دراسة مقارنة وبحث رائع عن عقوبة الحبس في الشريعة والقانون

إعداد الباحث / مصعب أيمن الرويشد

المقدمـة

أولا: أهمية الموضوع, والباعث على كتابته

لما كانت حرية الإنسان هي أغلى ما يملكه من كنز, أن مساسها يعتبر مساساً بكرامته وإنسانيته, وتبقى معه طول الدهر شاهداً على فقده أهم مقومات الحياة الكريمة, ولما كانت القوانين في كثير من الدول تضع هذه الحرية كرهان لأفراد مجتمعاتهم, وتقضي بسلها أو منعهم من التمتع بها في حال مخالفة القانون أو انتهاكه, ولما كان من مقتضيات عملنا المستقبلي أن نكون نحن ممن تصدر منهم مثل هذه القرارات والأحكام كوكلاء نيابة, أو قضاة, كان لابد أن نضع مثل هذه الدراسة بين أيدي الزملاء الكرام, وهي بمثابة قراءة في التشريعين الإسلامي والوضعي في تناولهما لبضع جوانب عقوبة الحبس المهمة في مجال عملهم.
ورأيت أن أبحث في عقوبة الحبس من الجوانب التي تخص النيابة العامة بشكل مباشر, والتي جعل القانون مهمة متابعتها لها, وبيان سلطتها في تقدير بعض القرارات التي تخصها.
ولعلني بهذه الدراسة أيضاً أن أصل إلى بيان مشروعية الأعمال والأحكام التي تصدر -سواء من النيابة العامة أو من المحكمة- في الشريعة الإسلامية التي سبق وأن طبقت مثل هذه العقوبة وغيرها في مجالات وحالات سوف نقوم بعرضها عبر هذه الدراسة.

ثانياً: خطة البحث, وطريقة تناول الموضوعات

بدأت البحث بعد الاتكال على الله وطلب معونته في فصل تمهيدي تحدثت فيه عن أهم الاختلافات الأساسية بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي.
ومن ثم انتقلت إلى الفصل الأول الذي يعالج عقوبة الحبس في القانون, في ثلاث مباحث رئيسية وهي:
المبحث الأول عن فكرة وتعريف الحبس في القانون, وكان عبارة عن مطلبين يتناول الأول الفكرة والثاني تعريف الحبس في كتب القانون.
أما المبحث الثاني فقد جعلته في أنواع الحبس في قانون الجزاء, والذي كان مطلبه الأول في الحبس مع الشغل, والثاني في الحبس البسيط, أما الثالث فقد أفردته للحبس الاحتياطي.
ويأتي بعد ذلك المبحث الثالث الذي كان مخصصاً لتناول تأثير عوامل الرأفة عند تطبيق عقوبة الحبس بالنسبة للقاضي كما أوردها القانون عبر ثلاث مطالب, كان الأول عن الظروف المخففة القضائية, والثاني في مبدأ إيقاف تنفيذ العقوبة للمحكوم عليه, والثالث الذي جاء عن فكرة الامتناع عن النطق بالعقاب.

ثم انتقلت إلى الفصل الثاني من البحث بالتحدث عن الحبس في الشريعة الإسلامية, عبر ثلاث مباحث رئيسية أيضا وهي:
المبحث الأول عن تعريف ومشروعية الحبس في الشريعة الإسلامية من خلال مطلبين, الأول في التعريف والثاني في المشروعية.
أما المبحث الثاني فكان مخصصاً للحديث عن أنواع الحبس في الشريعة الإسلامية, وهي الحبس التعزيري الذي هو المطلب الأول, والحبس الاستيثاقي الذي كان في المطلب الثاني.
وقد جاء المبحث الثالث كآخر مبحث في هذه الدراسة متحدثاً عن الأحوال التي يشرع فيها الحبس في الشريعة الإسلامية.
متمنياً أن يساهم هذا البحث المتواضع في زيادة الجانب المعرفي لدى الباحث القانوني ووكيل النيابة.
وإن كان من كمال وتوفيق فهو حتماً من الله تبارك وتعالى, وإن كان من خطأ أو تقصير فحتماً هو من نفسي البشرية والشيطان.
والله ولي التوفيق

مصعب الرويشد

فصل تمهيدي
في الاختلافات الأساسية بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي

تختلف الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية اختلافاً أساسياً من ثلاث وجوه:

الوجه الأول: أن القانون من صنع البشر, أما الشريعة الإسلامية , من عند الله وكلاً من الشريعة والقانون يتمثل فيه بجلاء صفاء صانعه, ونظراً لأن القانون من صنع البشر فإنه يتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم وقلة حيلتهم, ومن ثم فالقانون عرضة للتغيير والتبديل.
أما الشريعة الإسلامية فصانعها هو الله, وتتمثل فيها قدرة الخالق وكماله وعظمته وإحاطته بما كان وما هو كائن, ومن ثم صاغها العليم الخبير بحيث تحيط بكل شيء في الحال والاستقبال حيث أحاط بكل شيء علمه, وأمر سبحانه وتعالى أنه لا تبديل ولا تغيير فقال (لا تبديل لكلمات الله).

الوجه الثاني: أن القانون عبارة عن قواعد مؤقتة تضعها الجماعة لتنظيم شئونها وسد حاجاتها, فهي قواعد متأخر عن الجماعة غداً, لأن القوانين لا تتغير بسرعة تطور الجماعة.
أما الشريعة فقواعدها وضعها الله على سبيل الدوام لتنظيم شئون الجماعة, فقواعدها دائمة ولا تقبل التغيير ولا التبديل , وهذه الميزة التي تتميز بها الشريعة تقتضي من الوجهة المنطقية:
1. أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من المرونة والعموم بحيث تتسع لحاجات الجماعة مهما طالت الأزمان وتطورت الجماعة, وتعددت الحاجات وتنوعت.
2. أن تكون قواعد الشريعة ونصوصها من السمو والارتفاع بحيث لا يمكن أن تتأخر في وقت أو عصر عن مستوى الجماعة.
ولقد مر على الشريعة الإسلامية أكثر من أربعة عشر قرنا تغيرت خلالها الأوضاع أكثر من مرة , وتطورت الأفكار والآراء تطوراً كبيراً, واستحدثت من العلوم والمخترعات ما لم يكن يخطر على خيال إنسان, وتغيرت قواعد القانون الوضعي ونصوصه مرات عديدة لتتلاءم مع الحالات الجديدة, وبالرغم من هذا كله, ومع أن الشريعة الإسلامية لا تقبل التغيير والتبديل, ظلت قواعد الشريعة ونصوصها أسمى من مستوى الجماعات, والظروف الجديدة, وأكفل بتنظيم وسد حاجاتهم, وأقرب إلى طبائعهم وأحفظ لأمنهم وطمأنينتهم.

الوجه الثالث: أن الجماعة هي التي تصنع القانون وتلونه بعاداتها وتقاليدها وتاريخها.
أما الشريعة الإسلامية فإنها ليست من صنع الجماعة, كما أنها لم تكن نتيجة لتطور الجماعة وتفاعلها , وإنما هي من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه, وإذا لم تكن الشريعة من صنع الجماعة, فإن الجماعة نفسها من صنع الشريعة, فالمقصود من الشريعة قبل كل شيء هو خلق الأفراد الصالحين والجماعة الصالحة, وإيجاد الدولة المثالية, ومن هنا جاءت نصوصها أرفع من مستوى العالم كله وقت نزولها على رسوله نموذجاً من الكمال ليوجه الناس إلى الطاعات والفضائل, ويحملها على التسامي والتكامل حتى يصلوا أو يقتربوا من مستوى الشريعة الكامل.
وقد أدت الشريعة وظيفتها طالما كان المسلمون متمسكين بها, عاملين بأحكامها ولو أراد الله بالمسلمين خيراً لعلموا أن الشريعة الإسلامية وقد جاءت كاملة لا يشوبها نقص حاملة في طياتها وسائل التقدم والتطور المستمر للمجتمع, وهي أصلح الشرائع, لأنها في كل الأحوال ترمي إلى تكوين الجماعة ومراعاة مصالحها وتوجيهها دائماً للتقدم المستمر والتطور الصالح, ولا تقنع من ذلك بما هو دون الكمال التام.

وبالتالي تظهر لنا المميزات الجوهرية التي تمييز الشريعة عن القانون:
1. الكمال: تمتاز الشريعة على القوانين الوضعية بالكمال, أي بأنها استكملت كل ما تحتاجه من القواعد والمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الجماعة في الحاضر القريب والمستقبل البعيد.
2. السمو: تمتاز الشريعة على القوانين الوضعية بالسمو, أي بأن قواعدها ومبادئها أسمى دائما من مستوى الجماعة, وأن فيها من المبادئ والنظريات ما يحفظ لها هذا المستوى السامي مهما ارتفع مستوى الجماعة.
3. الدوام: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالدوام, أي بالثبات والاستمرار فنصوصها لا تقبل التعديل أو التبديل مهما مرت الأعوام وطالت الأزمان وهي مع ذلك تظل حافظة لصلاحيتها في كل زمان ومكان.( )

الفصل الأول
عقوبة الحبس في القانون

وفيه ثلاث مباحث

المبحث الأول: فكرة الحبس وتعريفه في القانون
المبحث الثاني: أنواع الحبس في القانون
المبحث الثالث: تأثير عوامل الرأفة عند تطبيق عقوبة الحبس

المبحث الأول : فكرة الحبس وتعريفه في القانون:

وفيه مطلبين :
المطلب الأول: الفكرة
المطلب الثاني التعريف

المطلب الأول : الفكرة

تميزت التشريعات التقليدية باعترافها بعقوبات مانعة للحرية متنوعة وتفسر هذه الخطة باعتبارين : الأول, أن هذه التشريعات أدخلت إصلاحات في النظم العقابية بالقياس إلى ما كانت تقرره التشريعات القديمة, وقد تمثلت هذه الإصلاحات في إلغاء العقوبات البدنية وحصر الإعدام في نطاق ضيق, فترتب على ذلك أن قل عدد العقوبات التي يستطيع الشارع أن يختار منها الجزاء الذي يقرره للجرائم التي ينص عليها, فكان لابد من تنويع نظم منع الحرية وأساليبها حتى يجد القانون في هذا التنوع العدد الكافي من العقوبات التي تحل محل العقوبات التي استبعدت, أما الاعتبار الثاني, فهو أن هذه التشريعات حصرت أغراض العقوبة في الردع العام, فحرصت على أن تفرد لبعض العقوبات المانعة للحرية نظاما قاسيا تتميز به عن باقي العقوبات المانعة للحرية الأخرى, ويفسر هذا نشوء عقوبة الأشغال أو الأشغال الشاقة التي تميزت بقواعد صارمة لا يبررها الإصلاح أو التأهيل, وإنما هي مجرد تعبير عن إرادة الشارع فرض نظام قاس يلائم في تقديره خطورة الجرائم المعاقب عليها بها. ( )

المطلب الثاني: التعريف

يطلق على هذه العقوبة مسمى الحبس في القانون إذا قلت مدتها على ثلاثة سنوات وزادت على أربعة وعشرين ساعة, وتسمى السجن إذا زادت على الثلاثة سنوات, إلى أن تستغرق عمر المحكوم عليه كلها.
وعقوبة السجن هي عقوبة أصلية في قانون الجزاء, هي وضع المحكوم عليه في أحد السجون العمومية, وتشغيله داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعينها الحكومة.
أما الحبس فهو عقوبة أصلية في مواد الجنح والمخالفات, وهي وضع المحكوم عليه في أحد السجون المركزية أو العمومية, المدة المحكوم بها عليه. ( )

المبحث الثاني
أنواع الحبس في قانون الجزاء:

وفيه ثلاث مطالب
المطلب الأول: الحبس مع الشعل
المطلب الثاني: الحبس البسيط
المطلب الثالث: الحبس الاحتياطي

المطلب الأول: الحبس مع الشغل:

تكون عقوبة الحبس مقترنة بالشغل في حالتين: الأولى إذا كانت العقوبة المحكوم بها سنة فأكثر.
الثانية إذا نص قانون الجزاء على ذلك في بعض الحالات مهما كانت مدة العقوبة. ( )
وقد نص قانون العقوبات على هذه الحالات, وعلى الخصوص:
1. في السرقة والشروع فيها.
2. في إخفاء الأشياء المسروقة.
3. في قتل الحيوانات وسمها والإضرار بها ضرراً كبيراً, وإتلاف المزروعات.
4. في حيازة المواد المخدرة أو الإتجار بها.

المطلب الثاني: الحبس البسيط:

يجب أن يكون الحبس بسيطا في المخالفات حيث أن لا فائدة من الشغل مدة لا تتجاوز أسبوعا. ( )
والحبس البسيط لا يقتضي تكليف المحكوم عليه بشغل ما داخل السجن أو خارجه, إلا إذا رغبوا في ذلك.
ويتميز المحكوم عليه بالحبس البسيط بأنه يجوز لمدير عام السجون بعد موافقة النائب العام أن يمنحهم كل أو بعض المزايا المقررة للمحبوسين احتياطياً.
وكذلك للمحبوس بمدة لا تتجاوز ثلاثة شهور أن يطلب بدلا من تنفيذ العقوبة عليه, تشغيله خارج السجن طبقا للقيود المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية, ما لم ينص الحكم على حرمانه من هذا الخيار. ( )

المطلب الثاني: الحبس الإحتياطي:

الحبس الاحتياطي هو من أهم وأخطر أنواع الإجراءات التي تتخذ ضد المتهم, ولذلك قد وضع المشرع له العديد من القيود والضمانات التي تنظم هذا الإجراء, والتي تؤدي إلى تحقيق الهدف منه.
ويعرف الحبس الإحتياطي بأنه سلب حرية المتهم مدة من الزمن تحددها مقتضيات التحقيق ومصلحته وفق ضوابط قررها القانون.
وليس هو عقوبة, على الرغم من اتحاده في طبيعته من العقوبات السالبة للحرية, ذلك أنه لم يصدر به حكم بالإدانة, والأصل المقرر أنه “لا عقوبة, بغير حكم قضائي بالإدانة”.=شرح قانون الإجراءات الجنائية ص700 نجيب حسني
وقد أجاز المشرع حبس المتهم احتياطيا لمصلحة التحقيق كالمحافظة على الأدلة والقرائن المادية ومنع الضغط على الشهود, ومنع الاتصال المريب بين المساهمين في الجريمة, وكذا لتهدئة الرأي العام, والحيلولة دون هروب المتهم, فهو إجراء أمن, وإجراء تحقيق, وضمان لتنفيذ الحكم إذا صدر بالإدانة, وقد نص عليه قانون الإجراءات بقوله “إذا رؤي أن مصلحة التحقيق تستوجب حبس المتهم احتياطيا لمنعه من الهرب, أو من التأثير على سير التحقيق, جاز حبسه احتياطيا لمدة لا تزيد على ثلاثة أسابيع من تاريخ القبض عليه, ويجب عرض المتهم على رئيس المحكمة قبل انتهاء هذه المدة لتجديد الحبس الاحتياطي, وأمر رئيس المحكمة بتجديد الحبس تحدد فيه مدة الحبس بحيث لا تزيد على خمسة عشر يوما في كل مرة يطلب فيها تجديد الحبس. ( )
لذلك فقد وردت قيود على هذا الحبس بنص المادة وهي:
1. من حيث جسامة الجريمة, بحيث يجب أن تكون على قدر من الجسامة سواء كانت جناية أو جنحة, ولكن لا يجوز الحبس الإحتياطي من أجل جريمة معاقب عليها بالغرامة فقط, ولا يجوز كذلك حبس الحدث الذي لم يتم السابعة من عمره, لأنه غير مسئول جنائيا, ولا الحدث الذي لم يتم الخامسة عشر من عمره, لأنه لا يقضى عليه سوى بتدابير معينة نص عليها قانون الأحداث في المادة السادسة, والمحقق هو الذي يقدر عناصر الجريمة من مختلف ظروفها, لتحديد وصفها القانوني والعقوبة المقررة لها, واذا كان هناك عدة جرائم, وجب أن تكون أحداها على الأقل معاقب عليها بالحبس.
2. من حيث كفاية الأدلة على المتهم, بحيث يجب أن تكون كافية لأن المشرع اشترط في القبض توافر دلائل جدية, فمن باب أولى الحبس الاحتياطي بحيث ترشح الأدلة القائمة لإدانته, فلا تكون مجرد ظنون أو استنتاجات, ولن تضار العدالة إذا قدم المتهم للمحاكمة الجنائية وهو مفرج عنه.
3. من حيث وجوب سماع أقواله, بحيث أوجب المشرع على المحقق أن يسمع أقوال المتهم قبل إصدار الأمر بحبسه احتياطياً, والمقصود من ذلك هو استجواب المتهم ومناقشته في التهمة تفصيلاً وتمكينه من الدفاع عن نفسه, فإن كان حاضراً فقد يبرر تصرفه ويدفع عن نفسه الشبهات, فلا يكون ثمة مبرراً لحبسه, وإن كان هارباً وتم القبض عليه, وجب أن يستمع المحقق لأقواله قبل مضي أربعة وعشرين ساعة من تاريخ القبض عليه, وإذا لم يتم سماع أقواله كان أمر الحبس الاحتياطي باطلاً.
وأمر الحبس الاحتياطي يكون نافذا في جميع أنحاء البلاد وتوابعها خلال مدة ثلاثة أشهر من تاريخ صدوره, وإلا أصبح باطلا وتعين إصدار أمر جديد. ( )
أما مدة الحبس الاحتياطي فتكون محددة ومعينة كنوع من الضمان لحرية المتهم ويخضع ذلك لعدة قواعد, وهي:
1. يسري أمر الحبس الاحتياطي لمدة لا تزيد على ثلاثة أسابيع من تاريخ القبض على المتهم, فيجوز أن تكون المدة أقل ثم يمتد إلى ثلاثة أسابيع, وتحسب المدة من تاريخ القبض, وليس من تاريخ إصدار أمر الحبس.
2. إذا رأى المحقق تجديد الحبس الاحتياطي, وجب عليه قبل انتهاء مدة الثلاثة أسابيع أن يعرض الأوراق على رئيس المحكمة الكلية ليصدر أمره بعد الاستماع إلى أقوال المتهم ودفاعه إما بالتجديد أو بإخلاء سبيل المتهم, فإن جدد الحبس فلا تزيد المدة عن خمسة عشر يوما في كل مرة, وإذا لم يحضر المتهم, أمر رئيس المحكمة بإخلاء حسب تقديره لظروف الدعوى أو التجديد لفترة أقل من التي يتمكن فيها المتهم من المثول لسماع أقواله.
3. حدد المشرع سلطة رئيس المحكمة في التجديد بستة أشهر من تاريخ القبض على المتهم, فإن لم ينته خلالها أصبح التجديد من اختصاص المحكمة المختصة أصلا بنظر الدعوى, ولا يزيد كل تجديد يتقرر منها عن ثلاثين يوما ما دامت مصلحة التحقيق تستوجب ذلك بعد إطلاعها على الأوراق وسماع أقوال المتهم ولها أن تجدد المدة أقل من الثلاثين يوما أو أن تخلي سبيل المتهم حسب تقديرها لظروف الدعوى وما تم فيها من تحقيقات.
4. إذا حكم على المتهم بالإدانة حسبت مدة الحبس الاحتياطي من مدة عقوبته عن الجريمة التي أوقف على ذمتها. ( )
وعلة ذلك كما يرى الفقهاء, أنه من العدل استنزالها منها لأن الحبس الاحتياطي يترتب عليه تقييد الحرية, كالعقوبات السالبة للحرية, كما رأى البعض أنه في حالة الحكم بالإدانة يعتبر الحبس الاحتياطي تنفيذا معجلاً للعقوبة, ومن العدل أن ينتفع بإنقاص العقوبة المحكوم عليه بها والذي استوفى جزاءه مقدما, ويرى آخرين أن الاستنزال هو نوع من التعويض قرره القانون عن الضرر الذي يسببه الحبس الاحتياطي للمحكوم عليه قبل الإدانة. ( )
أما عن النظام الذي يجب إتباعه على المحبوس احتياطيا فهو كالتالي:
لما كانت القاعدة أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته بحكم نهائي لذا روعي أن يكون للحبس الاحتياطي نظامه الخاص, فيكون للمحبوس في السجن أقرب إلى الحياة العادية فلا يلزم بالشغل مثلا, كما أجاز قانون السجون للمحبوسين احتياطيا مقابلة زائريهم ومراسلة من يشاؤون ما لم يرد بأمر الحبس ما يمنع من ذلك لمصلحة التحقيق, ويجوز لمحامي المحبوس احتياطيا الحصول على إذن كتابي وكيل النيابة أو المحقق بمقابلته على انفراد, ولا يسمح لأحد رجال السلطة الاتصال به داخل السجن إلا بأذن كتابي من النيابة العامة أو المحقق.

المبحث الثالث
تأثير عوامل الرأفة عند تطبيق عقوبة الحبس:

وفيه ثالث مطالب
المطلب الأول :الظروف المخففة للعقوبة
المطلب الثاني :إيقاف تنفيذ العقوبة
المطلب الثالث :الامتناع عن النطق بالعقاب (الإختبار)

المطلب الأول: الظروف المخففة للعقوبة

منح القانون للقاضي تقدير الظروف المخففة للعقوبة, فإن شاء أعطاها, وإن شاء سكت عنها.
وقد نصت المادة 83 من قانون الجزاء على أنه “يجوز للمحكمة إذا رأت أن المتهم جدير بالرأفة – بالنظر إلى الظروف التي ارتكبت فيها الجريمة, أو بالنظر إلى أخلاقه أو ماضيه أو سنه- أن تستبدل بعقوبة الإعدام, عقوبة الحبس المؤبد, أو الحبس المؤقت الذي لا تقل مدته عن خمس سنوات, وأن تستبدل بعقوبة الحبس المؤبد, عقوبة الحبس المؤقت الذي لا تقل مدته عن ثلاث سنوات”
وهكذا لم يشأ القانون الكويتي أن يحصر الحالات التي يجوز فيها القاضي منح التخفيف, بل ترك للقاضي مطلق الحرية في ذلك.
وقد سلكت بعض القوانين الأجنبية مسلكا آخر, حين حددت الحالات التي يجوز فيها للقاضي أن يخفف العقوبة, مثل القانون السوفيتي, والقانون السويسري.
وإذا كان القانون الكويتي لم يذكر إلا التخفيف في حالتي الجناية المعاقب عليها بالإعدام, وتصبح الحبس المؤبد أو لامؤقت مدة لا تقل عن خمس سنوات, والجناية المعاقب عليها بالحبس المؤبد, وتصبح الحبس المؤقت مدة لا تقل عن ثلاث سنوات, فأما الجنايات المعاقب عليها بالحبس المؤقت, والجنح المعاقبة بالحبس أصلا, يجوز النزول فيها إلى الحد الأدنى للحبس وهو أربع وعشرون ساعة, وذلك طبقا لمذكرة التفسيرية لقانون الجزاء.
ومن الأفضل النص عليها صراحة, لا سيما وأن القانون يتضمن عقوبات مؤقتة حدها الأدنى أكثر من 24 ساعة.
ولكن قد يمنع القانون , من باب التشديد على الفاعل , منح الظرف القضائي المخفف, وفي هذه الحال لا يجوز للقاضي أن يمنحه , وإن فعل فإن هذا المنح باطل, ومن الحالات القليلة التي منع فيها منح الظرف المخفف, المادة 2 من القانون 31 حيث نص القانون على أنه “لا يجوز تطبيق المادتين 81,83 وهي الخاصة بمنح ظرف التخفيف – بأي حال على جريمة من هذه الجرائم (الخيانة) إذا وقعت من موظف عام , أو شخص ذي صفة نيابية عامة…”
وإذا قررت المحكمة منح ظرف مخفف للفاعل , فإنها تختار له العقوبة بين الحد الأدنى الذي تستطيع النزول إليه, وبين الحد الأعلى للعقوبة القانونية.
وعليها أن تعلل السبب الذي منحت من أجله التخفيف.
وإذا طالب المتهم بالتخفيف, فإنه يصبح من واجب المحكمة أن ترد عليه إذا رفض طلبه.
وإذا كان في الجريمة عدة أشخاص, جاز منحه للبعض وعدم منحه للآخرين.
والظروف المخففة القضائية لا تغير طبيعة الجريمة, أي أن الجناية لا تصبح جنحة, ولو كانت العقوبة تنزل إلى مستوى عقوبات الجنحة. ( )
ولا يجوز أن تقل عقوبة الحبس المؤقت عن ثلث الحد الأقصى المقرر للجريمة.
ويجوز استثناء بالنسبة للأحداث النزول بالعقوبة إلى أقل من ذلك طبقا للمذكرة الإيضاحية من قانون الأحداث.

المطلب الثاني: وقف تنفيذ العقوبة

أجازت المادة 82 من قانون الجزاء للقاضي إذا أصدر حكما على الفاعل , أن يقرر وقف تنفيذ هذا الحكم, لاعتبارات تتعلق بأخلاق المتهم, أو ماضيه أو سنه, أو الظروف التي ارتكب فيها الجريمة, إذا كان من شأنها أن تحمل القاضي على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى الإجرام.
وواضح أن وقف التنفيذ هذا تدبير من تدابير الرحمة الاجتماعية.
وفي رأي الذين نادوا بإدخاله في التشريع أن له ثلاث اعتبارات:
الأول: أنه يتيح للقاضي في العقوبات القصيرة عدم إدخال المحكوم عليه السجن, حتى لا يتأثر بسلوك الآخرين فيه.
الثاني: أن التهديد بالعقاب يمكن أن يكون له أثر نفسي لا يقل عن أثر العقوبة نفسها مادامت كسيف مسلط على رأسه.
الثالث: أنه يدفع المحكوم عليه إلى إصلاح نفسه, حتى لا تنفذ فيه العقوبة المعلقة, وإذا اعتاد السلوك الشريف فالأغلب أنه لن ينتكس مرة ثانية.
ولكي يحق للقاضي أن يقرر وقف التنفيذ عن المحكوم عليه, يجب أن تتحقق الشروط التالية:
أولا: أن يكون الحكم صادرا بحبس المتهم سنتين على الأكثر أو بالغرامة.
فلا بد إذاً أن يصدر القاضي حكماً, وأن يكون هذا الحكم متضمناً الحبس مدة تتراوح بين أربع وعشرين ساعة وسنتين على الأكثر, فإذا كان الحكم يتضمن الحبس مدة أكثر من سنتين, فلا يجوز منح وقف التنفيذ, لأنه يكون مخالفاً لنص القانون, وبالتالي يكون وقف التنفيذ باطلاً.
ويجوز منح وقف العقوبة لمن سبق عليه الحكم قبلاً, ولو أصبح حكمه نهائيا (وهو العائد) كما يجوز منحه لمن استفاد قبلاً من وقف تنفيذ حكم سابق, نظراً لأن القانون لم يشترط أن يكون المستفيد مبتدئاً.
وقد يرد سؤال بأنه هل يمنح وقف التنفيذ للمحكوم عليه بالحبس في جناية, إذا حكم فيها القاضي بعقوبة سنتين أو أقل؟
والجواب, أن ذلك جائز, والحجة في ذلك أن نص القانون جاء مطلقاً, فقد جاء فيه “إذا قضت المحكمة بحبس المتهم مدة لا تجاوز سنتين…” ولم يحدد القانون طبيعة هذا الحبس وهل هو في جناية أو جنحة, والمطلق يبقى على إطلاقه, ولو أراد الشارع المنع في الجنايات لقال ذلك على غرار القوانين الأخرى.
ثم إن الغاية من وقف التنفيذ, هو تطبيق مبدأ من مبادئ السياسة الإجرامية, التي لا تريد أن تلقي بشخص لا يزال يؤمل الخير منه في وسط موبوء, وهذه الحكمة موجودة في حال الجناية, كما هي موجودة في حال الجنحة.
وأخيراً, ترك القانون للقاضي حق المنح من عدمه, لذلك فهو غير مجبر, إذا لم يشأ أ، يمنحه في حال الجناية (أو الجنحة طبعاً).

ثانيا: اعتقاد المحكمة أن الفاعل لن يعود إلى الإجرام.
وتستخلص المحكمة اعتقادها هذا من أخلاق المتهم أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكبت فيها جريمته.
ومن الضروري أن تذكر في حكمها, الأسباب التي حملتها على هذا الاعتقاد.

ثالثا: أن يوقع على تعهد:
ويجب أن يتضمن هذا التعهد بأنه لن يعود إلى الإجرام.
ومن حق المحكمة أن تكتفي بالتعهد, أو تطلب من المحكوم عليه تقديم كفالة شخصية أو عينية, حسبما تراءى لها أنه الأضمن والأفضل.
و يستحسن أن يوجه القاضي إلى المحكوم عليه نصيحة بلزوم تحسين سلوكه, ويبصره بالنتائج التي يتعرض لها إذا ارتكب جرماً جديداً.

المطلب الثالث: الامتناع عن النطق بالعقاب

أجاز القانون للقاضي, في حالة ارتكاب شخص جريمة عقوبتها الحبس, مهما كان نوعها -جناية أو جنحة- إذا وجد “من أخلاقه أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكبت فيها جريمته أو تفاهة هذه الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى الإجرام” أن يقرر الامتناع عن النطق بالعقاب, وهو ما يسمى أيضاً (بالاختبار).
وواضح أن الاختبار ممنوع في الجرائم المعاقب عليها بالغرامات, وذلك على خلاف وقف التنفيذ, وهذا فرق هام, كما أنه ممنوع في جريمة الخيانة لصراحة النص.

ويقرر القاضي تكليف المتهم بما يلي:
1. تقديم تعهد, بكفالة شخصية أو عينية, أو بدون كفالة, بالتزام حسن السلوك.
2. أن يلتزم في التعهد بمراعاة بعض الشروط التي يفرضها عليه القاضي لصالحه.
وهذه الشروط هي التي تفرق وقف وتنفيذ العقوبة عن الاختبار, واختيارها متروك للمحكمة, لتأمين حسن الرقابة عليه, ومساعدته على النجاح في تجربته.
ومن حق المحكمة أن تخضعه لإشراف مندوب يمثل السلطة العامة, أو شخص محسن يعهد إليه بذلك, أو مؤسسة متخصصة بذلك, ويجوز تبديل المشرف إذا لم يبرهن على أنه أهل للمهمة, وإذا اقتضت مصلحة المحكوم عليه ذلك.
فالشخص الخاضع للاختبار لا يتمتع بحريته كاملة كالشخص الذي تقرر وقف تنفيذ عقوبته, وإن كان مثله لا يدخل السجن.
ولذلك فإن وقف تنفيذ العقاب البسيط يصلح لأشخاص زلت بهم القدم, ولكنهم لا يمثلون خطورة على المجتمع, فيتركون أحراراً, يعملون على إصلاح أنفسهم بأنفسهم, أما الاختبار فيصلح لأشخاص لا يوحون بثقة, ويخشى من اتجاهاتهم وسلوكهم, أن يبتعدوا عن الصلاح, ففرضت عليهم تدابير رقابية وحماية لمساعدتهم على ذلك, ولذلك يجب تنظيم هذه التدابير في القانون.
ومدة الاختبار سنتان, فهي أقصر من وقف التنفيذ, فإذا اجتازها بسلام, أي لم يخل المتهم بشروط التعهد “اعتبرت إجراءات المحاكمة السابقة كأن لم تكن”, أما إذا أخل بها, فإن المحكمة بناء على طلب يقدم إليها من النيابة العامة أو المحقق أو الشخص الذي يشرف عليه, أو المجني عليه, تسير الدعوى التي أوقفتها المحكمة , وتقضي بالعقوبة التي تراها , ومصادرة الكفالة العينية (أو تحصيل الكفالة الشخصية).
و الاختبار, كمؤسسة لإصلاح الفاعل برهنت على نجاحها إجمالاً.=شرح قانون الجزاء الكويتي ص383

تطبيقات من أحكام التمييز بشأن عوامل الرأفة والامتناع عن النطق بالعقاب:

المادة 81/1 من قانون الجزاء تنص على انه “إذا اتهم شخص بجريمة تستوجب الحبس جاز للمحكمة إذا رأت من أخلاق المتهم أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها جريمته أو تفاهة هذه الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى الإجرام آن تقرر الامتناع عن النطق بالعقاب” وقد جاء بالمذكرة التفسيرية للقانون “أن تخفيف العقوبة قد تدرج من القانون تدرجا ملحوظا فبدأ بأخص الحالات وهي الحالة التي يرى فيها القاضي من أخلاق المتهم أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها جريمته أو تفاهة هذه الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى الإجرام فيقرر الامتناع عن النطق بالعقاب” بما مؤداه أنه يتعين على قاضي الموضوع أن يلتزم عند تقريره الامتناع عن النطق بالعقاب الاعتبارات المشار إليها في المادة المذكورة وأن يكون ذلك مؤدياً عقلاً ومنطقاً إلى الاعتقاد بأن المتهم لن يعود إلى الإجرام.
لحكم 466/1998 جلسة 4/10/1999 جزائي

من المقرر أن تقدير قيام موجبات الرأفة أو عدم قيامها موكول لقاضي الموضوع دون معقب عليه في ذلك وأن المشرع ترك للقاضي سلطة مطلقة في تقدير العقوبة -بالنسبة إلى كل منهم- في الحدود المقررة بالقانون للجريمة وإعمال الظروف التي يراها مشددة أو مخففة مادام أن ما انتهى إليه لا مخالفة فيه للقانون -كما هو الحال في الدعوى- هذا إلى أن تقرير الامتناع عن النطق بالعقاب أو الأمر بوقف تنفيذ الحكم عند توافر شروطها من سلطة محكمة الموضوع، وكانت المحكمة لم تر وجها للتقرير بالامتناع عن النطق بالعقاب وبالتالي الأمر بوقف تنفيذ الحكم فلا يقبل من الطاعن المجادلة في هذا الشأن ويضحي ما يثيره من أن محكمة الموضوع قد ساوت في العقوبة بينه وبين المتهم الثاني الذي دانه بنفس الجريمة ولم تضع في اعتبارها عند تقدير العقوبة تعدد أنواع المخدر التي تعاطاها الأخير أو الظروف المخففة والاعتبارات التي أشار إليها الطاعن في أسباب طعنه غير سديد.
الحكم 381/1998 جلسة 29/6/1999 جزائي

ومن المقرر أن الأصل في الظروف المخففة أن أثرها يقتصر على العقوبات الأصلية دون العقوبات التبعية أو التكميلية مما مقتضاه أنه لا يجوز للمحكمة في حالة مبررات التخفيف أن تعمل في شأن العقوبات التكميلية حكم المادة 81 من قانون الجزاء التى تجيز التقرير بالامتناع عن النطق بالعقاب ، لما كان ذلك وكانت الفقرة الثانية من المادة 78 من قانون الجزاء تنص على وجوب القضاء بعقوبة المصادرة باعتبارها عقوبة تكميلية متى كانت الأشياء المضبوطة يعد صنعها أو حيازتها أو التعامل فيها جريمة في ذاته وأن المادة 20 من القانون رقم 13 لسنة 1980 في شأن الجمارك تعاقب على التهريب الجمركى وما في حكمه بعقوبة أصلية وبعقوبات أخرى تكميلية وهى المصادرة وغرامة جمركية لا تجاوز ثلاثة أمثال الضرائب والرسوم المستحقة وكان الحكم المطعون فيه قد أثبت في حق المطعون ضده ارتكابه جريمتى حيازة وإحراز مادة الأفيون المخدرة بقصد التعاطى وتهريبها جمركيا ثم رأى للاعتبارات التى ساقها التقرير بالامتناع عن النطق بالعقاب وجاء الحكم على هذا النحو شاملا للعقوبة الأصلية وأيضا للعقوبتين التكميليتين وهما المصادرة والغرامة الجمركية فإنه يكون معيبا بما يوجب تمييزه تمييزا جزئيا في هذا الخصوص وتصحيحه باستبعاد عقوبتى الغرامة الجمركية والمصادرة من تقرير الامتناع عن النطق بالعقاب.
الحكم 390/1998 جلسة 19/1999 جزائي

الفصل الثاني
عقوبة الحبس في الشريعة الإسلامية

وفيه ثلاثة مباحث

المبحث الأول: تعريف الحبس ومشروعيته في الشريعة الإسلامية
المبحث الثاني: أنواع الحبس في الشريعة الإسلامية
المبحث الثالث: الحالات التي يشرع فيها الحبس

المبحث الأول
تعريف الحبس ومشروعيته في الشريعة الإسلامية:

وفيه مطلبين
المطلب الأول: تعريف الحبس
المطلب الثاني: مشروعية الحبس

المطلب الأول
الحبس في اللغة:

الحبس في اللغة هو المنع والإمساك , مصدر حبس , ويطلق على الموضع, وجمعه حبوس بضم الحاء, ويقال للرجل محبوس وحبيس وللجماعة محبوسون وحبس بضم الحاء والباء, وللمرأة حبيسة وللجمع حبائس, ولمن يقع منه الحبس حابس ( )
والحبس ضد التخلية , واحتباسك الشيء أي اختصاصك نفسك به. ( )
والحبس هو المنع من الإنبعاث, وقد يرد بمعنى المنع المطلق =عمدة الحفاظ ج1 ص366

الحبس في الاصطلاح:

الحبس الشرعي هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه سواء كان في بيت أو في مسجد. ( )
وكذلك منع الشخص من الخروج إلى أشغاله ومهماته الدينية والاجتماعية .
وقد يكون الحبس بأن يربط الحبيس بالشجرة, وليس من لوازمه الجعل في بنيان خاص معد لذلك.
والسجن بفتح السين يأتي بمعنى الحبس وأما بكسر السين فهو مكان الحبس, والجمع سجون, قال تعالى ((قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)) قرئ بفتح السين على المصدر, وبكسرها على المكان, والأشهر الكسر.
وقد يأتي الحبس بلفظ الاعتقال, يقال اعتقلت الرجل حبسته واعتقل لسانه إذا حبسه ومنع من الكلام, وقد قال الشاعر:
أفادني السجن منه عقلا لعقله سمي اعتقالا. ( )
ومن الالفاظ ذات الصلة بالحبس هي الحجر بمعنى المنع لكن الفقهاء يريدون به المنع من التصرفات المالية كالحجر على السفيه, أو القولية كالحجر على المفتي الماجن, أو العلمية كالحجر على الطبيب الجاهل, والمراد بالحجر تعويق التصرف لا تعويق الشخص الذي يقصد حبسه.
وكذلك لفظ الحصر يأتي بمعنى الحبس من قوله تعالى ((وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا)) أي سجنا وحبسا. ( )

المطلب الثاني
مشروعية الحبس:

اتفق الفقهاء على مشروعية الحبس للنصوص والوقائع الواردة في ذلك, وقد نقل عن بعضهم أن النبي لم يسجن أحدا.

من القرآن الكريم:
واستدل المثبتون بقوله تعالى ((اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا)).
وللعلماء أقوال في نسخ هذه الآية منها: أن الحبس نسخ في الزنى فقط بالجلد والرجم وبقي مشروعا في غير ذلك.
واستدلوا أيضا بقوله تعالى((تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله)) ففي الآية الكريمة إرشاد حبس من توجب عليه حق حتى يؤديه.
والآية غير منسوخة لعمل أبي موسى الأشعري بها في الكوفة زمن إمارته, وفي الحبس جاء قوله تعالى (( وخذوهم واحصروهم )) وتقدم معنا أن الحصر هو الحبس, والآية ليست منسوخة, وإلى مشروعية الأسر ذهب الفقهاء, بل إن الأسير يسمى مسجونا.

من السنة النبوية:
ومما يدل على مشروعية الحبس في السنة حديث (ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته) والليّ بمعنى المماطلة ويقصد بحل العرض إغلاظ القول والشكاية, والعقوبة هي الحبس, وهذا قول جماعة من الفقهاء مثل سفيان ووكيع وابن المبارك وزيد بن علي.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا أمسك الرجل , الرجل, وقتله الآخر, فيقتل الذي قتل, ويحبس الذي أمسك) , وبحنوه قضى علي رضي الله عنه حين أمر بقتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت, ويعرف هذا بالقتل صبرا أي الحبس حتى الموت.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس أحد رجلين من غفار اتهما بسرقة بعيرين وقال للآخر:اذهب فالتمس, فذهب وعاد بهما. ( )
واتخذ الحبس من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم, حين حبس بني قريظة في دار المدينة, ثم اتخذت له الدور في جميع الأمصار, والظاهر أنه جاء وقت كان الحبس فيه دار بلال, قال وكيع”قدم ابن إدريس إلى شريك (القاضي) في وصية, فأمر به إلى الحبس-والحبس يومئذ في دار بلال- فالتفت إلى شريك, وهو يذهب به إلى الحبس, يقول: الحكم في كذا وكذا -يفتيه- فقال شريك:أفت بهذا أهل دار بلال. ( )

من الإجماع:
ولقد أجمع الصحابة ومن بعدهم على مشروعية الحبس, وقد حبس الخلفاء الراشدون وابن الزبير والخلفاء والقضاة ومن بعدهم في جميع الأعصار والأمصار من غير إنكار, فكان ذلك إجماعا

من العقل:
وتدعوا الحاجة عقلا إلى إقرار الحبس للكشف عن المتهم, ولكف أهل الجرائم المنتهكين للمحارم, الذين يسعون في الأرض فسادا ويعتادون ذلك, أو يعرف منهم,ولم يرتكبوا ما يوجب الحد أوالقصاص. ( )

المبحث الثاني
أنواع الحبس في الشريعة الإسلامية:

وفيه مطلبين
المطلب الأول: الحبس التعزيري “بقصد العقوبة”
المطلب الثاني: الحبس للإستيثاق

المطلب الأول
الحبس التعزيري “بقصد العقوبة”

أ- موجباته:
الحبس بقصد العقوبة يكون في الأفعال والجرائم التي لم يشرع فيها الحد وهو من ضروب التعزير التي وردت في أحكام الخلفاء والأمراء وفي كتب الفقهاء. ( )

ب- الحبس التعزيري من حيث المدة :
أقل مدة للحبس التعزيري على القول الراحج عند الفقهاء تكون ليوم واحد فقط, وقال البعض أن يجوز الحبس بمقدار زمن صلاة الجمعة عندما تحقق الزجر وتكون مناسبة للذنب المرتكب من المحبوس.
أما أكثر مدة للحبس التعزيري فجمهور الفقهاء لم ينص على وجود الحد الأعلى لها, وإنما يفوض القاضي في تقديرها حسب أنواع الجرائم.
لكن بعض الشافعية أجاز ذلك بشرط أن يكون الحامل على ذلك هي المصلحة وليس التشفي والانتقام.
وقد قسم الفقهاء الحبس حسب مدته حيث سموا الحبس لأقل من سنة بالحبس القصير ويكون للجرائم البسطة, وما كان أكثر من سنة سموه بالحبس الطويل نظرا لخطورة الأفعال الموجبة له.
والأصل أن يكون الحبس معلوم المدة حين يحكم به القاضي, ولكن الفقهاء أجازوا إبهام مدته وعدم تعريف المتهم بها , أو تعليق انتهائها على توبة المجرم وصلاحيته.
وهناك وقائع ونصوص دلت أنه يجوز أن يكون الحبس مؤبداً كما ورد عن عثمان رضي الله عنه أنه حبس ضابئ بن الحارث حتى مات في سجنه. ( )

جـ – سقوط العقوبة وانقضائها:

1- سقوط عقوبة الحبس:
ويقصد به توقيف تنفيذه بعد النطق به, سواء أبدئ بتنفيذه أم لم يبدأ.
ويكون للأسباب التالية:

أ- بالمـوت:
حيث ينتهي الحبس بموت الجاني لانتهاء موضع التكليف, ولأن المقصود تعويق الشخص وقد فات, ولا يتصور استيفاء الحبس بعد انعدام المحل.

ب- بالجنون:
وقد نص الفقهاء على أن الجنون الطارئ بعد الجريمة يوقف تنفيذ الحبس, لأن المجنون ليس مكلفاً ولا أهلاً للعقوبة أو التأديب, إذ لا يعقل المقصود من حبسه لفقده الإدراك.
ولكن البعض قال أن الجنون لا يسقط التعزير لأن القصد منه التأديب والزجر, وإذا تعطل جانب التعطيل فلا ينبغي تعطيل جانب الزجر منعاً للغير.

جـ – العفو:
في حالة كون الحق متعلق بآدمي فإنه يسقط بعفوه مثل المدين المحبوس لحق الدائن.

د- الشفاعة:
تجوز الشفاعة للمحكوم عليه بالحبس تعزيرا قبل البدء بتنفيذ الحكم وبعده, لما فيها من دفع الضرر. ( )
ويقول الماوردي “فإن تفرد التعزير بحق السلطنة حكم التقويم ولم يتعلق به حق لآدمي, جاز لولي الأمر أن يراعي الأصلح في العفو أو التعزير وجاز أن يشفع فيه من سأل العفو عن الذنب, وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال(اشفعوا إلي ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء).=الأحكام السلطانية ص237

هـ- التوبة:
ليس للتوبة زمن محدد تعرف به, بل يعود تقدير إمكانية حصولها إلى ما يظهر من قرائن نتيجة المراقبة والتتبع.
غير أن هناك جرائم جسيمة تستلزم سرعة ظهور التوبة لما في الإصرار على الذنب من آثار خطيرة, مثل الردة التي حددت مدة توبتها بثلاثة أيام, السحر كذلك عند بعض الفقهاء. ( )

وقد اشترط الفقهاء للتوبة شرطين أساسيين هما:
1- أن تكون الجريمة مما يتعلق بحق الله, فلا تسقط التوبة العقوبة المقررة في الجرائم التي تمس حقوق الأفراد.
وحق الله هو ما يتعلق به النفع العام أو ما يندفع به ضرر عام, من غير اختصاص بأحد.
2- أن تكون التوبة مصحوبة بإصلاح العمل وهو ما يقتضي مضي مدة يعلم بها صدق التوبة. ( )

د-الجمع بين الحبس التعزيري وعقوبات أخرى:
ويرجع أصل هذه المسألة إلى ما ذكره الفقهاء من جواز اجتماع التعزير مع الحد, والقصاص, والكفارة.
ومن أمثلة اجتماع الحبس مع الحد, جلد الزاني البكر مائة حداً وحبسه سنة تعزيرا للمصلحة, وحبس المرتد ثلاثة أيام تعزيراً ثم قتله حدا.
ومن أمثلة جمع الحبس مع القصاص, حبس من جرح غيره جراحة لا يستطاع في مثلها القصاص والحكم عليه بالتعويض بدلاً منه.
ومن أمثلة الجمع بين الحبس والكفارة, حبس من ظاهر زوجته حتى يكفر عن ظهاره دفعا للضرر عن الزوجة, وحبس الممتنع عن أداء الكفارات عموما حتى يؤديها.
وقد قرر الفقهاء مشروعية الجمع بين الحبس تعزيرا مع غيره من أنواع التعازير, كتقييد السفهاء والمفسدين في سجونهم, وحبس من طلق في الحيض وضربه في سجنه حتى يراجع زوجته, وضرب المحبوس الممتنع من أداء الحقوق الواجبة, وحلق رأس شاهد الزور وحبسه, وحبس القاتل عمدا إذا عفي عنه مع جلده مائة.
هذا وقد أوكل الشرع مهمة تقدير الجمع في العقوبات للحاكم, لأن أحوال الناس مختلفة في الإنزجار. ( )

المطلب الثاني
الحبس للإستيثاق:

والإستيثاق لغة: هو إحكام الأمر وأخذه بالشيء الموثوق به.
واصطلاحا: هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه بقصد الاستيثاق وضمان عدم الهرب , لا بقصد التعزير والعقوبة.

وللحبس الاستيثاقي ثلاثة أسباب:

أ- بسبب التهمة: وهو تعويق ذي الريبة عن التصرف بنفسه حتى يتبين أمره فيما ادعي عليه من حق الله أو الآدمي المعاقب عليه, ويسمى أيضا بحبس الاستظهار, ليكشف به ما وراءه. ( )
ويستدل لمشروعيته بالآية الكريمة(تحبسونهما من بعد الصلاة) , لحبس النبي صلى الله عليه وسلم ناساً من الحجاز اقتتلوا فقتلوا بينهم رجلاً, وما يروى عن علي أنه حبس متهمين حتى أقروا, وحبس عمر بن عبد العزيز ليزيد بن المهلب بتهمة أخذه أموال الدولة.
واعتبره الفقهاء من السياسة العادلة إذا تأيدت التهمة بقرينة قوية أو ظهرت أمارات الريبة على المتهم, أوعرف بالفجور.
وبين الفقهاء الجهة التي يحق لها الحبس بتهمة, ولهم في المسألة قولان, الأول أنه ليس للقاضي أن يحبس بتهمة وإنما هو للوالي وحجتهم أنه من باب التصرف في السياسة الشرعية التي يملكها الإمامو والوالي دون القاضي, إذ ليس للقاضي أن يحبس أحداً إلا بحق وجب.
والقول الثاني يرى أن للوالي والقاضي أن يحبسا بتهمة , وقد استدلوا بأن عموم الولايات وخصوصها, وما يستفيده المتولي بالولاية راجع إلى الألفاظ والأحوال والعرف, وليس لذلك حد في الشرع, فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأمكنة ما يدخل في ولاية الحرب في زمان ومكان آخر وبالعكس.( )

ب-الحبس للإحتراز:
والإحتراز لغة : التحفظ على الشيء توقياً.
واصطلاحا: التحفظ للمصلحة العامة على من يتوقع حدوث ضرر بتركه ولا يستلزم منه وجود تهمة.
وذكر الفقهاء أم من أمثلته: حبس العائن الذي يضر الناس بعينه احترازاً من أذاه, وحبس نساء البغاة وصبيانهم تحفظاً عليهم من المشاركة في البغي.
وتنقضي مدة الحبس الاحترازي بزوال موجبه, وبالاطمئنان إلى أنه لن يحدث ضرر من إطلاق المحبوس أو الأسير.( )

جـ- الحبس بقصد تنفيذ العقوبة:
إذا حال دون تنفيذ العقوبة المحكوم بها أمر عارض أرجئ التنفيذ إلى أن يزول العذر, فإذا خيف هرب المطلوب تنفيذ العقوبة عليه, جاز حبسه.
كأن يؤخر المريض, والحامل, والنفساء, والمرضع, والمظنون حملها حتى تستبرأ.
والمجروح والمضروب, والسكران حتى يصحوا.
ولذلك قال الفقهاء أنه يستلزم الحبس للتنفيذ أمران, هما الحد والقصاص, فمن حكم عليه بحد فيما دون النفس وهو معذور, حبس حتى يزول عذره, ومثل ذلك القصاص.( )

المبحث الثالث
الأحوال التي يشرع فيها الحبس:

أولا: الحبس في الجرائم الواقعة على النفس وما دونها:

1- حبس القاتل عمداً لعدم المكافأة في الدم بينه وبين المقتول, وهو قول للمالكية وابن شهاب الزهري.
2- حبس القاتل المعفو عنه في القتل العمد, وهو رأي الجمهور.
3- حبس المتسبب في القتل العمد دون مباشرته, كمن أمسك رجلا لآخر ليقتله, وهو مذهب الجمهور.
4- حبس الجاني على ما دون النفس بالجرح ونحوه لتعذر القصاص.
5- الحبس لتعذر القصاص في الضرب واللطم, وهو قول الحنفية والمالكية.
6- حبس العائن إذا لم يأتمر بأمر الحاكم بكف أذاه عن الناس, وينفق عليه من بيت المال إن كان فقيرا, كما قال جمهور الفقهاء.
7- حبس المتستر على القاتل ونحوه, وقال به ابن تيمية في السياسة الشرعية “لتركه واجب التعاون على البر والتقوى”.
8- الحبس لمن امتنع عن الحلف ممن تجب عليه القسامة”وهي الأيمان المكررة في دعوى القتل”, وبه قال الجمهور.
9- حبس من يمارس الطب من غير المختصين, وقال به المالكية, عقابا ومخافة إفساد أبدان الناس.

ثانيا: الحبس في جرائم التعدي على الدين وشعائره:
1- الحبس للردة, حتى تكتشف شبهته, ويستتاب, واختلفوا بين وجوبه وجوازه بالنسبة للقاضي.
2- الحبس للزندقة, وهي كل من أسرّ الكفر وأظهر الإيمان حتى بدر منه ما يدل على خبيئة نفسه.
3- حبس المسيء إلى بيت النبوة, بأن سبّ أحدا من أهل البيت لاستخفافه بحق الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- الحبس لترك الصلاة, بإجماع الفقهاء سواء في حال الجحود أو التكاسل, ولكن أضاف البعض عقوبة القتل على التارك جحوداً بعد حبسه إذا لم يتب.
5- الحبس لانتهاك حرمة شهر رمضان, بالفطر نهاراً وهو قول الفقهاء بالإجماع, أو بشرب الخمر, وقال به الحنفية من المنقول عن علي رضي الله عنه.
6- الحبس بسبب العمل بالبدعة والدعوة إليها, وبه قال أكثر الفقهاء.
7- الحبس للتساهل في الفتوى, كالمفتي الماجن, كما قال المالكية.
8- الحبس للامتناع من أداء الكفارات, وهو قول مرجوح عند الشافعية, وقال المالكية يؤدب فقط.

ثالثا:الحبس في جرائم الأخلاق:
1- حبس البكر الزاني بعد جلده, لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيرجل زنى ابنه ( وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام) وقد فسر بعض الفقهاء التغريب بالجبس, وأوجب بعضهم الحبس في المنفى.
2- حبس من يعمل عمل قوم لوط, عند بعض الفقهاء الذين لم يوجبوا عليه القتل.
3- حبس المتهم بالقذف, كالذي يقوم عليه شاهد واحد في تهمته لآخر, كما قال الحنفية والمالكية.
4- حبس المدمن على السكر تعزيرا بعد حده, كما فعل عمر رضي الله عنه حين جلد أبو محجن الثقفي في الخمر ثماني مرات, وأمر بحبسه, فأوثق يوم القادسية, ثم أطلق بعد توبته.
5- الحبس للدعارة والفساد الخلقي, كمن قبل الأجنبية أو عانقها, ومن خدع البنات وأخرجهن من بيوتهن, وأفسدهن على آبائهن, كما تحبس المرأة الداعرة, والقوادة, وتضرب حتى تظهر توبتها.
6- حبس المخنث من الرجال, والمترجلة من النساء, كما قال ابن تيمية في الفتاوى.
7- الحبس لكشف العورات في الحمامات, كما نص القاضي الأندلس يحيى بن عمر على سجن صاحب الحمام وغلق حمامه إذا سهل للناس كشف عوراتهم.
8- الحبس لمتخذ الغناء صنعة, حين يتسبب في فتنة الناس وفسادهم, وقال به الحنفية.

رابعاً : الحبس في الجرائم الواقعة على الأموال:
1- حبس العائد إلى السرقة بعد قطع يده, لمنع ضرره على الناس, وقال به الجمهور.
2- حبس السارق تعزيرا لتعذر موجب القطع, سواء لشبهة, أو لعدم كفاية نصاب المسروقات في حد السرقة.
3- حبس المتهم بالسرقة, لوجود قرينة معتبرة.
4- حبس الغاصب حتى يرد ما اغتصبه.
5- الحبس للاختلاس من بيت مال المسلمين, وذهب به الصحابة, وحكي ذلك عن عمر بن الخطاب مع معن بن زائد.
6- حبس الممتنع من أداء الزكاة.
7- الحبس للمدين.
8- الحبس للتعدي على حق الله أو حقوق العباد, كالمرابي, ومن باع الخمر, وفي الغش والاحتكار, وعدم النفقة على من تجب عليه نفقته.
9- حبس الكفيل لإخلاله بالتزاماته.

خامساً: الحبس في الجرائم المتعلقة بالقضاء والأحكام:
1- حبس الممتنع من تولي القضاء, وهي للإمام حين يكون القضاء واجبا شرعيا, وبه قال المالكية, صيانة لحقوق المسلمين.
2- حبس المسيء إلى هيئة القضاء, كالاستهزاء بالقاضي, أو شتم الخصوم لبعضهم أمامه.
3- حبس المدعى عليه الحد والقصاص حتى يعدل الشهود, حتى يتثبت من الدعوى بحجة كاملة, تظهر عدالة شاهده.
4- حبس صاحب الدعوى الكيدية, وقال به الحنفية والمالكية.
5- حبس شاهد الزور, كما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما, وقال به أكثر الفقهاء, وزاد ابن تيمية بأن يحبس من يلقن شهادة الزور لغيره.
6- حبس المقر لآخر بمجهول لامتناعه عن تفسيره, سواء كان إقراره من نفسه ابتداءً أو ادّعي عليه به, وبه قال جمهور الفقهاء.

سادساً: الحبس في جرائم أمن الدولة:
1- حبس الجاسوس المسلم, وقال به الحنفية والشافعي, وبعض المالكية.
2- حبس البغاة, وهم الخارجون على الحاكم في الحالات الآتية:
• إذا تأهبوا للقتال, بقيامهم بأعمال تدل على إرادة الخروج على الإمام كشراء السلاح, والإجتماع للثورة, والتأهب للقتال.
• أثناء القتال, فإذا أمسك البغاة أثناء القتال حبسوا, ولا يطلق سراحهم إذا خيف انحيازهم إلى فئة أخرى أو عودتهم إلى القتال.
• تتبعهم بعد القتال وحبسهم, وهو قول بعض الفقهاء من المالكية والشافعية.( )

كلمــة أخيـــرة

1- إن عقوبة الحبس في القوانين الوضعية هي العقوبة الأولى أو الأساسية التي يعاقب بها في كل الجرائم تقريباً, أما الشريعة في الإسلامية فإن عقوبة الحبس احتياطية اضطرارية, وهي واحدة من خمس عشرة عقوبة تعزيرية تقريبا, منها عقوبات شديدة تناسب الجرائم الجسيمة, ومنها عقوبات أقل شدة تناسب الذنوب الخفيفة, وللقاضي أن يعاقب بواحدة من هذه العقوبات أو يعفو عن المذنب بحسب خطئه, ولا يحل له التعزير بالحبس مثلاً إذا كان يكفي ما دونه, أو كان الحبس غير زاجر للجاني, ومن المقرر في الفقه أنه يجوز الحكم بالحبس إذا تعيَّن وسيلة لإيصال الحقوق إلى أربابها أو حلاً وحيداً لردع الجاني وتأديبه, على أن الفقهاء ذكروا أن الحبس ينفذ غالباً فيمن قلّ قدره وكثر شرّه من السوقة والغوغاء.
2- إن في الشريعة الإسلامية عقوبات رادعة على جرائم معينة تسمى الحدود, ولا يجوز بحال من الأحوال تجاوزها إلى الحبس, إذ سلطة القاضي فيها قاصرة على النطق بالعقوبة المحددة للجريمة, ومن المقرر أن الحبس لا يصلح حداً بحال من الأحوال, أما القوانين الوضعية فلا تعرف الحدود, بل تحكم على جرائمها بالحبس, فتزيد عدد السجناء, ومشكلات السجون, ولا يحصل الردع والزجر من جراء ذلك, وقديما قال أبو يوسف القاضي للخليفة الرشيد “لو أمرت بإقامة الحدود, لقلّ أقل الحبس, ولخاف الفسّاق وأهل الدعارة, ولتناهوا عما هم عليه”.
هذا ويترتب على الفرقين السابقين بين الشريعة والقانون , أن يقل إلى حد كبير عدد المحبوسين في البلاد التي تطبق الشريعة الإسلامية, وأن يزيد عددهم في البلاد التي تطبق القوانين الوضعية.
ولا يشك منصف أن تنفيذ الحدود واختيار عقوبة مناسبة من التعزير-ليست بالضرورة الحبس- لا يبقيان على إرهاق خزينة الدولة وتعطيل الإنتاج وانعدام قوة الردع وإفساد المسجونين وانخفاض المستوى الصحي والأخلاقي ونحو ذلك من سلبيات الحبس.
3- أما البقية الباقية من المجرمين الذين يتعين حبسهم, ويرى القضاء أنهم لا يتأدبون ولا ينزجرون عن مفاسدهم إلا بعزلتهم عن المجتمع وحبسهم في السجن فلا يترك حبسهم آثاراً سلبية خطيرة في أنفسهم ومجتمعهم.
إذ طائفة منهم يتوقف الإفراج عنهم على إتيانهم بتصرف منهم ينهى اللدد والمعاندة, وبذلك تكون مدة بقائهم في الحبس قصيرة, وهذا منسجم مع اتجاه الشريعة إلى ربط السجن بالقاضي مصدر الحكم حتى لا تنقطع الصلة بينه وبين المحكوم عليه, لأن الجريمة لا تنتهي بمجرد النطق بالعقوبة بل لابد من تتبع القاضي مراحل تنفيذها.
وطائفة أخرى يتوقف انتهاء حبسهم على صلاح حالهم وظهور توبتهم, سواء كانت جرائمهم صغيرة أو كبيرة مع ملاحظة أن النصوص الشرعية تتجه نحو عدم تحديد مدة الحبس, بل تعليقه على توبة السجين طمعاً في إسراعه بإصلاح نفسه ذاتياً, وهو ما تحبذه النظريات العقابية الحديثة, وهؤلاء لن تزداد أخلاقهم سوءاً, لأن إخراجهم متوقف على توبتهم وصلاح حالهم إذا رغبوا هم في الخروج.
أما الطائفة الباقية, فتكرر منهم ارتكاب الجرائم وعرفوا بالفساد, فإن أخلي سبيلهم نال الناس الضرر منهم, فلم يبق إلا حبسهم حتى يتوبوا أو يموتوا في السجن, كما فعل عثمان رضي الله عنه مع ضابئ بن الحارث.

الخاتمـــــــة

في ختام هذه الدراسة في موضوع الحبس بين الشريعة والقانون, آمل أن أكون قد وفقت في الإلمام بالموضوع وعرضه بشيء من التبسيط الغير مخل, محباً أن أضيف بعض التعليقات الختامية.
وجدنا أن موضوع الحبس لم يعالَج في الشريعة الإسلامية بنفس الطريقة التي وردت في قوانين الجزاء الوضعية من الشمول والتفاصيل, مع أننا ذكرنا ما يحتويه التشريع الإسلامي من شمول وسمو لا يرقى أحد من البشر أن يحدث فيه تغييراً مهما كان, ولعل السبب في رأيي أن القانون قد وضع من عهد قريب ومطبق منذ وضع, وتحدث نصوصه وقوانينه باستمرار, وهو أيضا يعالج العقوبات والجرائم بشكل معين ومسمى وقد نجد قصوراً في هذه أو تلك إذا ما تدبرناه ملياً.
أما التشريع الإسلامي فصحيح أنه الشامل والكامل, لكنه ظل غائباً عن التطبيق والمدارسة والإسقاط على الواقع بحيث أننا لم نلجأ إلى عقوباته وتدابيره الوقائية, فصار غريباً بعيداً وكأن نصوصه التي وردت في كتب الفقهاء تعالج مشكلات كانت قائمة منذ مئات السنين لكنها الآن لم يعد لها وجود.
والإجابة عن ذلك توجز بأن الشريعة الإسلامية عبر خاصية العالمية والشمول والخلود, أتت نصوصها مرنة بحيث يستطيع فقهاء كل عصر من العصور أن يجدوا فيه مبتغاهم من العقوبات والتدابير الوقائية للمجتمع والأفراد.
وكذلك إن التشريع الإسلامي وضع اعتبارا لمسألة التوبة الصادقة وأثرها في الجزاء, وهي لم تأخذ حقها في التشريع الوضعي.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه من إقامة العدل في أرضه, وفق منهاجه القويم, ونستطيع عبر مدة زمنية قصيرة أن نستكمل النقص في قوانيننا الوضعية ونجعلها ملائمة لمقاصد الشارع الكريم سبحانه وتعالى.
والله الموفق

ثبـت المصـــــادر

1- أحكام السجن ومعاملة السجناء في الإسلام ، الدكتور حسن أبوغدة، مكتبة المنار الإسلامية، ط1, 1987
2- المسؤولية الجنائية في قانون العقوبات والإجراءات الجنائية، المستشار عز الدين الديناصوري، الدكتور عبد الحميد الشواربي، دار المطبوعت الجامعية.
3- موسوعة فقه ابن تيمية، الدكتور محمد رواس قلعه جي، دار النفائس.
4- شرح قانون العقوبات اللبناني، الدكتور محمد نجيب حسني، دار النهضة العربية.
5- الفقه الجنائي الإسلامي، الدكتور فتحي بن الطيب الخماسي، دار قتيبة.
6- الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية-الكويت.
7- الأحكام السلطانية، أبي الحسن الماوردي، دار الكتب العلمية.
8- لسان العرب، ابن منظور، دار صادر.
9- الموسوعة الجنائية، جندي عبد الملك بك، دار احياء التراث العربي.
10- شرح قانون الجزاء الكويتي، عبد الوهاب حومد، جامعة الكويت.
11- التصرف في التحقيق الجنائي من الوجهة العملية، هشام عبد الحميد الجميلي.
12- الوسيط في قانون العقوبات، الدكتور أحمد فتحي سرور، معهد الكويت للدراسات القضائية والقانونية.
13- نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي، دار النفائس.
14- مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة التمييز، المكتب الفني-وزارة العدل.

بحث و دراسة مقارنة حول عقوبة الحبس في الشريعة و القانون