بحث عن تطبيق الأحكام الشرعية على مواقعها

أ.د. عبد الرحمن الكيلاني / كلية الشريعة – الجامعة الأردنية

ملخص

يتناول هذا البحث دراسة موضوع تطبيق الأحكام الشرعية على مواقعها ومحالها بما يتوافق مع مقاصد التشريع وحِكمه ومصالحه.
ويظهر الباحث أن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية منهج اجتهادي أصيل قررته آيات الكتاب الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والتزمه علماء الأمة رضوان الله عنهم في فتاواهم واجتهاداتهم.
ويكشف البحث عن المرتكزات العامة التي يجدر بالفقيه اعتمادها حتى يكون تطبيقه للأحكام تطبيقا مقاصدياً محققاً لمصالح العباد في العاجل والآجل، وينبه على أهمية مراعاة هذه المرتكزات في الاجتهاد الفقهي المعاصر من خلال فهم الواقع الذي ينزَل عليه الحكم الشرعي، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والتحقق من انطباق علة الحكم في الواقعة الجديدة، والنظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة.
وينتهي الباحث إلى أن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية ضرب من ضروب الاجتهاد، ينبغي أن تتحقق فيه جميع شروط الاجتهاد وضوابطه ومعاييره.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
لم تنفك آيات الكتاب العزيز عن التأكيد على ارتباط أحكام الشريعة الإسلامية بالحِكَم والمقاصد والمصالح التي تغياها الشارع في التشريع، حيث يجد الناظر في كتاب الله الكريم الارتباط الوثيق بين الأحكام الشرعية التي تتعلق بأفعال المكلفين من جهة، وبين المصالح الحيوية التي ستتمخض عن امتثال هذه الأحكام من جهة أخرى.
وهذا ظاهر في العديد من الآيات الكريمة التي عبّرت عن هذا المعنى من مثل قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ) [179: البقرة]، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [183: البقرة]، وقوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ) [60: الأنفال]، وقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) [103: التوبة] إلى غيرها من الآيات الكثيرة الأخرى التي أرشدت إلى أن التكليف ليس مجرد أوامر ونواه فقط، وإنما هو قبل ذلك وبعده حِكم ومصالح وغايات ومقاصد تتحقق بها سعادة الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية جمعاء.
ومثل هذا نجده أيضاً في أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي عزّزت الاقتران بين الأحكام الشرعية وبين مصالحها المتوخاة منها، وأن الأحكام لم تشرع عبثاً وإنما شرعت لمصالح حيوية تكفل تحقيق أمن الإنسان واستقراره وسعادته.
وبناءً على هذا المنهج التشريعي الثابت في كتاب الله الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قرر العلماء “أن التكاليف كلَّها راجعة إلى مصالح العباد في دنياهم وأخراهم”([1]).
و”أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجيح خير الخيرين وشرّ الشّرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما”([2]).
و”أن أوامر الشرع تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة، ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة”([3]).
ولقد أفرز هذا الوعي بأهمية المصالح وارتباطها بالتشريع الإسلامي ارتباطاً مطرداً، اشتراط العلماء في المجتهد الذي يريد التصدي للنوازل والقضايا المختلفة أن يكون محيطاً بمقاصد التشريع. وهذا ما نبّه إليه الإمام تقي الدين السبكي في مؤهلات العالم حتى يصل إلى كمال رتبة الاجتهاد بقوله: “أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشرع من ذلك، وما يناسب أن يكون حكماً لها في ذلك المحل، وإن لم يصرح به”([4]).
ومثله أيضاً قول الشاطبي: “إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها.
والثاني: التمكّن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها”([5]).
ولهذا فإن العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية شرط ضروري في سبيل سلامة عمل المجتهد، سواء أكان مجال الاجتهاد هو في فهم النّص واستنباط مدلوله منه، أم كان مجاله في تطبيق الأحكام الشرعية على الأفراد والأفعال والمواقع المناسبة، ذلك أن النظر الاجتهادي كما يكون في فهم النص واستنباط معانيه، فكذلك يكون في تطبيقه على أفراده وجزئياته المناسبة.
وقد وجدتُ أثناء دراستي لموضوع تطبيق الأحكام الشرعية أنها عملية منهجية دقيقة تخضع لجملة من الشروط والمعايير والضوابط التي ينبغي على المجتهد أن يستحضرها ويحيط بها، وأن العلماء قد تنبهوا إلى أهمية عملية تطبيق الأحكام الشرعية، وأشاروا إلى جملة من شروطها ومعاييرها عند تناولهم لموضوع تحقيق المناط الذي يعتبر العمود الفقري لعملية تطبيق الأحكام الشرعية.
والناظر في الضوابط التي يحتكم إليها في عملية تطبيق الأحكام الشرعية يجد أن من أبرزها وأظهرها، النظر العميق لمقاصد الشريعة الإسلامية، والإدراك الواعي للغايات والمصالح التي شرعت الأحكام من أجلها، ووجه اشتراط هذا الضابط: أن الحكم قد شرع ابتداءً لتحقيق مقصد شرعي، فكان لا بد أثناء التطبيق أن يحقق الحكم هذا المقصد الذي شرع من أجله حتى يكون التطبيق على الوجه الذي أراده الشارع وتغيّاه، وإلا وقع التفاوت والاختلاف بين التشريع الذي يهدف إلى تحقيق مصالح معينة، وبين التطبيق الذي لا يعير هذه المصالح أي أهمية وينزِّل الحكم الشرعي على الأفراد بطريقة آلية مجردة، دون أيِّ اعتبار للنظر المقاصدي الكلي العميق.
وعلى الرغم من حداثة مصطلح “التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية” وعدم وروده في أمهات الكتب والمصنفات الأصولية، فلقد عرف علماء الأمة السابقون أهمية مراعاة المقاصد أثناء تطبيق الأحكام الشرعية، وتجلّت هذه المعرفة من خلال العديد من الأصول والقواعد التي أرسوها وصاغوها من مثل: الاستحسان، وسدَ الذرائع، والعرف، وقواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة، وغيرها كثير من المفردات التي تعتبر من تجليات الاجتهاد المقاصدي في تطبيق الأحكام الشرعية، وتعبِّر في مجموعها عن أن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية ليس منهجاً جديداً حادثاً، وإنما هو منهج أصيل له شواهده وتجلياته وتطبيقاته في كثير من المواطن التي يزخر بها العطاء الأصولي والفقهي الذي تركه لنا علماء الأمة جزاهم الله خير الجزاء.
ومن هنا جاء العديد من الدراسات المعاصرة التي نبّهت إلى أهمية مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية عند تنزيل الأحكام الشرعية على مواقعها ومحالها المختلفة من مثل كتاب: “فقه التدين فهماً وتنزيلاً” للدكتور عبد المجيد النجار، و”نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي” للدكتور أحمد الريسوني، و”في الاجتهاد التنزيلي” للدكتور بشير بن مولود جحيش، وغيرها من الدراسات والأبحاث القيمة التي أشارت إلى البعد المقاصدي عند تطبيق الأحكام الشرعية.
وعلى الرغم من أهمية هذه الدراسات والجهود المبذولة فيها، فإنني وجدت أن موضوع التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية ما زال يحتاج إلى المزيد من البحث والتحرير والضبط، لا سيما في مجال تحرير المصطلح، وإظهار الحجية، وقبل هذا وذاك، تحديد المرتكزات وإبراز الأسس التي ينبغي على المجتهد تمثلُّها، حتى يكون تطبيقه للأحكام الشرعية تطبيقاً مقاصدياً محققاً لمصالح العباد في الآجل والعاجل معاً.
ومن أجل ذلك كله، كان هذا البحث الذي آمل أن يساهم في تكميل بعض الجوانب التي ما زالت بحاجة إلى بحث ودراسة في هذا الموضوع، وفي سبيل ذلك فسأمضي على وفق الخطة الآتية:
المبحث الأول: حقيقة التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية وحجيته، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حقيقة التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية.
المطلب الثاني: حجية التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية.
المبحث الثاني: مرتكزات التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: فهم الواقع الذي ينزَل عليه الحكم الشرعي.
المطلب الثاني: الموازنة بين مصلحة الأصل ومفسدة التطبيق، ومفسدة الأصل ومصلحة التطبيق.
المطلب الثالث: التحقق من انطباق علة الحكم في الواقعة الجديدة.
المطلب الرابع: النظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة.
والله أسأل أن يوفقني فيما أنا بصدد بحثه ودراسته إنه نعم المولى ونعم النصير.

المبحث الأول حقيقة التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية وحجيته

أتناول في هذا المبحث دراسة المطلبين الآتيين:

المطلب الأول: حقيقة التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية.
أولا: التعريف بـ(التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية) بوصفه مصطلحاً مركباً:
يلزم الباحث في التعريف بـ(التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية) أن يوضح أولاً مدلول هذا المصطلح بوصفه مركباً من مصطلحين هما:
أولاً: تطبيق الأحكام الشرعية.
ثانياً: مقاصد الشريعة الإسلامية.

1- التعريف بـ(تطبيق الأحكام الشرعية):
تطبيق الأحكام الشرعية من المصطلحات المعاصرة التي لم تحظ بتعريف خاصّ محدد، وقد وجدت بعد البحث والدراسة أنه يمكن تعريفه بأنه: تنزيل الحكم الشرعي على الوقائع والأفراد والجزئيات المناسبة.
وبيان ذلك: أن الحكم الشرعي بعد أن يستنبط وفق قواعد الاستنباط المعتبرة تأتي مرحلة تطبيقه على الوقائع والأفراد التي تصلح أن تكون جزئيات مناسبة لتطبيق الحكم عليها، لأن طبيعة الحكم الشرعي تتسم بالتجريد والعموم، ومن هنا فلا بدّ من تعيين المحال والوقائع والأفراد التي ينزّل عليها هذا الحكم، وإلا بقي الحكم محلقا في سماء التجريد والتنظير.
مثال ذلك: قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [60: التوبة]، فالآية ظاهرة المعنى على إعطاء الفقراء نصيباً من الزكاة، واعتبارهم المصرف الأول من مصارفها، وهذا المعنى الكلي الذي يرشد إليه ظاهر الآية الكريمة بحاجة إلى تطبيق من خلال تعيين الأفراد الذين تحقق فيهم وصف الفقر فعلا لإعطائهم حقهم من الزكاة المفروضة، وتمييزهم عن غيرهم ممن لم يتحقق فيه هذا الوصف ولا يستحقون شيئا من الزكاة. وهذا التعيين للأفراد والجزئيات التي تصلح أن تكون محلا للحكم الشرعي، هو ما نقصده بتطبيق الحكم الشرعي.
ومثاله أيضاً قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ) [38: المائدة]، حيث تدل الآية بظاهرها على وجوب قطع يد السارق بناء على القاعدة المقررة “الأمر المطلق يدل على الوجوب “والنظر في تعيين الأفراد الذين تحقق فيهم وصف السرقة لإقامة الحد عليهم، وتبين الوقائع التي يصدق عليها معنى السرقة، هو من قبيل تطبيق الحكم الشرعي عن طريق النظر في تعيين محاله التي تصلح لتنزيل الحكم الشرعي عليها.
والأصوليون وإن لم يتناولوا مصطلح (تطبيق الأحكام الشرعية) بوصفه مصطلحاً خاصاً يدل على معنى مخصوص، فإنهم قد أرشدوا إلى جوهر معنى التطبيق من خلال مبحث تحقيق المناط والذي يعني: “أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله”([6]).
ولا أتجاوز الحقيقة إذا قلت: إن تحقيق المناط هو العمود الفقري الذي ترتكز عليه عملية تطبيق الأحكام الشرعية بأسرها، وأن تنزيل الأحكام على جزئياتها من حيز التنظير إلى حيز التطبيق لا يتمُّ إلا من خلال تحقيق المناط، من جهة كونه نظراً في انطباق المعنى العام على جزئياته، سواء أكان هذا المعنى العام علة شرعية ينظر الفقيه في مدى تحققها في الفرع المسكوت عنه تحققها في الأصل المنطوق به، أم كان هذا المعنى العام قاعدة كلية يتحقق الفقيه من الجزئيات التي تصلح لتطبيق القاعدة العامة عليها([7]).
وعليه، فإنَّ مصطلح تطبيق الأحكام الشرعية مصطلح جديد باعتبار “لفظه” فقط، ولكنه قديم باعتبار مضمونه ومفهومه، لأن كل ما ساقه العلماء في “تحقيق المناط” هو في حقيقته بحث في صميم عملية تطبيق الأحكام الشرعية على الجزئيات والوقائع المناسبة.

2- التعريف بـ(مقاصد الشريعة الإسلامية):
المقاصد لغة:
أصلها من الفعل الثلاثي قصد يقصد قصداً، والناظر في معاجم اللغة العربية يجد أن المعنى الأصلي لهذا اللفظ يدور حول معنى الاعتزام والاعتماد والأم وطلب الشيء وإتيانه، وهذا ما أشار إليه ابن جني من أن أصل مدلول قصد في كلام العرب: “هو الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء، على اعتدال كان ذلك أو جور، هذا أصله في الحقيقة وإن كان يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، ألا ترى أنك تقصد الجور تارة كما تقصد العدل أخرى، فالاعتزام والتوجه شامل لهما جميعا”([8]).
المقاصد اصطلاحاً:
على الرغم من اهتمام العلماء المتقدمين بمقاصد الشريعة الإسلامية، واستعمالهم لهذا المصطلح في العديد من المباحث والمسائل الأصولية، فإنهم لم يعتنوا بوضع تعريف محدد له، و كانت عباراتهم في الغالب متجهة نحو بيان هذه المقاصد وعدّها دون الخوض والإطالة في وضع حدٍّ جامع مانع لها، ومن هذا على سبيل المثال قول الغزالي: “ولكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم”([9]).
ومنه قول الآمدي: “المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة أو مجموع الأمرين”([10]).
وقول الشاطبي: “تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية”([11]).
وظاهر من هذه العبارات جميعها أنها قد تضمنت التعريف بالمقاصد من خلال بيان أنواع المقاصد ومراتبها وأشكالها بعيداً عن الضبط الاصطلاحي المحدد، ولعلَّ السبب في ذلك هو ما لمسه هؤلاء العلماء من وضوح مدلول هذا المصطلح، وعدم الحاجة إلى الخوض في التعريفات الجامعة المانعة.
على أن العلماء والباحثين المعاصرين قد عملوا على ضبط مدلول مصطلح “مقاصد الشريعة الإسلامية” من خلال صياغة تعريف محدّد يستوعب جميع المعاني التي يمكن اعتبارها مقاصد شرعية، وعلى الرغم من تنوع عباراتهم وألفاظهم، فإنها في الجملة متقاربة متشابهة في العديد من الوجوه([12])، ومن هنا فإنني لن أستغرق في إيراد هذا التعريفات -خشية الإطالة والخروج عن مقصود البحث وغايته- وسأكتفي باختيار واحد من هذه التعريفات وهو أنها: المعاني التي توجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها عن طريق أحكامه([13]).
والمراد بالمعاني: جميع الغايات والأهداف والمصالح التي تغيّاها الشارع من تشريعه، سواء أكانت هذه الغايات غايات عامة أراد الشارع تحقيقها من خلال التشريع كله مثل: إقامة المصلحة ودرء المفسدة، ورفع الحرج عن المكلفين، والحفاظ على نظام الأمة، أم كانت هذه المعاني مقاصد خاصة أراد الشارع تحقيقها في باب معيّن من أبواب الشريعة، مثل مقاصد أحكام العائلة ومقاصد القضاء والشهادة، ومقاصد العقوبات، أم كانت هذه المعاني مقاصد جزئية أراد الشارع تحقيقها من حكم جزئي تفصيلي كالحكمة من النهي عن بيع الحاضر للباد، وعن تلقي الركبان، والحكمة من الأمر بصدقة الفطر والندب إلى نسك الأضحية، فجميع هذه المعاني: الكلية منها، والخاصة، والجزئية، هي من مشمولات مصطلح المقاصد([14]).
ووصف المقاصد بأنها قد اتجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها هو ما يرشد إليه المعنى اللغوي للفظ (مقصد) الذي يعني الأَمَّ والاعتماد والتوجه نحو الشيء.

واعتبار الأحكام وسيلة لتحقيق المقاصد هو ما يفهم من قول الإمام الشاطبي: “إن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها وإنما قصد بها أمور أخرى هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت من أجلها”([15]).
ثانياً: التعريف بـ(التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية) بوصفه علماً على معنى مخصوص:
فإذا تبينت حقيقة مدلول كل من مصطلحي “تطبيق الأحكام الشرعية” و”مقاصد الشريعة الإسلامية” فإنه يمكن تعريف مصطلح التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية بوصفه علماً على معنى مخصوص بأنه: تنزيل الحكم الشرعي على وفق المصالح التي توجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها.

أي إنّ التطبيق المقاصدي يعتمد النظر إلى مقاصد الشارع أثناء عملية التطبيق، بمراعاة الفقيه في تطبيقه للأحكام الشرعية للمعاني والحكم والمصالح الكلية والخاصة والجزئية عندما يريد تعييِّن الوقائع الصالحة لتنزيل الحكم الشرعي عليه، فيتحقق من أن تطبيقه للحكم على هذه الواقعة لن يكون مجافياً أو بعيداً عن غاية الشارع وقصده من أصل التشريع.
ويمكن أن أمثل على ذلك بفتوى ابن عباس رضي الله عنه في مسألة قبول توبة القاتل؛ فعن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: “لمن قتل مؤمناً توبة؟ قال: لا، إلا النار، فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمناً توبة مقبولة، فما بال اليوم؟ قال: إني أحسبه رجلاً مغضباً يريد أن يقتل مؤمناً، قال فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك([16]).
لقد راعى ابن عباس في هذه المسألة مقاصد الشريعة الإسلامية عند تنزيله للحكم الشرعي على وقائعه وأفراده، حيث لاحظ أن الحكم بقبول توبة القاتل لا ينطبق على الفرد الذي يسأل عن الحكم ليقترف جريمة القتل، لأن إعلامه بقبول توبته سيتناقض مع المعنى المصلحي الذي لأجله شرعت التوبة أصلاً، والمتمثل بإغلاق باب القتل وسفك الدماء والتجاوز على أنفس الناس وأموالهم وأعراضهم، فلو أفتاه بقبول توبته -وحاله كذلك- لأدّى إلى فتح باب القتل بدلاً من إغلاقه، ولأفضى إلى النقيض من المقصود الشرعي الذي أراده الله سبحانه بقوله: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) [70: الفرقان]، فالتوبة وسيلة للأمن والمحافظة على الأنفس والأموال والأعراض، لا وسيلة للخوف والتشجيع على تضييع الحرمات والاعتداء على الأبرياء والآمنين.
وهكذا جسَّد ابن عباس مفهوم التطبيق المقاصدي للحكم الشرعي تجسيداً عملياً، عندما راعى في تنزيله للحكم الشرعي على أفراده ووقائعه، المعاني المصلحية التي لأجلها شرع الحكم، وتحقق أثناء تطبيقه للحكم من عدم انحرافه عن غايته وحكمة مشروعيته.
هذا، وإن الأصل في كل تطبيق للأحكام الشرعية أن يكون تطبيقاً مقاصدياً، لأن الغاية من عملية التطبيق تحقيق إرادة الشارع على أرض الواقع من خلال تفريغ معنى الحكم العام في الوقائع التي تصلح أن تكون جزئيات مناسبة له، غير أن هذا الأصل قد يغيب أحياناً عن أذهان بعض المفتين أو المشتغلين ببيان الحكم الشرعي، فيطبقون الحكم على غير جزئياته المناسبة، نتيجة لقيامهم بعملية التطبيق دون مراعاة للمقاصد الشرعية والمعاني المصلحية التي توخاها الشارع من تشريعه، وهنا يقع المفتي بالخطأ عندما يعمِّم الحكم على أفراد أو وقائع لم تتوجه إليهم إرادة الشارع بالتناول والقصد ابتداءً، أو يستثني من عموم الحكم بعض الأفراد والوقائع التي لا يصحُّ استثناؤها أصلاً لأنها من صميم مشمولات القصد الشرعي، وغالباً ما يؤدي هذا التطبيق غير المقاصدي للأحكام إلى تضييع مصالح الخلق وإلحاق الحرج والمشقة بالناس، أي إنَّ نتائج التطبيق ستكون على الضدّ من وضع الأحكام الشرعية. ولعلَّ ما سآتي إلى بيانه في موضوع مرتكزات التطبيق المقاصدي سيوضح هذه الحقيقة ويجليّها.
ولكن ما مدى حجية التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية؟ هذا ما جعلته محلا للدراسة في المطلب الثاني.

المطلب الثاني: حجية التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية:

يستمدُّ التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية حجيته ومشروعيته، من القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالناظر في نصوص الكتاب والسنة يجد العديد من النصوص الشرعية الكريمة التي تدعو إلى أن يكون تطبيق الأحكام على نحو متبصر راشد، محقق لغايات المشرع ومتوافق مع مقاصد التشريع. سأعرض بعض هذه النصوص التي يستفاد منها هذا المعنى:
أولاً: قوله تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [108: الأنعام].
وجه الدلالة: أن الأصل في سب آلهة المشركين هو المشروعية والجواز، وذلك لما فيه من توهين أمر المشركين وكشف زيف آلهتهم المزعومة، وإظهار عزة المؤمنين وقوتهم، غير أن هذا الأصل المشروع لم يأذن الشارع بتطبيقه وإنفاذه على أرض الواقع نظراً لما فيه من نتائج وخيمة تتعارض مع مقصد الشارع من أصل مشروعية هذا الحكم، وذلك من جهة ما سيفضي إليه من حمل المشركين على سبِّ الله سبحانه وتعالى، جهلاً وعدواناً، وهي مفسدة تربو بكثير على المصلحة التي يرجى تحقيقها من وراء مباشرة هذا الفعل.
فكان في هذه الآية إرشاد قرآني إلى ضرورة الوعي بنتائج التطبيق والتحقق من مدى توافق الحكم عند تطبيقه، مع المصلحة التي شرع من أجلها. وهذا ما وعاه الإمام القرطبي عندما قرر أن هذه الآية دليل على “أن المحقَّ قد يكف عن حقٍّ له إذا أدّى إلى ضرر يكون في الدين”([17]) أي أن صاحب الحقّ قد لا يباشره على أرض الواقع عندما يجده مفوِّتاً لمقصد حفظ الدين، وفي هذا تأكيد على أهمية النظر المقاصدي عند تطبيق الأحكام.
ثانياً: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا) [104: البقرة].
وجه الدلالة في هذه الكريمة أن معنى “راعنا” في اللغة هو ذات معنى “انظرنا”، ولكن هذا المعنى اللغوي المجرد للفظ “راعنا” يختلف عن معناه عند مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذلك أن اليهود كانوا يخاطبون النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ويقصدون السبّ، فنهي المسلمون عن ذلك لئلا يكون قولهم تشبهاً باليهود، وسبباً في إيذاء النبي من حيث لا يشعرون([18]).
وبهذا فإن القرآن قد نبّه على أن مدلول اللفظ في حال تجريده قد يختلف عن مدلوله عند تطبيقه، فعند التطبيق قد يحمل اللفظ بعض المحاذير الخاصة التي تتنافى مع مقصد الشارع، فيمنع ويحظر نظراً لهذا الاعتبار.
ثالثا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع عن قتل المنافقين وعلّل هذا بقوله: “لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه”([19]).
وجه الدلالة في هذا الحديث: أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد امتنع عن قتل عبد الله ابن أبي رغم أنه قد فعل ما يستوجب القتل، إذ قال بحق الرسول وصحابته: “لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل”([20]) فقدر الرسول صلى الله عليه وسلم ما سيفضي إليه قتل هذا المنافق وزمرته، من آثار ضررية داخلياً وخارجياً، أما داخلياً فبإثارة الفتنة داخل الصف المسلم، وفتح الباب للانقسام الداخلي وتوهين وحدة الجماعة المؤمنة، وأما خارجياً فبتشويه صورة الإسلام خارج المدينة المنورة عن طريق ترهيب الناس من الدخول في الإسلام، وتخويفهم من المصير الذي أصاب بعض الأفراد الذين اعتنقوا الإسلام (في الظاهر) فكان مصيرهم القتل بحجة أن قلوبهم ليست مؤمنة!
وفي امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين، إرشاد إلى ضرورة التبصر السابق بنتائج تطبيق الأفعال قبل الإقدام عليها، للتحقق من مدى توافقها مع مقاصد التشريع.
رابعاً: عن عائشة رضي الله عنها: “أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألصقته بالأرض، وجعلت له بابين باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم”([21]).
وجه الدلالة في هذا الحديث: أن إعادة البيت على الهيئة الكاملة التي بناها إبراهيم عليه السلام هو عمل مشروع، بل عمل فاضل في أصله، لكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع من إنفاذ وتطبيق هذا العمل المشروع، وأبقى البيت على ما هو عليه من الهيئة الناقصة، حفاظاً على مقصد الشارع المتمثل في الحفاظ على وحدة صف الأمة، وتجنب إثارة النزاع والخصام بينهم، والحرص على تأليف قلوب حديثي العهد بالجاهلية، وهو ما أرشدت إليه بعض الروايات الأخرى للحديث: “ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض. . “([22]).
وبهذه الأدلة التي سقتها على سبيل المثال لا الحصر يتبين أن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية منهج شرعي مقرر نهضت بحجيته آيات الكتاب العزيز وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
هذا، ولا يغض من سلامة الاستدلال بهذه الأدلة أن العلماء يسوقونها للدلالة على حجية سد الذرائع، أو الاستحسان، أو قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد المتعارضة؛ ذلك أن جميع هذه المناهج هي من فروع التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية وتجلياته، وفق ما سأبينه في المبحث الثاني.

المبحث الثاني مرتكزات التطبيق المقاصدي

إن تطبيق الأحكام الشرعية تطبيقاً مقاصدياً يرتكز على مجموعة من المقومات والأسس التي يعتمدها المجتهد في سبيل تطبيق الأحكام الشرعية تطبيقاً سليماًً مفضياً إلى مصالح التشريع وغاياته، وعلى الرغم من عدم بحث الأصوليين لهذا الموضوع في مبحث خاص ذي عنوان محدد، فإنه يمكن استخلاص هذه الأسس والمرتكزات من عبارات العلماء المبثوثة في ثنايا المباحث الأصولية والفقهية، والتي تعكس خضوع عملية التطبيق لأصول منهجية محددة، وقد تمكنت بعد البحث من الوقوف على الأسس الآتية:
الأساس الأول: فهم الواقع الذي ينزَل عليه الحكم الشرعي.
الأساس الثاني: الموازنة بين مصلحة الأصل ومفسدة التطبيق، ومفسدة الأصل ومصلحة التطبيق.
الأساس الثالث: التحقق من انطباق علة الحكم في الواقعة الجديدة.
الأساس الرابع: النظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة.
وسأقوم بدراسة هذه الأسس الأربعة، مبيناً تطبيقاتها وعلاقتها بالتطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية، وأنبِّه قبل البدء بعرض هذه المرتكزات بأن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية هو عملية اجتهادية ينبغي أن يتحقق فيها جميع شروط الاجتهاد وضوابطه، ومن هنا فإن ما سأعرضه من مرتكزات محكوم ومضبوط بشروط الاجتهاد التي فصَّلها العلماء في أمهات الكتب الأصولية، والتي لا يتسع البحث لعرضها وبيانها في هذا المقام.
وسأعرض مرتكزات التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية على وفق المطالب الآتية:

المطلب الأول: فهم الواقع الذي ينزل عليه الحكم الشرعي:

يقصد بفقه الواقع: العلم بما تجري عليه حياة الناس في مجالاتها المختلفة، وما استقر عليه الناس من عادات وتقاليد وأعراف، وما استجد من حوادث ونوازل([23]).
أي إنّ الفقيه مطالب باستيعاب حقيقة الواقع الذي يريد أن يطبق عليه الأحكام الشرعية المختلفة، وأن يكون هذا الاستيعاب شاملاً لجميع جوانب الحياة أُسرياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وأن ينأى الفقيه بنفسه عن داء العزلة عن المجتمع الذي يعيش فيه ويتعامل معه حتى يستطيع أن ينزِّل الأحكام على مواقعها تنزيلاً صحيحاً موافقا لمقصود الشارع وإرادته.
واستيعاب الفقيه لطبيعة الواقع الذي يعيش فيه قد يستدعي منه الاستعانة بالبيانات والإحصاءات والدراسات التي تعطي تصوراً دقيقاً عن حقيقة هذا الواقع وتفصيلاته ودقائقه، والوقوف على أمراضه ومشاكله وقضاياه المختلفة.
هذا، ولقد أدرك العلماء الأعلام من سلف الأمة أهمية فقه الواقع عند تنزيل الأحكام الشرعية حتى يكون هذا التنزيل وهو ما نجده عند الإمام أحمد رضي الله عنه في بيانه للخصال التي ينبغي تحققها في المفتي بقوله: “لا ينبغي للرجل أن ينصِّب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن يكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور، والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، والثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته، والرابعة: الكفاية (أي من العيش) وإلا مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس”([24]).
والذي يعنينا من هذه الخصال اشتراط الإمام أحمد في المفتي أن يكون على “معرفة بالناس” فإن هذا الشرط يختزل فقه الواقع بجميع تفصيلاته ومجالاته، وهذا ما فصله ابن القيم بقوله: “معرفة الناس: هذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم فإن لم يكن فقيهاً فيه، فقيهاً في الأمر والنهي، ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، وتصور له الظالم بصور المظلوم وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، بل ينبغي له أن يكون فقيهاً في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله”([25]).
وتكمن أهمية الفقه بالواقع في عملية تنزيل الحكم الشرعي في أن التبصر بالواقع يتيح للفقيه أن يتبصر بحاجات الناس وأعرافهم وقضاياهم المختلفة، فيكون تنزيله للحكم الشرعي مراعيا لتلك الحاجات الطبيعية والأعراف الصحيحة المعتبرة، مما يؤدي إلى تحقيق مقصود الشارع في إقامة مصالح الناس ورفع الحرج والمشقة عنهم.
وإن الناظر في عصر خير القرون يجد العديد من الشواهد والتطبيقات التي تعبر عن حقيقة فقه الواقع وأهميته في تنزيل الأحكام الشرعية، فمن ذلك مثلا ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما علم بزواج حذيفة بن اليمان من كتابية وقد كان من قادة جيش المسلمين فكتب إليه عمر أن يطلقها([26]). وعندما استفسر حذيفة عن سبب ذلك وهل الزواج منهن حلال أو حرام؟ بيّن له الفاروق رضي الله عنه النظر المقاصدي في هذا الإجراء بقوله: “أخشى أن تدعوا المسلمات وتنكحوا المومسات”([27]).
لقد استند عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الاجتهاد المقاصدي على فقهه بالواقع وذلك من خلال أمرين:
الأول: نظره رضي الله عنه إلى الخطر الذي يتهدد المجتمع الإسلامي عندما لا تجدُ النساء المسلمات الأزواج المسلمين الأكفاء فتبرز ظاهرة العنوسة التي تتهدد الفرد والمجتمع بالفساد الكبير، هو ما عبر عنه رضي الله عنه بقوله: “أخشى أن تدعوا المسلمات”.
ثانيا: علمه رضي الله عنه بواقع المجتمعات غير الإسلامية وما تعانيه من أمراض أخلاقية واجتماعية مثل انتشار الرذيلة والفاحشة، وامتهان بعض النساء للزنا، ويخشى أن يكون الزواج بواحدة من هؤلاء، مؤدياً إلى النقيض من مقاصد ومصالح الزواج الشرعي الذي حضّ الشارع عليه ورغب فيه، وهو الذي أرشد إليه رضي الله عنه بقوله: “وتنكحوا المومسات”.
وهكذا كان تطبيقه رضي الله عنه للأحكام الشرعية تطبيقاً مقاصدياً مراعيا لمصالح الأحكام وغاياتها.
كما نجد هذا التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية، فيما فعله معاذ بن جبل رضي الله عنه، عندما أخذ قيمة زكاة الحبوب من الذرة والشعير وغيرها، بما يساويها من الثياب اليمنية بدلاً من أن يأخذ الزكاة من عين الحبوب نفسها، وذلك مراعاة منه لواقع أهل اليمن الذين قد يسهل عليهم أن يعطوا من الثياب اليمنية ما لا يسهل أن يعطوه من الحبوب، والتفاتا منه أيضا لواقع أهل المدينة الذي قد يحتاجون إلى الثياب أكثر من حاجتهم إلى الحبوب، فحقق بذلك منفعة الجهتين، بناء على فقهه بواقع المجتمعين وما يحتاج إليه الأفراد في كل مجتمع.
وهذا ما بيَّنه رضي الله عنه بقوله: “ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة”([28]).
ولا ينحصر نظر الفقيه في ميدان واقع المجتمعات الإسلامية التي ستطبق فيها الأحكام الشرعية فقط، وإنما يمتد نظره ويتسع وعيه ليحيط أيضا بواقع المجتمعات غير الإسلامية التي يعيش فيها أفراد مسلمون يطبقون فيها الأحكام والشعائر الإسلامية، فيراعي واقع تلك المجتمعات عند إجراء الأحكام فيها حفاظاً على مقاصد التشريع، وهذا النظر المقاصدي هو ما نجده على سبيل المثال عند الإمام ابن تيمية حين بين حكم من يعيشون في بلاد غير إسلامية ويكون تمسكهم بمظهر معين -مما هو من قبيل المندوبات أو المكملات- سبباً في جلب ضرر عليهم يفوق المصلحة التي ترجى من وراء هذا المظهر المندوب، حين ينظر إلى المسلم نظرات الريبة والشك أو يكون عرضة للاعتداء والأذى، ففي ضوء هذا الواقع الذي يعيشه المسلم يكون تركه لهذا المظهر أفضل ما دام أنه ليس من أركان الدين، ولا هو من الفروض والواجبات الثابتة قطعاً، وهذا ما كشف عنه الإمام ابن تيمية بقوله: “إن المخالفة لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار الحرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه من ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، فأما دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة لهم تختلف باختلاف الزمان والمكان، ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا”([29]).
وإن هذا التمييز الذي قدمه شيخ الإسلام بين الإقامة في وسط أمة الإجابة، والإقامة في وسط أمة الدعوة، يكشف لنا عن ضرورة الوعي التام بظروف الواقع الذي يريد الفقيه تنزيل الأحكام الشرعية عليه، وضرورة الإحاطة بمكونات هذا الواقع من حيث زمانه وأشخاصه ومخاطره التي تحتف به، فتميُّز المسلم في هيئته ولباسه ومظهره أمر مرغوب فيه، وصفة مطلوبة ومستحبة، ولكن بشرط عدم الإضرار بالمسلم أو إيذائه، وهنا تبرز مهمة الفقيه المتبصر في تقدير هذا الأمر ومراعاته والتنبُّه له بناء على معايشته للواقع، واطَلاعه على تفصيلاته ودقائقه.
وهذا ما نبّه إليه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي بقوله: “إن الغفلة عن روح العصر وثقافته وواقعه والعزلة عما يدور فيه ينتهي بالمجتهد في وقائع هذا العصر إلى الخطأ والزلل وهو ينتهي غالبا بالتشديد والتعسير على عباد الله حيث يسر الله عليهم”([30]).
أي إنَّ الغفلة عن فقه الواقع قد تؤدي إلى عكس مقصود الشارع فتصبح الأحكام سبباً لإلحاق الحرج بالأمة، بدلاً من أن تكون مظهراً من مظاهر الرحمة واليسر بالعباد.
ويندرج تحت فقه الواقع الالتفات إلى أعراف الناس المستقرة، وعاداتهم الجارية عند تنزيل الأحكام الشرعية التي يكون مبناها على أساس العرف والعادة، وهذا ما قرره الإمام القرافي بقوله: “إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد بين المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد”([31]). فتغييب الواقع عند تنزيل الأحكام الشرعية التي يكون مبناها وأساسها وفق أعراف الناس وعاداتهم يعتبر جهلاً في الدين، ومخالفة لإجماع علماء الأمة بما استقر عندهم من ضرورة مراعاة الأعراف الجديدة عند إجراء هذه الأحكام وتطبيقها.
مثال هذا: أن عرف التجار هو المرجع في اعتبار النقص في المبيع عيباً موجباً للخيار، وهذا ما بيَّنه ابن قدامة بقوله: “والمرجع في ذلك -أي معرفة العيوب- إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن وهم التجار”([32]).
وعليه فقد لا تعدَُ بعض أنواع النقص عيوباً في عصر أو زمان، بينما تعتبر عيوباً في زمان آخر، بناء على اختلاف أعراف الناس وعاداتهم، وهنا يأتي دور الفقيه المشرف على الواقع والمحيط بأعراف الناس وعاداتهم، لينزِّل الحكم على وفق هذه الأعراف والعادات، فيثبت الخيار أو لا يثبته بناء على فقهه ووعيه وإحاطته.
وإن من الخطأ الذي قد يقع فيه بعض المفتين أن ينظر إلى المسألة نظراً مجرداً عن الواقع والعرف والعادة، فيعمِّم الأحكام ويطلق الأقيسة دون أن يراعي طبيعة الأعراف التي قد تستدعي نوعاً من التخصيص والتقييد، ممَا يؤدي إلى وقوع الأفراد بالحرج والمشقة. ولقد نبه الإمام ابن القيم إلى خطورة هذا المنهج في التعامل مع الأحكام الشرعية بقوله: “قالوا وعلى هذا أبداً تجيء الفتاوى على طول الأيام فمهما تجد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجرِه على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجرِه عليه وأفته به، دون عرف بلدك المذكور في كتبك، قالوا: فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحاً تستغني عن النية”([33]).
ثم عقّب على هذا بقوله: “وهذا محض الفقه ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم ممَّن طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان”([34]).
وهنا نجد تنبه ابن القيم إلى الزلل الذي يقع فيه بعض المفتيين عندما يسقطون الأحكام على المسائل بطريقة آلية دون التنبه إلى العرف الجاري في كل واقعة مما يؤدي إلى مفسدة قد تربو على المصلحة التي أراد الشارع تحقيقها.
ومثل هذا أيضاً نجده عند ابن عابدين بقوله: “فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله ولحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ورفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام”([35]).
ولا بد من التنبيه في هذا السياق على أن تغير العرف واختلاف الأحوال والملابسات المحيطة بالواقعة التي سيطبق عليها الحكم، قد جعل لها طبيعة جديدة تختلف عنها فيما لو كانت ذات الواقعة عريَّة عن تلك الملابسات التي تبصر بها الفقيه نتيجة لفقهه بالواقع وإحاطته بدقائقه وتفصيلاته، وهذا التغير الذي طرأ على الواقعة هو الذي أوجب التغير في الحكم، فالواقعة الجديدة التي سينزّل عليها الحكم في ظل الظرف الجديد والملابسات الحادثة، لم تعد هي نفس الواقعة التي لا تقترن بها ذات الملابسات والخصائص، أي أن محلَّ الحكم قد تغير، مما أفضى إلى اختلاف الحكم بداهة، وعليه لا يصح القول إن الحكم قد تغير نظراً للظروف والأحوال، وأن الأحكام الشرعية تخضع للتغير تبعاً لعادات الناس وأعرافهم، لأن الذي تغير -عند التحقيق- هو الواقعة نفسها أي محل الحكم مما استدعى أن يناط بها الحكم المناسب لها، وهذا ما ألمع إليه الشيخ علي الخفيف بقوله: “الواقع أن مثل هذا لا يعد تغييراً ولا تبديلاً إذا ما روعي في كل حادثة ظروفها وملابساتها وما لتلك الملابسات من صلة بالحكم الذي جعل لها، إذ الواقع أن الفقيه أو المجتهد إذا ما عرضت عليه مسألة من المسائل، راعى ظروفها وملابساتها والوسط الذي حدثت فيه، ثم استنبط لها الحكم المتفق مع كل هذا.
فإذا تغير الوسط وتبدل العرف الذي حدثت فيه الواقعة تغيرت بذلك المسألة وتبدَّل وجهها، وكانت مسألة أخرى اقتضت حكماً آخر لها.
وهذا لا ينفي أن المسألة السابقة بظروفها لا زالت على حكمها، وأنها لو تجددت بظروفها ووسطها لم يتبدل حكمها، فأخذ الأجرة على تعليم القرآن في وسط يقوم أهله بتعليمه احتساباً لوجه الله وطاعة له غير جائز في كل مكان وفي كل زمان.
وأخذ الأجرة على تعليمه في وسط انصرف أهله عن تعليم القرآن والدين إلا بأجر، أمر جائز في كل زمان ومكان”([36]).
فالظروف والأعراف والملابسات الخاصة التي تحتف بالواقعة تستدعي أن يكون لها تكييف جديد ينزّل على وفقه الحكم الشرعي تنزيلاً صحيحاً محققاً لمقصود الشارع.
وهذا الفهم هو ما تمثلّه الإمام أبو زيد القيرواني: حين كان يسكن في أطراف المدينة فاتخذ كلباً للحراسة فقيل له: كيف تفعل ذلك ومالك يكرهه؟ فقال لو كان مالك في زماننا لاتخذ أسداً ضارياً”([37]).
فواقعة اتخاذ الكلب في زمان أبي زيد القيرواني وما حصل فيه من فقدان للأمن وخوف على الأنفس والأموال، هي في حقيقتها وطبيعتها ومكوناتها، غير واقعة اتخاذ الكلب في زمان الإمام مالك حيث لم يكن ما يوجب ذلك، وعليه فلا يصحُّ تطبيق حكم واحد على واقعتين مختلفتين طبيعة وأثراً، وإن كانتا متشابهتين في الصورة والظاهر.
وما أدق قول الشاطبي وهو يعبر عن هذا المعنى بقوله: “لا بدَّ للفقيه أن يأخذ بالدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة”([38]).
أخلص من ذلك كله إلى ضرورة فقه الواقع عند تنزيل الحكم الشرعي على الوقائع والجزئيات وذلك حتى يكون الحكم محققاً لمقصوده الشرعي في التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم وتحقيق مصالحهم التي جعلها الله من أظهر خصائص الدين وأعظم مقاصد الشريعة بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ) [78: الحج].

المطلب الثاني: الموازنة بين مصلحة الأصل ومفسدة التطبيق، ومفسدة الأصل ومصلحة التطبيق:

إن من الأسس التي يرتكز عليها التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية النظر إلى نتائج تطبيق الحكم ومآلاته التي تترتب عليه، وعدم الاكتفاء بما عليه صورة الفعل في الأصل من المشروعية أو عدم المشروعية، فقد يكون الفعل في الأصل مشروعا ولكن تطبيقه على واقعة معينة مفض إلى مفسدة أكبر من المصلحة التي شرع من أجلها، فيمنع نظراً لتلك المفسدة وهو ما اصطلح الأصوليون عليه بـ(سد الذرائع).
وقد يكون الفعل في الأصل غير مشروع ولكن تطبيقه على واقعة خاصة مفض إلى تفويت مصلحة أكبر من المفسدة التي منع من أجلها فيشرع نظرا لهذا الاعتبار، وهذا المعنى هو ما جسّده العلماء من خلال أصل (الاستحسان).
ولعل من أحسن من حلَّل هذا الموضوع وكشف عن حقيقته وكنهه هو الإمام الشاطبي وذلك بقوله: “وقد يكون -أي الفعل- مشروعاً لمصلحة تنشأ عنه أو مفسدة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية فربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب -أي العاقبة- جار على مقاصد الشريعة”([39]).
“فالعمل المشروع في الأصل قد ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة عند التطبيق، والعمل الممنوع قد يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة التي تترتب عليه عند التطبيق”([40]) وذلك كلُّه يرتكز على أساس الموازنة بين مصلحة الأصل ومفسدة التطبيق، أو مفسدة الأصل ومصلحة التطبيق.
وهذا الذي كشف عنه الإمام الشاطبي هو ما نجده متجسِّداً من خلال قاعدتي سد الذرائع والاستحسان، وبيان ذلك: أن سد الذرائع هو حسم الوسائل التي ظاهرها المشروعية وتؤدي إلى الوقوع في ممنوع منهي عنه غالباً أو كثيراً([41]).
ومعنى أن تفضي الوسيلة المشروعة إلى مآل ممنوع أنه قد انبنى على تطبيق تلك الوسيلة المشروعة في أصلها، مفاسد وأضرار هي أعظم حجماً وأثراً من المصلحة التي أراد الشارع تحقيقها من وراء تشريع الحكم ابتداء، وهنا يجب على المجتهد البصير بمقاصد الشريعة الحفاظ على الوسائل من أن تنحرف عن غايتها ومقصدها الذي شرعت من أجله عند تطبيقها على أرض الواقع، فيحكم بمنعها رغم أنها في أصلها مشروعة، التفاتاً منه إلى مآلها الذي تترتب عليه.
مثال هذا مسألة إقامة الحدود في الغزو، حيث ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: “نهى أن تقطع الأيدي في الغزو”([42])والسبب في ذلك هو الخشية من أن يترتب على تطبيق حدّ السرقة لحوق صاحبه بالمشركين، وهو أبغض عند الله من تأخير إقامة الحدّ([43]).
وتأسيساً على هذا المعنى المقاصدي الذي وجه إليه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو الخوف من اللحاق بالمشركين والخشية من أن يترتب على تطبيق الحد نتائج تفوق المصلحة التي ترجى منه، قرر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جميع الحدود لا تقام في الغزو، وكتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجلاً من المسلمين حداً وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار([44]).
وهذا ما ذهبت إليه طائفة من الفقهاء منهم الأوزاعي وإسحاق وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين([45])، وذلك اعتباراً منهم لنتائج التطبيق، والتبصر بمآلات الأفعال.
ومثلما أن سدَّ الذائع هو من القواعد التي يعوَل عليها في عملية التطبيق المقاصدي للنصوص الشرعية، فكذلك هو الأمر في قاعدة الاستحسان؛ ذلك أن الاستحسان مبتنى على أساس ترك مقتضى الدليل عن طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارضه في بعض مقتضياته([46]). وسبب العدول في بعض الوقائع والجزئيات عن موجب الدليل الكلي هو ما يجده المجتهد من نتائج ضررية ستلحق بالأفراد عند تطبيق موجبات الأدلة الكلية عليها، فيلجأ إلى الاستثناء والعدول حفاظاً على مقصود الشارع في تحقيق مصالح الناس ودفع الفساد والحرج عنهم.
وهذا المعنى هو ما أشار إليه الإمام ابن رشد في تعريفه للاستحسان بقوله: “هو أن يكون طرحاً لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فعدل عنه في بعض المواقع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع”([47]).
مثال ذلك: أن الأصل في كل شهادة يبني عليها القاضي حكمه أن تكون ناشئة عن معاينة للواقعة المشهود بها، بمشاهدة الأفعال وسماع الأقوال لقوله صلى الله عليه وسلم لرجل: ترى الشمس قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع([48]).
غير أن هذا الأصل العام المشروط في كل شهادة من أجل اعتبارها، قد عدل عنه في بعض الوقائع والحالات التي تعذر فيها الاستماع إلى الشهود الأصليين الذين عاينوا الواقعة وشهدوها، بسبب مرض أصابهم حال دون القدرة على الحضور إلى مجلس القضاء، أو لغيابهم في مكان لا يوصل إليه، أو لموتهم، أو غير ذلك من العوارض التي يتعذر معها أداء الشهادة من قبل الشهود الأصليين.
ففي مثل هذه الحالات يجوز تحميل الشهادة إلى الغير، ويؤدي الشاهد الفرع الشهادة التي حمَّله إياها الشاهد الأصل كما هي، رغم أن الفرع لم يعاين الواقعة المشهود بها، بشرط أن تكون الشهادة فيما لا يسقط بالشبهة كالحدود والقصاص([49]).
وسبب عدم تطبيق موجب الأصل الكلي، والعدول إلى الحكم الاستثنائي، هو الحفاظ على مصالح الناس؛ لأنه لو تعيَّن على أصحاب الحقوق إحضار الشهود الأصليين المعاينين للواقعة المشهود بها لأدَّى هذا إلى ضياع الحقوق وفوات المصالح ونزول الحرج؛ ذلك أن الشهود الأصليين قد تعذّر عليهم الحضور للغيبة أو السفر أو المرض أو الموت، فالتفاتاً إلى ذلك كله صحَّ العدول وجاز الاستثناء استحساناً.
وإن لهذا الأساس من أسس النظر المقاصدي شواهد معاصرة كثيرة منها مثلاً: قضية التبرع بالأعضاء من الأحياء إلى الأحياء، عن طريق نقل عضو سليم أو مجموعة من الأنسجة من متبرع إلى مستقبل، ليقوم مقام العضو أو النسيج التالف عند المستقبل، وغاية هذه العملية إيجاد عضو مفقود عند المتبرع له، أو إعادة شكله أو وظيفته المعهودة، أو إصلاح دمامة تسبب للشخص أذى نفسياً أو عضوياً([50]). فإذا نظرنا إلى هذه القضية المعاصرة وأردنا أن نتبيّن حكمها الشرعي في ضوء قواعد الشريعة العامة فإننا سنجد أن النظر الأوليّ إليها يوجب عدم مشروعية عملية نقل الأعضاء مطلقاً، بناء على القاعدة الكلية التي تقرر أن الإنسان لا يملك جسمه ولا أعضاءه، وعليه فليس له أن يتصرف بأيٍّ من أعضاء جسده لا على سبيل التبرع، ولا على سبيل المعاوضة.
وهذا ما عبّر عنه العلماء بقولهم: “فإذا أكمل الله على عبد حياته وجسمه وعقله التي بها يقيم التكاليف، لا يصح إسقاط شيء منها”([51]).
وقد طبّق بعض المعاصرين هذا الأصل الكلي على نازلة التبرع بالأعضاء من الأحياء إلى الأحياء، وقرروا حرمة نقل الأعضاء لأنه تصرف في حق الله الذي يخرج عن ملك الإنسان وصلاحيته([52]).
وفي مقابل هذا الاجتهاد، نجد أن ثمة اجتهاداً آخر عند جمهور الفقهاء المعاصرين يراعي عند تطبيقه للقواعد الكلية مقاصدَ التشريع من خلال الموازنة بين مصالح التبرع ومفاسده.
وبيان هذا: أن في إعادة وظيفة الأعضاء التالفة إلى ما كانت عليه عن طريق النقل والزرع، إقامة لحق الله عز وجل ورعاية له وحفاظاً عليه بشكل أكبر وأعظم من عدم التبرع، ذلك أن مفهوم حق الله هو: ما يتعلق به النفع العام دون أن يختص به شخص معين، ويقوم حق الله -أي النفع العام- من خلال ما يقوم به العبد من أفعال ترتد إلى إقامة المصالح العامة للأفراد المعبر عنها بحق الله، ذلك أن مصالح الجماعة لا تتحقق إلا بوساطة أنفس أفرادها بأرواحهم وأدمغتهم وأعينهم وقلوبهم، وكل عضو من أعضاء كل فرد من أفراد الجماعة يسهم بأقدار متفاوتة في تحقيق مصالح الجماعة وحمايتها([53]).
ومن هنا يعلم بأن حق الله سيقوم في المجتمع بشكل أكبر وآكد عندما تتم عملية التبرع، وفق شروطها وضوابطها المعتبرة، لأننا بهذا نكون قد حفظنا حق الله في جسد المتبرِع، وحفظنا أيضا حق الله في جسد المتبرَع له.
“فالتبرع بالعضو لا يكون مشروعا إلا إذا كان سبباً لدفع مفسدة عظمى عن المتبرع له إذا قيست بالمفسدة الواقعة على المتبرع بسبب أخذ عضو منه؛ لأن معنى هذا دفع مفسدة عظمى عن حق الله المتعلق بجسد الأول، بتحمل مفسدة أخف منها على حق الله المتعلق بجسد المتبرع”([54]).
ومن خلال هذا التأصيل والتطبيق نجد كيف لاحظ أصحاب هذا الفقه موجبات الاستثناء والعدول من الحكم العام، والمتمثل هنا بالحفاظ على حق الله تعالى، أي على المصلحة العامة للأفراد، وقدروا أن تطبيق القاعدة التي تمنع من التصرف بجسد الإنسان لأنه لا يملك هذا التصرف، التسبب بتفويت حق الله بشكل أكبر من المصلحة التي يرجى تحقيقها في حال التبرع. وكل ذلك مشروط بأن تتحقق في التبرع الضوابط الشرعية التي تكفل بقاء موجب الاستثناء والعدول مثل: أن يتحقق المختصون من الأطباء أن المصلحة المتحققة في حال التبرع وزرع الأعضاء أعظم مصلحة من الامتناع عن التبرع، ، وأن يتعين التبرع وسيلة وحيدة لتفادي المفسدة الواقعة على المريض، وأن لا يكون التبرع سبباً للإساءة إلى الكرامة الآدمية، إلى غير ذلك من الشروط والضوابط الأخرى([55]).
أخلص من ذلك كله إلى أن من أسس النظر المقاصدي عند تطبيق الأحكام على الجزئيات والوقائع، الالتفات إلى مآلات الأفعال ونتائجها عن طريق الموازنة بين آثارها المصلحية والمفسدية، وإعمال مبدأ الاستثناء عند قيام موجبه المقتضي لذلك، وذلك حتى يكون تطبيق الأحكام موافقا لقصد الشارع وإرادته فلا يخرج من العدل إلى الظلم، ولا من السعة إلى الحرج، ولا من الرحمة إلى ضدها.

المطلب الثالث: التحقق من انطباق علَّة الحكم في الواقعة الجديدة:

من المرتكزات التي تستند عليها عملية التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية، التحقق من انطباق علَّه الحكم التي يرتبط بها الحكم وجوداً وعدماً في الواقعة الجديدة، فالمجتهد الذي يبذل جهده لاستنباط الحكم الشرعي من موارده وأدلته، يبذل جهده أيضا لتعيين المعنى المؤثر أو العلة المقصودة التي يرتبط بها هذا الحكم وجوداً وعدماً، فيعدّي الحكم المستنبط إلى كل واقعة تحقق فيها ذاك المعنى المؤثر، و يوقف تطبيق الحكم إذا وجد أن علَته غير متحققة، وهذا كلُّه من باب التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية، لأنه نظر في تعيين الوقائع والجزئيات التي يطبَّق عليها الحكم بناء على علته المعقولة المؤثرة.
وإن من أبرز التطبيقات لهذا الأساس اجتهاد عمر بن الخطاب في سهم المؤلفة قلوبهم، حيث أوقف عمر رضي الله عنه إعطاء هذا السهم لأفراد كانوا يأخذون من الزكاة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبارهم من المؤلفة قلوبهم منهم: عيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس التميمي([56]) وسبب ما فعله عمر رضي الله عنه هو أنه وجد أن العلة التي كانوا يستحقون لأجلها ذاك النصيب من الزكاة لم تعد قائمة فيهم، وهذه العلة هي حاجة الأمة إلى تأليف قلوبهم، فإذا قدَّر الإمام أنه لم تعد هناك حاجة إلى تأليف القلوب بالزكاة، فمعنى ذلك أنه لم يعد هناك من يتحقق فيهم وصف المؤلفة قلوبهم نظراً لعدم الحاجة، أي إنَّ محل الحكم “وهو كونهم من المؤلفة قلوبهم” لم يعد موجوداً في زمان عمر رضي الله عنه، لأن المعنى الذي من أجله شرع هذا السهم لم يعد قائماً.
وهذا ما نبه إليه الشيخ علاء الدين عبد العزيز البخاري([57]) بقوله: “انعدام الحكم لانعدام المعنى الداعي إليه، كانتهاء شرعية إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة بانتهاء سببه، وهو ضعف المسلمين وحصول إعزاز الدين به، فإن تأليفهم على الإسلام بإعطاء المال ودفع أذاهم عن المسلمين به كان إعزازا في ذلك الزمان، فلما قوي أمر الإسلام كان إعطاؤهم دنية في الدين لا إعزازاً له، فانتهى بانتهاء سببه”([58]).
وهو ما وضحه أيضاً وبسط البيان فيه الشيخ محمد المدني بقوله: “ولما كان التأليف ليس وصفاً طبيعياً يحدث للناس كما تحدث الأعراض الطبيعية، بل هو شيء يقصد إليه وليُّ الأمر، إن وجد الأمة في حاجة إليه، ويتركه إن وجدها غير محتاجة إليه، فإذا اقتضت المصلحة أن يؤلف إنساناً وألّفهم فعلا أصبح الصنف موجوداً، فيستحقّ، وإذا لم تقتض المصلحة ذلك فلم يتألف أحداً فإن الصنف حينئذ يكون معدوماً”([59]).
فعلة إعطاء المؤلفة قلوبهم من سهم الزكاة إذاً هي الحاجة إلى إعزاز الإسلام، والتحقق من مدى وجود هذه العلة أمر يعود تقديره إلى وليّ الأمر، فإذا وجدها متحققة فإنه يعطي من الزكاة، لأن مناط الحكم قد تحقق، وإذا وجدها غير متحققة فإنه لا يعطي لأن الأفراد لا ينطبق فيهم المعنى الذي يجعلهم صالحين للإعطاء. وبناء على هذا الفهم فإن عمر رضي الله عنه لم يعطَِل النص القرآني ويوقف العمل به، وإنما نظر في مدَى تحقق علّة الحكم في الأفراد الذين يريد تطبيق الحكم عليهم، فوجد أن هذه العلة غير قائمة فلم يطبق الحكم نظراً لانعدام محل الحكم، تماما كما لو كان هناك أفراد يعطون من الزكاة نظراً لفقرهم، ثم أصبحوا أغنياء بعد حين فإنهم لا يعطون من الزكاة نظراً لارتفاع الوصف الذي يناط به الحكم وهو الفقر. ولو أن ظرفا من الظروف على عهد عمر أو غيره من بعده قضى بأن يتألف الإمام قوما فتألفهم، لأصبح الصنف موجوداً فلا بد من إعطائه([60]).
ومن هذه المسائل أيضاً التي يظهر فيها هذا النظر المقاصدي القائم على أساس تعقل مناط الحكم وعلته، والتحقق من مدى وجود هذه العلة في الواقعة الجديدة، مسألة التسعير الجبري، ففي الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعِّر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى هو المسعِّر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال”([61]).
لقد ذهب جمهور العلماء إلى حرمة تسعير السلع في الأحوال العادية، والظروف الطبيعية التي لا يظهر فيها تدخلٌ من التجار في غلاء الأسعار، ولا يبدو منهم أي ظلم لعامّةِ الناس وسواد الخلق([62]).
وهذا الفهم مستفاد من نص الحديث نفسه الذي يرشد ظاهره إلى امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسعير، ويعلِّل عليه الصلاة والسّلام إجراءه هذا، بأنه يخشى أن يفضيَ فعله إلى الظلم، وهذا ما يُفهم من قوله: “وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة”، وكل ما كان ظلماً أو سبباً للظلم فهو محرم قطعاً.
ووجه الظلم في هذا التسعير أن الناسَ مسلَّطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن، أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابلَ الأمران وجبَ تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم. كما أن في إلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به منافاة لقوله تعالى: (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) [29: النساء].
وبناءً على هذه العلة المعقولة من الحديث الشريف، وتأسيساً على هذا المقصد الكامن وراء الامتناع عن التسعير، ذهبت طائفة من العلماء منهم الليث بن سعد والإمام مالك وبعض الحنفية وابن تيمية وابن قيم الجوزية([63])، إلى أنه إذا غلا السعر بسبب ظلم التجار، وتعديهم على قيمة السِّلع، واستغلالهم لحاجات الناس، فإنّ التسعير يصبح حينئذٍ جائزاً بل واجباً. ووجه هذا الرأي أن التسعير إنما كان حراماً لأنه وسيلة لظلم التجار، وفي ظل الظرف الجديد الذي بات فيه التجار يظلمون الناس بتعديهم على قيم الأشياء وحاجات الخلق، صار الظلم متحققاً وقائماً في حالِ الامتناع عن التسعير لا في حال التسعير، فإذا كانت الخشية من الظلم هي السبب وراء عدم التسعير، فإن الخشية من الظلم في ظل الوضع الجديد تؤيد هذا التسعير، بل تحتمه، وهذا المعنى هو ما وضحَّه ابن تيمية بقوله: “إن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم، فهو حرام. وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل، فهو جائز بل واجب”([64]).
ومثله أيضاً قول ابن القيم: “إذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.
وأما الثاني -أي التسعير العدل- فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فالتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به”([65]).
وفي هذا البيان الذي قدَّمه ابن تيمية وابن القيم يظهر لنا أن الحكم بمشروعية التسعير عند قيام موجبه، قد ارتكز على أمرين:
الأول هو حسن الفهم للنص من خلال إدراك العلة التي امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسعير من أجلها، والمتمثلة بإقامة العدل ومنع الظلم، وأن عدم التسعير لم يكن لذات التسعير، وإنما لكونه وسيلة لإلحاق الظلم بالتجار.
الثاني: حسن التطبيق للحكم من خلال ملاحظة أن مناط الامتناع عن التسعير -وهو الظلم- لم يعد متحققاً في ظل الظرف الجديد الذي بات فيه التجار يستغلون حاجات الناس ويتحكمون في قيم الأشياء، وصار منع الظلم يستدعي التسعير، حتى يقطع السبيل أمام استغلال الحاجات ويمنع من إدخال الظلم على العباد.
وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام ابن العربي حيث وضح أن النهي عن التسعير لا يتناولُ الحالات التي يكون فيها تدخلٌ من قبل التجار في غلاء الأسعار، وإنما هو مقصور على الحالات العادية والطبيعية التي يتحدد فيها السعر على حسب قوة العرض والطلب، وأن الأحاديث الواردة في النهي يجب أن تكون مقصورة على الأوضاع التي يكون فيها المنع من التسعير مظنة لإقامة العدل، حتى إذا كان العدل مرجوّاً في التسعير وجب الصيرورة إليه، لأن مناط الحكم هو العدل، فيكون التسعير جائزاً حيث تحقق العدل، ويكون ممنوعاً حيث فوَّت العدل وألحق الظلم، وهذا ما أرشد إليه بقوله: “والتسعير على الناس إذا خيف على أهل السوق أن يفسدوا أموال المسلمين. . وما قاله النبي حق، وما فعله حكم لكن على قوم صحّ ثباتهم واستسلموا إلى ربهم، وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم، فباب الله أوسع وحكمه أمضى”([66]).
وبهذا تتبين منهجية العلماء الراسخين في التعامل مع الأحكام الشرعية فهما وتطبيقا، حيث يقفون على علل الأحكام ومقاصدها في مرحلة الفهم لتبيُّن المعنى المقصود الذي أراده الشارع وتغيّاه من وراء تشريعه، وفي مرحلة التطبيق للتحقق من قيام المقصد الشرعي المدرك والمعلوم عند تنزيل الحكم على أفراده.

المطلب الرابع: النظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة:

من المرتكزات الأساسية التي يستند عليها التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية ضرورة مراعاة المجتهد للظروف الخاصة التي تعترض بعض الوقائع والحالات، ما يجعل تطبيق الأحكام العامة عليها سبباً في إلحاق الحرج والمشقة بها، وحينئذ تجري عليهم أحكام خاصة تتناسب مع الظرف الخاص الذي يعترضهم. وهذا المعنى قد أرشدت إليه آيات الكتاب العزيز حين بيّنت أن الأحكام التي تطَّبق في أوقات السعة والاختيار تختلف عن الأحكام التي تطبق في أوقات الضيق والاضطرار، فمن هذا مثلا تقريره تعالى لحرمة أكل بعض أنواع المطعومات في الظروف العادية الطبيعية وذلك بقوله سبحانه: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ…) [3: المائدة]، ثم استثناؤه للمضطر من هذا الحكم العام بقوله: (… فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [3: المائدة].
ومنه أيضاً مراعاة الشارع لواقع أصحاب الأعذار الطارئة كالمريض والمسافر في صيام شهر رمضان، واعتبار حالهما الطارئ موجباً للتخفيف والتيسير عليهم في قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [184: البقرة].
ومن هذا القبيل أيضاً رفعه سبحانه للإثم والمؤاخذة عمَّن أكره على النطق بكلمة الكفر بقوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ) [106: النحل].
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الأخرى التي تكشف عن تأثير الظرف الذي يعترض المكلف على التكليف نفسه، فظرف المقيم مختلف عن ظرف المسافر، وحال السليم مغاير لحال المريض، ووضع المكره والمضطر غير وضع المتمكن المختار.
وهذه النصوص الشرعية توجِّه إلى ضرورة النظر إلى الظروف الضرورية والحاجية التي تكتنف بعض الأفراد عند تطبيق الأحكام عليها، وإفرادها بحكم خاص على سبيل الاستثناء والترخص.
وهذا المعنى هو ما عبَّر عنه الشاطبي بقوله: “إن الأصل إذا أدَّى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن عقلاً أو شرعاً، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد فلا يستمر بإطلاق”([67]).
ومعنى هذا: أن الحكم في مرحلة التجريد قد يختلف عنه في مرحلة التطبيق، ففي مرحلة التجريد قد يتسم الحكم بالعموم والإطلاق نظراً لاطراده على جميع وقائعه وجزئياته، ولكن في مرحلة التطبيق قد توجد بعض الظروف الخاصة التي تعترض الفرد أو الجماعة ممّا يجعل تعميم الحكم عليها سبباً في الحرج والمشقة غير المعتادة، مما يستدعي عدم تعميم الحكم عليها، وإفرادها بحكم استثنائي خاص.
وهذا الأمر هو ما وعاه علماء الأمة جزاهم الله خيراً إذ قرروا العديد من القواعد الفقهية التي تتضمن هذا المعنى وتعبِّر عنه مثل قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” و”الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة” و”المشقة تجلب التيسير”.
وهو ما نجد شواهده وتطبيقاته في العديد من الصور والوقائع منها مثلاً: ما ذهب إليه الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في مسألة طواف الإفاضة للحائض التي تخاف فوات الرفقة، حيث ذهبا إلى أن قوله صلى الله عليه وسلم: “اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت”([68]) إنما يتعلق بالمرأة في وقت السّعة والاختيار، وأنه لا يصح تطبيق هذا الحكم على الحائض التي إن لم تطف بالبيت فستفوتها الرفقة، وهذا ما وضحه ابن القيم بقوله: “فظنّ من ظنّ أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان ولم يفرق بين حال القدرة والعجز، ولا بين زمن إمكان الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف، وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك، وتمسّك بظاهر النص ورأى منافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته للصلاة والصيام”([69]) وقرر ابن القيم أن هذا الإطلاق الذي يفهم من منطوق قوله صلى الله عليه وسلم: “اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت” مقيد بحالة الضرورة، وهو ليس أول مطلق يقيد بالضرورة، وبناء عليه فإنها “تطوف بالبيت والحالة هذه (أي حائضاً) وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف معه، وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة، بل يوافقها كما تقدم إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه، ولا واجب في الشريعة مع العجز، ولا حرام مع الضرورة”([70]).
هذا، ويمكن أن يبنى على هذا الأساس من أسس النظر المقاصدي عند التطبيق بعض الوقائع والقضايا المعاصرة التي يلاحظ فيها بعض الظروف الخاصة التي يجب مراعاتها عند تطبيق الأحكام الشرعية، مثال ذلك: التشريح الجثماني للموتى لغايات علمية طبية، أو غايات جنائية أمنية، ففي واقعنا المعاصر اتخذ علم التشريح غايات وأهدافاً أوسع مما كان عند الأقدمين وصارت له حاجة ملحة لم تكن قائمة في العصور الأولى، ويتمثل الغرض من التشريح في أيامنا بأمرين: الأول: طبي علميّ، والآخر: جنائي أمني.
أما الغاية الطبية فإن للتشريح أثراً كبيراً في تطوير العلوم الطبية عن طريق التعرف على أجزاء الإنسان الظاهرة والباطنة، والوقوف على وظائفها المختلفة، وإقدار الأطباء على تعيين العلل والأمراض التي تؤثر على وظائف تلك الأعضاء، هذا علاوة على أهميتها للطلبة الدارسين للطب، ويقرر الأطباء أن علم الطب لا يمكن أن يتقدم بغير التشريح([71]).
أما الغاية الجنائية الأمنية: فإن التشريح ذو أهمية كبرى للوقوف على أسباب وفاة المجني عليه وتحديد الوسيلة التي تمَّت فيها الوفاة([72])، ولهذا تأثيره الكبير في اكتشاف الأفعال الجرمية، والمساعدة في اكتشاف القاتل، وهي في نهايتها منافع ومصالح ترتدُّ على الفرد والمجتمع.
إننا إذا نظرنا إلى الأصل العام المقرر في الشريعة الإسلامية نجد أنه يحرم المساس بجثة المتوفى، وأنه يجب تكريم جسد الإنسان حياً وميتاً والتعامل معه بأدب واحترام، وهذا ما أرشدت إليه النصوص الشرعية الكثيرة مثل قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [70: الإسراء]، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إن كسر عظم الميت ككسره حيّا”([73]). وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تجلسوا على القبور فلأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر”([74]).
وإذا طبقنا هذا الأصل العام على واقعة التشريح الجثماني للموتى، دون النظر إلى الضرورة الطبية والأمنية التي تحتف بها، انتهينا إلى حرمة عملية التشريح وذلك جرياً مع اطّراد هذا الأصل على كل واقعة يكون فيها مساس بجسد الميت أو أعضائه.
غير أن النظر المقاصدي عند تطبيق الأحكام الكلية يرشد إلى أنه قد احتفت بواقعة التشريح مقتضيات خاصة توجب استثناءها من الأصل العام وهذه المقتضيات هي:
1- الضرورة الطبية التي ترجع إلى التعرف على أجزاء الإنسان في سبيل معرفة الأمراض والعلل التي تؤثر عليه، وبغير هذا التشريح فإن الكثير من الأمراض لن يهتدي إلى دواء لعلاجها فتكون أنفس الأفراد وأبدانهم عرضة للهلاك والفساد.
2- الضرورة الأمنية التي ترجع إلى الحفاظ على أنفس الأفراد، عن طريق تحديد سبب الوفاة لحماية المجتمع من المجرمين الذين يعتدون على الآمنين.
ولا يقوم مقام التشريح وسيلة أخرى لتحقق فوائدها ومصالحها، فتعينت وسيلة أساسية لتقدم علم الطب ومعرفة الدواء المناسب وللكشف عن المجرمين وتحديد هويتهم.
ومن هنا كان لا بد من اعتبار هذه الضرورة عند تنزيل الحكم الشرعي على واقعة التشريح الجثماني واعتبارها في سبيل وصف الفعل بالمشروعية أو عدمها، وهذا الفقه المقاصدي السّديد هو ما نجده في قرار مجمع الفقه الإسلامي الذي جاء فيه: “بناء على الضرورات التي دعت إلى تشريح جثث الموتى، والتي يصير بها التشريح مصلحة تربو على مفسدة انتهاك كرامة الإنسان الميت، قرر مجلس المجمع الفقهي: يجوز تشريح جثث الموتى لأحد الأغراض الآتية:
أ- التحقيق في دعوى جنائية لمعرفة أسباب الموت أو الجريمة المرتكبة، عندما يشكل على القاضي معرفة الأسباب.
ب- التحقق من الأمراض التي تستدعي التشريح، ليتخذ في ضوئه الاحتياطات الواقية والعلاجات المناسبة لتلك الأمراض.
ج- تعليم الطب كما هو الحال في كليات الطب”([75]).
وبعد، فهذه هي الأسس العامة التي يجب على الفقيه أن يراعيها أثناء عملية التطبيق حتى يكون تطبيقه للحكم الشرعي موافقاً لمقاصد الشارع ومحققاً لمصالح التشريع، وإن إغفال هذه الأسس سيفضي إلى الحرج الذي يريد الشارع دفعه، وسيوقع في الفساد الذي يريد الشارع رفعه، وسيؤدي إلى الضد من مقاصد الشريعة ومكارمها.

الخاتمة

بعد هذه الجولة من البحث في التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية حقيقته وحجيته ومرتكزاته فإنني أسجل في هذه الخاتمة أبرز النتائج والتوصيات التي توصلت إليها من بحثي هذا:
أولاً: إن التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية منهج أصيل من مناهج الاجتهاد، نهض بحجيته آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتضافر فقهاء الأمة وعلماؤها على إعماله وتفعيله في فتاواهم واجتهاداتهم المختلفة.
ثانياً: أظهر البحث أن للتطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية جملة من المرتكزات والأسس التي على الفقيه أن يراعيها ويتثبت منها حتى يكون تطبيقه للحكم تطبيقاً محققاً لمراد الشارع ومقاصده، وقد تمثلت هذه المرتكزات بفقه الواقع الذي سيطبق عليه الحكم الشرعي، و الموازنة بين مصلحة الأصل ومفسدة التطبيق، ومفسدة الأصل ومصلحة التطبيق، والتحقق من انطباق علة الحكم في الواقعة الجديدة، و النظر إلى خصوصية بعض الحالات وما يعترضها من ضرورة أو حاجة.
ثالثاً: نوهت الدراسة إلى أن اختلاف الأحوال والملابسات المحيطة بالواقعة التي سيطبق عليها الحكم قد يجعل لها طبيعة جديدة توجب إفرادها بالحكم الذي يناسبها، وأن الواقعة بناء على هذه الملابسات لم تعد هي نفس الواقعة التي لا تقترن بها ذات الملابسات والخصائص، فمحلَّ الحكم قد يتغير، مما يستدعي تنزيل الحكم المناسب عليه. وبناء على هذا لا يصح القول إن الحكم قد تغير نظرا للظروف والأحوال، لأن الذي تغير عند التحقيق، هو الواقعة التي سينزل عليها الحكم، مما استدعى تطبيق الحكم المناسب عليها.
رابعاً: نبَّهت الدراسة إلى الآثار الوخيمة التي قد تنجم في حالة تطبيق الحكم الشرعي بطريقة آلية، دون اعتبار لمقاصد التشريع وحكمه وأسراره، حيث ينحرف الحكم عن غايته فيمسي سبباً للحرج والمشقة والضيق والفساد، بدلاً من أن يكون وسيلة للسعة والرحمة والعدل والخير.
خامساً: يؤكد الباحث أن عملية تطبيق الأحكام الشريعة على وفق مقاصد التشريع ومصالحه عملية اجتهادية تخضع لشروط الاجتهاد وضوابطه، وما يشترط في كل عملية اجتهادية يشترط في هذه العملية أيضاً، لأنها فرع من أصل الاجتهاد، وثمرة مباركة من ثمرات الشجرة الطيبة التي تتابع على رعايتها وتعهدها علماء الأمة في الماضي والحاضر.
وأخيراً: فإنني أوصي باستكمال الدراسات حول موضوع التطبيق المقاصدي، لاسيما في مجال المرتكزات والأسس التي يقوم عليها هذا الاجتهاد، ولعل ما قدمته يعدُّ خطوة، تتبعها خطوات بإذن الله تواصل الطريق نحو تكوين نظرية متكاملة في موضوع التطبيق المقاصدي للأحكام الشرعية. والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.

(*) بحث مقدم لملتقى: “الفتوى في الأردن – الواقع والتطلعات”، الذي أقامته دائرة الإفتاء العام في عمّان – الأردن، بتاريخ (6/ 2/ 1434هـ) الموافق (20/ 12/ 2012م).
الهوامش:
([1]) ابن عبد السلام: عز الدين عبد العزيز (ت 660ھ) قواعد الأحكام في إصلاح الأنام، تحقيق الدكتور نزيه حماد والدكتور عثمان ضميرية، ط1، 1421ھ-2000م، دار القلم، بيروت، ج2، ص62.
([2]) ابن تيمية: تقي الدين أحمد، مجموع الفتاوى، مكتبة المعارف، الرباط، ج20، ص48.
([3]) القرافي: شهاب الدين أحمد بن إدريس (ت 684ھ) أنوار البروق في أنواء الفروق، وبهامشه تهذيب الفروق، عالم الكتب، بيروت، ج2، ص126.
([4]) تقي الدين علي بن عبد الكافي (ت 756ھ)، وولده تاج الدين عبد الوهاب بن علي (ت 771ه)، الإبهاج في شرح المنهاج، تحقيق: الدكتور أحمد زمزمي، والدكتور نور الدين صغيري، دار البحوث للدراسات الإسلامية، حكومة دبي، ط1، 1424ھ-2004م، ج2، ص18.
([5]) الشاطبي: إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي (ت790ھ)، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: الشيخ عبد الله دراز، ط2، دار المعرفة 1395ھ -1975م، ج4، ص104.
([6]) الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج4، ص90.
([7]) انظر: الطوفي: نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي (ت 716ھ)، شرح مختصر الروضة، تحقيق: الدكتور عبد الله التركي، ط1، مؤسسة الرسالة بيروت، 1409ھ، ج3، ص236، وللتوسع في موضوع تحقيق المناط انظر: الكيلاني: عبدالرحمن، تحقيق: المناط عند الأصوليين وأثره في اختلاف الفقهاء، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد الثامن والخمسون، السنة التاسعة عشرة، رجب 1425ھ-2004م، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، ص82-83.
([8]) الزبيدي: السيد محمد مرتضى الحسيني، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، سنة 1391ھ/1971م، ج9، ص36.
([9]) الغزالي: محمد بن محمد (ت505ھ)، المستصفى من علم الأصول، تحقيق: د. محمد الأشقر، ط1، 1417ھ-1997م، مؤسسة الرسالة، بيروت، ج1، ص417.
([10]) الآمدي سيف الدين أبي الحسين علي بن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، ط1، مؤسسة النور، 1388ھ، ج3، ص271.
([11]) الموافقات، ج2، ص8.
([12]) انظر على سبيل المثال: ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع، ص51. الفاسي، علال، مقاصد الشريعة ومكارمها، مكتبة الوحدة العربية، الدار البيضاء، ص3. والعالم، الدكتور يوسف، المقاصد العامة للتشريع، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1412ھ-1991م، ص79. والريسوني: الدكتور أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ط4، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أمريكا، 1995م ص19.
([13]) انظر: الكيلاني: الدكتور عبد الرحمن ابراهيم، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي عرضاً ودراسة وتحليلاً، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1-1421ھ-2000م، ص47.
([14]) انظر تقسيم المقاصد إلى عامة وخاصة وجزئية: ابن عاشور، محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع، ص143. والريسوني: أحمد، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص20.
([15]) الشاطبي، الموافقات، ج2، ص285.
([16]) أخرجه ابن أبي شيبة: عبدالله بن محمد، المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق: مختار الندوي، الدار السلفية، ط1، الهند 1981م، كتاب الديات، في من قال للقاتل توبة، ج9، ص362. ورجاله ثقات.
([17]) القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت 671ھ) الجامع لأحكام القرآن، مؤسسة مناهل العرفان، ج7، ص61.
([18]) انظر: الطبري، محمد بن جرير (ت 310ه) جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420ه-2000م، ج2، ص460. وابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن عمر (ت 774ه)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي سلامة، ط2، 1420ه-1999م، ج1، ص104.
([19]) أخرجه البخاري: أبو عبد الله محمد بن اسماعيل، الجامع الصحيح، ضبط وترقيم: مصطفى البغا، مطبعة الهدى، كتاب المناقب باب ما ينهى من دعوى الجاهلية حديث (3330).
([20]) انظر مناسبة الحديث في المصدر السابق.
([21]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، حديث (1506/1509). ومسلم كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، 1076 (174).
([22]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها حديث (1507).
([23]) مستفاد من تعريف الأستاذ الدكتور عبد المجيد النجار، فقه التدين فهماً وتنزيلاً، ط1، رئاسة المحاكم الشرعية، قطر، ص111. وللتوسع في هذا الموضوع انظر: أحمد بوعود، فقه الواقع أصول وضوابط، ط1، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ص44-45.
([24]) شمس الدين أبو عبدالله محمد بن أبي بكر (ت 751ھ) إعلام الموقعين، مكتبة الكليات الأزهرية 1388ھ-1968م، ج4، ص199.
([25]) إعلام الموقعين، ج4، ص204.
([26]) عبد الرزاق: أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط1، المكتب الإسلامي، بيروت، 1972م، ج7، ص178.
([27]) أخرجه البيهقي: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر، السنن الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 1414ھ، باب ما جاء في تحريم حرائر أهل الشرك دون أهل الكتاب وتحريم المؤمنات على الكفار، ج7، ص170. له طرق يتقوى بها، وعليه فإنه يستشهد به على وفق ما أفادني الأستاذ المحقق عادل مرشد.
([28]) أخرجه البيهقي، كتاب الزكاة، باب من أجاز أخذ القيم في الزكوات، ج4، ص113. والدارقطني علي ابن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي، السنن، تحقيق: السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت، 1386ھ -1966م، كتاب الزكاة باب ليس في الخضروات صدقة، ج2، ص100، فيه إرسال لأن طاووس لم يدرك معاذ بن جبل، على أن البخاري قد أورده معلقا بصيغة الجزم في الجامع الصحيح، كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة. والخميس: وهو الثوب الذي طوله خمسة أذرع كأنه يعني الصغير من الثياب، واللبيس: هو الثوب إذا كثر لبسه، وقيل قد لبس فأخلق.
([29]) ابن تيمية: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، الطبعة الثانية، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، ص177.
([30]) القرضاوي: الدكتور يوسف، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ط3، الكويت، دار القلم، ص153.
([31]) القرافي: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس (ت684ھ)، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، تحقيق: عبد الفتاح أو غدة، ط2، 1426ھ-1995م، ص228.
([32]) ابن قدامة: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد (ت620ھ) المغني، تحقيق: الدكتور عبدالله التركي، وعبد الفتاح الحلو، ط4، 1419ھ-1999م، عالم الكتب، الرياض، ج6، ص235.
([33]) ابن القيم، ج3، ص78.
([34]) ابن القيم، إعلام الموقعين، ج3، ص78.
([35]) ابن عابدين: محمد أمين، نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، 1321ھ، ج2، ص125.
([36]) علي الخفيف، أسباب اختلاف الفقهاء، ص257.
([37]) أبو الحسن المالكي، كفاية الطالب الرباني شرح رسالة أبي زيد القيرواني، دار الفكر، 1412ھ، ج2، ص648.
([38]) الشاطبي، ج3، ص83.
([39]) الموافقات، ج4، ص195.
([40]) انظر هذا المعنى في: الموافقات، ج4، ص198.
([41]) انظر: ابن رشد (الجد): محمد بن أحمد (ت520ھ) المقدمات، دار صادر، بيروت: ج2، ص542. والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج2، ص57-58. والزركشي: بدر الدين محمد بن بهادر، البحر المحيط، ط1، 1409هـ-1988م، ج6، ص82. والشاطبي، الموافقات، ج4، ص198.
([42]) أخرجه أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني، السنن، تعليق: عزت دعاس وعادل السيد، ط1، 1973م، دار الحديث، حمص: كتاب الحدود باب في الرجل يسرق في الغزو أيقطع؟ حديث (4408). والترمذي: أبو عيسى محمد بن عيسى، السنن، تحقيق: ابراهيم عطوة عوض، ط1، 1962م، مطبعة مصطفى البابي، مصر، كتاب الحدود باب ما جاء في أن لا تقطع الأيدي في الغزو، حديث (1450). وله طرق يتقوى بها، وعليه فإنه يستشهد به على وفق ما أفادني به الأستاذ المحقق عادل مرشد.
([43]) إعلام الموقعين، ج3، ص5.
([44]) أخرجه سعيد بن منصور، السنن، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط1، الدار السلفية، 1403ھ-1982م، كتاب الجهاد، باب كراهية إقامة الحدود في أرض العدو، ج2، ص234، حديث (2500)، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211ھ)، المصنف، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط1، 1390ھ-1970م، المكتب الإسلامي، بيروت: كتاب الجهاد، باب هل يقام الحد على المسلم في بلاد العدو، ج5، ص197. وابن أبي شيبة، كتاب الحدود، باب في إقامة الحد على الرجل في أرض العدو، ج10، ص103.
([45]) ابن قدامة، المغني، ج13، ص173.
([46]) الموافقات، ج4، ص208. والاعتصام، ج2، ص193.
([47]) نقله عنه الإمام الشاطبي دون تحديد لشخص ابن رشد الجد أو الحفيد، انظر: الاعتصام، تحقيق: محمد رشيد رضا، طبعة المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ج2، ص139.
([48]) أخرجه الحاكم في المستدرك، ج4، ص98-99 وقال: صحيح، وتعقبه الذهبي بقوله واه، وقال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه، انظر: الحاكم: أبو عبد الله النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، وبذيله التلخيص للحافظ الذهبي، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب.
([49]) وفي المسألة تفصيل وخلاف بين الفقهاء، انظر: الكاساني: علاء الدين أبو بكر بن مسعود (ت 587ھ) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ط دار الكتب العلمية بيروت، ج6، ص282، والموصلي: عبد الله ابن محمود بن مودود، الاختيار لتعليل المختار، تحقيق زهير عثمان الجعيد دار الأرقم، بيروت: ج2، ص417
([50]) البار: محمد علي، انتفاع الإنسان بأعضاء جسم آخر حيّاً أو ميتاً مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة الرابعة 1408ھ-1988م العدد الرابع، ج1، ص97.
([51]) الموافقات، ج2، ص376.
([52]) انظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الرابعة، العدد الرابع 1408ھ، 1989م، ج1، ص319 و467.
([53]) انظر: محمد نعيم ياسين، أبحاث فقهية في قضايا طبية معاصرة ط 1، 1419ھ، دار النفائس ص154.
([54]) الأستاذ الدكتور محمد نعيم ياسين، أبحاث فقهية معاصرة، ص158.
([55]) انظر في ذلك: الكيلاني: عبد الرحمن، الاستحسان وتطبيقاته في بعض القضايا الطبية المعاصرة، مجلة مؤتة للبحوث والدراسات المجلد السادس عشر، العدد الأول 2001، ص165-166.
([56]) البيهقي، السنن الكبرى، ج7، ص20.
([57]) هو علاء الدين عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري الفقيه الأصولي الحنفي، له عدد من التصانيف من أشهرها كشف الأسرار على أصول البزدوي، توفي سنة 730هـ. انظر: المراغي: عبدالله مصطفى، الفتح المبين في طبقات الأصوليين، ط1، 1394ھ-1974م، بيروت، ج2، ص136.
([58]) علاء الدين البخاري، كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي، ضبط وتعليق: محمد المعتصم بالله البغدادي، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1411ه-1991م، ج3، ص319.
([59]) نقلاً عن الدكتور: يوسف القرضاوي، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، ط1، 1421ھ-2000م، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص161.
([60]) انظر المصدر السابق.
([61]) أخرجه أبو داود سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي، السنن، كتاب البيوع والإجارات، باب في التسعير حديث (3450). والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في التسعير حديث (1314) وابن حبان: محمد ابن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي، صحيح ابن حبان تحقيق: شعيب الأرنؤوط الطبعة الثانية، 1414ھ-1993، مؤسسة الرسالة، بيروت، كتاب البيوع، باب التسعير والاحتكار، حديث (4935) قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح: الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ج11، ص307.
([62]) انظر: انظر ابن عبد البر: أبو عمر يوسف بن عبدالله، الاستذكار، تحقيق: سالم عطا ومحمد علي معوض، ط1، 1412ھ-2000م، بيروت، ج6، ص412. وابن عابدين: محمد الأمين بن عبد الغني (ت1252هـ)، رد المحتار على الدر المختار، دار إحياء التراث العربي، ج5، ص256. وابن قدامة، المغني، ج6، ص311.
([63]) انظر: ابن عبد البر، الاستذكار، ج6، ص412. ابن نجيم: زين العابدين بن إبراهيم (ت 970ھ) الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية، 1405ھ-1985م، ص109. وابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار، ج5، ص256. وابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج28، ص77. وابن القيم: شمس الدين محمد بن أبي بكر، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق: محمد جميل غازي، مطبعة المدني، القاهرة، ص355.
([64]) مجموع الفتاوى، ج28، ص77.
([65]) الطرق الحكمية، ص356.
([66]) انظر: عارضة الأحوذي، ج6، ص53.
([67]) الموافقات، ج1، ص102 .
([68]) أخرجه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الحيض، باب كيف كان بدء الحيض حديث (290)، ومسلم كتاب الحج باب وجوه الإحرام حديث (1211) (119).
([69]) إعلام الموقعين، ج3، ص14.
([70]) إعلام الموقعين، ج3، ص20.
([71]) انظر: البار: د.محمد علي، علم التشريح عند المسلمين، الدار السعودية، جدة، 1987م، ص10.
([72]) الشواربي: د.عبد الحميد، الخبرة الجنائية في مسائل الطب الشرعي، الإسكندرية، 1993م، ص42.
([73]) أخرجه أبو داود كتاب الجنائز، باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان؟ حديث (3207) وابن حبان كتاب الجنائز، فصل في القبور، حديث (3167) قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرطهما انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ج7، ص438.
([74]) أخرجه مسلم كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر حديث (971)(96).
([75]) انظر: قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، لدورته العاشرة القرار الأول ص17. وقرارات دار الإفتاء المصرية، فتوى رقم (88)، وهيئة كبار العلماء، السعودية، فتوى رقم (47)، تاريخ 20/8/1396ھ.

بحث عن تطبيق الأحكام الشرعية على مواقعها