بحث قانوني معمق حول التغييرات التشريعية في الولاية علي النفس
معتصم عبدالله الجاك قاضي المحكمة العليا
نص البحث:
مقدمــة :
هذا البحث يتحدث عن التغييرات التشريعية التي حدثت في الولاية على النفس بمحاكم السودان الشرعية خلال تسعين عاماً تقريباً – أي بعد صدور قانون المحاكم الشرعية سنة 1902م.
قانون الأحوال الشخصية للمسلمين في السودان يسير على المرجح من آراء فقهاء الحنفية إلا في المسائل التي تصدر فيها المحكمة العليا – دائرة الأحوال الشخصية – منشورات قضائية للعمل بموجبها أو إصدار قواعد لتفسير أحكام القانون حسب المادة (4) – 2 – من قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م والتي كانت تقابلها المادة (53) من لائحة ترتيب ونظام المحاكم الشرعية.
معنى ذلك أن القضاء السوداني في مجال الأحوال الشخصية له حق الاجتهاد بتغيير المبادئ التي يستهدي بها في قانونه الموضوعي والإجرائي ولم يحدث أن تدخلت السلطة التشريعية لتقنين أحكام الأحوال الشخصية إلا في العام 1991م عندما صدر لأول مرة في السودان قانون مكتوب للأحوال الشخصية مقنناً لذلك الإرث القضائي الذي تبلور خلال تسعين عاماً تقريباً.
مر تشريع الولاية على النفس بأربعة حقب استهدى فيها في كل فترة بسمات معينة نوجزها كالآتي:
الأولى من 1902م حتى 1993م متبعاً لأحكام الفقه الحنفي
الثانية من 1933م حتى 1960م متبعاً لأحكام الفقه المالكي
الثالثة من 1960م حتى 1991م متبعاً لمنهج توفيقي بين المذهبين
الرابعة مــــــن 1991م لم يتقيد فيها بمذهب معين
سأتعرض لأحكام الولاية في الحقب الأربعة المشار إليها مستعرضاً في إيجاز أحكام الولاية في المذهبين الحنفي والمالكي شارحاً للتغييرات التي حدثت في التشريع في المراحل التالية لهما محاولاً إلقاء الضوء على العناوين التالية:
1- الولي وشروطه
2- ترتيب الأولياء
3- غياب الولي
4- العضل
الحقبة الأولى من 1902م حتى 1933م المذهب الحنفي:
(أ ) الولي وشروطه:
كانت المحاكم الشرعية السودانية تستهدي بأحكام الفقه الحنفي وللولي شروط يجب توافرها حتى تثبت له الولاية على نفسه أولاً ثم على غيره ثانياً ، وهي:
1- أن يكون كامل الأهلية ، وكمال الأهلية في نظر الفقه الإسلامي يكون بالبلوغ والعقل والحرية ، إذ الصغير أو المجنون ليس لواحد منهما أهلية الولاية على نفسه والعبد لاشتغاله بخدمة مولاه وقيامه بمطالبه لا يتسع وقته للنظر في شئون غيره ومنافعه مملوكة لسيده ولم يعتبره الفقهاء أهلاً للملكية .
2- أن يكون متحد الدين مع المولى عليه ، ولو كان للصغيرة المسيحية أخوان شقيقان أحدهما مسلم والآخر مسيحي كانت الولاية على تزويجها لأخيها المسيحي ، غير أن الفقهاء استثنوا من هذا الشرط الإمام ونوابه حيث تثبت ولايتهم على المسلمين وغيرهم لأنه صاحب الولاية العامة التي لا تتحقق مصالح الكافة إلا بها ([1]).
تجدر الإشارة إلى أن الإمام أبا حنيفة وأبا يوسف في ظاهر الرواية جعلا للمرأة البكر البالغة الحق في أن تزوج نفسها متى كان الزوج كفؤاً لها والمهر مهـر أمثالها ولا اعتراض لأحد عليها ، كما لها الحق في أن تزوج غيرها أيضاً ، ولكن يستحب أن تكل ذلك إلى وليها حتـى لا تنسب إلى الابتذال ([2]).
(ب) ترتيب الأولياء :
ترتيب الأولياء في الولاية كترتيبهم في الإرث عند الشيخين فيقدم من كان من جهة البنوة أي الابن وابن الابن ، ثم من كان من جهة الأبوة أي الأب وأبو الأب ، ثم من كان من جهة الاخوة ، ثم من كان من جهة العمومة ، وعلى هذا الترتيب تكون الولاية في الزواج للأقرب فالأقرب .
أما إذا لم يوجد ولي عاصب من هؤلاء ، فقد ذهب الإمام ومعه أبو يوسف في الأصح عنه أن الولاية تنتقل بعد العصبات إلى سائر أقارب الزوجة من أصحاب الفروض وذوي الأرحام وحجتهما في ذلك أن الولاية شرعت للنظر في مصالح المولى عليه وتفويض الولاية إلى هؤلاء الأقارب ” وإن بعدوا ” أولى من تفويضها إلى الإمام لأنه مشغول بمصالح العامة ، خلافاً للإمام محمد الـذي يرى أنه ليس لغير العصبات ولاية بل تنتقل بعدهم إلى الإمام.
(ج) غياب الولي:
لا ولاية للأبعد مع وجود الأقرب الذي تحققت فيه شروط الولي ، فإذا فقد الأقرب شرطاً من شروط الولاية انتقلت إلى من يليه ، وإذا كان الأقرب غائباً بحيث لا ينتظر الخاطب الكفء استطلاع رأيه فإن الولاية تنتقل إلى من يليه حتى لا تفوت المصلحة ، وليس للغائب بعد عودته أن يعترض على من باشره ممن يليه لأنه لغيبته اعتبر كالمعدوم وصارت الولاية حق من يليه ([3]).
تجب الإشارة هنا إلى أن هذا الرأي ينفرد به الحنفية ، وهو انتقال الولاية لمن يلي الولي الغائب وهذا الرأي أخذ به القانون السوداني منذ العام 1933م الذي صدر فيه المنشور الشرعي (35).
(د) العضل:
كما تجدر الإشارة إلى أن الحنفية يقسمون الولاية على النفس إلى قسمين ولاية ندب واستحباب كالولاية على البالغة العاقلة بكراً كانت أو ثيباً ، وتسمى ولاية إختيار وولاية بشركة لأنه ليس للولي فيها أن يجبر من تولى عليها بل ينبغي أن يكونا متفاهمين ومتلاقيين على مراد واحد . وولاية إجبار وهي الولاية على الصغير والصغيرة والمعتوه والمعتوهة والراجح أن السبب في ولاية الإجبار هي الصغر في الصغير وقصور العقل في المجانين والمعاتيه . أما الصغيرة فقد اختلف الفقهاء في علة الولاية عليها ، فقال الشافعي ومالك وأحمد على قول أن العلة هي البكارة التي تثبت الولاية بموجبها حتى بعد البلوغ ، لأن البكر لا تعرف مصالح النكاح ولا تدرك التفاوت بين الرجال . ويرى أبو حنيفة وأصحابه أن علة الولاية في الصغيرة مثلها في الصغير ، لأن الصغر سبب العجز الذي استوجب الولاية لسد القصور وتفادي الضرر ، والقول باستمرار الولاية على البكر بعد البلوغ عند الحنفية يعارض الثابت من المأثور الذي ينص على وجوب استئثار النساء في ابضاعهن . وإذا كان البلوغ سبباً في ولاية البالغة الرشيدة على مالها ، فينبغي كذلك أن تثبت ولايتها أمر زواجها مشتركة مع وليها أو منفردة على رأي لذلك أيضاً يرى الأحناف أن امتناع الولي عن تزويج من له حق الولاية عليها بكفء وبمهر المثل بغير عذر مقبول فإن الولاية في هذه الحالة لا تنتقل إلى من يليه بل تنتقل للقاضي لأن العضل ظلم وولاية رفع المظالم للقاضي.
الحقبة الثانية من 1933 حتى 1960 – المذهب المالكي
لما كانت أغلبية المسلمين في السودان تقلد المذهب المالكي نجد أنهم لم يقبلوا أن تستقل المرأة بالتزوج ممن تشاء دون إذن وليها ، بل إن مجرد استشارتها لم يكن أمراً مقبولاً ، فنجد أن المشرع أصدر المنشور (53) للمحاكم طالباً منها التقيد بأحكامه المأخوذة من الفقه المالكي ومعنى ذلك إلغاء حق البكر البالغة من أن تلي أمر زواجها مستقلة عن وليها . ولنستعرض الأحكام الواردة في الموضوع :
(أ ) شروط الولي عند المالكية :
1- الذكورة ، فلا تصح ولاية الأنثى ولو ملكة
2- الحرية ، فلا تصح ولاية عبد ولو بشائبه
3- البلوغ ، فلا يصح من صبي ولاية
4- العقل ، فلا تصح ولاية مجنون ومعتوه وسكران
5- الإسلام ، فلا يصح أن يتولى عقد النكاح كافر ولو كان أباها ، أما الكافرة الكتابية يتزوجها مسلم فيجوز لأبيها الكافر أن يعقد لها عليه وإن زوج مسلم بنته الكافرة لكافر ترك (الخلو) أي خلو الولي من (الإحرام) بحج أو عمره ([4]) ولم يشترط المالكية في الولي العدالة أو الرشد ، ولا يعد الخرس ولا العمي ولا الإغماء في الأصح من موانع الولاية.
تنقسم الولاية عند المالكية إلى نوعين – ولي مجبر – وهو:
1- للأب ، أي أن له جبر بنته البكر البالغ على الزواج بمن يراه ولو بدون صداق المثل ولو لمن هو ليس بكفء لها أو لقبيح منظر ([5]).
2- لوصي الأب ، بشرط أن يوصيه الأب صراحة بالجبر كأجيرها أو زوجها قبل البلوغ وبعده أو يعين له الزوج ، وقد نصت المادة (8) من المنشور الشرعي (35) أن له الحق في الجبر ولو جاءت الصيغة معممة . وجمهور الفقهاء يرى أن الإيصاء في الزواج لا يصح لأن الإنكاح إلى العصبات بنص الحديث.
ولكن المالكية يشترطون على وصي الأب لو أراد جبر الموصي على زواجها ألا يزوجها بفاسق وأن يكون المهر مهر أمثالها.
من تثبت عليه ولاية الإجبار:
1- البكر الصغيرة
2- وكذلك البكر البالغة غير العانس خلافاً للحنفية
3- البكر البالغ العانس على المشهور والعانس هي التي طالت إقامتها عند أبيها وعرفت مصالح نفسها ولم تتزوج ، واختار المنشور (35) أن البكر البالغ العانس التي بلغت ثلاثة وثلاثين عاماً لا تجبر (مادة 3).
4- الثيب التي طلقها زوجها أو مات عنها قبل البلوغ ثم بلغت قبل النكاح فلا تجبر على قول ابن القاسم وبه أخذ المنشور الشرعي (مادة 5).
5- الثيب البالغة إن ثيبت بعارض أو بغصب على المشهور واختلف فيمن ثيبت بزنًى.
6- الثيب البالغة إذا ظهر فسادها وعجز وليها عن صونها يجبرها أبوها على الزواج.
7- المجنونة جنوناً مطبقاً ولو ولدت الأولاد ، أما من تفيق فينتظر إفاقتها حيث كانت ثيباً بالغاً.
8- الابن الصغير لمصلحة كتزويجه من شريفة أو غنية أو بنت عم ([6]).
أحكام عامة تتعلق بولاية الإجبار:
لا يملك الولي جبر موليته التي له عليها حق الإجبار على زواج ذي عاهة موجبة للخيار وهو:
1- الخصي 2- المجنون 3- الأبرص 4- المجذوم 5- العنين.
مادة (3) من المنشور (35) وسائر المعيبين بعيب يرد به الزوج.
ــــــــــــــــــــ
1) أقرب المسالك ج (2) ص 235 وما بعدها
الولي غير المجبر:
هو من له حق تزويج موليته لكن بشرط أن ترضى بالزوج والمهر وتأذن له في تولي العقد ، والأولياء غير المجبرين هم:
1- العصبة :
وهم مرتبون في الأحقية كالآتي:
(أ ) الابن ولو من زنا ما لم تكن المرأة مجبرة
(ب) ابن الابن وإن نزل
(ج) الأب الشرعي
(د ) الأخ لغير الأم ويقدم الأخ الشقيق على الأخ لأب
(هـ) ابن الأخ وإن سفل
(و) الجد الأدنى
(ز) العم الأدنى
(ح) ابن العم
(ط) أبو الجد
(ي) عم الأب ([7]).
2- المولى الأعلى : وهو من أعتق المرأة
3- الكافل: وهو من قام بأمور المكفولة حتى بلغت عنده والمراد بالمكفولة من مات أبوها وغاب أولياؤها وأن تمضي عند الكافل مدة توجب الشفقة والحنان وأن تكون دنيئة ، فإن لم تكن دنيئة فلا يزوجها إلا الحاكم ، ولكن المادة (5) من المنشور الشرعي جرت على أن الكافل للمكفولة دنيئة كانت أو شريفة وهو رأي في المذهب المالكي ؟ أي لم يفرق بين الدنيئة أو الشريفة ، والدنيئة هي من لا قدر لها أي ليست ذات مال ولا جمال ولا حسب.
4- الحاكم: وهو السلطان أي القاضي وإن كان يأخذ أجراً على توليه العقد ، ولا يتولى الحاكم التزويج إلا بعد أن يتحرى ويثبت عنده الآتي:
(أ ) خلوها من المرض
(ب) خلوها من الموانع الشرعية
(ج) أن الزوج كفء لها في الدين والعمل بالأحكام الشرعية والحرية والحال (أي السلامة من العيوب).
(د ) أن المهر مهر أمثالها
(هـ) رضاها بالزوج.
وإتيان الكفاءة ومهر المثل إنما يحتاج إليه في غير الرشيدة ، إذ أن الرشيدة لها الحق في إسقاط الشرطين ، ولو عقد الحاكم من غير بحث في هذا الأمر جاز.
5- الولاية العامة: تثبت لكل مسلم ( أنظر المادة (5) من المنشور(35) ([8]) من
تثبت عليها ولاية الاختيار:
أي من لا يستبد الولي بتزويجها بدون إذنها وهن:
1- البالغة إذا زالت بكارتها بنكاح صحيح أو فاسد
2- البالغة البكر التي رشدها أبوها في زواجها ومالها
3- البالغة البكر التي أقامت مع زوجها سنة من حين مباشرة الزوج لها وأنكرت الوطء بعد فراقهما
4- الصغيرة اليتيمة البالغة من العمر عشر سنين وخيف فسادها ، وكذلك الصغيرة التي غاب عنها الأب وقطع النفقة وخشي عليها الضيعة يزوجها الحاكم ، المادة (17) من المنشور نصت أن العقد يصح بولي أبعد مع وجود ولي أقرب غير مجبر كعم مع أخ أو أب مع ابن أو أخ لأب مع أخ شقيق ، وكما يجوز تزويج الأبعد مع وجود الأقرب فإنه يجوز تزويج أحد المتساويين بدون إذن الآخر كأن يزوج أحد الأعمام أو الأخوة الأشقاء من غير أن يأذن له من يساويه في الولاية.
غيبة الولي المجبر:
إذا غاب الولي المجبر غيبة قريبة ( وهي تقدر بعشرة أيام ذهاباً ) أو كان حاضراً ثم زوج غيره من الأولياء ابنته بدون إذن أو تفويض منه فإن النكاح يفسخ أبداً بطلقة بائنة ولو أجازه المجبر بعد علمه ولو ولدت المرأة الأولاد ولكن يشترط لقبول اعتراض الولي المجبر:
(أ ) أن يكون منفقاً على موليته
(ب) أن تكون موليته غير مخشي عليها الفساد
(ج) أن تكون الطريق مأمونة إلى الجهة التي غاب إليها لإمكان وصول الخبر إليه بلا مشقة.
فإن فقد شرط من الشروط الثلاثة فالقاضي هو الذي يزوجها لا غيره . ثم إنه يشترط أيضاً لفسخ الزواج في هذه الحالة ألا يكون الولي المجبر قد قصد بغيبته الإضرار بابنته ، فإن ثبت ذلك كتب له الحاكم بالحضور أو أن يوكل غيره وإلا زوجها عليه لأنه صار كالعاضل – أنظر المادة (22) من المنشور.
اختلف المالكية في تقدير الغيبة البعيدة ( كأفريقية من مصر ) وقيل ما استغرق زمن الوصول إليه ثلاثة أشهر ولم يرج قدومه فالحاكم هو الذي يزوج موليته بإذنها دون غيره من الأولياء ، وذلك لأن الحاكم ولي من لا ولي له وهو ولي الغائب وهو مجبر ولا كلام لغيره معه . المادة (3) من المنشور ذكرت أن المعتبر في الغيبة خوف الفساد وعدمه ، أما طـول الإقامة وقصرها فلا عبرة به . أما الغائب الذي لا يعلم موضعه كالأسير والمفقود فإنه يعتبر ميتاً وتنتقل الولاية لمن بعده على المشهور ولكن ينبغي أن يثبت الولي عند الحاكم طول غيبة الأب وانقطاع خبره والجهل بمكانه – أنظر المادة (25) من المنشور.
العضل عند المالكية:
الولي المجبر:
يكون الولي المجبر عاضلاً لمجبرته إذا تحقق منه قصد الإضرار بها ، ولا يكون مجرد رده للكفء الذي خطبها ورضيت به عضلاً – ولو تكرر منه الرد – سواء كان الخاطب الذي رده واحداُ أو كانوا أكفاء متعددين ، وإنما لم يعتبر الأب عاضلاً بالرد لأنه لا يجب عليه الإجابة لكفئها لأن له جبرها إلا لمن استثناهم فيما سبق ، ولأن ما جبل عليه الأب من الحنان والشفقة مع جهل البنت بمصالح نفسها يجعله لا يرد الخاطب إلا إذا علم ما لا يوافق ، وقد روي أن الإمام مالك منع بناته وقد رغب فيهن خيار الرجال وفعله العلماء قبله وبعده وحاشاهم أن يقصدوا الضرر ( دسوقي 270 – 271 ).
قال الدردير: هذا وإذا عضل المجبر مجبرته أمره الحاكم بالتزويج فإن امتثل فيها وإلا زوجها الحاكم.
الولي غير المجبر:
إذا خطب المرأة الكفء ورضيت وجب على وليها غير المجبر أن يزوجها منه ، وكذا يجب عليه إجابة طلبها إن أرادت هي كُفْءً وأراد هو كفئاً غيره لأن تزويجها بالكفء الذي أرادته أدعى لدوام العشرة بينهما ، فإذا امتنع الولي غير المجبر في هاتين الحالتين سأله الحاكم عن وجه امتناعه فإن أبدى وجهاً مقبولاً ردها إليه ، وإن لم يبد وجهاً صحيحاً اعتبر عاضلاً ، لأن عدم إجابة طلبها من غير عذر مقبول مع كونها مضطرة لعقده فيه ضرر لها.
إذا عضل الولي غير المجبر موليته أمره الحاكم بتزويجها فإن امتنع من تزويجها بعد الأمر زوجها الحاكم أو وكل من يعقد عليها ولو أجنبياً عنها.
الحقبة الثالثة من 1960 حتى 1991م:
في 3 ذي الحجة 1379هـ الموافق 28/5/1960م صدر المنشور رقم (54) من محكمة عموم السودان الشرعية وقد جاء في صدره ما يلي : ” يلغى المنشور رقم (35) وملحقاته ويستبدل بالآتي : ” . ويلاحظ أن أهم ما جاء في المنشور هو اشتراطه الولي لصحة الزواج مادة (21) وهو في هذا يتفق مع المالكية والجمهور ، كما أسقط حق الإجبار للولي وأعطى البكر البالغة الحق في عدم إجبارها على الزواج لمن يراه الولي وهو في هذا يتفق مع الأحناف.
ترتيب الأولياء:
هو نفس ترتيب الأولياء المنصوص عليه في المادة (15) من المنشور (35) مع إسقاط عبارة ” إذا لم تكن المخطوبة مجبرة ” وهو في هذا أيضاً يتفق مع المالكية ويختلف في ترتيب الأولياء في المذهب الحنفي ([9]).
غياب الولي:
المادة (4) من المنشور (54) نصت أنه إذا تزوجت المرأة بالولاية العامة وكان لا ولي خاص موجود في مكان العقد أو في مكان قريب يمكن أخذ رأيه فيه ، فإن العقد يفسخ أبداً دخل بها الزوج أم لا طال الزمن أم قصر ولو أجازه الولي الخاص وأنه لا فرق بين الدنيئة والشريفة.
هذه المادة تقابل المادة (16) من المنشور (35) وإن اختلفت معها في التفاصيل التي حسمها المنشور (54) بإسقاط حق الإجبار وبعدم التمييز بين الشريفة والدنيئة وبالدخول وعدمه .
كما أن المادة (5) من المنشور (54) نصت على صحة العقد إذا تولاه أحد وليين متساويين في القرابة كعمين أو أخوين بدون إذن الآخر وهو متفق في ذلك مع مذهبي الحنفية والمالكية.
المادتان السادسة والسابعة من المنشور (54) بينتا الأحكام التالية والتغيير الذي أحدثه المنشور:
1- أن الولي لا يزوج موليته البالغة سواء كانت بكراً أم ثيباً إلا إذا أذنته في تزويجها ، ورضيت بالزوج والمهر . وهذا الحكم يختلف اختلافاً أساسياً عما كان عليه العمل في المحاكم السودانية التي كانت تثبت ولاية الإجبار للأب ووصيه بشروط خاصة على البكر البالغة ، فليس للولي الآن حق الإجبار.
2- أن المرأة مصدقة في دعواها البلوغ إلا إذا كذبها الظاهر.
3- أن سكوت البكر يعتبر رضاً بالزوج والمهر.
4- أن الولي إن زوج البكر البالغة رغم رفضها صراحة أو دلالة للزوج فإن العقد يكون باطلاً ويفسخ ولو أجازته بعد ذلك.
5- إن الولي إذا عقد على البكر البالغ من غير استئذانها ثم أخبرها بالعقد فلابد من قبولها بالقول صراحة فإن لم تقبل فسخ العقد.
يجدر أن نذكر هنا أن المادة (5) من المنشور (54) نصت أنه إذا رفض الولي تولى العقد من غير عذر شرعي يعتبر عاضلاً وأن الذي يتولى زواج المرأة في هذه الحالة هو القاضي . غير أن المادة (5) أجازت تولي الولي الأبعد العقد في حالة العضل وإن كان الحق للقاضي.
الحقبة الرابعة والتي بدأت بالعام 1991م
في 24/7/1991م صدر لأول مرة في السودان قانون مكتوب للأحوال الشخصية للمسلمين وقد نصت المادة 2(ب) على إلغاء عدد من المنشورات ومن بينها المنشور (54) وملحقاته ، ويلاحظ أن القانون أبقى على أحكام المنشور (54) مع بعض التعديلات نذكرها في الآتي:
الولي وشروطه:
المادة (25) من القانون تحدثت عن شروط العقد ليكون صحيحاً بثلاثة أركان هي:
(أ ) إشهاد الشاهدين
(ب) عدم إسقاط المهر
(ج) الولي بشروطه طبقاً لأحكام القانون.
وقد بينت المادة (32) ذلك حين عرفت الولي في الزواج بأنه العاصب بنفسه على ترتيب الإرث ، ومعنى ذلك أن القانون أبقى على حكم اشتراط الولي مخالفاً بذلك المذهب الحنفي ، إلا أنه عاد ليتفق مع الحنفية حين عرف الولي بأنه العاصب بنفسه على ترتيب الإرث ، وبذلك يكون القانون قد خرج على حكم المنشورين (35) و(54) من ترتيب الأولياء.
المادة (33) اشترطت في الولي أن يكون ذكراً عاقلاً بالغاً مسلماً إذا كانت الولاية على مسلم ، وهي نفس شروط المالكية والجمهور.
ترتيب الأولياء:
المادة (379) من القانون عرفت العاصب بنفسه كما يلي:
العصبة بالنفس جهات مقدم بعضها على بعض وفقاً للترتيب الآتي:
(أ ) البنوة وتشمل الأبناء وأبناء الابن وإن نزلوا
(ب) الأبوة وتشمل الأب لوحده
(ج) الجدود والاخوة وتشمل أب الأب وإن علا والأخ الشقيق والأخ لأب
(د ) بني الاخوة وتشمل أبناء الاخوة الأشقاء أو لأب وإن نزلوا
(هـ) العمومة وتشمل العم الشقيق والعم لأب وأبناءَهم وإن نزلوا.
غير أن القانون أخذ برأي الإمام محمد في مذهب الحنفية عندما قصر الولاية على العصبة فقط خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف اللذين أجازا لذوي الأرحام تولي العقد باعتبارهم من الورثة عند انعدام الوصية ، وقد صرف القانون الولاية في هذه الحالة للحاكم حسب نص المادة (38) بأن القاضي ولي من لا ولي له.
ويلاحظ أيضاً أن الفقرة (2) من المادة (32) نصت أنه إذا استوى وليان في القرب فيصبح الزواج بولاية أيهما ، وبهذا يتفق القانون مع مذهبي الحنفية والمالكية.
غياب الولي:
الفقرة (3) من المادة (32) من القانون تحدثت عن الحالة التي يتولى فيها الولي الأبعد العقد مع وجود الولي الأقرب وبغير إذنه ، فقالت إن العقد يكون موقوفاً على إجازة الأقرب ، وهذا يعني أن القانون أخذ برأي المذهب الحنفي باعتبار الأبعد فضولياً ، مع أن رأي المالكية هو الصحة حسب نص المادة (17) من المنشور (35).
الفقرة (4) من المادة (32) من القانون نصت أنه يصح العقد بإجازة الولي الخاص إذا تزوجت امرأة بالولاية العامة مع وجوده في مكان العقد أو في مكان قريب يمكن أخذ رأيه فيه ، فإن لم يجز فيكون له الحق في طلب الفسخ ما لم تَمْضِ سنة من تاريخ الدخول . المادة (4) من المنشور (54) قالت أنه في هذه الحالة يفسخ العقد دخل بها أم لم يدخل طال الزمن أو قصر ولو بعد إجازة الولي الخاص . إذن القانون يختلف مع المنشور (54) ومع المنشور (35) الذي نصت المادة (16) منه على التفريق بين الولي المجبر وغيره والمرأة الدنيئة وحكم العقد في الحالتين . والمالكية حددوا زمناً للفسخ واشتراط الدخول باختلاف المرأة والولي . والقانون لم يقل بذلك.
العضل في القانون:
المادة (34) الفقرة (1) من القانون نصت أن البكر البالـغ يزوجها وليها بإذنها ورضاها بالـزوج والمهـر ويقبل قولها فـي بلوغها ما لم يكذبها الظاهر . هذه المادة هي نفسها المادة (6) من المنشور (54) والتي توافق رأي الأحناف.
كما أن الفقرة (2) من المادة (34) من القانون تتفق مع المادة (7) من المنشور (54) في لزوم قبول البكر إذا عقد عليها وليها فلابد من قبولها صراحة.
المادة (37) من القانون تحدثت عن أن القاضي يتولى تزويج البكر البالغة إذا امتنع الولي عن تزويج موليته متى طلبت الزواج وثبت له أن وليها ممتنع عن التزويج بلا مسوغ شرعي وهو في هذا يتفق مع رأي الفقهاء أنه في حالة العضل يتولى القاضي التزويج.
يلاحظ أن القانون نص في المادة (40) الفقرة (2) أن يكون التمييز ببلوغ سن العاشرة مع ملاحظة أن المنشورات الشرعية تحدثت عن القاصرة التي بلغت العاشرة ولم يتحدث المنشوران عن سن التمييز بل اشترطا أن تبلغ القاصرة سن العاشرة للزواج بها وهو في هذا يعتبر أيضاً مخالفاً لقانون المعاملات المدنية السوداني لسنة 1984م والذي نص في المادة (22) الفقرة (4) أن سن التمييز هي سبع سنوات متفقاً بذلك مع المذهب الحنفي.
الخاتمـة
1- هذا البحث الغرض منه إعطاء فكرة عن مراحل التشريع السوداني في مجال الأحوال الشخصية فيما يتعلق بالولاية على النفس وملحق بهذا البحث المنشوران الشرعيان رقم (35) ورقم (54) وملحقاتهما ، غير أنه يجب الإشارة إلى أن التشريع السوداني في الفترة التي أخذ فيها برأي المالكية ( 1933م – 1960م ) رجع للأخذ برأي الحنفية في حالة غياب الولي الأقرب بحيث لو انتظر حضوره يخشى فوات الزوج الكفء فتزوج بولاية الأبعد وقد مشى على ذلك الأمر في التشريعات اللاحقة.
2- يلاحظ أن المذهب المالكي أكثر تفصيلاً في مجال الولاية على النفس
3- تتفق كل المذاهب في الحكم بالعضل
4- الحنفية بالرغم من إجازتهم تولى البكر البالغ العقد إلا أنهم يحبذون أن يلي عقد الزواج وليها الذكر حتى لا تنسب إلى الابتذال وذلك مراعاة لظروف اجتماعية تترتب على الزواج.
5- إن التغييرات التي مر بها التشريع السوداني تعكس التطورات الاجتماعية المختلفة التي مر بها ذلك المجتمع.
6- إن سلطة التشريع في مجال الأحوال الشخصية التي تميز بها القضاء السوداني ظاهرة جديرة بالدراسة ، وآمل أن أتعرض لها في مقال لاحق بإذن الله.
7- أن هناك رأياً وسطاً قال به الفقهاء المعاصرون ومنهم أستاذنا الكبير الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير في كتابه محاضرات عن نظام الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية بالسودان ص (26) حين قال : ” والذي أراه أن الحق بين هذين الأمرين لأن الأدلة التي اعتمد عليها كل من الفريقين – الحنفية والمالكية – لا تؤيد دعواه تأييداً كاملاً ، وأن النظر فيها مجتمعة يؤدي إلى رأي وسط هو أن عقد الزواج لابد فيه من رضاء المرأة ووليها ، وحتـى يتحقق رضاهما فأيهما باشر العقد صح الزواج ، لا فرق بين الولي والمرأة الكاملة الأهلية ، والواقع أنه إذا رضي الولي والمرأة بالزواج فإن الشيء الطبيعي أن يتولى الولي العقد ، ومباشرة المرأة عقد زواجها بنفسها لا يحصل في العادة إلا في حالة النزاع بينها وبين وليها.
وهذا الرأي الذي نرى الأخذ به وقال به كثير من الفقهاء المعاصرين وهو منقول عن أبي ثور من مجتهدي الشافعية وهو الذي يحصل به التوفيق بين النصوص ويتفق مع المعقول ويحقق مصلحة الأسرة.
المراجـع
1- أقرب المسالك والشرح الصغير ج (2) للعلامة الدردير.
2- الأحوال الشخصية حسب المعمول به في المحاكم الشرعية المصرية والسودانية والمجالس الحسبية للأستاذ معوض محمد مصطفى سرحان.
3- محاضرات عن نظام الأحوال الشخصية المطبق في المحاكم الشرعية بالسودان للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير.
4- أحكام الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية وما يجري عليه العمل في المحاكم الشرعية الإسلامية ( في لبنان ) للشيخ حسن خالد وعدنان نجا.
5- قانون الأحوال الشخصية للمسلمين السوداني لسنة 1991م.
6- المنشور الشرعي رقم (35) وملحقاته
7- المنشور الشرعي رقم (54) وملحقاته
8- قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1991م .
بحث قانوني معمق حول التغييرات التشريعية في الولاية علي النفس