن الإفراط والغلو في الأخذ بهذا المذهب أفضى إلى قهر جميع الأفراد المكونين للمجتمع؛ لأنه افترض أن السلطة هي المعبرة عن المجتمع ومصالحه، فانتهى المطاف إلى أن حكمت السلطة بموجب فلسفتها ونفذت بذلك بالقوة المفرطة، فأصبح هذا المذهب صورة من صور الوضعية القانونية التي تتميز، بصورة عامة، بأمرين؛ أحدهما : أن القانون هو القانون الوضعي المكتوب، وبالتالي فإنه من وضع إرادة بشرية حاكمة. والثاني : أن القانون يكون نظاماً منطقياً مستغلقاً؛ بمعنى أن الحلول – عندهم – لا تستقى إلا من القواعد القانونية الوضعية.

أما القيم الخلقية – سواء أكانت سياسية أم اجتماعية – فهي خارجة عن نطاق النظام القانوني، فسلموا لذلك بالفصل التام بين القانون والأخلاق، وبين القانون والسياسة، وبالتالي : فالقانون ما هو كائن وليس ما يجب أن يكون؛ فلا مجال لتقويم القانون بقيمة العدل. بما يفترضه العقل من وجود قانون خارج الدولة فهو ليس بقانون، عندهم، بل رأي أو فكرة مثالية أو أخلاقية تبحث في وجود القانون. فالحقوق والواجبات التي تتكون للأفراد أو عليهم يرتبها القانون الذي تضعه السلطة في المجتمع لا غير( ).

ومن أبرز ما نخلص إليه مما تقدم :
1. أن مصدر الحق إرادة بشرية لا غير؛ فالفرد مصدرها في الفلسفة الفردية، والمجتمع مصدرها في فلسفة القانون الاجتماعي، والحاكم مصدرها في فلسفة القانون الوضعي. وحتى في فلسفة القانون الطبيعي باتجاهه الديني نجد أن الفرد هو مصدر الحق فهو الذي يعبر عن ذاته، وهي صورة نفسه، المحملة بثقافة معينة، مبنية على أخلاق وعقيدة معينتين نتيجة تأثره بمحيط معين، وهو الذي يعبّر عن القانون الطبيعي المستشف من القانون الإلهي بزعمه. وبالتالي سيبني الفرد قانونه وفقاً لصورة ذاته. وقد يكون هذا هو : ما دعى كروسيوس إلى التصريح بأن القانون الطبيعي هو توافقك مع غرائزك الاجتماعية على أساس أنّ القانون الوضعي لا يعرف إلا في وسط اجتماعي.
وإذا كانت الإرادة البشرية مصدر الحق فهي من باب أولى مصدر القانون، الذي لا يعدو كونه مجموعة خطابات سلوك اجتماعي عامة مجردة ملزمة.
2. نطاق الحق في المناهج الوضعية هو حق خاص فقط، لا يعرف معه حق عام( )ولا حق مشترك، وهو ما عليه المذهب الفردي، لأنهم لو قالوا بالحق العام (حق المجتمع) لكان ذلك هدماً لفلسفتهم من أن هذا الحق ليس، عندهم، قديماً كقدم الحق الخاص، بل وجوده مقرون بوجود مجتمع، والقانون لازم لوجود المجتمعات المنظمة، فيكون الحق لاحقاً بوجوده على وجود المجتمع والقانون، وبالتالي فمصدره المجتمع أو القانون، وهذا نقض لفلسفتهم. وبما أن الحق العام لا يعرف عندهم، فإن الحق المشترك، لا يعرف كذلك؛ لأنه وليد الاعتراف بوجود حقين عام وخاص.
وأما القانون الاجتماعي، فليس فيه حق خاص، بل هنالك حق عام، والحقوق الخاصة تكاليف وواجبات ملقاة على عاتق الفرد لصالح الجماعة( ).
3. وتبّرز وظيفة الحق على أساس أنّه وسيلة تحقيق مقاصد التشريع، فوظيفته في المذهب الفردي، ظاهراً، هو حماية الفرد وحرياته، ووظيفته في المذهب الاجتماعي تحقيق رغائب الجماعة التي أفرزتها حالة تضامنهم الاجتماعي. أما حقيقة وظيفته في المناهج الوضعية فهي تسخير طاقات الأفراد والشعوب لتحقيق مقاصد الأقوى في العلاقة، والأقوى هم أصحاب رؤوس الأموال الضخمة في الفلسفة الفردية، وهم الذي سُخّرت حكومات بلدانهم وقوانينها إلى حمايتهم، وإيجاد الأرضية الصالحة لتنامي أموالهم ومدها إلى خارج النطاق الإقليمي لدولهم بصور شتى، لتكون ذراع السياسة الخارجية ووسيلة تصدير هذه الفلسفة.
وحقيقة وظيفة الحق في مذهب القانون الاجتماعي لا تبعد عما ذكر في الفلسفة الفردية،إلا أن الأقوى ههنا هم السلطة الحاكمة فلا يعدو الشعب كونه مجموعة أفراد تربطهم روابط معينة بدولتهم، والمظهر الدال على هذا الارتباط هي الجنسية، فهي رابطة قانونية سياسية تربط الفرد بدولة معينة. وإذا كان الفرد لا حقّ له أصالة؛ وكان مقهوراً مهاناً، تعدت هذه الصفات إلى الشعب كله؛ لأنه لا يعدو كونه مجموع الأفراد المنتمين إلى الدولة. فانحصر بذلك وصف الجماعة التي تُسخّر لها الحقوق بمن أقام نفسه ممثلا ًللمجتمع، وهم السلط الحاكمة. وهذا ما شهده الواقع وظهر جلياً وخاصة في الدول التي غالت في الأخذ بهذا المذهب. وينتج من عدم الاعتراف بالحق الخاص، عدم الاعتراف بالحريات الشخصية، لغياب المبرر القانوني لها في ظل هذه الفلسفة.
4. غاية الحق: لما كانت حقيقة القانون أنه : خطاب الأقوى المجرد عن الدين والأخلاق، والمصحوب بقوة إرغام، كانت غاية الحق تحقيق مصالح الأقوى ( ) بالفعل عن طريق تسخير الأفراد والشعوب نحو ذلك بعد إسقاط القيم الروحية والأخلاقية في ذواتهم لينزلوا بعد ذلك على أرضية المادية التي معادلتها البقاء للاقوى، وما على الأضعف ليحافظ على بقائه وحرياته تلك إلا تسخير طاقاته في خدمة هذا الأقوى في هذه المعادلة غير العادلة.
وووظيفة الخطاب القانوني عندئذ إضفاء صفة المشروعية على سعير الأفراد والشعوب في تحقيق هذا الهدف غير المعلن عنه صراحة، وإضفاء صفة اللامشروعية على حالات الإمتناع عن ذلك فضلاً عن حالة مناهضة هذا الأمر ومعارضته. ولا فرق عندهم في صفة الأداء، فمن سُخر بإرادته لينال منهم مطامح أو مطامع، ومن سخر بالقوة حقق مرادهم على أرض الواقع، فالنية ليست محل اعتبار في الخطاب القانوني من حيث الأصل .

المطلب الثاني : دور حقوق الإنسان في الفلسفة الفردية

حقوق الإنسان أو الحقوق الطبيعية للإنسان، هي إحدى مظاهر الفلسفة الفردية التي تسعى إلى تحرير طاقات الفرد، بإسقاط أكبر قدر ممكن من القيود الداخلية الذاتية، كالدين، والأخلاق، والاعتقاد، والخارجية كالأعراف المشروعة، والقيم السائدة في المجتمع وسلطة الحاكم القوي الذي لا يستطيع الأقوياء تسخيره للعمل لصالحهم، فإذا تحررّ الفرد من كل ذلك، أمكن تسخيره، من ثمّ يستطيع الأقوياء من ثم، لخدمة اصحاب هذه الفلسفة لتحقيق مصالحهم من خلال السيطرة على الشعوب ومقدراتها.

ونقتصر، في هذا المقام، على ذكر أبعاد هذه الدعوة بوجهيها الإيجابي والسلبي، أما وجهها الإيجابي: فيظهر من خلال أنها وسيلة ضغط قوية لإضعاف سلطان الحكومات المستبدة، وفي التقاء الشعوب واتفاقها على ظاهر مبدأ تقرير المصير، وممارسة الأفراد لقدر كبير من الحريات وتمتعهم بقدر واف من الحقوق. وهي خطوة تحقيق الوحدة التشريعية في العالم من خلال العمل على ابتناء التشريعات القانونية في جميع الدول على مبادئ وأسس يعمل على إرسائها دولياً. وبالتالي إيجاد لغة مشتركة بين شعوب العالم والحكومات والمنظمات الدولية، وهذا كله باعتبار النظر إلى ظاهر هذه الدعوى المعلن. وأما وجهها السلبي، أو خطورتها: فتكمن في كونها بنفسها مناهضة لحقوق الإنسان ومصادرة لها، وذلك يظهر من خلال أمور منها :

1. أن هذه الفلسفة هي التي تحدد، دون مشاركة فعلية من غيرها، مفردات هذه الحقوق ومضمونها. وبالتالي فهي قد حددت ما يُعدّ حقاً بعرفها وما لا يُعّد حقاً، ونطاقه ومداه وغايته، وأثبتت نفسها مرجعية وحيدة فيما يتعلق بهذا الأمر، مع إضفاء مرونة كبيرة على ذلك من خلال إبعاد المعايير الموضوعية، ليتسنى لأنصارها تغيير المضامين بتغير مسار مصالحهم. وبذلك يكون مكمن الخطر في نسبية الحق ونطاقه وغايته. فالحق لا قيمة له في نفسه خارج فهمهم، فلا حق إلاّ ما أقروا أنه حق. ولما كانت هذه الفلسفة مادية فقد تحددت الحقوق ومضامينها وأبعادها في إطار ذلك. وابتعدت بذلك كثيراً إن لم تكن فُصلت عن القيم الخلقية( ).

2. إن هذا التحكم بتحديد الحقوق ومضامينها، بل ومناهج تطبيقها أو تنفيذها فيه تغليب لفلسفة على غيرها، وحضارة على باقي الحضارات، بل هي محاولة لدحر الحضارات وإزالتها ما أمكن، ليصفو لأصحاب هذه الفلسفة حكم العالم بأسره، سواء أكان ذلك بشكل مباشر أم غير مباشر بظنهم أنهم جمعوا مقومات العالمية في حضارتهم ودوامها من حيث استحواذهم على المنهج الفكري في فلسفتهم، والقوة المفرطة لنشره ودعمه وحمايته.

3. لما كان الحق والخطاب القانوني في المناهج الوضعية في خدمة الأقوى، كما تقدم، كان المراد من هذه الدعوة خدمة الأقوى بتحقيق مصالحه، ودليل ذلك أن الداعين لهذه الحقوق لا يتدخلون لحمايتها عند انتهاكها في دول العالم، إلا إذا وجدت لهم مصالح استراتيجية في الدول التي وقع فيها الانتهاك، وهم ينتهكونها بأنفسهم في شعوب ودول متى تعرضت مصالحهم للخطر فيها. فدل ذلك على عدم مصداقية دعواهم، وأنها فارغة من المضامين الحقة والضوابط الموضوعية.

4. لما تجردت هذه الفلسفة من البعد الديني والأخلاقي، وعملت جاهدة على جمع العالم على أرضية الغرائز، فلا يستغرب من أنصارها أن يتخذوها وسيلة لهم للضغط على حكومات دول، وإكراهها على تنفيذ مخططاتهم بشتى الوسائل، ومنها إثقالها بديون تصرف في مشاريع لا تحقق النمو الاقتصادي ولا الرقي الحضاري. وهي في الوقت ذاته تعمل على إفراغ الشعوب، بأفرادها، من المضامين والقيم المناهضة والمعارضة لفلسفتهم ليكونوا بعد ذلك طينة طيعة في أيديهم يشكلونها في أي صورة شاؤوا ولقمة سائغة في أفواههم يبتلعونها متى شاؤوا.

المبحث الثالث
فلسفة الحق في الشريعة الإسلامية ودور حق العبد فيها

الحق سواء أكان مكنة أو مركزاً شرعياً أو اختصاصاً حاجزاً. أو استئثاراً بقيمة معينة. هو حكم من حيث كونه نسبة اختصاص أو استئثار إلى شخص معين، وهذه النسبة شرعية ( ). فالأفراد كلهم متساوون، وتخصيص بعضهم بهذا الاختصاص دون بعض ترجيح، ولا بد للترجيح من مرجح والمرجح هو الحاكم، وهو الله سبحانه الذي ظهر حكمه بالوحي وبالعقل (الاجتهاد). وحكمه سبحانه معلّل بالحكمة( )، والحكمة هي مصالح العباد في الدارين. فشرعه رحمة بالعباد، إذ لا غرض له سبحانه فهو المنزه عن الأغراض. وبالتالي كانت الحقوق منحاً منه لعباده، بمعنى لا إيجاب عليه فيها وإن اقتضتها حكمته ( )، ليقيموا الدين ويعرجوا بها إلى منازل التكريم التي خصها للإنسان (الخليفة). وهذا من جوده عليهم وكرمه بهم( ).

وهذا أفادنا تقييد الحقوق بما نفع العباد في الدارين ويصلح الواقع، لأنّ الحقوق متعلقة بالمقاصد تعلق الوسائل بمقاصدها، والمقاصد المعتبرة في الشريعة متعينة، مقيدة بقيد تحقيق نفع العباد بنظر الشرع، فكانت الحقوق في مشروعيتها تبعاً لها في هذا التقييد .

وإذا كانت الحقوق، من حيث كونها نسبة اختصاص شرعي إلى محكوم عليه حكماً وضعياً فإنها لازمة للتكليف( ) من وجه آخر، سواء أكان الحق لك أم عليك. فإن كان لك توجهت إلى من كان الحق عليه، المطالبة الشرعية بحفظه ومراعاته ومطالبته هو أو نائبه “بأدائه لصالحك. وإن لم تتعين جهة المطالبة بشخص معين كان على الكافة، وفي كل حال احترامه بعدم الاعتداء عليه (التزام سلبي)، وبالنصرة عند المطالبة بها (إلتزام إيجابي) وذلك كله تكليف. وإن كان الحق عليك، وهو لغيرك، توجهت عليك المطالبة بأدائه على وجهه الشرعي، وهكذا.

فكلّ “حكم معقول المعنى، فللشارع فيه مقصودان، أحدهما، ذلك المعنى. والثاني، الفعل الذي هو طريق إليه، وأمر المكلف أن يفعل ذلك الفعل قاصداً به ذلك المعنى”( ) ومن خلال هذه المعرفة تتضح لنا علاقة الحق بالمصلحة. ففكرة الحق هي المبدأ والمنطلق في فهم التنزيل وبناء الأحكام الاجتهادية عليه( )، ومقاصد الشارع الحكيم هي الغاية، ووسيلة تحصيل تلك المقاصد وتحقيقها هي أفعال العباد بقيامهم بالحقوق وأداء الواجبات، ويطلق الحق على أفعالهم عند علماء أصول الفقه الإسلامي، على اساس أنها المعبرة عن صورة الحق في الواقع ووظيفته، وهذا ما سنتبينه قريباً. قال تعالى : “وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان”( ) وقال تعالى : “وزنوا بالقسطاس المستقيم”( ).

وهذا يفيد أيضاً أنّ ما من فعل إرادي إلا وفيه جانب تعبدي( )، وعلى ذلك فالفقه الإسلامي في ضوء هذه المنهجية فقه تقويمي. وهو يعمل في ضوء الشريعة الإسلامية، على جمع العالم بأسره على أرضية العقل المكتمل بالوحي الإلهي، وعلى ضبط الغرائز وتنظيمها وتسخيرها نحو أمن الفرد والمجتمع وسعادتهما في الدارين.
وهذا يتأتى من إحكام ضابطي حسن الأداء، ونقصد بهما: الضابط الداخلي الذاتي للمكلف المتمثل بصحة المعتقد وسلامة وحسن الخلق، والضابط الخارجي المتمثل بربط الحقوق بمصالح متعينة منضبطة بضابط موضوعي. ومن ثم كانت الرقابة الذاتية والخارجية سنداً للمكلّف وعوناً له على الأداء الأنسب، ودافعاً له للتسابق في الخيرات .

ويبرز الضابط الخارجي عند الكلام في أقسام الحق عند الأصوليين، ونأتي على بيانه أولاً ثم نعقبه ببيان الضابط الداخلي .
انصبت مباحث الأصوليين، في الحق، على أفعال العباد بالنظر إلى تعلقها بمقاصد التشريع، وأطلقوا عليها مصطلح المحكوم فيه أو به. وبرزت في تقسيم الحق أو المحكوم فيه ثلاثة مذاهب أو مسالك. أحدها عرف بمسلك الحنفية، والثاني هو مسلك الإمام القرافي، والثالث مسلك الإمام الشاطبي.
أما مسلك الحنفية( ) فيقسم أنصاره الحق إلى قسمين رئيسيين، وإلى قسمين ثانويين. أما القسمان الرئيسيان فهما حق الله تعالى ، وحق العبد.

وحق الله تعالى هو ما يتعلق به النفع العام للعالم، وحفظ النظام العام فيه. فهو شامل للمصلحة العامة الدنيوية والمصلحة الأخروية، فلا يختص به أحد. وأضيف إلى الله تعالى لعموم نفعه وعظيم خطره.

ومثلوا لذلك بحرمة الزنا وما يتعلق به من عموم النفع في سلامة الأنساب، وصيانة الفراش، ومن الضغائن، والمنازعات بين الناس( ).

وحق العبد هو ما تتعلق به مصلحة خاصة دنيوية كحرمة مال الغير، فإنه حق العبد لتعلق صيانة ماله به، ولهذا فإنه يستباح بإباحة المالك بخلاف حق الله تعالى.
وأما القسمان الثانويان فوجودهما تبع لحالة اجتماع الحقين، العام والخاص، دون الانفراد، وقد يُضم هذان القسمان تحت عنوان (الحق المشترك) فيكون التقسيم ثلاثياً. وقد يكون حق الله (العام) هو الغالب، وقد يكون حق العبد هو الغالب. والضابط في ذلك : أنه كلما كان أثر الفعل في المجتمع أبلغ من أثره في الفرد، التحق التصرف بحق الله بالغلبة، وبعكسه يغلب حق العبد. ومثال الأول القذف في الجنايات، والوظائف والمهن والحرف التي تحتاجها الأمة أو المجتمع، فيجوز لولي الأمر إلزام المؤهلين لأدائها، بالقيام بها على وجهها الشرعي كلما ظهرت الحاجة إليها ولم تسد من قبلهم بالاختيار. ومثال الثاني حق القصاص .

وبهذا المسلك يتحدد بوضوح دور الدولة وما لها من صلاحيات، وحقوق الفرد، والحقوق المشتركة، وطريقة التغليب بين الحقين (العام والخاص) فيها. فتبنى التشريعات الاجتهادية وفق ذلك، ليحكم بمشروعيتها لدلالتها الظنية على الحكم الشرعي القديم.

مسلك الإمام القرافي ( )
ينطلق الإمام القرافي في مسلكه من القول بأنه لا يوجد حق للعبد إلا وفيه حق الله تعالى، وهو أمره بإيصال ذلك الحق إلى مستحقه. وبالتالي فليس هناك ما يسمى بحق العبد المحض، فكان تقسيم الحق، عنده، لا يعدو كونه حق الله تعالى، وهو ما لا يملك العبد إسقاطه، كالإيمان وتحريم الكفر.

وقد يكون حق العبد هو الغالب، كالديون والأثمان. وهو ما يملك العبد إسقاطه. وقد يكون حق الله تعالى هو الغالب، وهو ما لا يملك العبد إسقاطه، كتحريم الربا والغرر صوناً لمال العبد عليه وحفظاً له من الضياع، وكتحريم المسكرات صوناً لمصلحة حفظ عقل العبد عليه. وحق العبد فيها يتمثل بما تتمضنه من جلب مصلحة له أو درء مفسدة عنه .

وظاهر من هذا المذهب محاولته إبراز حق الله تعالى على أنه قيد ثابت على حق العبد، لتوجيهه نحو صالح نفسه ومجتمعه وأمنه، تأكيداً لمعلولية الأحكام بمصالح العباد.

مسلك الإمام الشاطبي ( )
يقارب الإمام الشاطبي بمسلكه مسلك الإمام القرافي كثيرا، وهو يبني تقسيمه على مذهبه، وهو مذهب الجمهور، فالأصل في العبادات، بالنسبة إلى المكلف، التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني( )، ودل الاستقراء على أن الشارع قصد مصالح العباد في تشريعه أحكام العادات. فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما، فهو الواضع لها مصلحة، فإذن كون المصلحة مصلحة هو من قبل الشارع، فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات، وما انبنى على التعبدي لا يكون إلا تعبدياً. فقد صار كل تكليف حقاً لله، فإن ما هو لله فهو لله، وما كان للعبد فراجع إلى الله من جهة حق الله فيه، ومن جهة كون حق العبد من حقوق الله، وهذا لا يجعل للعبد حقاً أصلاً( ). فثبت امتناع وجود تكليف شرعي خال عن جهة التعبد فيه.

ويخلص الإمام الشاطبي إلى أن الحق ينقسم إلى :
1. حق الله تعالى : وحقه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعبادته امتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق. ويفسر أيضاً بأنه ما لا خيرة فيه للمكلف سواء أكان معقول المعنى أم لا. وهذا الحق ينقسم إلى قسمين: حق خالص لله كالعبادات، وصلة التعبد، وهو ما لا يعقل معناه على الخصوص ( )، وحق مشترك، وحق الله هو الغالب، لأن “حق العبد ما كان راجعاً إلى مصالحه في الدنيا، فإن كان من المصالح الأخروية، فهو من جملة ما يطلق عليه أنه حق لله ( ) ومثل لذلك بعدم جواز قبول العفو في الحدود إذا بلغت الحاكم، وعدم قبول إسقاط الرجل العدة عن مطلقته وإنّ ثبتت براءة رحمها، الذي شرعت العدة لأجله، حقاً له. وجلد القاتل العمد مئة جلدة وحبسه عاماً عند الإمام مالك وإن عفا عنه ولي المقتول( ).
2. حق العبد “الغالب”: وهو ما كان راجعاً إلى مصالح المكلف في الدنيا، وأصله معقولية المعنى، إذا طابق مقتضى الأمر والنهي فلا إشكال في الصحة، لحصول مصلحة العبد بذلك عاجلاً أو آجلاً حسبما يتهيأ له، وإن وقعت المخالفة فههنا نظر أصله المحافظة على تحصيل مصلحة العبد ( ).

وظاهر من هذا المذهب أنه، وإن أعطى نطاقا واسعاً لحقوق العبد، إلا أنه قيدها بحق الله تعالى من حيث ابتداؤها ومداها وغايتها، وهو وإن أعطى السلطة العامة صلاحيات واسعة في رعاية حقوق الله تعالى وحفظها، إلا أنه قيدها بعدم التدخل بحقوق العبد من غير إذن شرعي، وهو حق الله المتعلق بهذه الحقوق.

وبعد؛ فقد اتفقت المسالك على أن الحقوق منها ما هو حق لله تعالى، ومنها ما هو حق مشترك. وإن اختلفوا في حق العبد هل هو قسم قائم بنفسه، أم أنّه مندرج تحت أحد القسمين الأولين. وثمرة هذا الخلاف تظهر من حيث بيان سعة نطاق حق العبد، ومدى القيود الواردة عليه. فهي عند الحنفية أوسع نطاقاً وأقل قيوداً، فجميع الحقوق من حيث غايتها راجعة إلى مصالح العباد، والغالب فيها رعاية جانب الإنسان ونفعه منفرداً أو مع الجماعة. وإضافتهم ما روعي فيه من حق الجماعة والصالح العام لله تعالى ، إنّما من باب الاهتمام والعناية، لخطره وعظم قدره .

أما اتجاه الإمامين القرافي والشاطبي، فانصب على بيان الجانب التعبدي في الحقوق، وأنها وإن كانت لمصالح العباد، فمن حيث أنها منح منه من غير إيجاب عليه سبحانه. ومن حيث أنها شرعت لتحقيق مقاصده من تشريعه الأحكام، فالقيد بذلك تعبدي.

وبعبارة أخرى، كأن الاتجاه الأول يقول لك أد ما عليك من حقوق الله تعالى، والحقوق المشتركة، وهذه حق الله فيها هو الغالب، وما كان سوى ذلك فهو حقك، وهو شأنك ولك الحرية في التشدد في التمسك به أو التسامح فيه، وبمعنى آخر إنهم يجعلون الصالح العام في جهتين؛ الأولى: ما حدده الشرع وبينه فهو منضبط لذلك، والثانية : ما يتحصل من مجموع أداء الحقوق الخاصة للعباد، فهو ينشأ تبعاً لأدائهم لحقوقهم من غير إلزام بأدائها .

وكأن الاتجاه الثاني يقول لك الكل من الله وإلى الله، بمعنى أن عليك أن تراعي حق الله تعالى دائماً، حتى فيما كان حقاً لك “بالغلبة” فلا تتصرف، إيجاباً أو سلباً، إلا موافقة للشرع، وذلك بالسعي نحو تحقيق المقاصد المعتبرة شرعاً، ليظهر من خلالها النفع العام. وفي ذلك تغليب للجانب التعبدي والرقابة الذاتية من قبل العبد نفسه، وأكثر تعظيماً للجانب التكليفي في التصرفات الإرادية.

أم الضابط الداخلي فقد تقدم القول أن أداء المكلف لتكاليفه أو حقوق مرتبط بضابط ذاتي، متمثل بصحة معتقده وسلامته، وبحسن أخلاقه من حيث إن الأداء الخارجي من حركات وسكنات وأقوال وأفعال، هو المظهر المعبر عن صورة النفس، على ما هي عليه من خلق أو سجية، بمعنى ما رسخ فيها من معانٍ وصفات .

وما السلوك الإنساني إلا انعكاس هذه الهيئات والصفات المستقرة في النفس الإنسانية وفي هذا يقول الإمام الغزالي: (فإن كل صفة تظهر في القلب يظهر أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة) وهذا موافق كل الموافقة لقوله عليه الصلاة والسلام : (ألا إنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) – متفق عليه – فإن صلاح سلوك الإنسان من أقوال وأفعال منشؤها صلاح قلبه، وفساد سلوك منشؤه فساد ما ينطوي عليه قلبه من المعاني والصفات، ومن هنا كان الاشتغال بإصلاح القلب أو النفس من الداخل هو طريق تحسين الأخلاق وتغيير أحوال صاحبها، يدل على ذلك قوله تعالى : “أنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”( ).

وهذا هو توجه التكليف بالتخلق بالخلق الحسن، عن طريق التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل، وهو طريق الفلاح في الفرد والمجتمع، المبين في قوله تعالى : “قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها”( ).

ولكن لذلك وجهة من حيث تبين الصور الفلسفي للبناء الأخلاقي في الشريعة الإسلامية وعلاقته بالمعتقد، ودوره في الأفعال (المحكوم فيه)، ومحاكاة التكوين الذاتي للإنسان لمراتب العوالم والعلوم ومناسبة ذلك. وبيان ذلك أنّا إذا نظرنا إلى مراتب العوالم بحسب المنظور أو التصوّر الإسلامي، نجدها ثلاثة عوالم: عالم علوي نوراني، وعالم سفلي مظلم، وعالم برزخ يتوسط بينهما، يتقلب بين العالمين.

ويطلق على الأول عالم الملكوت، وعلى الثاني عالم الملك وقد يطلق على الثالث عالم الجبروت( ).
وإذا نظرنا إلى مراتب التكوين الذاتي للإنسان، بحسب المنظور أو التصور الإسلامي، نجدها ثلاث مراتب أيضاً، وهي من الأدنى إلى الأعلى: نفس، وقلب، وروح.
وهي مقابلة من حيث مراتبها مراتب العوامل. فالنفس في مقابلة عالم الملك، والقلب في مقابلة عالم الجبروت أو البرزخ، والروح في مقابلة عالم الملكوت( ).

والمعرفة تبنى على ذلك، وبيان ذلك الآتي: النفس مستودع الغرائز والشهوات، ونظرها إلى العالم السفلي، وحكمة ذلك زرع البواعث في الإنسان للإقامة في هذا العالم، وإعماره كما بين الحق سبحانه “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها..” ( ) وكما أن الأرض محل عمل الخليفة “إني جاعل في الأرض خليفة”( ) كان الجسد المخلوق منها محل عمل النفس، وإلا لما كانت ذاته تقبل غير ذلك، من حيث أنه خلق في عالم علوي، وتمتع بنعيمه الذي لا يقاربه ولا يدانيه من أي وجه نعيم الدنيا.

وأما الروح اللطيفة الربانية، فهي مستودع الأنوار والمعارف الإلهية، وهي كالشمس تشع على الخلق، وكلّ يأخذ منها بحسب استعداده الوجودي، بها تنجلي وتسطع حقائق الأشياء، وواقع القضايا والأحوال كما هي عليه في واقع الأمر. فلا لبس فيها في ذاتها، ولكن تخفى الحقائق على من حجب نفسه عنها، وهو من عميت بصيرته، أو أصابه ما شوش عليها وألبس الحقائق غير لبوسها، وليس ذلك إلا من ذنوب وأمراض لحقت القلب، قال تعالى : “في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا”( ) وقال تعالى : “أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون” ( ) وهذا استفهام تقريري بمعنى أن في قلوبهم مرضاً له أسبابه، منها تكذيبهم الحق وارتيابهم بدعوته، حسب ما نطق به نص الآيتين المذكورتين. وقال عليه الصلاة والسلام: “إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء على قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ذلك الرين الذي ذكر الله عز وجل في القرآن : “كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون”( ).

قصور الأشياء تدرك بالبصر مع وجود الضياء، وعلاقاتها ببعضها أسباب ومسببات، علل ومعلولات تدرك بالطرق العقلية ومنها المشاهدة والتجربة. أما حقائقها وحكم إيجادها وغايتها. فتدرك بالبصيرة مع نور الإيمان.

وبذلك تتبين مكانة القلب ووظيفته، والقلب هو حقيقة الإنسان، وهو المدرك والعالم من الإنسان والمخاطب والمطالب والمعاتب( ).

وسمي القلب قلباً لكثرة تقلبه بين الروح والنفس، وقد تكون الإشارة إليه وقعت بقوله عليه الصلاة والسلام : “قلوب العباد بين أصبعي الرحمن أنه إذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه ( ) وقد يسمى القلب حال توجهه نحو الروح لاستمداد المعارف والأنوار الإلهية لربطها بالعلوم الدنيوية المكتسبة لتتجلى بذلك حقائق الأشياء الوجودية بالعقل .

وقد يُسمى حال توجهه إلى النفس والاحتجاب عن الروح بالهوى، إشارة إلى خلوه عن العلوم والأنوار الروحية، قال تعالى : “وأفئدتهم هواء” ( ). وهو في كلا الحالين حاكم على النفس مطاع من قبلها ، لأنها مركبة والأعضاء والجوارح جنوده. إلا أنه في الحال الأول حاكم مجازاً، من حيث كونه موقعاً للأحكام عن رب العالمين، وبذلك فقط تتحقق خلافته عن الله تعالى .

وفي الحال الثاني هو منصرف نحو غرائز النفس وشهواتها، قاصد إليها باختياره، فهو حاكم لذلك بموجب هواه قال تعالى : “أرأيت من اتخذ الهه هواه، افأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً”( ). وهم أضل من الأنعام سبيلاً من حيث إن الأنعام تؤدي ما خلقت له، وهذا شابهها بنزول مراتب الإدراك والعقل فيه، وفارقها ونزل عنها بأنه لم يقم بما خلق من أجله.

فإذا كان أعظم عقلاً مع ظهوره في الخارج مدعماً بدعوة إلهية ورسالة سماوية لا يقوى، بحسب ظاهر النص، على تغيير فرد اتخذ الهه هواه، ورده إلى الحق دون أن يقبل الحق طواعية، فكيف يكون الحال إذا غُيّب العقل وغُلّب الهوى في المجتمعات والشعوب؟

إن علة تقابل مراتب ذات الإنسان مع مراتب العوالم، وترتب العلوم وفق ذلك، هي الحكمة من استخلاف الإنسان في الأرض دون سواه من المخلوقات. ففيه وحده يظهر مقام جمعية المعارف، فإذا ظهرت فيه انعكست في الخارج، عالم الأرض المادي المظلم، فتشرق الأرض بنور ربها، فيأخذ كل مخلوق استحقاقه من أنوار الوجود والحقائق، بحسب استعداده بواسطة هذا الخليفة، فلا ينقطع نور العالم العلوي عن العالم السفلي. فإذا انقطع النور بانقطاع الخليفة قامت الساعة، قال عليه الصلاة والسلام: “لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله…”( ) و “لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس…” ( )، ولذلك يطلب أهل العوالم بقاء هذا الخليفة، لديمومة بقائهم ومعارفهم. قال تعالى : “والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض…” ( ) “هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور”( )، وفي الحديث الشريف : “معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر …” ( ). والمراد من ذلك تبين أن الإنسان ما خلق عبثاً( )، وأنه حلقة الربط بين العوالم، وواسطة الحق للظهور فيها بأنواره وأحكامه، فإذا أخل الإنسان بذلك خرج عن حكمة خلقه واستخلافه، وبالتالي عن المشروعية إلى اللامشروعية.

ولتتحقق له خلافته ببناء نفسه بناء أخلاقياً، بعد ثبوت العقيدة الصحيحة السليمة في قلبه، لا بد من ضبط الصورة الأخلاقية التي يجب أن يكون عليها، وإن كان الرقي في الأخلاق ضمن هذه الصورة لأحد له. قال تعالى : “فاستبقوا الخيرات” ( ) و “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون” ( )، وقد ضبطت الصورة إجمالاً بالحديث الشريف “حسن الخلق خلق الله الأعظم” ( ). وفصل ذلك بالحديث الشريف : “إن لله تسعة وتسعين اسماً مئة إلاّ واحداً من أحصاها دخل الجنة”( ) وإحصاؤها التخلق بها، والأثر المترتب على التخلق بها العمل بمقتضاها.

ويمكن القول إن هذه الصورة ضبطت من حيث الظاهر بأمور ثلاثة؛ أحدها: العمل بالقرآن فيما أمر والاجتناب عما نهى، سواء أعلم ذلك بنفسه أم بواسطة أهل العلم. والثاني : اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام لشهادة الله تعالى فيه: “وإنك لعلى خلق عظيم”( ) “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً”( )، ولأنه المبين للقرآن لقوله تعالى: “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم”( ). ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: “كان خلقه القرآن( )، وكان قرآناً يمشي على الأرض. والثالث : استفتاء القلب السليم المتابع بالمجاهدة بالتزكية، لقوله عليه الصلاة والسلام: “استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك..” ( )، و “الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس…” ( ) وقد تكون الإشارة إلى ذلك وقعت بقوله تعالى : “لمن كان له قلب…..” ( ). فحسن صورة النفس منضبطة بما ذكر، وقبحها تراجعها عن مقام الخلافة عن الله إلى الخلافة عن مواهبها. يخلص لنا مما تقدم مما يأتي :
1. مصدر الحق: هو الله سبحانه، الشارع الحكيم. والحقوق منه منح لعباده من غير وجوب عليه، سبحانه، موافقة لحكمته، وحكمته مصالح عباده في الدارين، فشرعه كله رحمة بالعباد.
2. صفة الحق : هو حكم شرعي وضعي من حيث نسبته إلى صاحبه “المحكوم عليه” ولذلك يتبع الشرع في بيان ثبوته، وثبوته يُعرف بالوحي أو بالعقل “الاجتهاد” .
3. وظيفة الحق : أنه وسيلة تحقيق مقاصد الشريعة، فالحقوق مبادئ والمقاصد غايات. وينظر إلى الحق من هذا الوجه نظر تكليف. ولذلك تم بحثه عند الأصوليين في باب المحكوم فيه.
4. طبيعة الحق وغايته : أما من حيث طبيعته فإنه على التحقيق ذو طبيعة مزدوجة، بمعنى أن له تعلقاً بالصالح الخاص، وهما لا ينفكان عنه، وإن اختلفت مراتب ظهورهما في الحق، من حيث كونه حقاً لله، أو العبد، أو مشتركاً.
وغايته تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية التي فيها مصالح العباد في الدارين، وهي على الترتيب، الضرورات الخمس: حفظ الدين، والحياة، والنسل، والعقل، والمال. ومن ثم الحاجات التي تمثل التوسع لإدراك الضرورات الخمس دون مشقة بالغة؛ ففيها التيسير ورفع الحرج. ومن ثم الكمالات أو الكماليات أو التحسينات، وفيها الظهور بمحاسن الأخلاق ومكارم العادات فيكتمل بذلك بناء المقاصد على أتم وجه وأحسنه .
5. لوازم حسن أداء الحق طاعة واختياراً: واللوازم هي عقيدة صحيحة سليمة، وأخلاق حسنة منضبطة بضوابط شرعية موضوعية، وحرية لممارسة أداء الحق على وجهه الشرعي.
6. حكمة تحميل الإنسان بالحق وتكليفه بأدائه : والحكمة هي تحقيق الإنسان خلافته عن الله في الأرض لتوافر استعداده لتحمل ذلك، فتظهر به وبواسطته في الخارج أحكام العوالم، بعد أن تنصهر في بوتقته علومها ومعارفها، فيكمل ظهور أحكام المستخلف، الشارع سبحانه وتنكشف حكمه؛ بمعنى أن الخلائق تدرك ذلك لتوافر استعدادها للإدارك بواسطة الخليفة ليقرّ الكل بافتقاره الذاتي، وأن غناه الوجودي بالله تعالى، فيعادي بذلك شحه ، ليستظل بوافر رحمة ربه. فينعموا بعدل الله وفضله، ويسلّموا ويرضوا بقضائه وقدره. فأعظم بها من حكمة! .
7. حقوق الإنسان في ضوء ما تقدم: وفي ضوء ما تقدم نجد أنه لا فصل بين حق الفرد وحق الجماعة، ولا استئثار للفرد بحق دون الجماعة، ولا استئثار للجماعة بحق دون مشاركة الفرد فيه. فالكل حق للإنسان؛ لكن من حيث كونه عبداً لله وخلفة عنه في الأرض. فنطاق حقه واسع جداً، بل يصعب حصره، فكل ما يقع به العدل فهو حق لله والعبد، للأمة وللفرد على حدّ سواء. وقيده أنه موجه إلى تحقيق العدل الإلهي بتحقيق مقاصد الشريعة

وبالتالي صح القول أنها حقوق الله إن أريد بالحق كل ما لا يملك العبد إسقاطه أو أنها حقوق العبد والعباد إن أريدت الحقوق بعمومها. وغلب لفظ العبد على الإنسان عندهم، بالنظر إلى أنّ تحميله بها واستحقاقه إياها من حيث إنه عبدالله وخليفته، وفي ذلك تشريف له وتكريم وتكليف، فلم يشع لذلك عند المسلمين، بأنها حقوق الإنسان، لما فيه من إشارة الفصل بين الحق ووظيفته وغايته التعبدية.

وإذا تم ذلك سهل من بعده فصله عن مصدره الحقيقي، لتتم نسبته إلى ما سوى الله تعالى، وكذلك فصله عن الأخلاق، فتقع الحقوق نسبية لابتنائها على معايير ذاتية بعد إبعاد المعايير الموضوعية الحقة. وهذا كله هدم للدين من حيث كون الدين انقياداً مبنياً على معتقد سليم، وأخلاق حسنة، وأداء موافق لهما، طاعة لله وقربة له بإظهار مقام الخلافة عنه في الأرض. وهدم الدين إخلال بالموازين، وإشاعة للفساد في الأرض. قال تعالى : “فهل عسيتم أن توليتهم إن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم”( ).

المبحث الرابع
موازنة بين أحكام الحقوق في المنهجين الإسلامي والوضعي

في هذا المبحث نتبين أوجه الشبه والخلاف بين أحكام الحقوق في المنهجين الإسلامي والوضعي، لتتبين لنا نقاط الالتقاء بينهما ونقاط الافتراق، ومدى إمكانية استثمار هذا الالتقاء، ومدى إمكانية المصالحة بخصوص نقاط الافتراق. وبالتالي التعرف على المنهج الأصلح منهما لحكم الواقع، وعلة ذلك. وسيتم إبراز ذلك كله من خلال النقاط التالية :

أولاً : من حيث مصدر الحق
1. أوجه الشبه : كلا المنهجين يسند الحق في نشوئه إلى إرادة. والقول بالإرادة يستلزم إثبات العلم لأنه يسبقها، كما يستلزم القدرة لأنها المظهر المعبر عن الإرادة في الخارج “الواقع” .
2. أوجه الخلاف : إيجاد الحقوق وإسنادها العباد يعود، في المنهج الإسلامي، إلى الله تعالى، فهي منه منح لعباده من غير وجوب موجب وقد اقتضتها حكمته، ومصدرها في المناهج الوضعية إرادة بشرية، سواء أكانت إرادة الحاكم أم المحكومين. ولو أردنا تأول معنى الطبيعة في المذهب الفردي وفلسفة القانون الطبيعي اللاديني، بأنها الأله الذي أعطى الحقوق للإنسان، وهذا بعيد عن تفكيرهم، لما ابتعدنا عن قولنا بأن المصدر هو إرادة بشرية، لأنهم يثبتون الحقوق للإنسان لكونه إنساناً، وبالتالي فإن نسبتها إلى إرادة إلهية سيكون بإيجاب موجب، بل إن مفردات هذه الحقوق ونطاقها ومضامينها يحددها الإنسان ذاته، وقد تم ضبط ذلك بعيشه متوافقاً مع غرائزه الاجتماعية، فلم يبق من وجه لنسبتها إلى غير الإرادة البشرية.

الأثر المترتب على هذا الخلاف :
1. إذا كانت الحقوق في المنظور الإسلامي لا تنشأ عن ذات الإنسان، ولا عن إرادة غيره مما سوى الله تعالى، وأنها نسبة منه سبحانه للإنسان من غير إيجاب عليه، فإن ذلك يدل على تحريرها من النفس والهوى من جهة، وعلى تكريم الإنسان كرامة عظيمة، بإنزاله منزلة الخليفة عن الله تعالى في أرضه. وإذا كان مصدر الحقوق في منظور الفلسفات الوضعية إرادة بشرية، حاكمة أو محكومة، فإن ذلك يدل على رق الإنسان وعبوديته للهوى، وفي ذلك هوانه ومهانته .
2. أن الحقوق في المنظور الإسلامي، ابتناءً على ما تقدم، ثابتة الحقيقة، بينما تكون نسبية “السفسطة” من اللوازم غير المنفكة عن الحقوق عندهم بتغير الحقوق عندهم بتغير الأزمان، وتبدلت بتبدل الأماكن، وتفاوتت وتباينت بتفاوت وتباين الأشخاص والظروف.

ثانياً: من حيث الغاية
1. أوجه الشبه : الغاية في الإسلام يمكن التعبير عنها بعبارات تفيد المعنى وإن تعددت بتعدد جهات اعتبارها. فالغاية هي : تحقيق سعادة الإنسان في الدارين، وذلك بالنظر إلى ثمرة طاعة الله تعالى، وهي تحقيق مقاصد الشريعة، وذلك بالنظر إلى غاية التكليف وإلى مقومات حياة الإنسان الحر. وهي تحقق الإنسان من التناسب والانسجام القائم بين العوالم بمراتبها الثلاث : العلوية والبرزخية والسفلية، والتناسب والانسجام بينها وبينه، وذلك باعتبار تحققه المعرفي بوحدتها من حيث إنها ترجع إلى وحدة المبدأ والحاكمية والغاية “الحكمة من خلقها” والمنتهى أو المآل. وهي : تحقق الإنسان من ثمرة خلافته الإلهية في الأرض، وذلك باعتبار تحققه المعرفي بوحدتها من حيث إنها ترجع إلى وحدة المبدأ والحاكمية والغاية “الحكمة من خلقها” والمنتهى أو المآل. وهي : تحقق الإنسان من ثمرة خلافته الإلهية في الأرض، وذلك باعتبار تحققه بولايته، علاقته بالله تعالى، وبثمرة عمله الصالح المصلح وبانصلاح الواقع به كأثر لتلك الولاية( ). ووجه الشبه يقصر على تشابه لفظي منحصر بلفظ السعادة التي زعم فلاسفة الغرب أنها غاية الحقوق والقانون، ولغياب الوحي والضوابط الموضوعية عن منهجهم اختلفوا في تحديد معنى السعادة أو مضمونها.

2. أوجه الخلاف : لما كان الله تعالى منزهاً عن الأغراض كانت الحكمة أو الغاية من شرعه، والحقوق من شرعه، نفع العباد، وذلك فرع جوده سبحانه فالجواد المطبق غير معتاض . أما غاية الحقوق في المناهج الوضعية فهي نفع الأقوى. ومنافعه تلك هي مقاصده من خطابه المصحوب بالارغام “القانون”. ونفعه هذا له وجهان، اولهما : ذاتي “داخلي”. وهو رضاه بما عليه نفسه من غرائز ومفاهيم نسبية. فينقاد لها ولا يرى حكماً غير حكمها والثاني : خارجي بأن يرى الواقع صورة مطابقة أو مقاربة لما عليه نفسه من صورة، ليتحقق بذلك من قيامه بخلافته عن نفسه فتتحقق طمأنينته الآنية. وبالتالي فهو معتاض لأنه لا يعطي إلا في مقابل ما يأخذ من المحكومين. بل إن ما يعطيه نزر قليل أمام ما يأخذه .
الأثر المترتب على هذا الخلاف :
في ضوء المنهج الإسلامي تقبل العوالم بمراتبها خلافة الإنسان عن ربه، كونها وإياه ونظامها الوجودي وخلافته، تصدر عن حقيقة واحدة، وإلى هذه الحقيقة مرجعها، فينشر بذلك العدل الإلهي في العوالم بواسطة هذا الخليفة، ويتحقق الكل بوجوده وحكمتها، وبافتقاره إلى الله الغني، وتلذذه بهذا الافتقار لأن غاية في نفسه من حيث كونه معرفة حقه بحقائق الوجود ومراتبها. وبذلك يأخذ كل مخلوق من السعادة غايته.
أما في المناهج الوضعية فنجد التباين والتنافر بين العوالم والإنسان من لوازم أحكام تلك المناهج. فالإنسان المتحقق بخلافته عن نفسه لا تقبله العوالم، ولا ترى له عدلاً يسري فيها لشحه إلا في حدود ما هو عليه من حقيقة جزئية، وهو بدوره لا استعداد له للانسجام مع العوالم، إلا في حدود ما عليه نفسه من صورة تتناسب بوجه مع العالم السفلي.

وهذا يفضي إلى الضيق في النفس والواقع( ). وإلى التجاذب والتناحر بين الأفراد، بين الحاكم والمحكوم، (بين الشعوب) كل ذلك بسبب نسبية العدل. فكل يرى العدل عنده، وأن ما هو عليه حق، وأن غيره في ظلم وباطل. وإذا غاب المعيار الحق وأوكل الناس إلى أنفسهم، ظهر قانون الأقوى. فيكون العدل هو عدل الأقوى من بينهم، والحق هو في اتباعه بالإرادة أو بالقوة. وهذا لا يحتاج إلى دليل أظهر من صور الواقع الأليم الذي تعيشه الإنسانية.

ثالثاً: من حيث الوظيفة
1. أوجه الشبه : كلا المنهجين يجعل الحق وسيلة إدراك وتحصيل الغاية (مقاصد التشريع) ولكن كيف يتم ذلك ؟
2. أوجه الخلاف : يتم ذلك في ضوء المنهج الإسلامي الاستخلافي بتحرير الإنسان من رق الهوى. وبذلك ينجلي ويسطع معنى الجهاد الماضي إلى يوم القيامة. والتحرير يرد على مواطن، هي : العقل والنفس والعمل. فتحرير العقل يكون لتوحيد البشرية في منهجية فكر حر على أسس رصينة.

وتحرير العقل من الهوى هو ثمرة قبوله بمعتقد صحيح سليم. والمعتقد من حيث كونه تصديقاً جازماً محله القلب، لا سبيل إليه من غير قبول ذاتي من العقل بالحق. وبالتالي كان تحرير العقل على جنبين؛ أحدهما متعلق بمن لم تبلغه الدعوة، أو سمع بها ولم يتعرف إليها، وذلك يشمل شعوباً قهرها جور حكامها، فحق هؤلاء على المسلمين تحريرهم، ومن ثم إعطاؤهم الفسحة للنظر وقبول الحق عن قناعة وتأمل. وبذلك يتحرر العباد من رق العباد إلى حرية التفكير والاعتقاد، ليجدوا من ثم الإسلام بسعة رحمته وعدله؛ عقيدة وعلماً وتطبيقاً لمنهج الحق لحكم الواقع( ). والثاني متعلق بالمؤمنين المسلمين، وتحرير عقولهم بمحاربة الجهل عدو العقل، وللجهل صور منها: غياب منهجية التفكير السليمة، التقليد المذموم، التعصب، أمراض القلب كالحسد والحقد والجبن والبخل. وكذلك الذنوب والآثام. ففعلها إنما يكون عن جهالة، قال تعالى : “إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب”. ومذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي.

ونتبين مما تقدم أن الإسلام دين العقل، وأن العمل على احترام العقل وتحريره قضية جوهرية فيه. ولما كانت البشرية قائمة في العالم الدنيوي السفلي، فقد وجبت الدعوة إلى الحق، ومضى الجهاد إلى يوم القيامة، يوم الرجوع إلى الله والعيش الأبدي في العالم العلوي.
أما المناهج الوضعية ففيها الحجر على العقول إلاّ في حدود ما يحقق لأنصارها مصالحهم المادية الدنيوية، وهم لذلك، على عكس ما عليه المنهج الإسلامي، يسعون إلى تحرير النفس من العقل، وذلك من جهتين، إحداهما: محاربة كل دعوة عقائدية أو فكرية تتعارض وفلسفتهم. والثانية : إشاعة الفواحش والرذائل والتحلل الخلقي والتفكك الأسري والاجتماعي بدعوى التحرر.

وتحرير النفس يكون بنقائها، ونقاؤها ثمرة تخليها عن الرذائل وتحليها بمحاسن الفضائل، ليرقى الإنسان بنفسه إلى منازل التكريم، فتصفو له نفسه بأحسن صورها، ومن ثم سيكون عمله الصورة الحسنة الظاهرة لما عليه النفس من خلق حسن. وبتحرير النفس بالتخلق بالخلق الحسن يتحرر العمل من هوى النفس وشحها .

ومعيار التخلق موضوعي منضبط بالشرع والعقل السليم. أما التخلق في المناهج الوضعية المار ذكرها فهو تأصيل وترسيخ لرغائب النفس وشحها، فمصالح الفرد مقدسة، وعليه أن يعيش وفقاً لغرائزه. وهوى النفس لا قيود عليه، فكل شيء مباح إلا ما تعارض ومصلحة الأقوى. فالمعيار عندهم ذاتي غير منضبط .

وقد ذكرنا أن تحرير العمل يكون بتخلق النفس بخلق حسن، وهذا تحرير داخلي. وأما تحريره على أرض الواقع فبإسقاط القيود الخارجية عنه، فكل عمل لا يحارب العقل السليم والخلق الحسن، وجب ترك صاحبه يمارسه بحرية، ما دام الشرط المذكور متوافراً فيه. فالحريات قرينة الحقوق، بل هي مستند الحقوق في أدائها لوظيفتها. فأي ثمرة لحق لا يقوى صاحبه على ممارسته( )؟ وبالتالي كان للكل، في الإسلام، ممارسة حقوقه بالشرط المذكور( )، فله أن يعبر عن رأيه بحرية، وأن يحافظ على معتقده، وأن يمارس شعائر دينه وطقوسه، وأن يحافظ على موروثه العقائدي والفقهي والفكري ما لم يسفه حقوق غيره، وما لم يدع إلى دين غير دين الإسلام، وهو على أرض الإسلام، لأن في ذلك اعتداء عليهم. وكذلك قل في حرية ممارسة النشاط الاقتصادي، ونحو ذلك.

نتبين مما تقدم أن العقيدة الإسلامية والخلق القويم هي مبادئ الحقوق، وأن الحريات مستندها في أدائها لوظيفتها، وأن مقاصد الشريعة وجهتها وغايتها، وبالتالي كان الإسلام دعوة تحرير العقل والنفس والعمل في الإنسان، ليقوم بخلافته في الأرض فيحييها بالعدل. وهذا ما تقصر عنه المناهج الوضعية؛ لأن نطاق عمل العقل فيها لا يعدو النفس بشحها وغرائزها، ولذلك غللبت على فلسفاتهم النزعة المادية، فجاء العمل بمقتضاها محرراً من كل ضابط، فهو مظهر النفس على ما جبلت عليه من صفات لم ترد عليها المجاهدة بالتزكية، ولم ترق بموجب عقيدة سليمة إلى منازل العلوم والعوالم العلوية.

رابعاً: من حيث النطاق
من خلال ما تقدم يتبين لنا سعة نطاق الحق في الإسلام؛ فهو يشمل كل ما فيه نفع العباد، وبعبارة أخرى فإنّه يشتمل على ما يفضي إلى مصالح الدين والدنيا.

أما نطاقه في المناهج الوضعية فمحصور في المصالح الدنيوية، بل وفي حدود ما يراه الأقوى في المعادلة.

خامساً: من حيث التسمية: فالإسلام أطلق على الحقوق حق الله، من حيث تعلق نفعها بالعباد، وحق العبد من حيث تعلق نفعها بالعبد تغليباً، وذلك من حيث كون الناس عباداً له سبحانه ليدل ذلك على أنها منح منه لهم من غير وجوب عليه سبحانه، وليدل أيضاً على ضبطها بوظيفتها ومقاصدها. وهي في المنهج الوضعي الفردي حقوق وجبت له، من حيث كونه إنساناً حيث لا تشريع يوجبها له، فلا تقييد عليها بمقاصده، ولا قيد عليها بتحقيق نفع عام؛ لأن حقوقه سابقة في وجودها على ذلك كله.

وبعد؛ فالمنهج الصالح لحكم الواقع هو ما يكون به حفظ كرامة الإنسان وحرياته، وما يحقق فيه جوهره الاستخلافي، ويحث على إظهاره إلى الخارج، لينصلح الواقع بالعدل الإلهي. ويحقق التناغم والانسجام الكوني ولا يتحقق ذلك في غير الإسلام.

الخاتمة

وبعد، فقد ظهر لنا من هذا البحث نتائج أبرزها :
1. ان النظام المناط بالإنسان مرتبط بعقله، تمامه بتمامه ونقصانه بنقصانه. والعقل لا يكتمل إلا بالوحي، ففيه اكتمال مقوماته الذاتية لتكتمل معارفه العلوية والدنيوية، وبالتالي فلن يتم نظام ولن ينصلح واقع تمام الصّلاح بموجب عقول تعتمد فلسفة وضعية فقط.
2. أنّ من أخطر ما يهدد الإنسانية جمعاء هو نسبية الحقائق، وأكثرها خطراً ما تعتبر مقومات الحياة الاجتماعية والنظام فيها، كالحق والمصلحة والحرية والعدل والقانون والمشروعية واللامشروعية والأخلاق والدين، فكان لا بد من إثباتها بحقائقها من خارج ذات الإنسان. وكان ذلك في الشريعة الإسلامية، بينما بقيت على نسبيتها في المناهج الوضعية.
3. أنّ سعادة الإنسان تكون بتعايشه بانسجام وسلام، لا مع بني جنسه فقط، بل مع العوالم، وذلك لا يكون إلا بتقابل ذاته بمراتبها الثلاث؛ النفس والقلب والروح مع العوالم؛ الملك والجبروت والملكوت. وذلك ثمرة تحققه بخلافته الإلهية، وهذه الخلافة متوقفة على ثبوت عقيدة صحيحة سليمة، وخلق حسن، وعمل صالح موافق. ولما كان هذا ناموساً كونياً قدره الله وقضى به، فلن يسعد إنسان ويشرق واقع بغيره، ولذلك كان الشقاء لازماً للبشرية التي انتهجت سبيل الوضعية القانونية، ففصلت الدين عن الدولة، والأخلاق عن القانون. وكم هي المآسي التي ذاقتها وما زالت ولم تجد خلاصها بعد. أما المترفون فيهم فغاية منالهم هو التمتع المادي (من *** ومأكل وشراب وتسابق محموم على المال والجاه واللهو) كما قال تعالى : “ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون”( )
4. أن حقوق الإنسان، مع ثبوت هذه الحقائق، دعوة أريد لها أنّ تكون عالمية لتصبح ذريعة بيد أصحابها للتدخل في شؤون الدول ونهب ثرواتها والتلاعب بمقدراتها. وهي أيضاً وسيلة حضارتهم لغزو حضارات الأمم الأخرى بالإرادة أو بالقوة.
5. أنّ هذه الدعوة رغم أنها فارغة من مضمون الحماية حتى مع رعايا الدول التي تعدّ نفسها القلعة التي انطلقت منها هذه الدعوة، كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. إلا إذا دعت مصالحهم الاستراتيجية حمايتها إلا أنّ فيها إيجابيات أفادت الإنسانية منها، تجلت في أنها نشرت وعياً سياسياً في الشعوب والأمم وغذت فيهم روح المواجهة والتحدي للمحافظة على الهوية، واستضعفت كثيراً من استبداد الحكام المستبدين في كثير من الدول، وكانت سبباً لممارسة الحريات، والمطالبة بالحقوق، مما مكّن من استثمار هذه الإيجابيات، واستكمال ما فات، ولا حاجة إلى الابتداء من أول الطريق، فهذا شوط طويل قطعته أمم غيرنا، فلنكمل نحن المسيرة مع ضرورة تجنب سلبياتهم وإكمال ما فاتهم .

التوصيات :
تتمثل مجمل التوصيات بالمحافظة على هوية الأمة، ونشر الحضارة الإسلامية والدعوة إليها. وتفصيل ذلك على النحو الآتي :
أولاً: رعاية الأمة وحماية حقها في المحافظة على هويتها، وذلك بالعمل على :
1. إعادة صياغة التشريعات القانونية، وخاصة ما يتعلق منها بحق الأفراد في كفالة الدولة لهم، على أساس المرجعية الواحدة وهي الشريعة الإسلامية، المعلومة لنا بواسطة الوحي “الكتاب والسنة” وبالعقل “الاجتهاد”، والاجتهاد على شقين: اجتهاد سابق على الحوادث، واجتهاد معاصر لها.
والأول : يمثله الفقه الإسلامي المنقول إلينا تواتراً المنضبط بالكتاب والسنة وإعمال القواعد الأصولية المسلمة في الاستنباط منهما، وتلك هي المذاهب الفقهية الأربعة؛ مذهب الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية.
وأما الثاني: فنقصد به اجتهاد مشرعي القوانين والقضاة المسؤولين عن تطبيقها في المنازعات ورؤوس السلطة الإدارية المسؤولين عن تنفيذها. على أن ينضبط اجتهادهم بالقواعد الققهية والأصولية وليس ذلك بعسير، كما يشاع، بل يمكن ضمها وبالأدلة من نصوص الكتاب والسنة كلّ بما يختص به من أعباء وظيفية، في كتاب موجز يثبت كمرجع يعمل به أهل كل اختصاص، ويكون اجتهادهم في أمرين، أحدهما: في ما لم ترد فيه آراء فقهية ولكن العلة فيها انتفت أو عورضت بعلة أقوى منها، ونحو ذلك. وذلك للمحافظة على هوية الأمة وتراثها من وجه، ولتطوير القانون وجعله مواكباً للمتغيرات من وجه آخر، ولتحقيق العدالة في الجزئيات فإن العدل يقتضي النظر المستقل في كل جزئية. فالحقوق يتحدد نطاقها ووظيفتها وغايتها بالشرع أو بالقانون الذي تنضوي تحته كأحد أحكامه، كما تقدم.
2. الاعتراف بالحريات وممارساتها، وليس منحها لأفراد الأمة؛ لأنها ثابتة لهم بالشرع. وترسيخ العمل بها في كل جوانبها: الفكرية والاجتماعية الاقتصادية والسياسية، ما دامت منضبطة بضابط الشرع المتمثل بأنها تسهم في تحرير العقل من الجهل، والنفس من سوء الأخلاق، والعمل من شح النفس، فلا تمثل اعتداء على شرع أو عقل. وذلك يقتضي إنشاء جهات رقابة متعددة ومتباينة تتابع حسن الأداء والانتهاكات على السواء.
فالحريات مستند الحقوق من حيث أداؤها لوظيفتها كما تقدم فوجب رعايتها.
3. نشر الوعي بالأخلاق الإسلامية المنضبطة بالضوابط الشرعية الموضوعية، وترسيخ العمل بها في جميع جوانب الحياة، وربطها بالقانون تشريعاً وتطبيقاً لما لذلك من أثر إيجابي بالغ في إصلاح الفرد والمجتمع على السواء وضمان حقوقهما.

ثانياً: بعث الحضارة الإسلامية، ونشر منهجيتها في الحقوق وتفعيلها، والدعوة إليها: وذلك بالعمل على :
1. الرقي بالخطاب الحضاري ليكون خطاب العقل التام إلى العقول الحائرة الباحثة عن كمالها. فخطاب الإسلام خطاب عقل وخلق ورحمة مهداة للعباد ( ) لا غير ذلك( ). وبذلك تنجلي الحجب لتنكشف حقيقة الإسلام للعبد، ويسطع نوره في قلوبهم ونفوسهم.
2. الاعتراف بقانون المدافعة وترسيخ العمل به( ). بمعنى الوقوف بحزم أمام التيارات العقائدية والفكرية التي تضاد الإسلام في منهجيته، مهما كانت القوى الكامنة وراء تلك التيارات، وهذا لا يضاد التعايش الحضاري والتفاعل بين الشعوب، فيما هو حق ونافع لأنه من باب التكامل الإنساني. والتدافع الحضاري سنة كونية ماضية في العباد، ومن لا يعمل بها فإن أحكامها تجري عليه لا محالة فيفوت بذلك على نفسه خيراً، ويلحق به شر قد يصعب الخلاص منه بمجاهدة سنوات طويلة.

المراجع

أولاً: العلوم الإسلامية
1. أبو خزام، أنور فؤاد، معجم مصطلحات الصوفية، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، 1993.
2. أمير بادشاه، محمد أمين، تيسير التحرير على كتاب التحرير لابن همام، مطبعة مصطفى الحلبي، مصر، 1351هـ.
3. الأنصاري، أبو يحيى زكريا، غاية الوصول شرح لب الاصول، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، 1941.
4. الأنصاري، عبد العلي محمد بن نظام الدين، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، دار العلوم الحديثة، بيروت (بلا.ت).
5. ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم الحراني، درء تعارض العقل مع صحيح النقل، دار الكنوز الأدبية، الرياض، 1391 هـ.
6. ابن عربي، الإمام محي الدين محمد بن علي، الفتوحات المكية في معرفة الأسرار المالكية والملكية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1998.
7. ابن قيم الجوزية، كتاب الفوائد، دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، (بلا.ت).
8. ابن مالك، عبد اللطيف بن عبد العزيز بن ملك، شرح المنار وحواشيه من علم الأصول، المطبعة العثمانية، مصر، 1315هـ.
9. البياتي، منير حميد، النظم الإسلامية، دار البشير، الأردن، ط1، 1994.
10. التفتازاني، سعد الدين مسعود بن عمر، شرح التلويح على التوضيح، دار الكتب العلمية، بيروت، (بلا.ت) .
11. الجرجاني، علي بن محمد الحسيني، التعريفات، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، 1938 .
12. الزرقا، مصطفى أحمد، المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي، دار القلم، دمشق، ط1، 1999.
13. الزلمي، مصطفى إبراهيم، أصول الفقه في نسيجه الجديد، الأردن، 1999.
14. السبكي، عبد الوهاب بن علي، جمع الجوامع بحاشية البناني، المطبعة الخيرية، مصر، 1308 هـ.
15. السبكيان، علي بن عبد الكافي، وولده عبد الوهاب بن علي، الإبهاج في شرح المنهاج، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1984.
16. الشاطبي، إبراهيم بن موسى، الموافقات، مطبعة محمد علي صبيح، مصر، 1969.
17. الشكاني، محمد بن علي، إرشاد الفحول، دار الفكر، بيروت، (بلا.ت).
18. العبادي، أحمد بن قاسم، الآيات البينات” شرح على جمع الجوامع”، طبع سنة، 1289هـ.
19. عبد الحليم، محمود، فتاواه، القاهرة، دار المعارف، ط2، 1985.
20. الغزالي، محمد بن محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، دار القلم، بيروت، ط معارج القدس في مدارج معرفة النفس، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط2، 1975 .
21. القرافي، أحمد بن ادريس، الفروق، مطبعة دار إحياء الكتب العربية، مصر، ط1، 1344هـ.

ثانياً: العلوم القانونية
22. أمين، أحمد، زكي نجيب محفوظ، تصنيف لـ : قصة الفلسفة اليونانية، دار الكتب، مصر، ط2، 1935.
23. أفلاطون، جمهورية أفلاطون، دار القلم، بيروت، ط2، 1980.
24. برتراندرسل، تاريخ الفلسفة الغربية، ترجمة زكي نجيب محفوظ، القاهرة، 1957 .
25. بنتام، أصول الشرائع، ترجمة أحمد فتحي زغلول، المؤسسة الوطنية، بيروت، 1967 .
26. الجرف، طعيمة، نظرية الدولة والأسس العامة للتنظيم السياسي، القاهرة، 1966.
27. الدريني، فتحي، الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، مطبعة جامعة دمشق، ط1، 1967.
28. سلامة، أحمد، المدخل لدراسة القانون، (بلا .ت) .
29. السنهوري وحشمت أبو ستيت، أصول القانون، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1973.
30. الشاوي، منذر، مذاهب القانون، بغداد، 1986.
31. الشرقاوي، جميل، دروس في أصول القانون، دار النهضة العربية، القاهرة، 1971.
32. العشري، فؤاد كامل، والصادق، عبد الرشيد، ترجمتها لـ: الموسوعة الفلسفية المختصرة، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1982 .
33. غانم، إسماعيل، محاضرات في النظرية العامة للحق، مصر، ط3، 1966 .
34. كرسون، اندريه، المشكلة الأخلاقية والفلاسفة، ترجمة عبد الحليم محمود وأبو بكر زكري، دار إحياء الكتب العربي، 1946.
35. كيرة، حسن، المدخل إلى القانون، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1971.
36. مجلة القانون والاقتصاد، العدد 3 و 4، السنة العشرون.
37. مصطفى، عمر، ممدوح، تاريخ أصول القانون، مصر، 1960.
38. مظهر، إسماعيل، فلسفة اللذة والألم، مطبعة حجازي، القاهرة، 1936.
39. الوكيل، شمس الدين، محاضرات في النظرية العامة للحق، منشأة المعارف، الاسكندرية، ط1، 1965.

بحث قانوني كبير حول فلسفة الحق في المنظورين الإسلامي والوضعي