الحماية القانونية للأصل التجاري في بحث قانوني متعمق

الحماية القانونية للأصل التجاري

الاستاذة نادرة الطيب

لئن كان من الثابت أن الأصل والمبدأ هو حرية التعامل والتعاقد والتبادل التجاري، إلا أن الحرية لا يمكن أن تكون بحال مطلقة، كما أن المبدأ إذا خلا من الاستثناءات أضحى يعتريه بعض الإخلالات، خاصة في ضل وجود أطراف ذات مراكز قوي متباينة، الأمر الذي يجعل من الضروري تدخل المشرع من خلال سن قوانين تسعى بالدرجة الأولى لحماية “الطرف الضعيف” في العلاقات التعاقدية أو المعاملات التجارية، بما يوفر حماية قانونية ينتفع بها جل التجار ولعل أبرزهم أولئك الذين يمارسون نشاطهم التجاري ضمن أصول تجارية، وتحتل هاته الأخيرة مكانة اقتصادية هامة حيث أنها تعتبر “أداة عمل التجار مثلما أن الآلات أداة عمل المصانع[1]“.

وقد كان الأصل التجاري في البداية يعرف “بأصل الدكان” والذي يقصد به مجموع السلع الموجودة بالمخازن، ولم يبدأ الحديث عن الأصل التجاري كمجموع من الوسائل التي يستخدمها التجار في النشاط التجاري إلا في آخر القرن التاسع عشر[2]، كما يطلق على الأصل التجاري (Fonds de commerce) عدة تسميات أخرى على غرار تسمية المحل التجاري التي يعتمدها كل من المشرعين المصري والجزائري، وتسمية المؤسسة التجارية التي يعتمدها المشرع اللبناني.

ولم يتبلور مفهوم الأصل التجاري قانونا إلا عندما أدرك التجار أن نشاطهم بالرغم من ارتكازه على عناصر مختلفة من حيث الطبيعة كالآلات والمعدات والسمعة التجارية والعنوان التجاري فإنها كلها تتظافر لتشكل كلا وكيانا متجانسا من شأنه أن يكون موضوع تعامل.

ويعتبر المشرع الفرنسي من أوائل المشرعين الذين اهتموا بتنظيم الأصل التجاري وذلك من خلال قانون 28 فيفري 1872[3] وقد تلاه فيما بعد قانون غرة مارس 1898[4] وهو أول قانون يسمح بتوظيف رهون على الأصول التجارية.

أما بالنسبة للمشرعين العرب، فقد اهتموا بالأصل التجاري في أزمنة متفاوتة، و من بين القوانين المتعلقة بالأصل التجاري نذكر على سبيل المثال القانون المصري عدد 40 لسنة 1940[5] وظهير 21 مارس 1930 المغربي والذي ألغي بموجب إصدار مدونة التجارة المغربية بتاريخ 13 ماي 1996، أما المشرع اللبناني فقد أورد النصوص المتعلقة بالأصل التجاري صلب المرسوم الاشتراعي رقم 11 بتاريخ 11/07/1967.

أما بالنسبة للتشريع التونسي فإنه لم يهتم في البداية بتنظيم الأصل التجاري برمته بل اكتفى في أوائل القرن الثاني عشر للهجرة بالاهتمام بإحالة محل التجارة[6] وخلو النصبة[7]. وقد عرف المشرع التونسي خلو النصبة صلب الفصل 991 م.إ.ع بأنها “حق الاستقرار بدكان ونحوه مما هو معد لصناعة أو تجارة يلتزم المكتري بان يؤدي للمالك مقابلته كراء معينا لا يتغير ويستقر هذا الحق للمكتري بإدخال الآلة ومواعين خدمته للمحل ويدوم ما دامت تلك الآلات والمواعين”. إلا أن المشرع التونسي قام بحذف هذا الحق وإبطاله
في سنة 1863[8].

وقد اعتبر بعض الفقهاء[9] أن حق النصبة لا يختلف في شيء عن الأصل التجاري إلا أن الأمر على خلاف ذلك إذ أن حق النصبة أو ما يمكن أن يطلق عليه تسمية حق التبقية ليس في جوهره إلا حق تجديد الكراء الذي يعتبر أحد أبرز مكونات الأصل التجاري مع وجود بعض الإختلافات، ولكنه لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال مرادفا لمفهوم الأصل التجاري.

و لم يقم المشرع التونسي بتنظيم الأصل التجاري إلا في سنة 1959 تاريخ صدور المجلة التجارية نظرا لعدم قدرة مجلة الالتزامات والعقود على الإستجابة لكل تطلعات التجار[10] والتي أوردت الأحكام المتعلقة بالأصل التجاري صلب الكتاب الثاني منها.
وتدعم هذا الإهتمام أكثر بصدور قوانين خاصة على غرار قانون 25 ماي 1977.

ورغم هذا الكم الهائل من الفصول المتعلقة بالأصل التجاري إلا أن المشرع التونسي شأنه شأن غيره من المشرعين[11] لم يخصص أيا منها لتعريف هذا المصطلح وإنما اكتفى ببيان بعض عناصره التي أوردها على سبيل الذكر لا الحصر، ولذلك فإن إيجاد تعريف لمفهوم الأصل التجاري يستوجب الرجوع لمقتضيات المجلة التجارية والاجتهادات الفقهية، وقد نص الفصل 189 من المجلة التجارية على أنه

“تندرج في محتويات الأصل التجاري الأشياء المنقولة المخصصة لممارسة أعمال التجارة. ويشمل الأصل التجاري وجوبيا الحرفاء والسمعة التجارية.

كما يشمل أيضا ما لم يقض نص بخلافة سائر الأشياء الأخرى اللازمة لاستغلال الأصل التجاري كعنوان المحل والإسم التجاري والحق في الإجازة والمعدات والآلات والسلع وبراءات الاختراع وعلامات المعمل والأشكال والنماذج وحقوق الملكية الأدبية والفنية.”

“ويستفاد من أحكام الفصل 189 من المجلة التجارية أن المشرع قد أخضع التعامل في الأصل التجاري لأحكام المنقول أو لأحكام خاصة غير تلك المتعارف عليها بالنسبة للعقارات”[12].

وعلى هذا الأساس فان الأصل التجاري هو مال منقول، وتنقسم الأشياء المنقولة المكونة له إلى منقولات مادية وأخرى معنوية أما المنقولات المادية فتتمثل بالأساس في البضائع والسلع وهي أشياء معدة للبيع كالمواد الغذائية والملابس وتختلف قيمتها من أصل تجاري لآخر، وتضمحل في بعض الأصول التجارية وهي مقصاة صلب الفصل 237 من المجلة التجارية من الأجزاء التي يمكن رهنها نظرا “لكونها عنصر غير ثابت يزيد وينقص وفقا لمقتضيات التجارة”[13].

وبالنسبة للمعدات والآلات فتتمثل في جملة المنقولات المعدة لتهيئة واستغلال الأصل التجاري مع ضرورة التمييز بين المعدات والآلات المعدة للاستعمال الشخصي كالسيارة الخاصة والمعدات والآلات المعدة لاستغلال الأصل التجاري كشاحنات نقل البضائع.

ويشترط في المعدات والآلات أن تحافظ على صفتها كمنقول كي تعتبر من بين مكونات الأصل التجاري إذ أنها تفقد هذه الصفة كلما كانت ملتحمة بالعقار وفق شروط الفصل العاشر من مجلة الحقوق العينية المتعلق بالعقارات الحكمية[14].

وبالإضافة إلى العناصر المادية فإن الأصل التجاري يظم عناصر معنوية تعتبر هي الأهم في تكوينه وتحديد قيمته، وتنقسم هاته العناصر المعنوية إلى عناصر إجبارية وأخرى إختيارية.

أما العناصر الإجبارية فتتمثل بالأساس في الحرفاء والسمعة التجارية، ولئن اعتبرهما بعض رجال القانون المكونان الوحيدان للأصل التجاري[15]، إلا أن هذا التناقض مع مقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 189.

وعادة ما يتم استعمال مصطلح الحرفاء والسمعة التجارية (La clientèle et l’achalandage) للدلالة على نفس المعني[16]، إلا أن هذا لا يمنع من التمييز بينهما على الأقل على المستوى النظري، إذ يقصد بالحرفاء الأشخاص الذين جذبتهم الصفات الشخصية فهي صفة ملتصقة بذات المتجر الذي قد يكتسب سمعة تجارية حسنة وجالبة بسبب موقع العقار أو جودة البضاعة فيه وطريقة عرضها أو جمال الأثاث أو حسن المعاملات ورفعة الاستقبال وغير ذلك من الأسباب التي سخرها التاجر من أجل اجتذاب زبائنه.

أما على المستوى الواقعي “فلا يوجد فرق بين هاتين العبارتين ويمكن استعمال عبارة الحرفاء لتحديد مجموع علاقات الأعمال المتعود عليها أو المناسبية الموجودة والتي يمكن أن توجد بين العموم ومركز العمل (متجر، مصنع)”[17].

يمثل الحرفاء روح الأصل التجاري إذ لا يمكن الحديث عن أصل تجاري إن لم يتوفر عنصر الحرفاء، كما أنه يكفي توفر عنصر الحرفاء للحديث عن أصل تجاري وإن غابت العناصر الأخرى كالبضاعة وذلك على غرار السمسار، ويشترط في الحرفاء أن يكونوا حقيقيون أي أن لا يكونوا وقتيون أو محتملون، كما يجب أن يكونوا شرعيون فالمتاجرة في المخدرات على سبيل المثال لا تؤدي إلى خلق أصل تجاري مهما كان عدد الحرفاء.

أما فيما يتعلق بالعناصر المعنوية الإختيارية فإن المشرع لم يضبط قائمة حصرية خاصة بها بل اكتفى بذكر أبرزها وهي عنوان المحل والإسم التجاري والحق في الإجارة وبراءات الإختراع وعلامات المعمل والأشكال والنماذج وحقوق الملكية الأدبية والفنية.

أما الإسم التجاري فهو “الإسم الذي يستخدمه التاجر في ممارسته لنشاطه التجاري فيميزه ويكون أحد دعامات شهرته بين الناس وقد يكون إسم شهرة أو إسما مبتكرا وقد يكون إسم التاجر نفسه”[18].

ولئن تشابه الإسم التجاري وعنوان المحل إلا أنهما يختلفان من حيث كون عنوان المحل هو عبارة عن ما يوضع على المحل من رموز أو شارات قد تتخذ شكل صور أو رسوم أو غير ذلك مما يمكن أن يميز محلا تجاريا عن غيره، الأمر الذي يتيح استعمال عديد العناوين التجارية التي قد تختلف وتتعدد بتعدد المحلات رغم وحدة إسمها التجاري.

وتندرج بقية العناصر المعنوية في إطار ما يعرف بحقوق الملكية الصناعية وحقوق الملكية الأدبية والفنية ؛ أما الأولى فتشمل براءات الإختراع ، العلامات التجارية ، الرسوم والنماذج الصناعية وهي حقوق تتكون بنتيجة نشاط التاجر الذي يعطيها إمكانية في الربح وفي القيمة التجارية أو الصناعية ولولا النشاط الذي يؤدي إلى النجاح في العمل والحصول على أرباح لما كانت لها قيمة مالية وهي بذلك تختلف عن ملكية الأشياء المادية التي تعتبرها قائمة بذاتها فيستعملها التاجر بحالتها الحاصرة.

ويخضع كل من حقوق الملكية الصناعية لنصوص قانونية خاصة به ؛ فبراءة الإختراع ينظمها ويحميها قانون عدد 84 لسنة 2000 المؤرخ في 24 أوت 2000[19]، أما الرسوم والنماذج الصناعية فينظمها ويحميها قانون عدد 21 لسنة 2001 المؤرخ في 6 فيفري 2001[20]، أما بالنسبة للعلامات التجارية نظمها المشرع وحماها صلب القانون عدد 31 لسنة 2001 المؤرخ في 17 أفريل 2001[21].

أما الثانية وهي حقوق الملكية الأدبية والفنية فتشمل حقوق المؤلفين على مؤلفاتهم سواء كانت أدبية أو فنية أو علمية، وقد اهتم المشرع التونسي بتنظيم هاته الحقوق وحمايتها صلب قانون 24/02/1994[22].

وفضلا عن العناصر المعنوية سالفة الذكر فإنه يمكن إستنادا إلى صياغة الفصل 189 من المجلة التجارية إضافة بعض العناصر الأخرى على غرار الرخص الإدارية التي يكون منحها رهين توفر شروط موضوعية معينة كشروط الأمان والصحة وهذا النوع من الرخص يمكن اعتباره من بين مكونات الأصل التجاري، على خلاف الرخص الإدارية التي يكون منحها رهين توفر شروط شخصية مرتبطة بذات طالبها والتي لا يمكن اعتبارها من بين مكونات الأصل التجاري.

ولا تعتبر الحقوق الشخصية والديون من عناصر الأصل التجاري[23] باعتبار أن الأصل التجاري ليس له ذمة مستقلة.

وبناءا على ما تقدم فإنه يمكن القول بأنه من الصعب إيجاد حدود لمفهوم الأصل التجاري فضلا عن غياب تعريف تشريعي له إلا أن ذلك لا يمنع من تعريفه اعتمادا على عناصره بكونه “مجموعة من الأموال المنقولة المادية والمعنوية التي يضعها التاجر سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا بقصد الاستغلال التجاري، ويضم هذا المجموع وجوبا الحرفاء”[24].

ومن جهة أخرى للأصل التجاري طبيعة قانونية اختلف فيها الفقهاء، فظهرت ثلاث نظريات؛ أما الأولى فهي نظرية المجموع القانوني Universalité de droit، وقد ذهب أنصارها على اعتبار أن الأصل التجاري يشكل ذمة مالية مستقلة عن الذمة المالية العامة للتاجر أو بمعنى آخر ذمة تجارية خاصة به تسمى ذمة تخصيص تجارية وهذه المدرسة لم يكن لها أي صدى في جل القوانين الوضعية،

لا بل إنها تتعارض مع بعضها على غرار تعارض هاته النظرية مع الفصل 192 من مجلة الحقوق العينية الذي اقر مبدأ الضمان العام[25]، أي أن الذمة المالية ضامنة لتنفيذ الإلتزامات إلا ما استثناه القانون بحكم طبيعة بعض الأموال[26]، أي أن تطبيق هذا المبدأ يفضي إلى اعتبار أن الذمة المالية للتاجر ضامنة لتنفيذ إلتزاماته بما فيها الإلتزامات المتعلقة باستغلال الأصل التجاري باعتبار أن المشرع لم يستثنى هاته الالتزامات بموجب نص خاص.

أما الثانية، فهي نظرية المجموع الواقعي وحسب هذه النظرية فإن الأصل التجاري يعتبر مجموعا واقعيا Universalité de fait, فالأصل التجاري هنا لا يمثل ذمة مالية مستقلة عن ذمة التاجر بل هو مال خاص في هذه الذمة يتكون من مجموعة من العناصر الإيجابية الموجهة لتحقيق هدف واحد هو استغلال نشاط تجاري.

وهذه النظرية مثل سابقتها رغم كونها لا تتعارض مع مقتضيات الفصل 192 سالف الذكر إلا أنه لم يتم اعتمادها من قبل المشرع التونسي باعتبار تعارضه مع النظام القانوني الخاص بالأصول التجارية والذي تعامل مع الأصل التجاري على أنه مجموع قائم الذات يمكن بيعه ورهنه وكرائه والمساهمة به في رأسمال شركة, أي أن المشرع لم يتعامل مع الأصل التجاري كعناصر مستقلة عن بعضها البعض.

لذلك ظهرت نظرية ثالثة وهي نظرية الملكية المعنوية وتسمي أيضا بنظرية “الملكية التجارية”، وإيجاد حق ملكية ذو طبيعة خاصة ناتج عن وجود نشاط أشبه ما يكون بالإبتكار الذهني والإبداع الفني كالاختراع تماما.

“وهذا النشاط الخلاق الذي يبذله التاجر ويجتهد في وضع أسسه يفضي إلى تكوين مختلف عناصر الاستغلال التجاري ثم ربطها بعضها ببعض وتكوين لحمة جامعة بينهما تدفع إلى الإنصهار في ذاتية أو مجموعة قائمة الذات”[27].

وقد اعتبر أنصار هذه النظرية أن هذه الملكية المعنوية يجب اعتبارها من طبيعة منقولة. حيث حضيت هذه النظرية بتأييد أغلبية الفقه الحديث كما أنها تعتبر الأقرب لما تبناه المشرع التونسي الذي اعتبر الأصل التجاري مالا منقولا وأخضعه لنظام قانوني خاصا به.

وبعد محاولة إيجاد تعريف للأصل التجاري وبيان الاختلاف الفقهي حول طبيعته القانونية، فإنه يبدو من الضروري الإشارة إلى أن تكوين أصل تجاري يفترض من التاجر أن ينفق من ماله وعرق جبينه ومجهوده، وما كونه التاجر هكذا وصرفه من أموال ومجهودات لا يمكن هدره هكذا ولزم حينئذ حمايته قانونيا، والحماية هي اسم مشتق من حام protecteur ويقصد بها الوسائل التي تهدف إلى الدفاع عن حق ما أو وضع معين كما تعني الدفاع والحراسة[28]، وبالتالي فإن الحماية القانونية للأصل التجاري تعني الدفاع عنه وحراسته من المخاطر التي تهدده.

ثم إن التطرق للحماية القانونية للأصل التجاري يستوجب تمييز الأصل التجاري موضوع الحماية عن غيره من المصطلحات المجاورة.

إذ يختلف الأصل التجاري عن الشركة، فلئن كانت الشركة -شأنها شأن الأصل التجاري- تنشأ بهدف الربح[29]، فالشركة “عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهما في مشروع مالي لتقديم حصة من مال أو عمل على أن يقتسموا ما قد ينشأ عن هذا المشرع من ربح أو خسارة ويتميز عقد الشركة عن غيره من العقود بأنه ينتج عنه كائنا قانونيا جديد له ذمة مالية مستقلة عن ذمة الشركاء تختص لتحقيق أغراض معينة ويعرف هذا الكائن القانوني بالشخصية المعنوية[30]“.

وبذلك فإنه يختلف عن الأصل التجاري من حيث أن هذا الأخير لا يملك الشخصية المعنوية وليس له ذمة مستقلة عن الذمة المالية لمالكه، كما أنه لا يضم بين عناصره عقارات بل أنه يشكل منقولا معنويا. لذلك خص المشرع كل منهما بنظام قانوني خاصا به، إلا أن هذا الاختلاف لا يمنع من المساهمة بالأصل التجاري في رأسمال شركة[31] والتي يمكنها بدورها أن تظم أكثر من أصل تجاري.

كما يمكن أن نميز الأصل التجاري عن المشروع الإقتصادي ، حيث أنه ولئن أمكن أن نجد بكل منها وسائل إنتاج إلا أن الثاني في الذكر يظّم عناصر قد تبدو غريبة عن الأصل التجاري على غرار العقارات والديون، وبذلك يكون ذا نجاعة إقتصادية وقيمة مالية أكبر من الأصل التجاري.

أما فيما يتعلق بموقف الشريعة الاسلامية من المعاملات المتعلقة بالأصل التجاري ، فقد صدرت فتوى في هذا الخصوص عن مجمع الفقه الإسلامي في دورته المنعقدة في الكويت عام 1405 هجري جاء فيها “الإسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية هي حقوق خاصة لأصحابها أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مادية معتبرة لتمويل الناس بها، فهذه الحقوق يعتد بها شرعا”[32].

وتحتل دراسة الأصل التجاري أهمية نظرية كبرى وذلك ما يتجلى من خلال الجدل الفقهي الذي دار حول تعريفه وطبيعته فضلا عن مختلف تفاصيل العمليات المتعلقة به، وهو ما يتؤكد أكثر من خلال تعدد المؤلفات التي إهتمت بدراسة الأصل التجاري ومحاولة فهمه.

أما على المستوى العملي، فإنه ورغم حداثة الأصل التجاري كمؤسسة قانونية فإنه يحتل اليوم أهمية قصوى يمكن رصدها على عدة مستويات؛ أما على المستوى الإقتصادي، فإن عدد الأصول التجارية الموجودة في البلاد التونسية يعتبر عددا هاما جدا، كما أنها قادرة على أن تغطي عديد المجالات علي غرار محلات البيع بالتفصيل والمكاتب والمغازات العامة وغيرها من الأنشطة، وعموما فإن “أنشطة الأصول التجارية يمكن أن تشمل كل الأنشطة التجارية مع اختلاف في حجم الاستغلال باختلاف الإمكانيات المادية للتاجر”[33]،

حيث أن بعض الأصول التجارية يمكن أن تصل قيمتها إلى ملايين الدينارات مما يؤهلها إلى أن تلعب دورا هاما في الدورة المالية للدولة فضلا عما يمكن أن يجري عليها من تصرفات كالرهن والبيع والإيجار إلى غير ذلك. فهي بذلك تعتبر من العناصر الأساسية لتطور الإقتصاد الوطني.

أما على المستوى الاجتماعي، فتتجلى أهمية الأصل التجاري الاجتماعية في كونه قد يدر على صاحبه أموالا طائلة ،وهذه الأخيرة قد يستفيد منها كثيرا من العاملين عن طريق الأجور، مما يجعل الأصل التجاري أحد العناصر الأساسية المساهمة في تحقيق سلم اجتماعي لأن أي خلل قد يصيبه قد يشرد المئات من العائلات.

ونظرا لهذه الأهمية النظرية والعملية للأصل التجاري فلقد تأكدت الحاجة لإيجاد نصوص قانونية تكفل له الحماية التي يحتاجها ليستمر نشاطه وليتجاوز الإشكاليات التي قد يمر بها. وهذا ما تفطن له المشرع وكرسه عبر العديد من النصوص القانونية التي أسلفنا ذكر أبرها. ولكن الإشكال المطروح هو ما هي مظاهر هذه الحماية القانونية للأصل التجاري؟

وللإجابة عن هذا السؤال يجب تبيان المخاطر التي تهدد الأصل التجاري والتي تمت حمايته منها , فنجد أن هذه المخاطر منها ماهو داخلي يتعلق باستقرار الأصل التجاري في حد ذاته ومنها ما هو خارجي يتعلق بالمتعاملين مع الأصل التجاري ومنافسيه.

ولذلك سنتناول بالدرس في الجزء الأول الحماية القانونية للأصل التجاري من الداخل في حين سنتناول في الجزء الثاني الحماية القانونية للأصل التجاري من الخارج.

الجزء الأول : الحماية القانونية للأصل التجاري من الداخل

إن توفير حماية قانونية للأصل التجاري من الداخل تفترض ضمان استقراره وحفاظه على عناصره، مما يستوجب حمايته من مالك المحل المستغل به الأصل التجاري، وهو ما كرسه المشرع من خلال القانون عدد 37 لسنة 1977 المؤرخ في 25 ماي 1977 والمتعلق بتنظيم العلاقة بين المسوغين والمتسوغين.

و لعل أهم ما ترتب عن صدور هذا القانون نشأة مفهوم “الحق في الإيجار” أو ما يصطلح على تسميته “بحق الملكية التجارية” هذا الحق الذي يمكن تعريفه على أنّه حق المديونية الذي يتمتع به المكتري التاجر في مواجهة “مالك” المحل الذي يستغل به أصل تجاري [34] ، هذا فضلا عن بعض المفاهيم الأخرى.

والمتمعن في مقتضيات القانون سالف الذكر و المتضمن لهذا الحق يلاحظ وجود مفهومين أساسين يدور في فلكهما هذا التشريع هما “التجديد” و “التعديل”. و يتعين الإشارة إلى أن التجديد و التعديل و لئن أمكن اعتبارهما مؤسستين مختلفتين من حيث النظام القانوني غير أن توفر أحدهما لا يغني بالضرورة عن الأخر فكلاهما ورد في إطار سعي المشرع إلى تكريس الغاية المنشودة من قانون الأكرية التجارية و هي الحث على تكوين أصول تجارية و السعي إلى حمايتها من الإنقراض.

فالحق في التعديل ( الفصل الأول) و لئن كان حقا يتيح الترفيع أو التخفيض في معين الكراء على حدّ السواء إلا أنه من شأنه ضمان أن يكون معين كراء المضمن في عقود التسويغ المراد تجديدها أو مراجعتها عادلا و هذا كفيل بأن يحمي الأصل التجاري من تحمل تكاليف إضافية ناتجة عن تجاوز معين الكراء لمستوى القيمة الكرائية العادلة.

وذات الشيء بالنسبة للحق في التجديد (الفصل الثاني) فهو حق يوفر حماية قانونية للأصل التجاري من مالك المحل المستغل به الأصل التجاري الراغب في إسترجاع محله وحرمان الأصل التجاري من الاستقرار.

الفصل الأول: الحق في التعديل

لئن كانت الأحكام العامة المنظمة للكراء الواردة صلب مجلة الإلتزامات و العقود مكرسة لمبدأ الحرية التعاقدية و مؤكدة أن الكراء يتم “بتراضي المتعاقدين على المكرى وقيمة الكراء و غير ذلك مما عسى أن يشترط في العقد”1 إلا أن هذا المبدأ قد يغلب إرادة المسوّغ على إرادة المتسوغ باعتبار أن الأول هو الطرف الأقوى في العقد و هذا ما من شأنه إثقال كاهل المتسوّغ و الإضرار بالأصل التجاري و التقليص من هامش أرباحه ، كما يمكن أن يأدي في نهاية المطاف إلى حرمان المتسوغ الذي قد يعجز عن دفع معاليم الكراء المرتفعة من إستغلال المحل أي من حقه في التجديد، و هو ما يعني حرمانه من الإستقرار وإفقاد أصله التجاري أهم عناصره و هو الحرفاء.

وتفاديا لهذه المشاكل و حتى لا تهضم حقوق المكرى الذي ينتظر الإنتفاع بمعين كراء محله بما يتماشى مع المعطيات الإقتصادية المعمول بها بالمكان الذي يستغل به النشاط التجاري تدخّل المشرع صلب قانون 25/05/1977 و جعل تحديد معين الكراء موكولا لقاضي الملك التجاري إذا لم يفلح الطرفان في التوصل إلى معين يرضيهما و يكون ذا قيمة عادلة و ذلك في صور محددة (المبحث الأول) و استنادا إلى معايير معينة (المبحث الثاني)

المبحث الأول: صور تعديل معين الكراء:

يحصل في التطبيق أن يتفق الأطراف على أن يكون التسويغ لمدّة طويلة نسبيا كأن تكون لعشر سنوات مثلا ، ففي هاته الحالة لا حاجة لطلب التجديد قبل إنتهاء الأجل المشار إليه غير أنّه في المقابل يجوز لكلا الطرفين التقدّم بمطلب في تعديل معيّن الكراء التجاري شرط توفر مقتضيات و بنود معيّنة، على أن هذا التعديل يمكن أن يحصل كذلك عند تجديد عقد الكراء، ويمكن أن يكون هذا التعديل في جميع الحالات صادرا عن إرادة الأطراف المتعاقدة وهو التعديل التعاقدي (الفقرة الأولى) كما يمكن يكون مصدره القانون وهو التعديل القانوني (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : التعديل التعاقدي:

إن التعديل التعاقدي هو ذاك التعديل الذي يتم على أساس بند مدرج في العقد يمكّن الأطراف من تعديل معيّن الكراء وفق سلم لمراجعة معينات الكراء يتفق عليه الأطراف مسبقا (أ) كما يحصل أن يكون هذا التعديل مرتبطا بتجديد عقد الكراء كلما تعلّق الأمر بتجديد عقد الكراء بشروط جديدة (ب)

التعديل على أساس السلم المتغير
إن عقود تسويغ المحلات التجارية هي عقود رضائية بالأساس يتفق الأطراف عند إبرامها على معينات الكراء التي على المتسوغ دفعها مقابل إستعماله للمكرى التجاري وإنتفاعه به، إلا أنّه و تحسبا لمختلف التطورات و التغيرات التي قد تطرأ خلال سريان العقد تلجأ الأطراف المتعاقدة أحيانا إلى إدراج بند صلب العقد أصطلح على تسميته ببند “السلّم المتغير”، و الذي لم يأتي المشرع على تعريفه رغم أنه أعطاه الشرعية اللازمة[35]،

مما جعل مهمة تعريفه موكولة لإجتهاد الفقه و فقه القضاء، الأمر الذي أدى إلى بروز عديد التعريفات لهذا المفهوم و التي تصبّ كلها في مفهوم واحد موسّع يعتبر أن شرط السلم المتغير هو ذاك الشرط الذي تتفق الأطراف المتعاقدة بمقتضاه صلب عقد الكراء التجاري على ربط تغيير معيين الكراء بتغير مؤشر أو مؤشرات تختارها الأطراف بحرية و تكون لها صبغة إقتصادية و إرتباط مباشر بموضوع التعاقد أو بنشاط أحد طرفي العقد، بما يجعل أي تغيير يطرأ على المؤشر يؤثر بصفة مباشرة على معين الكراء إما بالزيادة أو بالنقصان بشرط أن تتجاوز قيمة التغيير الربع بالنسبة لمعين الكراء المعمول به سابقا دون خضوع لأجل محدد بين كل تعديل و أخر من حيث الطلب[36].

حيث يمكن باعتماد على هكذا بنود جعل معين الكراء خاضع بصفة تكاد تكون آلية للتغيرات الطارئة على مؤشر معين يتم تحديده سلفا صلب العقد[37]“حيث إقتضى الفصل 26 من قانون 25 ماي 1977 أنّه إذا كان عقد التسوغ يتضمّن شرطا يتعلّق بالسلم المتغيّر فإن التعديل يمكن أن يطلب كلما إعترى معين الكراء من جراء الشرط المذكور زيادة أو نقص يتجاوزان الربع بالنسبة للثمن المعين سابقا بوجه التعاقد أو بموجب حكم عدلي[38]“.

تكمن أهمية هذه البنود في عدم خضوعها لأجل الثلاث سنوات و هذا ما يتماشى أكثر مع المتغيرات الإقتصادية و هذا ما يكفل حماية أكبر للأصل التجاري حيث إنه حتى و إن آل ذلك إلى الترفيع في معينات الكراء فإن هاته الحماية تبرز من خلال كون القيمة الكرائيّة تضل في هاته الصورة عادلة و متماشية مع الظروف الإقتصادية التي تؤثر على نشاط الأصل التجاري و قيمة مرابيحه تأثيرها في القيمة الكرائية.

هذا و يقتضي هذا النوع من التعديل إبداء بعض الملاحظات المتعلقة خاصة بطبيعة المؤشر الجائز إعتماده، حيث أن فقه القضاء و لئن إتفق على إعتماد بعض المعايير كالأجر الأدنى المضمون أو ثمن بضاعة معينة (المحروقات مثلا) ، إلا أنه تأرجح بخصوص معرفة مدى صحة بعض الإتفاقات لعل أبرزها تلك المتعلقة بالزيادة بنسبة مئوية في معلوم الكراء التجاري؛ فمن القرارات من أيّد صحة تلك الإتفاقات كالقرار عدد 14735 بتاريخ 10/12/2007[39]،

إلا أن محكمة التعقيب إعتبرت في بعض القرارات الأخرى و منها قرارها الصادر بتاريخ 10 مارس 2008 تحت عدد 17317[40] أن بند الإتفاق على الترفيع في معينات الكراء مشروط فيه الإنسجام مع الغايات المنشود تحقيقها من خلال القانون عدد 37 المؤرخ في 25/05/1977 وهي حماية الأصول التجارية بتوفير الظروف الملائمة لإستغلالها وضمان إستمرارها.

وفي هذا السياق تبدو الحاجة أكيدة لتوحيد الآراء الفقه قضائية حول هذه المسألة أو أن يتدخل المشرع لتعريف مصطلح السلم المتغير و بيان المؤشر الجائز إعتماده على غرار ما ذهب إليه المشرع الفرنسي الذي تبنى موقفا واضحا حيث إقتضى أنه يكون مقبولا شرط السلم المتغير القاضي بأن يتم التعديل على أساس مؤشر إقتصادي متمثل في أسعار المواد أو المنتوجات الخدمات التي لها علاقة بموضوع التعاقد أو بالنشاط الذي يمارسه أحد الأطراف المتعاقدة[41]، و يعتمد المؤشر في القانون الفرنسي على جملة من الأرقام القياسية التي تصدرها مصالح رسمية إقتصادية و إجتماعية بصفة دورية و تعتمدها الأطراف المتعاقدة كمؤشرات مرجعية عند تحريرهم لبند السلم المتغير، و تكون هذه الأرقام عرضت للإرتفاع والإنخفاض حسب الظروف و المعطيات الإقتصادية العامة الشيء الذي يجعلها شديدة الملائمة لشرط السلّم المتغير[42]، وهذا الأمر هو المفتقد في القانون التونسي.

من ناحية أخرى قد يترتب عن إعتماد ما يسمى بند السلم المتغير و تحديدا ما يمكن أن يشهده هذا الأخير من إرتفاع على مستوى المؤشر المتخذ تجاوزا للقيمة الكرائية الحقيقية بحيث يصبح مجحفا في حق أحد المتعاقديين و خاصة المتسوّغ، لأجل ذلك خوّلت الفقرة الأخيرة من الفصل 26 من القانون للمحكمة المتعهدة التنسيق بين مفعول السلّم المتغيير وبين القيمة الكرائية العادلة إلى يوم تقديم المطلب و هذا التدخل القضائي من شأنه أن يقر معلوم كراء عادل لا يمكن أن يكون أقل من ذلك الذي تضمنه العقد وكذلك لا يمكنه في المقابل أن يتجاوز ذلك المعين الذي يمكن الحصول عليه بإعمال بند السلم المتغير.

ولقد حرص المشرع في قانون 25 ماي 1977 على حماية هذه الإرادة الحرّة المشرعة صلب الفصل 26 بأن أضفى عليها طابعا من الحماية كرسه الفصل 32 من ذات القانون الذي إقتضى ” أن البنود والشروط و الإتفاقات التي من شأنها النيل من حق التجديد المحدث بهذا القانون أو من أحكام الفصلين 23 و 26 من هذا القانون تكون لاغية و لا عمل بها مهما كان شكلها”

ويتجلى من خلال هذا الفصل أن المشرع جعل أحكام الفصل 26 أحكاما آمرة ولا يمكن الإتفاق على مخالفتها، الشيء الذي يجعل من المساس بقواعده مساسا بالنظام العام، وهو ما يعني إبطال أي بند أو شرط قد يفضي إلى النيل من حق التعديل الإتفاقي و بالتالي من مبدأ الحرية التعاقدية المجسّدة في شرط السلم المتغيّر[43] ، كما يكون للمتسوّغ التمسك بمقتضيات هذا الفصل كلما كان الترفيع في معينات الكراء – بإعتبار أن التقلّيص منها لا يشكّل إشكالا بالنسبة لهذا الأخير- سببا في تصييرها مشطة بحيث يكون من شأنها النيل من حق التجديد أو الحقوق و الوضعيات التي يرنو المشرع لحمايتها من خلال الفصل 26 سالف الذكر.

وبآعتبار أنّ التعديل على أساس السلم المتغير يعتبر أحد أصناف التعديل التعاقدي فإنّ الأطراف المتعاقدة تتمتع بحرية اختيار المؤشر الذي ينبني عليه شرط السلم المتغيّر.

ولا نجد بالنصوص القانونية المتعلقة بشرط السلم المتغيّر ما يدلّ على أنّ المشرع التونسي وضع حدودا على الطرفين إحترامها عند اختيارهما لبند السلم المتغيّر، على غرار ما فعله نظيره الفرنسي الذي اعتبر أنّ المواد التي يمكن إعتماد تغييرها كشروط في السلم المتغيّر هي الأجر الأدنى المهني المضمون والمستوى العام للأسعار والأجور وأسعار المواد والمنتوجات والخدمات التي ليست لها علاقة بموضوع العقد أو بنشاط أطراف الاتفاق[44] إلاّ أنّ هاته الحرية لا يمكن أن تكون مطلقة إذ تعتبر باطلة البنود التي تكون مخالفة للنظام العام، على أنه يبقى الإشكال مطروحا في ما يتعلق بضبط حدود مفهوم النظام العام.

كما يشترط في شرط السلم المتغير أن لا يكون مؤسسا على معيار دائم الارتفاع أو دائم الانخفاض أي أن يكون مؤسسا على معيار ذا مفعول مزدوج وأن لا يكون رهين إرادة أحد طرفي العقد دون الأخر كأن يكون رهين إرادة المسوّغ الذي سيسعى إلى الرفع في معينات الكراء وبالتالي الإضرار بالأصل التجاري.

وفيما يتعلق بمصير العقد في صورة بطلان شرط السلم المتغيّر لمخالفته للنظام العام والأخلاق الحميدة مثلا فإنّنا لا نجد إجابة واضحة على أنّ فقه القضاء الفرنسي ذهب إلى اعتبار أنّ بطلان شرط السلم المتغيّر لا يؤدّي إلى بطلان العقد[45].

أما فيما يتعلق بحالة زوال أحد عناصر السلم المتغيّر إذا ما كان متركبا من عدّة عناصر فلقد أقرّ المشرّع أنّه “إذا زال عنصر من العناصر المعتبرة في تحديد حساب السلم المتغير المشترط فإنّ التعديل لا يمكن طلبه وتتبع انجازه إلاّ حسب الشروط المشار إليها بالفصل 25 من هذا القانون”

ونظرا لتعلّق الفصل 25 بالتعديل القانوني فإنّه يمكن القول بأنّ تحقّق جزء من المؤشرات وعدم تحقق أخرى تكون مضمنة بالشرط يؤدي بالضرورة بالقاضي إلى التخلي عن طريقة التعديل الاتفاقي واعتماد طريقة التعديل القانوني كلّما توفرت شروطه[46].

وحتى لا يكون شرط السلم المتغير سلاحا بيد أحد أطراف العقد، خاصة مالك المحلّ، يستعمله كتعلّة كلما ارتفع المؤشر المحدّد صلب شرط السلم المتغير ولو بنسبة طفيفة فلقد أوجب المشرع أن تتجاوز الزيادة أو النقصان ربع الثمن المعين سابقا بموجب التعاقد أو بموجب حكم عدلي[47].

وقد حصل اختلاف فقهي حول مدى امكانية إعتبار أنّ هذا الفصل ينطبق على التغيير الذي يطرأ على معين الكراء المعدّل إتفاقيا وذلك بنسبة تتجاوز الربع أم أن اعتماد المشرع لعبارة “بوجه التعاقد” تعني الاقتصار على التغيير الذي يطرأ على الثمن الأصلي، إلاّ أنّ الرأي الأرجح يبقى ذاك الرأي القائل بضرورة إعتماد معين الكراء المعدّل اتفاقيا إلى جانب معين الكراء الأصلي وذلك باعتبار أنّه يستمدّ مشروعيته من شرط تعاقدي يمسّ بمعين الكراء[48].

“على أنّ شرط السلم المتغير ليس لزوميا ولا هو يربط الطرفين حتميا ولكلّ واحد منهما أن يعدل عنه وأن يستعمل طريقة المراجعة الحكمية عند توفر شروطها”[49]

أي أنه في صورة تطبيق المراجعة الاتفاقية على أساس المعيار المحدّد صلب شرط السلم المتغيّر ولم يكن ذلك مرضيا لأحد الأطراف فإنّه يمكن اللجوء للقضاء ليتولى التنسيق بين فصول السلم المتغيّر والقيمة الكرائية العادلة.

وهذه الرقابة القضائية تدعم الحماية القانونية للأصل التجاري باعتباره يوفر ضمانة لمصداقية التعديل وعدالته، حيث أن منح هذا الدور التنسيقي والتعديلي للقضاء يحمي معين الكراء التجاري من أية مبالغة فيه ويحمي أطراف عقد الكراء التجاري من أي إجحاف.[50]

ورغم ما يكفله هذا الشرط المتعلق بتغيير معين الكراء على أساس السلم المتغيّر من ضمانات لكي لا يحيد معين الكراء التجاري عن القيمة العادلة إلاّ أنّه يؤدي أحيانا إلى زيادات متلاحقة في معين الكراء لذلك نجد أنه قلّما يقع الالتجاء إليه من طرف المتعاقدين.

وإلى جانب تعديل معين الكراء على أساس شرط السلم المتغيّر فإنه يمكن تعديله اتفاقيا عند تجديد عقد الكراء.

التعديل عند تجديد عقد الكراء التجاري:
لئن خوّل المشرع صلب قانون 1977 و تحديدا صلب الفصل الخامس منه للمتسوغ الحق في طلب تجديد عقد الكراء التجاري ، إلاّ أن منح هذا الحق لا يعني بالضرورة إمكانية تجديد الكراء بنفس شروط العقد السابق الذي حلّ أجله، إذ يمكن للمسوغ الذي تلقى طلب من المتسوغ للتجديد طبق الفصل 5 من قانون 1977 والذي لا يمانع في ذلك بأن يعلم هذا الأخير بقبوله التجديد بشروط جديدة ومنها معين كراء أرفع وذلك في بحر ثلاثة أشهر من طلب التجديد وفي هاته الحالة فانه وفي صورة قبول المتسوغ لمعين الكراء الجديد فإن تنفيذ عقد الكراء يستمر مع تعديل في معيّنه ،

ويعتبر هذا التعديل إتفاقيا نظرا لتلاقي إرادتيْ طرفيْ العقد واتفاقهما على المعين الجديد وتنصيصهما على ما تضمنه هذا الاتفاق صلب عقد الكراء المجدد بما في ذلك التنصيص على معين الكراء الجديد.

إلاّ أنّ هذا النوع من التعديل التعاقدي- وخلافا لتعديل معين الكراء على أساس السلم المتغير- لا يخضع لمعيار واضح تجتمع عليه إرادة الطرفين إنما يقتصر على إرادة طرف واحد وهو المسوغ الذي عادة ما يسعى إلى الترفيع في معين الكراء إما غاية الانتفاع بأكبر قدر ممكن من محله التجاري دون مراعاة لمصلحة مالك الأصل التجاري وما سينجر عن إلزامه بدفع معينات كراء مشطة من أثار سلبية تنعكس على الأصل التجاري، كما يمكن أن يكون هذا الترفيع في معين الكراء من قبل المسوغ أسلوبا يعتمده لإجبار مالك لأصل التجاري على مغادرة المحل التجاري، وفي هاته الصورة يجد مالك الأصل التجاري نفسه ملزما إما بمغادرة المحل التجاري أو بالرضوخ لشرط تعديل الثمن المفروض عليه من قبل المسوغ ليضمن استقرار أصله التجاري والحفاظ على حرفائه.

وحتى لا يكون هذا النوع من أنواع التعديل الاتفاقي سببا في الاضرار بمصالح مالك الأصل التجاري فلقد مكّن المشرع هذا الأخير، كما هو الشأن بالنسبة للتعديل بموجب السلم المتغير، من اللجوء للقضاء “الذي يتولى ضبط المعين النهائي للكراء المجدد والذي يجب أن يكون مطابقا لقيمة كرائية عادلة”1 .

الفقرة الثانية : التعديل القانوني:

إنّ قانون الملك التجاري في إقراره لمبدأ التعديل قد خوّل للمتعاقدين وضع شرط في عقد الإيجار يحدّد سلما لمراجعة معلوم الكراء بقيود معيّنة وهو التعديل الاتفاقي لكن إذا
“لم يحتاط المتعاقدان أن لذلك من العقد فإن باب التعديل القانوني مفتوح” 1 سواء من خلال التعديل الثلاثي (أ) أو من خلال التعديل عند إحالة الملك التجاري (ب)

التعديل الثلاثي:
التعديل الثلاثي هو طريقة تعديل قانونية لمعين الكراء تخول تقديم مطلب التعديل من قبل أي طرف من أطراف العقد مع مراعاة أحكام الفصلين 24 و 25 من قانون 25 ماي 1977، ومن البديهي أن المستأجر سيطلب التعديل من أجل التخفيف في حين سيطلبه المؤجّر من أجل الترفيع في معلوم الكراء.

ولقد أوجب الفصل 25 من القانون للانتفاع بحق التعديل الثلاثي توفر شرطان أولهما زمني وثانيهما له علاقة بالظروف الاقتصادية.

أما بالنسبة للشرط الأول فإنّ “طلب التعديل لا يمكن تقديمه إلاّ بعد مضي ثلاثة أعوام على الأقل من تاريخ إستغلال المتسوغ للمحلّ أو بعد الشروع في التسويغ المجدّد”2.

ولعلّ أبرز ما يمكن ملاحظته فيما يتعلّق بأجل الثلاث سنوات هو أنّ الأمد المذكور يعدّ معقولا باعتبار وأنّه يحقق أولا الاستقرار بالنسبة للمستغل فيما يتعلق باستغلاله للأصل التجاري وثانيا يخول للمتسوغ التحصيل على القيمة الكرائية المناسبة التي قد تتغيّر بمرور الزمن لتصبح غير عادلة ومجحفة بحق أحد الأطراف.

إلاّ أنّ المتمعن في هذه المدّة يجد أن المشرع التونسي استوحاها من القانون الفرنسي وتحديدا أمر 24/9/1953 الذي أجاز للمسوغ والمتسوغ على حدّ السواء طلب تعديل معين الكراء عند تمام مدّة ثلاث سنوات أو بعدها، وذلك باعتبار أنّ المشرع الفرنسي فرض مدّة تسعة سنوات على الأقل لاكتساب الملكية التجارية ولذلك أتاح للأطراف المتعاقدة على مدى ثلاث ثلاثيات أي قبل انتهاء كلّ ثلاث سنوات طلب تعديل معين الكراء مع امكانية التنبيه على المتسوّغ بالخروج.

وبالتالي فإنه ولئن وجد مبرر لاعتماد هذه المدّة من قبل المشرع الفرنسي فإنّه لا وجود لمثل هذا التبرير بالنسبة للمشرع التونسي، خاصة وأنه مكّن من إكتساب الملكية التجارية بعد مرور سنتين يحق على إثرهما تجديد الكراء بشروط جديدة منها ما يتعلق بمعين الكراء.

ومن بين الأسئلة التي يمكن طرحها في هذا المجال السؤال المتعلق بمعرفة مدى صحة الإتفاقات المبرمة بين المسوّغ و المتسوّغ و التي تجيز لأحد الطرفين أو كلاهما التقدم بمطلب تعديل دون التقيد بأجل الثلاث سنوات.

ولا شك أنه لا عمل بهذه الإتفاقات باعتبار أن النص القانوني[51] واضح وصريح ولا مجال والحال ما ذكر لمخالفته، هذا فضلا عن تعلق العديد من أحكام هذا القانون بالنظام العام ولعل الإستثناء الوحيد يكمن فيما تضمنته الفقرة الأخيرة من الفصل 25 من قانون الأكرية التجارية والذي أجاز طلب تعديل الكراء من طرف مالك المحل كلما تعلق الأمر بإحالة الملك التجاري، ونفس الحكم المنطبق على الإتفاق بعدم إعتماد أجل الثلاث سنوات ينطبق على الإتفاقات التي يكون موضوعها تنازل الأطراف المتعاقدة عن حق التعديل.

أما بالنسبة للشرط الثاني والمتعلق بالظروف الإقتصادية فإنه لا يمكن قبول مطلب التعديل إلا إذا طرأت تغييرات على الأحوال الإقتصادية بلغت حدا من شأنه أن يدخل تغييرات تتجاوز ربع قيمة كراء الأماكن المسوغة المعينة بوجه التعاقد أو بموجب
حكم عدلي[52].

إلا أن مفهوم “الظروف الإقتصادية” ضل غامضا نظرا لغياب تعريف تشريعي له، لذلك ظهرت عديد التأويلات و الإجتهادات، و المجمع عليه فقها و قضاءا هو أن هذه الأحوال الإقتصادية تعني الأحوال الإقتصادية العامة للبلاد لا تلك التي تهم جهة دون أخرى أو قطاعا دون آخر[53]،

ونذكر على سبيل المثال القرار التعقيبي عدد 521 المؤرخ في 30 جانفي 1961 و الذي ورد به “طلب التعديل على معنى الفصل 27 من أمر 27/12/1954 المتعلق بالملك التجاري يخضع لتغيير الأحوال الإقتصادية العامة التي تؤثر في قيمة أكرية المحلات بما يتجاوز الربع من مبلغ الكراء التعاقدي أو المعين من طرف الحاكم.

أما التعديل الذي مبناه ظروف إقتصادية خاصة بنوع من أنواع التجارة فلا مبرر له قانونا”[54].

كما يمكن أن نذكر كذلك قرار أخر و لئن كان صدوره سابقا لصدور قانون 1977، شأنه في ذلك شأن القرار السابق إلا أنه أتى على بيان مفهوم الظروف الإقتصادية الوارد صلب الفصل 27 من أمر 27/12/1954 و الشبيه بالفصل 25 من قانون 25/05/1977 وهذا القرار هو القرار التعقيبي عدد 4997 المؤرخ في 25/05/1967 و الذي ورد به ” اقتضت الفقرة الثانية من الفصل 27 من أمر 27/12/1954 أن مطلب تعديل كراء محلات التجارة لا يقبل إلا إذا حصل تغيير في الأحوال الإقتصادية بصورة ينشأ عنها تغيير في قيمة كراء المحلات المسوّغة يتجاوز الربع من مبلغ الكراء التعاقدي أو المعين من قبل القاضي،

و يؤخذ من هذا النص أن التغير الذي يشير إليه المشرع هو التغيير الذي يطرأ على الحالة الإقتصادية بصفة عامة ، و عليه يكون قائما على أساس من القانون الحكم الذي رفض مطلب الترفيع في معين كراء محل تجاري بدعوى أن مماثله مسوغ بمعين أرفع”[55].

ويتعين التأكد بأن فقه القضاء في فرنسا أضحى يعتمد التغييرات الحاصلة في الأحوال الإقتصادية المحلية أو الخاصة كتلك الناجمة مثلا عن إحداث طريق سيّارة أو بناء مطار أو مركب جامعي بالقرب من مكان تواجد المحل و هو ذات التوجه الذي اعتمده بعض الفقهاء وفقه القضاء في تونس سواء قبل صدور قانون 1977 أو بعد صدوره.

وبالتالي فإنه”يمكن القول بأن التغييرات المومأ إليها هي تلك الناجمة عن ظروف اقتصادية سواء أكانت عامة ام محلية شرط أن تؤدي إلى إدخال تغيرات تتجاوز ربع قيمة الكراء، على أن لا تكون مقتصرة على ظرف خاص بشخص بذاته أو قطاع بعينه.

ومهما يكن من أمر فإن هذا المعيار ضل غامضا نظرا لعدم تحديد المشرع لمقياس للتحقق من حصول هذه التغيرات الإقتصاية من عدمها، لذلك نجد أن “قضاة الأصل كثيرا ما يلتجؤون للخبراء”[56]، و بصفة عامة يمكنهم الإعتماد على الإحصائيات الصادرة عن الجيهات المختصة على غرار الثمن المنشور من قبل وزير الإقتصاد أو مؤشر إرتفاع الأسعار الذي يحدده المعهد الوطني للإحصاء، كما يمكن قياسها بالرجوع إلى الجيهات المختصة كوزارة المالية أو البنك المركزي أو البحوث الإقتصادية و الإجتماعية، و يمكن الإعتماد على معايير أخرى كمستوى الأجور و تكلفة المعيشة[57].

ولئن كان من شأن تغيير الظروف الإقتصادية أن يسمح أحيانا للمتسوغ بطلب التخفيض في معين الكراء إلا أن تغيير الأحوال الإقتصادية غالبا ما يكون في صالح مالك المحل الذي يطالب بالترفيع في معين الكراء، و لكن حتى و إن إرتفع معين الكراء فإنه لن يحيد عن شرط العدالة[58]، أي أن تكون القيمة الكرائية عادلة كما أن الإستقرار الذي يتحقق للأصل التجاري يبقى أهم من المقابل المادي الذي يدفعه المتسوّغ طالما كان هذا المقابل عادلا .

إن التعديل القانوني لا يقتصر على صورة التعديل الثلاثي لمعين الكراء بل يشمل كذلك بعض الحالات القانونية الخاصة .

التعديل في بعض الحالات القانونية الخاصة
قد تطرأ بعض الحالات الخاصة على المسار الطبيعي لعقد الكراء التجاري يتدخل بمقتضاها طرف جديد في العلاقة الكرائية، الأمر الذي قد ينشأ عنه إختلال في التوازن بين قيمة المنفعة و قيمة الأجرة المحددة صلب عقد التسويغ. و تتمثل هاته الحالات القانونية الخاصة في الصور التي يتصرف فيها المتسوغ في الكراء التجاري بالإحالة (2) أو الكراء الثاني (1).

التعديل عند الكراء الثاني:
الكراء الثاني يتمثل في تمكين المتسوغ لطرف ثالث غريب عن العلاقة الكرائية الأصلية من حق التصرف في المكرى نيابة عنه دون أن يحل محله في علاقته بالمتسوّغ.

هذا النوع من الكراء الذي إشترط المشرع صلب قانون 1977 ، خلافا للقانون المدني، لإعماله موافقة مالك المحل سواء بأدراج ذلك صلب بند في العقد الأصلي أو من خلال الحصول على موافقته اللاحقة صريحة كانت أو ضمنية[59]. و عادة ما ينعقد الكراء الثاني بمبلغ يفوق ثمن الكراء الأصلي، و في هذه الحالة يكون “للمالك الخيار في طلب زيادة موافقة لكراء العقدة الأصلية. و في صورة عدم الإتفاق بين الطرفين تضبط هذه الزيادة حسب الفصل 28 من هذا القانون[60]“.

ومن الجلي أن تعديل معين الكراء في حالة الكراء الثاني يتميز عن حالة التعديل الثلاثي لعدم تعلقه بشرط زمني أو بشرط إقتصادي، إذ يكفي وجود عملية كراء ثان بمعين كراء أرفع من معين الكراء الأصلي حتى يتمكن المسوّغ من طلب الترفيع في معين الكراء.

و لئن كان مفهوم تعديل معين الكراء يقضي بمنح هذا الحق للطرفين لتغيير قيمة معين الكراء إما بالزيادة أو بالنقصان فإن التعديل في حالة الكراء الثاني يخرج عن المفهوم العادي للتعديل ليمنح هذا الحق للمسوّغ دون المتسوّغ، على أن الترفيع في معين الكراء يكون إلى حدود معين الكراء الثاني.

و لقد نص الفصل 20 من قانون 25/05/1977 في فقرته الأولى على أن الكراء الثاني يمكن أن يكون كليا كما يمكن أن يمكن أن يكون جزئيا، أما في حالة الكراء الثاني الكلي فمضاهاة المعين الأصلي بالمعين الذي إنعقد به معين الكراء الثاني تكون سهلة ويسيرة. إلا أن الإشكال يبقى مطروح بخصوص الكراء الثاني الجزئي فهل تتم مضاهاة المعين المحدد للكراء الثاني الجزئي بمعين الكراء الأصلي للجزء المسوّغ تسويغا ثانيا؟ و ما هو المعيار الممكن إعتماده لتحديد قيمة معين الكراء الجزئي؟

و لقد طرح هذا الإشكال بالأساس في مستوى فقه القضاء الفرنسي الذي إنقسم إلى موقفين بخصوص هذا الإشكال، حيث يرى القسم الأول من فقه القضاء أن القياس يكون بين معين الكراء الثاني و معين الكراء الأصلي كاملا، و لا يجوز على هذا الأساس لمالك المحل التجاري المطالبة بتعديل معين الكراء إلا في صورة تجاوز معين الكراء الثاني الجزئي لذلك المعين المحدد صلب العقد الأصلي لكامل المحل على أن لا يتجاوز الترفيع حدود معين الكراء الثاني الجزئي ، في حين ينقضي هذا الحق في طلب تعديل معين الكراء كلما تساوى معين الكراء الثاني الجزئي مع معين الكراء الأصلي الكلي أو قل عنه 1.

و يكفل هذا الحل حماية خاصة للأصل التجاري من خطر الترفيع في معين الكراء من قبل المسوغ، إذ أن هذه الإمكانية للتعديل تكون صعبة الإعتماد في التطبيق إذا ما تبنينا هذا الحل الفقه قضائي نظرا لصعوبة تجاوز معين كراء جزئي لقيمة معين كراء كلّي.

إلا أن الرأي المعتمد من قبل القسم الثاني من فقه القضاء يرى خلاف ذلك إذ يتبنى فكرة قياس معين الكراء الجزئي الثاني مع معين الكراء الأصلي لذات الجزء و ذلك بالإعتماد على قاعدة التنسبية و غاية إعطاء التعديل مصداقية أكبر 2، و رغم كون هذا الرأي لا يوفر ذات القدر من الحماية التي يوفرها الرأي الأول إلا أنه يعتبر الرأي الغالب فقها و قضاءا 3، خاصة و أنه لن يؤدي في نهاية المطاف إلى الإضرار بالأصل التجاري إنما سيكفل للمسوّغ تعديل عقد التسويغ الذي يصعب عليه إنهاءه أو تعديله لعدم حلول الأجل أو لعدم توفر أحد شروط التعديل الأخرى رغم تزايد حجم المنفعة المنجرّة من إستغلال محله التجاري وإختلال التوازن بينها وبين ما يتقضاه من معينات كراء و بما أن الغاية من إيجاد هذا النوع من أنواع التعديل هو إيجاد توازن بين قيمة معينات الكراء و قيمة المنفعة المنجرّة من إستغلال المحل التجاري فإن الزيادة في معين الكراء الأصلي تزول كلما زال سببها أي عندما ينتهي الكراء الثاني

1. وعادة ما تلجأ الأطراف المتعاقدة إلى إخفاء معينات الكراء الحقيقية صلب عقد الكراء الثاني غاية تجنيب مالك الأصل التجاري خطر الزيادة في معينات الكراء رغم كون هذه الزيادة لن تتجاوز في جميع الأحوال مقدار معين الكراء الثاني. و رغم كون هذه الممارسات عادة ما تكون في صالح الأصل التجاري إلا أنها تضلّ ممارسات غير مشروعة.2

2- التعديل عند إحالة الأصل التجاري:

فضلا عن إمكانية تعديل معين الكراء في صورة الكراء الثاني نجد أن المشرع قد خوّل تعديل معين الكراء عند إحالة الملك التجاري و هي الحالة الثانية من الحالات الخاصة للتعديل القانوني، وقد نص الفصل 25 من قانون 25/05/1977 في فقرته الأخيرة “على أنه في صورة إحالة الملك التجاري فإنه يجوز لمالك المحل طلب تعديل الكراء”.

ومن الضروري التطرق في البداية إلى مفهوم إحالة الملك التجاري حيث إنه و لئن كانت القواعد العامة تقتضي بأن الأصل هو جواز إحالة المكري و الإستثناء هو عدم جوازها بموجب تحجير تعاقدي أو لإعتبارات تتعلّق بطبيعة المكرى 3، فإن “إحالة الملك التجاري” تخضع لأحكام الفصل 33 من قانون ماي 1977 4 الذي جعل من إحالة الأصل التجاري شرطا صريحا لجواز إحالة عقد الإيجار، و بالتالي فإن تعديل معين الكراء عند “إحالة الملك التجاري” يرادف تعديل معين الكراء عند إحالة الأصل التجاري.

و لئن كان إعتماد المشرع صلب الفصل 33 لعبارة “المشتري” يستنتج منه أن إباحة إحالة عقد الإيجار تقتصر على حالة بيع الأصل التجاري إلا أنه يمكن أن يلحق بالبيع ما يشبهه من إرث و مساهمة بالأصل التجاري في شركة، أما عقد الهيبة فيضل بعيدا كل البعد عن البيع.

حيث أنه في حالة الإرث ينتقل المخلف من المالك إلى ورثته الذين يحلون محل مورثهم و يتمتعون بالتالي بجميع الحقوق المترتبة عن عقد التسويغ.كما أن المساهمة العينية بالأصل التجاري في شركة تجارية شبيهة بالبيع لخروج الأصل التجاري من ملك صاحبه وجعله على ذمة مؤسسة أخرى لها ذاتيتها و إستقلاليتها.

و بعد بيان المقصود بتعديل معين الكراء عند إحالة الملك التجاري وجب الإشارة إلى أن ورود هذه الصورة صلب الفصل 25 – الذي إهتمت فقرته الأولى بالتعديل الثلاثي- أثارة جدلا فقهيا بخصوص خضوع التعديل عند إحالة الأصل التجاري لشروط التعديل الثلاثي 1 من عدمه. و قد ذهب شق من الفقهاء إلى إعتبار إحالة الأصل التجاري يترتب عنها إنتقال العلاقة الكرائية بين مالك المحل و المالك الجديد للأصل التجاري و بالتالي خضوع التعديل في هذه الحالة لشروط الفصل 252.

في حين ذهب شق ثاني لإعتبار أن هذه الصورة من التعديل شبيهة بصورة التعديل عند الكراء الثاني ولا يتوقف على شرطي المدة و تغير الظروف الإقتصادية حيث أن “هذه القيود لا لزوم لها في صورة التعديل عند إحالة الأصل التجاري لإتفاق الصورتين في الشكل الأصل” 3.

إلا أنه ورغم تفريد المشرع هذه الصورة من صور التعديل بفقرة خاصة إستهلها بعبارة تفيد الإستثناء ألا وهي “على أنه” ، إلا أنه “كان من الأولى إفرادها بفصل مستقبل لعدم خضوعها لأحكام الفقرات السابقة عنها في الفصل الذي أقحمت فيه إقحاما” 4

و مهما يكن من أمر فإنه يمكن القول أنه يحق للمتسوّغ أن يلجأ لقاضي الملك التجاري لطلب تعديل معين الكراء إعتمادا على عناصر الفصل 22 ليصبح ذو قيمة عادلة.

وأيا كانت شروط تعديل معين الكراء وأيا كانت الأطراف المخوّل لها طلب التعديل فإن الغاية منه هي تسوية معينات الكراء لتكون ذات قيمة كرائية عادلة و هذا ما يمثل جوهر الحماية القانونية للأصل التجاري التي يكفلها الحق في تعديل معينات الكراء الوارد صلب قانون 25 ماي 1977

المبحث الثاني :إجراءات و آثار تعديل معين الكراء:

تتأسس العلاقات الكرائية على الرضائية حيث أن ابرام عقود الكراء يتم إثر تلاقي إرادتي المسّوغ و مالك الأصل التجاري و ذلك بعد الاتفاق على مختلف شروطه بما في ذلك معين الكراء، إلا أن تحوير مضمون العقد بما في ذلك تعديل معين الكراء -لا يخضع لنفس القواعد- حيث قيد المشرع تلك الحرية التعاقدية بجملة من الشروط الشكلية و الإجرائية (الفقرة الأولى) التي يؤدي احترامها إلى إنتاج جملة من الآثار (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : إجراءات تعديل معين الكراء:

إن تعديل معين الكراء التجاري يستوجب احترام جملة الشروط الشكلية التي فرضها قانون 1977 و المتعلقة بالتنابيه و المطالب التجارية (أ) إلا أن إنعدام التوافق بين الأطراف يمكن أن يؤدي إلى بلوغ مرحلة التقاضي التي تفترض بدورها إحترام جملة من الإجراءات (ب).

التنابيه و مطالب تعديل معين الكراء :
نظم المشرع صلب قانون 25 ماي 1977 الشروط الشكلية الواجب اتباعها غاية تعديل معين الكراء و تتعدد هاته الشروط إلا أنها تتعلق في مجملها بمطلب تعديل معين الكراء هذا فضلا عن التنابيه المتضمنة لعرض الترفيع في معين الكراء؛ أما بالنسبة للتنابيه[61] فإنه يحصل في التطبيق أن يوجه المسوغ محضر تنبيه متضمن لطلب انهاء التسويغ مع التعبير عن نية التجديد بشروط جديدة تتمثل في التعديل في معين الكراء ،و في هاته الصورة يمكن أن يقع تجديد عقد الكراء مع تعديل معينه إذا وافق المتسوغ على التجديد قبل مضي الأجل المذكور [62]،إلا أن هاته التنابيه تضل موضع اختلاف فيما يتعلق بمدى صحتها.

أما بالنسبة لمطالب التعديل فهي مطالب تصدر إما عن المالك أو المتسوغ خلال قائم مدة عقد الكراء سواء كان العقد معين المدة أو غير معينها ، أصليا أو مجددا بمقتضى تجديد قانوني، أو إتفاقي أو قضائي.

و تختلف شروط مطلب التعديل باختلاف صورة التعديل إذ يجب أن لا يصدر مطلب التعديل إلا إذا ما توفرت شروط أحد صور التعديل الاتفاقي أو القانوني، ومن بين أهم شروط مطلب التعديل شرط الأجل الذي يختلف من صورة إلي لأخرى فيجب أن يصدر مطلب التعديل في ظرف ثلاثة سنوات كاملة كأجل أدنى لا يمكن أن ينقص و لو يوما واحدا [63]،

وذلك إنطلاقا من تاريخ إستغلال المتسّوغ لمحله أو بعد الشروع في التسويغ المجدد أو من أخر تعديل لمعين الكراء، و بالتحديد من اليوم الذي صار فيه معين الكراء المعمول به و المطالب بتعديله ساريا بين الطرفين [64] ، و ذلك في صورة التعديل الثلاثي، على أن هذا الأجل يمكن الزيادة فيه بإعتبار أن الفصل 25 المتضمن لهذا الشرط فرض هذا الأجل كأجل أدنى في حين لم يحدد أجالا قصوى لا يمكن تجاوزها [65].

أما بالنسبة لتعديل معين الكراء على أساس السلم المتغير فإنه غير محكوم بأجل معين إذ يكفي توفر الشرط المضمن بالعقد ،أي تحقق شرط التغيير في المؤشرات الإقتصادية المحددة صلب بند السلم المتغير بنسبة تزيد عن الربع[66] ، حتى يتمكن الطرف الأكثر حرصا من توجيه طلب تعديل معين الكراء.

أما بالنسبة لأجال توجيه مطلب تعديل معين الكراء في حالات التعديل الخاصة و هما حالة التعديل عند الكراء الثاني و حالة التعديل عند إحالة الأصل التجاري فإن المسوغ يتحرر من شرط الأجل إذ يكفي حصول أحد هذين التصرفين القانونين ليصبح بإمكان المسوغ طلب تعديل معين الكراء.

إن توفر شرط الأجل لا يكفي لإعتبار مطلب تعديل الكراء مستوفيا لجميع شروطه بل يجب كذلك أن يصدر هذا المطلب عن الشخص المخول له ذلك، و يبقى هذا الحق مخولا للمسوغ و المتسوغ على حد السواء في جميع الحالات باستثناء حالتي التعديل عند إحالة الأصل التجاري أو عند الكراء الثاني[67].

و يقوم مطلب التعديل على شرط أولي و مبدئي يتمثل في إعلام الطرف المقابل بالمطلب المتضمن للرغبة في تعديل معين الكراء، أي أن مطلب التعديل يخضع لشكلية التبليغ إذ تخرج مطالب تعديل معين الكراء عن القاعدة العامة القائلة بعدم إشتراط شكل خاص للتعبير عن الإرادة، حيث أنه إذا لم تشترط القواعد القانونية شكلا خاصا للتعبير فإن أي شكل يؤدي الغرض يكون مقبولا[68]. حيث أن قانون 25 ماي 1975 الذي يمتاز أساسا بصبغته الحمائية تضمن تشديدا إجرائيا يتعلق بضرورة تحرير و تبليغ مطالب التعديل بواسطة عدل منفذ[69] و إلا فإنها تعتبر لاغية .

يكفل هذا الإجراء حماية الأصل التجاري من محاولات الغش أو التلاعب في التبليغ،هاته الحماية التي تكاد تكون مفقودة في التبليغ بواسطة رسائل مضمونة الوصول مع الإعلام بالبلوغ ، التي أقصاها المشرع عند إصداره لقانون 25/5/1977[70] نظرا لكثرة الانتقادات التي وجهت لها[71].

و قد أحاط المشرع عملية التبليغ بجملة من الضمانات قصد التؤكد من حصول العلم الفعلي للمعني بالتبليغ بما أراد الطالب إبلاغه إيّاه ، ومن بينها- فضلا عما ذكر سابقا- ما يتضمنه المطلب من تنصيصات وجوبية[72] وما يستلزمه عمل العدل المنفذ من إحترام لأحكام الفصل 8 (جديد) من م.م.م.ت.

إن توفر الشروط الأصلية و الشكلية بمطلب التعديل لا تعني بالضرورة إيجاد حل إتفاقي لمسألة التعديل، إذ قد تضطر الأطراف المتعاقدة إلى اللجوء إلى القضاء كلما عجزوا عن الإتفاق حول معين كراء يراعي مصلحة كل من المالك و المتسوغ .

2 ) إجراءات التقاضي :

تقضي أحكام قانون 25 ماي 1977 بأنه “في صورة عدم حصول الإتفاق بين الطرفين خلال الثلاثة أشهر الموالية فإن مطلب التعديل يقع الحكم فيه من طرف حاكم الأكرية المختص[73]” ثم إن فتح أجل إتفاقي مدته ثلاثة أشهرغايته الوصول إلى إتفاق بين أطراف عقد الكراء التجاري و تجنيبهم النزاع القضائي و ما ينجر عنه من وقت ضائع ومصاريف زائدة قد يتأثر الأصل التجاري بأعبائها.

و يبدو من الضروري إحترام هاته الأجال في صورة عدم قبول أحد الطرفين بالمعين الجديد المقترح صلب مطلب التعديل ، حيث أن فوات هذه الأجال دون اللجوء إلى القضاء يعتبر قرينة على قبول معين الكراء الجديد،فيكون بذلك المتسوغ ملزما بأداء المعين الجديد المرفع كلما كان مطلب التعديل صادرا عن المسّوغ، كما يفقد حقه في اللجوء إلى القضاء للمنازعة في المعين المقترح بعد مضي هذا الأجل[74].

و يمكن المنازعة في الشكل أي إخلال مطلب التعديل بإحدى الإجراءات أو الشروط الشكلية، كما يمكن أن تتعلق المنازعة بالأصل على غرار عدم توفر الشرط المحدد صلب بند السلم المتغير أو عدم بلوغ أجل الثلاث سنوات في التعديل الثلاثي ، و تعدد الأسس القانونية التي يمكن على أساسها المنازعة في معين الكراء يساهم في حماية الأصل التجاري من تحمل أعباء إضافية ناجمة عن الترفيع في معين الكراء وذلك بإعتبار أن طلب تعديل معين الكراء عادة ما يصدر عن المسّوغ.

وتقع المنازعة في تعديل معين الكراء لدى القاضي المختص وهو قاضي الملك التجاري و هو رئيس المحكمة الإبتدائية بالجهة الكائن بها العقار أو الحاكم الذي ينوبه[75].

“ثم إن إسناد الإختصاص الترابي لرئيس المحكمة التي يقع في دائرتها العقار موضوع الكراء أمر منطقي لأن محور قانون الأكرية هو الأصل التجاري المكون في ذلك المكري فطبيعي أن يكون هو المعيار الأساسي في ضبط الإختصاص الترابي لما لذلك من تأثير على تسهيل عمل القاضي عند إجراء المعاينات التي قد يقوم بها أو عند إعمال رقابته على أعمال الخبير”[76].

ويكون القيام لدى قاضي الملك التجاري وفق الإجراءات المقررة في القضايا الإستعجالية عملا بأحكام الفصل 28 من قانون ماي 1977، و هاته الإجراءات وردت بالباب الأول من الجزء الخامس من م.م.م.ت[77]

الحامل لعنوان “في القضاء المستعجل”، وهذا الإختصار في الإجرءات يعود للصبغة المتأكدة لطلب تقدير معين الكراء حيث أقر المشرع إعتماد إجراءات التقاضي الإستعجالي رغم عدم توفر خاصياته و المتمثلة في عدم المسّاس بالأصل، فضلا عن إختلاف أجال الحضور حيث أن أجال الحضور يجب أن لا تقل في دعاوي التعديل عن ثمانية أيام حسب الفصل 28 في حين أنها يجب أن لا تقل عن ثلاثة أيام في القضايا الإستعجالية[78].

كما أن إستئناف الأحكام الصادرة عن قاضي الملك التجاري يعطل تنفيذها ، و هذا إجراء يستفيد منه الأصل التجاري إذا ما كان الحكم المستأنف متضمنا لزيادة في معينات الكراء، في حين أن إستئناف الأحكام الإستعجالية لا يعطل تنفيذها[79].

إن إحترام إجراءات التعديل سواء منها المتعلقة بتوجيه مطلب التعديل أو تلك الإجراءات المتبعة عند اللجوء للقضاء يؤدي إلى إنتاج أثار تتعلق أساسا ببلوغ قيمة كرائية عادلة و التي تمثل جوهر الحماية القانونية التي يكفلها حق التعديل.

الفقرة الثانية : الآثار

يعتبر الوصول إلى تقدير القيمة الكرائية العادلة الغاية المنشودة من عملية التعديل في مادة الاكرية التجارية و الأثر الأساسي الذي تسعى الأطراف المتعاقدة إلى بلوغه نظرا لما يكتسيه من أهمية بالنسبة للمسّوغ و المتسوغ على حد السواء و خاصة بالنسبة لهذا الأخير ، لما توفره من حماية قانونية من تعسف مالك المحل في تحديد معينات الكراء، و هذا ما يضمن إستقرار أصله التجاري.

و هاته النتيجة يمكن بلوغها إما إتفاقيا أو قضائيا بالاعتماد على عناصر التقدير تختلف من حالة لأخرى(أ) ، على أن القضاء يعتبر الجهاز الأمثل لتحقيق العدل و الطمأنينة بما يحويه من ضمانات قانونية و لذلك منحه المشرع سلطة موسعة في هذا الميدان (ب) .

عناصر تقدير القيمة الكرائية العادلة:
قد يكون تعديل معين الكراء إتفاقيا بين المسّوغ و المتسّوغ بناءا على المؤشر المضمن بالعقد أو بناءا على إتفاق الأطراف على معين كراء تراعي فيه مصلحة مالك الأصل التجاري و دون هضم لحقوق المسّوغ.

وفي هذه الحالة لا وجود لمعيار محدد يلزم طرفي العقد بإعتماده حيث أن أساس هاته الإتفاقات هو الرضائية [80].

وقد منح المشرع أجل ثلاثة أشهر الموالية لتاريخ إبلاغ الإعلام بالتعديل ” لإيجاد حل توفيقي بين الطرفين مراكنة في شأن الزيادة المعروضة، و بعد إنقضاء هذا الأجل و في صورة عدم حصول هذا الإتفاق يحق لمن عنّ له القيام قضائيا للمنازعة في الترفيع المعروض 1 “و في هاته الحالة يتم تقدير القيمة الكرائية العادلة من طرف القاضي المختص بناءا على عدّة عناصر لعل أبرزها تلك الواردة بالفصل 22 من قانون 25 ماي 1977 2 والذي إعتنى المشرع صلبه بتحديد الأسس والمعايير الواجب إعتمادها للوصول إلى الهدف المنشود وهي القيمة الكرائية العادلة إلا أن هذه العناصر ذكرت على سبيل الذكر لا الحصر.

وجاء بالفصل 22 من القانون أن “معين الكراء بعقود التسويغ المراد تجديدها أو مراجعتها ينبغي أن يكون مطابقا لقيمة كرائية عادلة وهذه القيمة يمكن تعيينها بالخصوص بناءا على ما يلي:

1- كامل المساحة الحقيقية المخصصّة لإستقبال العموم أو للإستغلال مع إعتبار حالة القدم و التجهيز التي عليها المحلات الموضوعة من طرف المالك تحت تصرف المستغل من جهة و من جهة أخرى نوع المحلات و الغرض المعدة له تلك المحلات و توابعها و عامة مرافقها و يمكن إعتبار مساحة الأبواب و النوافذ على الشارع بالنسبة لكامل مساحة المحل .

2- كامل المساحة الحقيقية للمحلات الفرعية المعدة عند الإقتضاء لسكنى المستغل أو لسكنى أعوانه.

3- العناصر التجارية أو الصناعية مع مراعاة أهمية المدينة و الحي و النهج و الموقع من جهة و من جهة أخرى نوع الإستغلال و المرافق المعروضة لمباشرة ما ذكر كما يجب إعتبار التكاليف المفروضة على المتسوغ.”

إن المتعمن في هذه العناصر يجد أنه يمكن تقسيمها لعناصر تتعلق بالخصائص المادية للمحل و أخرى تتعلق بالعناصر التجارية والصناعية وأخيرا عناصر تتعلق بالتكاليف المحمولة على المكترى .

أما بالنسبة للخصائص المادية للمحل فإنها تبدو هامة لإعتبار إختلاف المحلات التجارية عن بعضها البعض سواء من حيث الخصائص أو من حيث النشاط المستغل بها ، بما يختلف معه مفهوم القيمة الكرائية العادلة حيث لا يستوي محل ضيق يفتقر للتجهيزات أو ذا تجهيزات قديمة منعدم المرافق مع محل ذا مساحة شاسعة ووجهات (أبواب و نوافذ) وتجهيزات حديثة أو به ملحقات لسكن المتسّوغ أو عماله ، فلا يعقل أن يفرض على المتسوغ الذي يستغل أصله التجاري شبيها بذاك الأول في الذكر أن يدفع معينات كراء مساوية للمعينات التي يدفعها مستغل أصل تجاري بمحل تتوفر فيه خصائص المحل الثاني في الذكر ، فذاك سيكون مجحفا في حقه و العكس صحيح و هذا ما راعاه فقه القضاء و الذي إستقر على “إعتبار قيمة العقار ضمن خصائصه المادية[81]” .

كما للغرض المعدة له المحلات تأثير على تقدير القيمة الكرائية بإعتبار أن الأرباح تختلف بإختلاف النشاط .

و تجدر الملاحظة أن عنصر المساحة يثير بعض الإشكالات خاصة إذا كان المحل المستغل يشتمل علي عدّة طوابق أو إذا كان يحتوي على سدة أو مساحة أمامية فلقد جرى عمل فقه القضاء على إعتبار كامل طوابق المحل و إحتساب المساحة الأمامية للمحل خاصة بالنسبة للمقاهي و لكن مع الأخذ بعين الإعتبار إختلاف فصول السنة و مدى تأثيرها على تواصل الإنتفاع بتلك المساحة.

كما يطرح إشكالا أخر يتعلق بالمحلات الفرعية المعدة لسكنى المستغل أو سكنى أعوانه التي لا تكون ملاصقة للمحل موضوع النزاع و يقع إدراجها من قبل الطرفين ضمن العقد الرابط بينهما حيث يتمسك المالك بكونها محل فرعي في حين يتمسك المتسّوغ بكونه محل مستقل و هنا يقع الرجوع لقاعدة الفصل 242 م.إ.ع و هي ” العقد شريعة الطرفين ” إلا أن الإكتفاء بالعقد الذي قد يكون المتسّوغ فرض من خلاله إرادته بإعتباره الطرف الأقوى من شأنه أن بجعل من القيمة الكرائية مشطة وهذا قد ينعكس سلبا على الأصل التجاري يؤدي إلى تراجع هامش في أرباحه.

أما بالنسبة للعناصر التجارية و الصناعية للمحل فهي تلك العناصر المتعلقة بالموقع والتي من شأنها أن تجلب الحرفاء على غرار المدينة والحي وكثافة وسائل النقل حول المكرى والكثافة السكانية والمستوى المعيشي للسكان القاطنين بالمنطقة التي يتواجد بها المحل.

إن ضبط العناصر التجارية للمحل يكون بإعتماد التنظير مع الأخذ بعين الإعتبار معدل كراء المتر المربع و الغاية من ذلك أن المشرع أراد تحقيق المساواة بين مالكي المحلات المتجاورة وبين أصحاب الأصول التجارية التي تكونت في تلك المحلات وليكون ضبط القيمة الكرائية العادلة مبنى علي أسس واقعية.

أما فيما يتعلق بالتكاليف المحمولة على المكترى فليس المقصود بها الإلتزامات العامة المحمولة على المكتري بل تلك التي تعتبر إستثنائية بالنسبة للقواعد العامة المنظمة للعلاقات الكرائية[82]

و التي تحمل على المكترى دون مقابل مباشر من المكرى و قد يقبلها لحاجته الملحة للمحل، على غرار إشتراط خلاص الضرائب أو الأداءات المسلطة على العقارات أو القيام بالإصلاحات الجوهرية التي يحتاجها المحل ويبقى باب الإجتهاد مفتوحا أمام فقه القضاء لإعتماد أية تكاليف إستثنائية تحمل على المتسوغ عند تقدير معين الكراء موضوع النزاع على أن يكون لها إثبات ، ويتم تقدير الطابع الإستثنائي والمشط لهذه التكاليف بناءا على التقاليد والأعراف ونوعية النشاط.

وعموما فان تقدير القيمة الكرائية يفترض مراعاة جميع المعايير التي تم التطرق إليها و جميعها معايير موضوعية و شاملة لكل الأكرية التجارية، غير أن تطبيقها على الحالات الواقعية يكون من مهام القاضي المختص.

دور القاضي في تقدير القيمة الكرائية العادلة :
لئن نص المشّرع على عناصر تحديد القيمة الكرائية العادلة صلب الفصل 22
من قانون 25 ماي 1977 إلا أنه ترك مهمة التحديد النهائي لمعين الكراء لقاضي الملك التجاري[83]، الذي يمكنه إعتماد أي عنصر أخر يراه أساسيا، و من ذلك عنصر تطور الأسعار و ظروف المعيشة الذي من شأنه أن يجعل التعديل أكثر عدالة لذلك إستقر فقه القضاء على إعتماد هذا العنصر ومن ذلك القرار التعقيبي عدد 325901 مؤرخ في 4 مارس 2010 الذي جاء فيه :”حقق الإختبار أن معين الكراء لا يتماشى حسب المقدار الذي بلغه بموجب الزيادة الإتفاقية مع القيمة العادلة التي حدد عناصر تقديره الفصل 22 من قانون الأكرية عدد 37 لسنة 1977 وهو يتجاوزها بأكثر من الربع بالنظر إلى كراء المحلات المماثلة و مستوى غلاء المعيشة و مدخول محل النزاع[84]“.

كما يمكن للقاضي الإعتماد على رأي الخبراء و التوجه على عين المكان على أن عمل المحاكم استقر على أن “رأي الخبير لا يقيدها كما أنه عليها تمحيص الاختبار بعد الاطلاع عليه مع مناقشته وإلا فإن قضاءها يكون ضعيف التعليل[85]“، كما له أن يقوم بإستدعاء الطرفين لإجراء محاولة صلحية لتقريب وجهات النظر لتقدير القيمة التي يرى الطرفين أنها عادلة. وهذه الطريقة الأخيرة، على أهميتها ، غير معمول بها كثيرا لدى المحاكم التونسية ويمكن إرجاع ذلك لسكوت قانون 1977 عنها خلافا لبعض الأنظمة القانونية الأجنبية كالفرنسية و السويسرية.

ويبدو من الأولى ملء هذا الفراغ التشريعي نظرا لما للمحاولة الصلحية من أهمية في تجنب الطرفين مصاريف التقاضي و أجرة الخبراء وفي تحقيق مبدأ سرعة فصل النزاعات و نجاعة القضاء وهذا ما يوفر مزيد من الحماية القانونية للأصل التجاري .

وقد أتاح الفصل 23 من القانون للقاضي تحديد ثمن وقتي و الذي لا يجب أن يقل عن معين الكراء المقترح من المتسوغ و أن لا يزيد على المبلغ الذي إقترحه المتسوغ و ذلك غاية ضمان إستمرار العلاقة الكرائية و الحفاظ على الأصل التجاري.وفي جميع الأحوال على القاضي أن يعلل قرارته تعليلا مستساغ.

على أساس ما تقدم ذكره يمكن القول أن معين الكراء الجديد ولئن إشترط المشرع ضرورة مطابقته للقيمة الكرائية العادلة فإن الذي يقوم بتحديده هو القاضي الذي تحل إرادته محل إرادة الأطراف و القيمة العادلة تحل محل القيمة الحقيقية والدليل على ذلك ما جاء بالفصل 29 من القانون من أن الحكم أو القرار المعين لثمن الكراء .يكون بمثابة عقد “حتى وإن كان معين الكراء الذي يحكم به القاضي أقل مما يطلبه المالك و أقل من القيمة الحقيقية لكراء العقار المقدرة في السوق والسبب في ذلك حماية المتسوغ و الحفاظ على الأصل التجاري[86]“.

ويعتبر الحق في التعديل من أهم ” أوجه الحماية القانونية و القضائية من شأنه أن يحافظ على مستوى عادل ومقبول لمعينات الأجرة. و لهذا فلا يتسلط الترفيع إلا على الأجرة المنخفضة و المجحفة و حتى إذا وقع الترفيع فيها فلا يتجاوز ذلك القيمة العادلة[87]“.

الفصل الثاني: الحق في التجديد

اهتم المشرع بحق التجديد أو ما يسمى بحق الملكية التجارية والذي نص عليه الفصل 4 من أمر 27 ديسمبر 1954 والفصل 3 من قانون 25 ماي 1977, في حين ورد بيان شروطه وتطبيقاته وأثاره في فصول أخرى من ذات القانون.

ونظرا لأهمية حق التجديد فقد جعل عنواناً للأمر القديم والقانون الجديد رغم اشتمالهما على مسائل كثيرة أخرى زيادة على حق التجديد والذي يمكن تعريفه بأنه ” حق خوله القانون للأشخاص الذين استوفوا الشروط المستوجبة لذلك بغرض التمديد في العلاقة التعاقدية بشروط قد يكون الاتفاق بشأنها قد تم بالتراضي أو التقاضي[88]“، إلا أن المشرع ولئن خول للمتسّوغ الإنتفاع بحق التجديد عند توفر شروطه (المبحث الأول)، فقد منح المتسّوغ حق رفض هذا التجديد ( المبحث الثاني).

المبحث الأول: في صورة التجديد

لقد كرس المشرع غاية حماية الأصل التجاري، الحق في تجديد الكراء الذي نص عليه قانون 1977 والذي ولئن نص على جملة من الشروط للإنتفاع به إلا أن هذه الشروط تبدو في مجملها سهلة (فقرة أولى) ثم إن من هذه الشروط ما يمكن إعتباره في حد ذاته مظهراً من مظاهر حماية الأصل التجاري. فإذا ما توفرت هذه الشروط ولم يمانع صاحب المحل تم التجديد بشروط جديدة أو بذات الشروط القديمة (فقرة ثانية).

الفقرة الأولى : شروط سهلة للإنتفاع بحق التجديد:

يستوجب الانتفاع بالحق في تجديد الكراء توفر جملة من الشروط الموضوعية(أ) والشكلية (ب)

الشروط الموضوعية:
إن التمتع بحق تجديد الكراء يفترض توفر شروط خاصة في المنتفعين بهذا الحق وأخرى تتعلق بالآجال فضلا عن الشروط المتعلقة بعقد التسويغ.

أما فيما يتعلق بالشروط الواجب توفيرها في المنتفعين بالحق في التجديد، فإنه من المتعارف عليه أن لكل حق صاحب هو الشخص الأمثل للمطالبة به وفي هذا الإطار أورد قانون 1977[89] وبشكل حصري المستفيدين من حق تجديد التسويغ حيث أنه “لا يمكن أن يطلب الحق في تجديد التسويغ إلا المتسوغين أو الذين أحالوا الكراء أو أصحاب الحق الذين يثبتون أنهم يتصرفون في ملك تجاري شخصياً أو بواسطة نوابهم وذلك منذ عامين متتابعين…”.

ومن الجلي أن الطرف النموذج الذي يجوز له المطالبة بهذا الحق هو المتسوغ الأصلي للمحل المستغل به الأصل التجاري ونعني بالمتسوغ الشخص الذي يربطه بصاحب المحل عقد تسويغ وهو عقد يمنح المكتري بمقتضاه حق التمتع بالمحل المكترى.

ومن مظاهر سهولة شروط الإنتفاع بهذا الحق التوسيع في دائرة الأشخاص الذين يحق لهم المطالبة بهذا الحق حيث لم يقتصر هذا الحق على التاجر- وهو ذلك الشخص الطبيعي أو المعنوي الذي إحترف أعمال الإنتاج أو التداول أو المضاربة أو التوسط والمتمتع بأهلية ممارسة التجارة- بل يمتد ليشمل صاحب الحرفة، وفيما يتعلق بالتاجر فان السؤال المطروح هو ذاك المتعلق بمعرفة إن كان من الضروري التسجيل بالسجل التجاري للتمتع بالحق في التجديد أم لا؟

أما بالنسبة للقانون الفرنسي فالإشكال غير مطروح بإعتبار أنه لا يعد تاجرا إلا من رسم نفسه في السجل الرسمي للتجارة، وكذلك الصانع والمحترف فكل منهم أعدت له الحكومة سجلا يقع ترسمه به، ومن لم يرسم نفسه يحرم بالضرورة من الإنتفاع بما جاءت به قوانين الأكرية التجارية 1.

ولئن كان هذا الموقف الذي تبناه المشّرع الفرنسي فأن المشّرع التونسي لم يشترط لا صلب قانون 25 ماي 1977 ولا صلب الفصول الستة الأولى من المجلة التجارية الواردة تحت عنوان ” في التجار” أن يكون التاجر مسجلا بالسجل التجاري حتى ينطبق عليه قانون الأكرية التجارية المتضمن للحق في التجديد.

أما فيما يتعلق بالحرفي- والذي يرى الأستاذ نذير بن عمو أنه يعتبر تاجر لعدم وجود أي نص قانوني يقصيه من الميدان التجاري وأن التدقيق الوارد بقانون الأكرية التجارية بين التاجر والحرفي ليس سوى سهو[90]– فإنه من الضروري الرجوع في خصوصه إلى مقتضيات الفصل 61 من قانون السجل التجاري المنقح بمقتضى الفصل الأول من القانون عدة 15 لسنة 2010 المؤرخ في 14 أفريل 2010 الذي نصّ على أن الشخص الخاضع للتسجيل و الذي لا يقوم بذلك في الأجل المحدد لا يمكنه الإحتجاج بصفته ضد الغير أو الإدارة و بذلك يضع هذا الفصل شرطا لم ينص عليه لا قانون 1977 ولا المجلة التجارية وبالتالي فإن لم يحترم هذا الأخير الإلتزامات المفروضة عليه فلا يمكنه التمتع بالحقوق التي يمنحها القانون التجاري[91].

إلا أن هذا التوجه لا يحضى دائما بتأييد فقه القضاء إذ اعتبرت محكمة التعقيب في قرارها عدد 64020 الصادر في 09/07/2011[92] أن الأحكام المنظمة للسجل التجاري “والمتعلقة بحق الخاضع للترسيم في التمسك بالأعمال والتصرفات الواجبة الترسيم بالسجل والتي لم ترسم به لا تنطبق إلا على علاقة الخاضع للترسيم بالإدارة أو الغير وهي غير صورة قضية الحال التي لم يقم فيها النزاع بين الخاضع للتسجيل والغير إنما بينه وبين معاقده المعقب ضده مالك المحل”.

وفضلا عن بساطة الشروط المتعلقة بالمنتفعين فإننا نجد أن المشرع قد بسط في الشروط المتعلقة بعقد الكراء المتعلق بمحل تجاري.

ومن مظاهر يسر هذه الشروط عدم اشتراط أن يكون العقد كتابيا، حيث لا يهم إن كان العقد كتابيا أو شفاهيا على أن يكون الكراء تم على الوجه الصحيح وأن يكون له تاريخ ثابت حتى يمكن الإحتجاج به.

ومن الجدير التنبيه إلى أنه “ليست كل عقود الإيجار منظوية تحت مفعول القانون الوارد بحق التجديد وحماية الأصل التجاري، مع التذكير بأن حق التجديد لم يقع تأسيسه إلا لحماية الأصل التجاري فالتجديد ليس غاية في ذاته وإنما هو وسيلة لحماية هذه الثروة التي كونها التاجر[93]“.

ومن العقود المستثناة نجد عقود الإيجار المالي، وقد ورد هذا الاستثناء بالفصل الثالث من قانون 26 جويلية 1994 المتعلق بالإيجار المالي والذي نص على أن أحكام
قانون 25 ماي 1977 لا تنطبق على العقد، كما استثنت الفقرة الثانية من الفصل الرابع
من قانون 2 فيفري 1989 المتعلق باستغلال المقاطع عقود كراء المقاطع من ميدان تطبيق قانون الأكرية التجارية.

كما لا ينطبق قانون 25 ماي 1977 عندما لا يشغل المعني بالأمر العقار بعنوان متسوغ وبموجب عقد كراء ومثال ذلك المالك على الشياع أو حالة الإتفاق على إشغال مؤقت والذي عادة ما يكون على وجه الفضل أو بمقابل مالي زهيد[94]، على أنه لا يجب الخلط بين هذه الحالة وحالة الفصل الثاني الذي يتعلق بترخيص الأشغال المؤقتة المفتوحة من قبل الإدارة والجماعات العمومية.

و لئن كان عقد الكراء التجاري خاضعا إلى الأحكام العامة المتعلقة بعقود الكراء[95] ، إلا أنه يعتبر عقدا خاصا لتعلقه بكراء محل يستغل به أصل تجاري. وهذا المحل يفترض فيه الاستجابة لشروط خاصة، وقبل التطرق لهذه الشروط نجد أنه لا بد من الإشارة إلى اعتماد المشرع لعبارتي المحل والعقار في نفس الفصل[96] إذ نص على أنه “تنطبق أحكام هذا القانون على عقود تسويغ العقارات والمحلات…”

ولفظة العقار أعم من لفظة المحل إذ أنها تشمل “ماله أصل وقرار كالأرض والدار بينما تعني كلمة المحل مساحة من الأرض مسيجة ومسقفة يتكون منها محل حقيقي للإتجار”[97]، وعادة ما يكون المحل جزءا من العقار وإذا لم يكن كذلك فهو عقار بطبيعته والفرق بينهما يتمثل في الحجم.

ويجب أن تتوفر في العقار الشروط الدنيا لاستغلال أصل تجاري وهي بالأساس قابليته لإيواء الأصل التجاري فالشوارع والبطاح مثلا لا تعد كذلك.

كما يجب أن تكون ثابتة ثبوتا قويا في أماكن ليست على أملاك الدولة، ولا بد أن يكون العقار ذا سعة تأوي على الأقل صاحبه أي التاجر نفسه.

“وعلى كل حال فالقاعدة المتبعة في تحديد شروط العقار الذي يستغل فيه النشاط التجاري هي تلك التي أقرها المشرع صلب الفصل الأول من قانون 25/05/1977، إذ تفترض كلمة “يستغل” المعتمدة صلب هذا الفصل[98] وجود “بناء يحتوي على مساحة كافية لأن ترتب به سلع كثيرة أو قليلة لكنها محفوظة بهذا المحل كما يستنتج من هذه العبارة أن هذا المحل لا بد أن يكون على الأقل قادرا أن يأوي التاجر إذا لم يكن قادرا على إيواء الحريف وليس له مساحة إقتبال وهو ما يمنع الحيطان والأسطح وكل ما ليس له غور أن يكون صالحا لإيواء أصل تجاري وقابلا للتجديد[99]“.

كما يجب أن لا يكون العقار تابعا لغيره إلا أن هذا النوع من العقارات-أي العقارات التابعة- دار حوله جدل فقهي واختلفت حوله الأراء الفقهية والفقه قضائية لتعلق هذا الإشكال بمسألة الحرفاء الذين يعتبرون أحد أهم العناصر المكونة للأصل التجاري.

وعموما يضل الحل الأنسب هو ذاك الذي يمنح السلطة التقديرية للقاضي لتقدير مدى إمكانية منح حق التجديد لمستغلي العقارات التابعة من عدمه، وهو ما يتماشى ومقتضيات الفصل 2 من القانون.

وقد طرح إشكال حول استغلال أصل تجاري بمحل مقسم لجزئين : جزء يستغل به أصل تجاري وجزء آخر يستعمل للسكنى وهو ما يطلق عليه بالمحلات ذات الاستعمال المزدوج، وهذه الصورة تعرض إليها فقه القضاء التونسي والفرنسي الذين أقرا بالملكية التجارية للشخص المتسوغ لمحل ذي استعمال مزدوج واعتبرا أنه بوجود الأصل التجاري يكون الكراء تجاريا في الكل حتى وإن كان الجزء المخصص للسكنى أهم من الجزء المخصص لاستغلال الأصل التجاري[100]، إلا أن الأخذ بهذه القاعدة على إطلاقها من شأنه الإضرار بالمسوغ لذلك لا بد من التأكد من مقاصد الطرفين المتعاقدين صلب عقد الكراء.

إلا أن المشرع ورغبة منه في مزيد تبسيط شروط الإنتفاع بحق تجديد الكراء فقد أضاف بعض الحالات الخاصة والمتعلقة بعقود تسويغ مميزة، وهي بالأساس تلك الواردة بالفصل الثاني من قانون 25 ماي 1977 والمتعلقة فضلا عن عقود تسويغ المحلات التابعة والمحلات ذات الاستغلال المزدوج التي سبق ذكرها، بعقود تسويغ الأراضي البيضاء وبعقود تسويغ المحلات أو العقارات التي بها مؤسسات تعليم خاص وبعقود تسويغ المحلات والعقارات الواقعة للبلديات، والعقود الواقعة من الذوات المعنوية التابعة للقانون العام.

أما فيما يتعلق بعقود تسويغ الأراضي البيضاء فإنه يشترط إقامة بناء على الأراضي البيضاء موضوع الإيجار مع احترام الشروط الواجب توفرها في المحل. كما يجب أن تكون إقامة البناء أو استعماله بموافقة من المالك سواء كانت هذه الموافقة صريحة أو ضمنية[101]، سابقة أو لاحقة لإقامة البناء، وهو مظهر آخر من مظاهر يسر شروط الإنتفاع بحق تجديد الكراء.

أما فيما يتعلق بزمن إقامة البناء أي قبل الإيجار أو بعده، فإنه لا فرق بين الحالتين إذ أن اعتماد لفظ “أقيمت” تنصرف لصورة البناء بعد الإيجار ولفظ “استعملت” تنصرف لصورة البناء قبل الإيجار[102].

أما فيما يتعلق بعقود إيجار المحلات والعقارات التي بها مؤسسات تعليم خاصة فإن عبارات الفصل[103] تقتصر على المؤسسات الخاصة دون العامة وعلى مؤسسات التعليم دون غيرها.

وفيما يتعلق بعقود تسويغ المحلات والعقارات الواقعة للبلديات فإنه يشترط أن يتعلق العقد بممارسة نشاط ليس من مهام البلدية الأساسية حيث استعمل المشرع عبارة “مستغلة فرعية”[104]، كما يجب الحصول على موافقة المسوغ الصريحة أو الضمنية.أما بالنسبة للعقود المبرمة من طرف الذوات المعنوية التابعة للقانون العام فلقد أوردها المشرع من باب التوسيع في ميدان الحماية القانونية الممنوحة للأصول التجارية بمنحها حق التجديد حتى عند تعاملها مع الذوات المعنوية التابعة للقانون العام والممثلة للمصلحة العامة، مع إضافة بعض الخصوصية على الأحكام المتعلقة برفضها للتجديد[105].

إن توفر شرط الصفة في المستفيد بحق التجديد ووجود عقد كراء متعلق بمحل تجاري لا تكفي للتمتع بحق التجديد إذ لا بد من توفر شرط جوهري يتمثل في مدة الإستغلال والتي يجب أن لا تقل عن سنتين.

وليس من الضروري أن يكون الإتفاق قد تم منذ البداية على عامين، حيث يمكن أن يتعلق بعام قابل للتجديد، والمهم أن يكون الاستغلال خلال هذه المدة فعليا أي أن لا يكون مجرد انتفاع عادي بالمحل بقطع النظر عن استغلال أي أصل تجاري.

ويبدو أن مدة عامين هي مدة كافية من ناحية أخرى بالنسبة للتاجر أو صاحب الحرفة أو الصناعي لكي يكون له حرفاء مستقرين والذين عن طريقهم يمكنه تكوين الأصل التجاري، إلا أن فرض آجال السنتين كآجال دنيا لا يمكن النزول دونها ولو بيوم واحد، خاصة وأن مواقف المحاكم في هذا الخصوص تتسم بالصرامة، قد يكون قاسيا على مالك الأصل التجاري الذي أوشك على بلوغ هذه الآجال ويبدو أنه كان من الأجدى ترك سلطة تقديرية للقاضي في مثل هاته الحالات للنظر في مدى إمكانية منح مالك الأصل التجاري حق التجديد من عدمه.

إن التمتع بحق التجديد يفترض لا توفر شروط موضوعية فقط بل كذلك بعض الشروط الشكلية.

الشروط الشكلية :
لئن خول المشرع للمسوغ الراغب في إنهاء عقد الكراء حق توجيه التنابيه، فلقد منح المتسوغ إمكانية توجيه مطالب التجديد، وقد اهتم المشرع بمطالب التجديد صلب الفصل 5 من قانون 25 ماي 1977 وجعلها حقا ينفرد به المتسوغ دون المسوغ[106]، حيث نصت فقرته الأولى على أنه “عند عدم التنبيه بالخروج يجب على المتسوغ الذي يريد أن يحصل على تجديد الكراء أن يقدم مطلبا إما في الستة أشهر السالفة لانتهاء الكراء أو في كل وقت طيلة التجديد وذلك عند الإقتضاء”.

ويمكن للمتسوغ توجيه مطلب التجديد في ظرف الستة أشهر السابقة لانتهاء مدة عقد الكراء، في حين لا يمكن للمسوغ أن يوجه تنبيها بالخروج طيلة هاته الفترة نظرا لكونه منح الفترة السابقة عن هذه الستة أشهر.

وعلى المتسوغ الراغب في التمتع بحق التجديد احترام آجال الستة أشهر، إذ أنه يعتبر باطلا المطلب الذي يوجه قبل بدء الأجل المحدد لتوجيهه، لكن متى انقضى هذا الأجل دون أن يبادر المتسوغ بتوجيه مطلب التجديد، فإن العقد الذي يستمر بعد انتهاء مدته يعتبر عقدا مجددا ضمنيا ويمكن أن يقدم مطلبه في أي وقت طوال مدة التجديد الضمني.

وبما أن توجيه مطلب التجديد مشروطا أساسا بانقضاء أجال التنبيه، وباعتبار اشتراك التنابيه مع المطالب في هذه الحالة بعدم ارتباط توجيها بآجال محددة[107]، فإن العقد يستمر طالما لم يقم المتسوغ بتوجيه تنبيه للمتسوغ غاية إنهاء عقد الكراء[108].

أما بالنسبة للعقد ذي المدد المتعددة فإن تجديده يكون حاصلا بقوة العقد، ولا حاجة لتوجيه مطلب التجديد في الستة أشهر السالفة لانتهاء إحدى المدد متى لم يوجه التنبيه في أجله.

أما فيما يتعلق بالعقد الذي تتوقف نهاية مدته على حصول حادثة فإنها تطرح إشكالا بخصوص إمكانية توجيه المتسوغ لمطلب التجديد من عدمها متى حصلت الحادثة وعدم توجيه المسوغ أي تنبيه بالخروج، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى منح المتسوغ في هذه الصورة حق توجيه مطلب التجديد[109].

ولئن كان تجديد الكراء التجاري عادة ما يتم بموجب مطلب تجديد إلا أنه قد ينتج أحيانا عن التنبيه لذلك سنتطرق للتنابيه التجارية.

تصدر التنابيه بالخروج من المكرى والمتضمنة رفضا للتجديد وبيانا للرغبة في استرجاع المحل عن المسوغ شخصيا[110]، من طرف من ينوب المالكين في حال تعددهم[111]، ويوجه التنبيه للمتسوغ شخصيا[112]، ولكل متسوغ على حدة في حالة تعددهم وبطلان التنبيه في مواجهة أحدهم يؤدي إلى بطلانه في مواجهتهم جميعا، نظرا لكون التنبيه وحدة لا تقبل التجزئة.

ويكفل الحرص على بيان الأشخاص المعنية بتوجيه التنبيه حصول العلم للمتسوغ ليتخذ ما يلزم من إجراءات لحماية حقوقه في الوقت القانوني، والحفاظ على استمرار أصله التجاري أما تبليغ التنابيه فيكون عن طريق عدل منفذ عملا بأحكام الفقرة الثانية من الفصل 16 والفقرة الأولى من الفصل 23، وقد سبق أن بينا ما يوفره هذا الإجراء من ضمانات.

أما فيما يتعلق بمضمون هاته التنابيه، فإنه وفضلا عن التنصيصات الواردة بـ.م.م.م.ت فلقد أورد المشرع تنصيصات وجوبية أخرى أوردها بقانون الأكرية التجارية، حيث نص الفصل 4 من هذا القانون على ضرورة تضمين التنبيه التجاري بالخروج من المكرى عبارات الفصل 27 من قانون 25 ماي 1977[113]، أي أن الفصل المذكور يجب أن ينقل حرفيا، وذلك غاية لفت نظر المتسوغ إلى الأجل المفتوح أمامه للمنازعة في أصل حقه في التجديد أو التعديل أو التعويض.

ويشترط في التنابيه التجارية أن تكون معللة سواء كانت عادية أو ردودا على مطلب تجديد وإلا كانت باطلة[114]، والتعليل هو تبرير الموقف الذي أخذه المسوغ من حق التجديد والذي من شأنه حرمان المتسوغ من المكرى ومن الأصل التجاري المستغل به، ولذلك فإنه يعتبر شكلية جوهرية تتجاوز الشكل إلى الأصل[115].

كما يشترط أن يقدم التنبيه في أجل ستة أشهر حيث نص الفصل الرابع من قانون الأكرية التجارية على أنه “لا تنتهي أكرية المحلات التابعة الخاضعة لهذا القانون إلا بتنبيه بالخروج يقدم في أجل معين وهو ستة أشهر من قبل”.

وقد اتفق قضاؤنا على احترام هذه القاعدة باعتبارها تدبير حمائي ضد القرار المتخذة من جانب واحد، إذ أن هذا الأجل يمكن المتسوغ من الوقت اللازم لحماية حقوقه، وعند اللزوم للتفتيش عن محل جديد مشابه للمحل الذي يحتمل أن يتخلى عنه[116].

إن توفر الشروط الشكلية والموضوعية لحق التجديد ينجم عنه ترتيب جملة من الآثار.

الفقرة الثانية : آثارها

إن توفر الشروط الموضوعية فضلا عن الشروط الشكلية يؤدي إلى إنتاج جملة من الآثار قد تتعلق بتجديد عقد الكراء أو بإنهاء العلاقة الكرائية وما يهمنا هنا هو صورة تجديد عقد الكراء الذي قد يكون صريحا (ب) أو ضمنيا (أ).

التجديد الضمني :
ومن أبرز صوره تلك الصورة التي يتم فيها في الآجال توجيه مطلب تجديد مستوفى جميع صيغه وشكلياته القانونية من طرف المتسوغ والذي ينتج آثاره المتمثلة في فتح أجل مسقط أمام المسوغ للرد على مطلب التجديد الموجه إليه، ويساوي أجل الرد هذا ثلاثة أشهر من تاريخ تلقي مطلب التجديد.

ويمثل مطلب التجديد فرصة للمسوغ تخول له تحديد موقفه إزاء تواصل الكراء التجاري من عدمه ضمنيا[117].

ويعتبر هذا الأجل مناسبا للمسوغ ليقرر إما رفض التجديد وطلب الخروج[118]، وإما الموافقة على تجديد عقد الكراء التجاري بذات الشروط أو بشروط جديدة، وتكمن أهمية هذا الأجل في كونه يعد أجلا مسقطا، أي أنه في صورة إمتناع المسوغ عن الإجابة في بحر الثلاثة أشهر من تاريخ الإعلام فإن العقد يجدد بنفس بنود وشروط العقد الذي حل أجله، وذلك كلما كان مطلب التجديد متضمنا فقط لطلب تجديد الكراء بنفس شروط العقد الأصلي[119]، وهو ما تبناه المشرع صلب الفصل الخامس من قانون 25/05/1977 الذي أقر من خلاله أنه “إن لم يعلم بنواياه في الأجل يعد المسوغ قابلا لتجديد الكراء بنفس الشروط ولنفس المدة.”

أما بالنسبة للحالة التي يكون فيها المطلب متضمنا للرغبة في التجديد حسب شروط وبنود جديدة – والتي أثارت جدلا فقهيا حول مدى صحتها، فإنه يمكن اعتبار امتناع المسوغ عن الإجابة دليلا على قبوله التجديد بالبنود والشروط الجديدة[120].

وفي هاته الحالة نجد أن الأصل التجاري يستفيد من الحماية القانونية التي تكفلها صرامة الاجال الممنوحة للمسوغ للرد على مطلب التجديد، والتي تبرر برغبة المشرع في عدم منح المسوغ فرصة لترك المتسوغ معلقا لفترة طويلة في انتظار رأي قد لا يأتي، وفي الآن ذاته توضيح الرؤيا أمام المتسوغ حول مستقبل استغلاله التجاري في ظرف وجيز نسبيا.

أما الحالة الثانية للتجديد الضمني فهي تلك التي تنتج عن غياب التنبيه، حيث أنه “عند التنبيه بالخروج يستمر التسويغ الذي حددت مدته بالتجديد الضمني، على ما بعد الأجل المضبوط بالعقد من غير مدة معينة[121]“.

ومن الجلي أن المشرع يقصد عقود الإيجار المعينة المدة من خلال اعتماده لعبارة “الأجل المضبوط بالعقد”.

إلا أن الفرق بين الصورة الأولى لتجديد الضمني وهاته الصورة هو أنه في الصورة الأولى ينشأ عقد جديد إلا أنه في هاته الصورة فإن العقد الأول نفسه هو الذي يمتد ويستمر من غير تحديد للمدة[122].

التجديد الصريح :
يجب التمييز بين حالتين من حالات التجديد الصريح وهما حالة التجديد بنفس الشروط القديمة وحالة التجديد بشروط جديدة.

أما بالنسبة لحالة التجديد بنفس الشروط القديمة فهي عادة ما تنتج عن توجيه المتسوغ مطلبا للتجديد وقيام المسوغ بالإجابة في الآجال القانونية مع احترام مختلف الشروط الشكلية وإجراءات التبليغ وأن يكون هذا الرد بالقبول. دون أي شروط إضافية، ولا تثير هاته الفرضية أية إشكال باعتبار تلاقي إرادة طرفي العقد على تجديد عقد الكراء، وينتج عقد الكراء الجديد آثاره بانتهاء الكراء الأول[123].

وتعتبر هاته الصورة الأكثر ملاءمة لمصالح مالك الأصل التجاري الذي يضمن استقرار أصله التجاري يعفي من تحمل أعباء ومشاق التقاضي.

لكن كثيرا ما يكون تجديد الكراء بشروط جديدة، وعادة ما ينص المسوغ على هاته الشروط صلب التنبيه المتضمن للرغبة في التجديد مع التعديل، والذي يأخذ أحد شكلين؛ حيث أنه يمكن أن يصدر في شكل رد على مطلب التجديد الموجه من المتسوغ، كما يمكن أن يتخذ شكل التنبيه بالخروج مع إبداء الإستعداد لقبول التجديد بشروط جديدة، وقد أثارت هذه الصورة الأخيرة جدلا فقهيا حول صحة هذا النوع من التنابيه من عدمه[124].

وفي هاته الحالة يمكن للمتسوغ الذي لا يرى في الشروط الجديدة إضرارا بمصالحه أو بالأصل التجاري قبولها. أما إن كان رافضا لهذه الشروط الجديدة والتي عادة ما تتعلق بمعلوم الكراء، فله في هاته الحالة أن ينازع قضائيا في هذه الشروط الجديدة، مع ضرورة احترام الشروط الإجرائية والإختصاص[125].

إلا أنه وطوال فترة التقاضي فإن المتسوغ يضل ملزما بدفع معلوم الكراء القديم[126]، ويتم إبرام عقد جديد حسب الشروط التي حددها القاضي. إلا إذا رفض أحد الأطراف الكراء الجديد وفي هاته الحالة يتحمل الطرف المعارض المصاريف.

وفي صورة صدور هذا الرفض عن مالك المحل (المسوغ) فإنه يكون رفضا موجبا للتعويض كلما أقرته المحكمة التي يلزم المتسوغ بإعلامها في ظرف ثلاثة أشهر من يوم العلم بالرفض.

وعموما يضل الأصل التجاري متمتعا بالحماية القانونية التي أقرها المشرع صلب قانون 25/05/1977 سواء تعلق الأمر بتجديد لعقد الكراء أو برفض للتجديد.

المبحث الثاني : في صورة رفض التجديد :

لقد فرض المشرع حماية قانونية خاصة للأصل التجاري عند نهاية عقد الإيجار لا فقط من خلال منح مالك الأصل التجاري الحق في تجديد الكراء بل كذلك من خلال منحه الحق في التعويض في العديد من صور رفض التجديد (الفقرة الأولى)، مقابل منح المسوغ حق رفض التجديد دون دفع غرامة الحرمان في بعض الحالات الخاصة (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى : الرفض الموجب لغرامة الحرمان

يمكن تقديم رفض التجديد على أنه أهم قيد لحق التجديد، غير أن امتناع المسوغ عن تجديد الكراء التجاري عند انتهاء مدته يمنح في المقابل وفي أغلب الحالات للمكتري
المستوفي للشروط حق المطالبة بتعويضات أصطلح على تسميتها بغرامة الحرمان[127]
وقد خول المشرع للمتسوغ الانتفاع بهذه الغرامة ذات القيمة المالية والضمانات الهامة (ب)، وذلك في عديد الحالات (أ).

تعدد صور الرفض الموجبة لغرامة الحرمان :
يمكن للمتسوغ الإنتفاع بغرامة الحرمان في صورة رفض التجديد الغير المبرر وهي صورة الفصل 07 من قانون 25 ماي 1977 (1)، كذلك في صورة الرفض الصادر عن بائع الأصل التجاري وهي صورة الفصل 15 من نفس القانون (2)، والأمر بالمثل في صورة الفصل 16 وهي صورة الرفض الصادر عن الهيئات العمومية (3).

صورة الفصل 07 : الرفض الغير المبرر :
تعتبر هذه الصورة من أوضح صور الرفض الموجب لغرامة الحرمان حيث أن رفض المتسوغ العلاقة الكرائية التي حل أجلها تأسس على السلطة التقديرية التي منحها إياه العنوان الثالث من قانون الأكرية التجارية وتحديدا كل من الفصل السابع والفصلين الخامس عشر والسادس عشر منه، والتي تبيح له رفض التجديد دون أن يكون مطالبا ببيان أسباب أو مبررات ذلك رغما عن عدم وجود خطأ في جانب المتسوغ[128].

و قد نص الفصل 7 علي انه “يمكن للمسوغ أن يرفض تجديد التسويغ و مع ذلك فان المسوغ يجب عليه فيما عدا الاستثناءات المنصوص بالفصل الثامن و الفصول التابعة له أن يدفع للمتسوغ المحروم من التجديد منحة تعرف بمنحة الحرمان ”

ومن بين الحالات التي يمكن اعتبارها رفضا غير مبرر ذاك الرفض الصادر عن المسوغ بناءا على شرط تعاقدي يتناقض وأحكام الفصل 32 من قانون الأكرية التجارية. وفي هذا السياق نذكر الحكم التعقيبي في القضية عدد52344/2010 الصادر في 08/07/2010[129] والذي قضت فيه محكمة التعقيب بنقض الحكم الاستئنافي القاضي بفسخ العلاقة التسويغية بناءا على مخالفة المتسوغ لشرط تعاقدي يتمثل في عدم تغيير النشاط المستغل بالمكرى معتبرة أن “الأمر يتعلق بمحل يمارس صلبه نشاط تجاري نظمه المشرع بالقانون عدد 37 لسنة 1977 المؤرخ في 25/05/1977، ومن الثابت أن هذا القانون اقتضته اعتبارات اقتصادية وهو ما جعل صبغة النظام العام تختلجه وتمتلك صميمه لتعلقه بالكيان الاقتصادي وبالتالي فإن مراعاة أحكامه ينبثق منها لهذا القانون من وثيقي ارتباط بالنظام العام بما يحتم على المحكمة السهر من تلقاء نفسها على احترام مقتضياته وترتيب ما يتعين من الآثار عند عدم مراعاة أحكامه عند الاقتضاء.

وحيث نص الفصل 32 من قانون 1977 على بطلان كل البنود أو الشروط التي من شأنها النيل من حق التجديد المحدث بهذا القانون.

وحيث تفريعا عما سلف الالماع إليه فإن الفصل 10 من عقد التسويغ لا يمكن له أن يخالف الفصل 32 من القانون عدد 37 المؤرخ في 25/05/1977 لتعلق هذا الأخير بالنظام العام.” ما يعني أن عدم إمكانية تعليل الرفض بالشرط الفسخي الوارد بالعقد و المخالف للفصل 32 من قانون الأكرية وبالتالي فإن غياب وجود مبرر آخر لرفض التجديد يجعل من هذا الرفض رفضا غير مبرر، على معنى الفصل7 من قانون الأكرية التجارية، يلزم المتمسك به بدفع غرامة الحرمان.

وبالتالي فإنه “إذا لم يستند المؤجر عند رفضه تجديد الإيجار لخطأ ينسب للمستأجر فلا مناص من غرامة الحرمان تعويضا لما خسره هذا الأخير عند فقدانه للأصل التجاري الذي سعى في تكوينه وأقام منه حقا شخصيا، فهذا الحق الشخصي المأمول تحمل خسائره على المالك الذي تعلقت رغبته بالتصرف في ملكه حسب ما تقتضيه قواعد التملك الجافة التي تعطي المالك سيطرة بلا قيد على ممتلكاته[130].”

صورة الفصل 15 : الرفض الصادر عن بائع الأصل التجاري :
تكون غرامة الحرمان واجبة كذلك عندما يكون المالك نفسه هو بائع الأصل التجاري وقد تحصل على الثمن الجملي، ويرفض مع ذلك تجديد الكراء لمشتري الأصل التجاري، إلا إذا علل هذا الرفض بسبب خطير وشرعي، وهذا ما أكده الفصل 15 من القانون الذي نص على أنه “لا يمكن للمالك أو المتسوغ الأصلي الذي هو في آن واحد مسوغ لمحلات وبائع للملك التجاري المتصرف فيه بالمحلات المذكورة والذي قبل كامل ثمنه أن يرفض تجديد التسويغ إلا بشرط دفع غرامة الحرمان المنصوص عليها بالفصل 7 من هذا القانون ما لم يستدل ضد المتسوغ بسبب معترف بخطورته وبشرعيته”.

وبالتالي فإنه بمجرد توفر الشروط الثلاثة والواردة بهذا الفصل يكون رفض التجديد ملزما لدفع غرامة الحرمان، ويقصد بالشروط الثلاثة؛

أولا، شرط وجود بيع صحيح من المؤجر للمستأجر، ويصح البيع بدون كتب لأن الكتب في صورة الحال لا يتعلق بالنظام العام، إلا أنه يكون من الأفضل إبرام عقد تراعي فيه خصوصا أحكام الفصلان 190 و191 من المجلة التجارية مع جميع البيانات الأخرى التي اقتضتها النصوص المتعلقة بالموضوع، كذلك مراعاة واجب تسجيل هذه الكتب لدى القباضة المالية تجنبا لإبطاله بإثارة الدائنين[131].

ثانيا؛ قبض كامل الثمن من طرف البائع وإلا فإن البيع – وكما هو الشأن بالنسبة لغياب الشرط الأول- يبقى مهددا في صورة تعلق حق للغير به أو عدم اعتراف الطرفان به بأن يعتبر من باب الوكالة الحرة ولا يستحق عندها المتسوغ سوى ما سماه المشرع “الغنم”.

أما الشرط الثالث فهو شرط يفترض التأكد من عدم وجود خطأ خطير وشرعي في جانب المسوغ وذلك للتأكد بان الوضعية القانونية المعنية خارجة عن مجال انطباق الفصل الثامن من القانون و التي سيقع التعرض لها لاحقا.

صورة الفصل 16 : الرفض الصادر عن الهيئات العمومية :
ألحق المشرع برفض التجديد غير المبرر الذي يفتح للمتسوغ الحق في المطالبة بغرامة الحرمان، رفض التجديد الصادر عن الأشخاص المعنوية العمومية المشار إليها بالفقرة الخامسة من الفصل الثاني من قانون 1977 لسبب مستمد من المصلحة العامة حيث نص الفصل السادس عشر على أنه “يمكن الإمتناع من تجديد أكرية العقارات أو المحلات التي هي على ملك الدولة أو البلديات أو المؤسسات العمومية ذات المصلحة العامة وذلك لسبب مستمد من المصلحة العامة.

وفي هذه الصورة فإن المتسوغ المحروم.. يتمتع بغرامة الحرمان المنصوص عليها بالفصل 7 من هذا القانون”

وقد يقع التساؤل هنا عن مفهوم المصلحة العامة وكيفية تقديرها، إلا أن إلزام هاته الهيئات العمومية بأداء غرامة الحرمان “يجعل التساؤل في هذا الموضوع عديم النفع لأن كل مالك له حق رفض التجديد إذا رضي بدفع تعويض المضرة الحاصلة للمكتري وبناء عليه فإن التنبيه بالخروج يكون صحيحا طالما علل بأداء غرامة الحرمان ولو أن الإدارة لم تذكر فيه أنها تسترجع للمصلحة العامة[132]“.

وقد يكون المشرع ذكر هذه العبارة للتأكيد فقط بأنه لا يمكن اعتماد المصلحة العامة كتعلة من طرف الإدارة الراغبة في استرجاع المكرى التجاري وهو ما يعني تسبيق المشرع حماية الأصل التجاري على المصلحة العامة.

وعموما يستحق المتسوغ المحروم من المكرى التجاري في جميع هاته الحالات غرامة تسمى غرامة الحرمان، ولكن ما هي غرامة الحرمان؟

غرامة الحرمان المستوجبة :
لئن كان حق التجديد من أبرز مظاهر الحماية القانونية للأصل التجاري فإن أهميته تتأتى بالأساس من ارتفاع قيمة غرامة الحرمان- الواجب دفعها عند رفض التجديد- والتي أخضع المشرع تقديرها لجملة من المعايير الذكرية (1)، محيطا إياها بالعديد من الضمانات (2).

تقدير غرامة الحرمان :
غرامة الحرمان هي “المقابل الذي يفتدي به مالك العقار حق المتسوغ في تجديد الكراء كما تعتبر غرما للضرر الحاصل للتاجر المستأجر جراء رفع حيازة المكرى منه”[133].

لذا ونظرا لما تكتسيه من أهمية فقد اعتنى المشرع ببيان عناصر تقديرها صلب الفصل السابع من قانون الأكرية التجارية الذي نص على أنه “يمكن للمسوغ أن يرفض تجديد التسويغ ومع ذلك فإنه يجب عليه… أن يدفع للمتسوغ المحروم من التجديد منحة تعرف بمنحة الحرمان تساوي الضرر الحاصل بسبب عدم التجديد”.

وتبدو العبارة الأخيرة (الضرر الحاصل بسبب عدم التجديد) عامة بعض الشيء مما استوجب بعض التوضيح، وهو ما قام به المشرع في الفقرة الثانية من الفصل السابع السالف الذكر، حيث أنه أورد بها بعض العناصر التي يمكن أن تشكل الضرر الرئيسي الذي قد يلحق بالمتسوغ ومن ورائه الأصل التجاري وجاء بهذه الفقرة “وتشمل هاته المنحة بالخصوص قيمة الأصل التجاري عند التعامل وتضبط القيمة المذكورة حسب تقاليد المهنة وتضاف إليها المصاريف العادية للنقل والإنتصاب من جديد وكذلك مصاريف ومعاليم التسجيل الواجب دفعها في صورة شراء أصل تجاري له نفس القيمة”.

بالتأمل في هذا الفصل نجد أن أول المعايير المعتمدة لتقدير غرامة الحرمان هي قيمة الأصل التجاري عند التعامل ولبيان هذه القيمة يجب الرجوع أولا للفصل 189 من المجلة التجارية الذي حدد فيه المشرع عناصر الأصل التجاري واعتبر أن اشتماله على الحرفاء والسمعة التجارية يعتبر وجوبيا، وعلى هذا الأساس فإن تقدير قيمة الحرفاء والسمعة التجارية يعتبر ضروريا لتقدير غرامة الحرمان[134].

كما يعتبر عنصر “الحق في الإجارة” أو ما يسمى “بحق تجديد الكراء التجاري” العنصر الثاني لتقدير قيمة الضرر وذلك نظرا لأهميته بالنسبة للأصل التجاري ونظرا كذلك لكون الحرمان منه هو السبب أصلا في غرامة الحرمان، باعتبار أنه يضمن حق بقاء المتسوغ بالمحلات المكتراة والتي قد يكون لموقعها تأثير على رقم المعاملات للنشاط المستغل بالمكرى.

كما يشمل تقدير قيمة الأصل التجاري عند التعامل “ما لم يقض نص بخلافه سائر الأشياء الأخرى اللازمة لاستغلال الأصل التجاري”.

وعموما يعتمد لضبط قيمة الأصل التجاري عند التعامل حسب صريح الفصل السابع من قانون 1977 على “تقاليد المهنة”، إلا أن هاته التقاليد تختلف باختلاف المكان والزمان وطبعا باختلاف المهنة.

ويبقى تقدير قيمة الأصل التجاري عند التعامل بالإعتماد على تقاليد المهنة موكولا لاجتهاد القضاء بالاعتماد على الخبراء وعلى طرق أخرى كطريقة التنظير والتي لا يتسع موضوع الحال لدراستها.

وتجدر الإشارة إلى أن بعض الفقهاء على غرار الأستاذ بلقاسم القروي الشابي اعتبروا أن قيمة الأصل التجاري لا يقع احتسابها إلا إذا اضمحل الأصل التجاري، أما إن لم يضمحل هذا الأصل التجاري فإنه يقع احتساب قيمة حق الإيجار أو معلوم العتبة[135]،

وهنا يجب التوقف عند مفهوم معلوم العتبة (pas de porte) والذي لم يرد ذكره في النصوص القانونية التونسية، إلا أن الفقه الفرنسي أوجد نظريتان لتعريفه ؛ حيث اعتبرت الأولى أنه تتمة أو تكملة لمعلوم الكراء خاصة وأنه غالبا ما يحدد القاضي معلوم الكراء المجدد أو المراجع بأقل من ثمنه في السوق ، أما الثانية فاعتبرت أنه يعتبر تعويضا لقيمة المحل نفسه الذي تتراجع قيمته إذا كون به أصل تجاري ولا يمكن المالك استرجاع محله إلا بعد دفع غرامة الحرمان.

ولئن برر بعض المؤلفون معلوم العتبة واعتبروا أن الأصل التجاري حقا عقاريا لاحقا شخصيا وهو في رأيهم أخطر من حق المنفعة المنصوص عليه بالقانون العقاري وأخطر من التوثقة، ومن حق المالك أن يتمسك بحق العتبة وأن لا يرضى إلا بمقدار يمكنه من تخليص محله من يد مكتريه عند رفضه للتجديد[136]، إلا أن هذه القيمة المالية المجسدة في حق العتبة تفقد غرامة الحرمان قيمتها وما توفره من حماية للأصل التجاري كما أنها تتعارض مع أحكام الفصل 32 من قانون 25/05/1977.

كما أن تقدير قيمة غرامة الحرمان يشمل كذلك المصاريف العادية للنقل والانتصاب من جديد؛ وتتعلق مصاريف النقل بمصاريف نقلة المواد المتبقية من الأصل التجاري -في صورة إندثاره- والتي يمكن نقلها ونصبها، أما إن لم يندثر الأصل التجاري فتتعلق المصاريف بمصاريف النقلة والإنتصاب بمكان آخر لائق بإيواء الأصل المنقول وتختلف هذه المصاريف بحسب ما إذا كان المكان الذي سينقل له الأصل التجاري قريبا أو بعيدا عن المكان الأول إلا أنه اختلف حول ما إذا كانت مصاريف الانتصاب من جديد تشمل وجوبا معلوم الكراء الذي سيدفعه المتسوغ المحروم للمسوغ الجديد.

إضافة إلى ما ذكر يشمل تقدير غرامة الحرمان “المصاريف ومعاليم التسجيل الواجب دفعها في صورة شراء أصل تجاري له نفس القيمة”[137] وهي عديدة لعل أبرزها تلك التي أوردها الفصل 20 والفصل 22 المنقح بمقتضى الفصل 48 من قانون المالية لسنة 2006 والفصل 28 من مجلة معاليم التسجيل والطابع الجبائي.

وتعتبر عناصر التقدير الواردة بالفصل السابع من قانون 1977 أهم عناصر التقدير غرامة الحرمان باعتبار أنها تتعلق بالضرر الرئيسي الذي قد يتعرض له المتسوغ وأصله التجاري، إلا أن المشرع أورد هذه العناصر على سبيل الذكر لا الحصر بدليل اعتماد المشرع صلب الفصل السابع سالف الذكر عبارة “بالخصوص”، وهو ما يعني إمكانية اعتماد عناصر أخرى لتقدير هذه الغرامة والتي يمكن اعتبارها عناصر تقدير الضرر التتبعي،

ومن هذه العناصر الممكن اعتمادها يمكن أن نذكر إمكانية اعتماد الضرر الناجم عن التوقف الوقتي للاستغلال كما يمكن اعتماد مبلغ الغرامات التي يقدمها المتسوغ لعملته عند فصلهم عن العمل أثناء النقلة والبحث عن محل تجاري جديد، ويمكن كذلك أن يضاف لغرامة الحرمان ما اتفق عليه الطرفين عند إبرام العقد من تكاليف أخرى يتحملها المالك عند امتناعه عن التجديد بمحض إرادته ودون اعتماده على سبب معين”[138].

وتقدير قيمة هذه العناصر باعتبار يدخل في باب إجتهاد القاضي عند تقديره لغرامة الحرمان.

على كل فالقاعدة هي أن الغرامة المذكورة تعويض لمضرة فلا يجب أن تكون باب كسب غير شرعي ولا وسيلة إجحاف.

ضمانات الإنتفاع بغرامة الحرمان :
تتعدد ضمانات الإنتفاع بغرامة الحرمان نذكر منها في بداية المطاف حق البقاء بالمكرى إلى حين قبض غرامة الحرمان، حيث مكن المشرع المتسوغ من البقاء بالمكرى إلى حين أن يتم الدفع الفعلي لغرامة الحرمان، إذ اقتضى الفصل 19 من قانون 1977 أنه “لا يجوز إجبار أي متسوغ يمكنه إدعاء استحقاقه لغرامة الحرمان أو لأحدى الغرامات المنصوص عليها بالفصلين 9 و16 من هذا القانون على الخروج من المحلات قبل اتصاله بالغرامة…” ويعتبر هذا الحق بمثابة حق ممارسة المكتري لحق الحبس المنصوص عليه صلب الفصل 309 من مجلة الإلتزامات والعقود[139].

إن حق البقاء الذي نص عليه الفصل 19 سالف الذكر من شأنه ضمان استخلاص غرامة الحرمان من جهة وضمان استمرارية نشاط الأصل التجاري وبالتالي عدم اضمحلاله.

وتجدر الملاحظة أن بقاء المتسوغ بالمحل يكون مقابل أداء مبالغ مالية تختلف عن معينات الكراء وتعرف بغرامة التصرف وهي تلك التي أقرها المشرع صلب الفقرة الأخيرة من الفصل 19[140] والفقرة الأولى من الفصل 29 من القانون.

وفي المقابل فإن حق البقاء يمكن المتسوغ من التخلص من دفع غرامة الحرمان وذلك بممارسة حقه في التراجع عن رفض التجديد ما يسمى بالفرنسية “droit de repentir” المنصوص عليه بالفصل 30 من قانون 25/05/1977.

إن تنصيص المشرع على هذا الحق كان بالأساس نابعا من رغبته في حماية الأصل التجاري باعتبار أن بقاء المتسوغ وتمتعه بحق التجديد يضمن حفاظه على حرفائه وعدم اندثاره، إلا أنه وحتى تتحقق هذه الغاية يجب أن تتوفر جملة من الظروف التي اعتبرها المشرع شروطا لتمكين المسوغ من حق التراجع أو ما يسمي كذلك بحق الندم، ذلك أن مالك العقار لا يمكنه التخلص من دفع غرامة الحرمان إلا إذا عبر عن رغبته تلك في آجال محددة؛ فإذا صدر عليه الحكم وتعلق الأمر بحكم ابتدائي فله أن يمارس ذلك الحق في ظرف 15 يوما ابتداء من اليوم الذي يصبح فيه الحكم نهائيا،

ولكي يصبح الحكم كذلك يجب أن تمر آجال الاستئناف بعد الإعلام بالحكم دون أن يقع استئنافه من الطرفين، أما إذا تعلق الأمر بحكم استئنافي فيمكن للمسوغ أن يتخلص من دفع الغرامة في ظرف 15 يوما من تاريخ صدور الحكم وهذه الآجال في آجال قصوى يستطيع خلالها مالك العقار ممارسة ذلك الحق، وهذا يعني أنه بإمكانه أن يمارس حقه قبل تلك الآجال أي حتى أثناء نشر القضية لدى الإستئناف.

فضلا عن ذلك، إذا عدل مالك العقار عن إخراج المتسوغ من المحل مقابل التخلص من دفع غرامة الحرمان خلال الآجال المذكورة أعلاه، فإنه يتعين عليه أن يتحمل مصاريف القضية ويقبل تجديد التسويغ الذي تعين شروطه في صورة عدم الاتفاق طبق أحكام الفصل 28 من القانون.

ويجدر التذكير أن المسوغ لا يمكنه ممارسة الحق المنصوص عليه بالفصل 30 فقرة2 إلا إذا كان المكتري مستمرا على البقاء بالمحل ولم يسبق له كراء أو شراء عقار آخر[141]“.

الفقرة الثانية : الرفض الغير الموجب لغرامة الحرمان :

لئن أتاح المشرع للمسوغ حق رفض تجديد الكراء دون دفع لغرامة الحرمان في بعض الحالات الاستثنائية إلا أنه أحاط هذا الحق بالعديد من الشروط (أ)، كما مكن المتسوغ في المقابل من جملة من الحقوق التي تستمر حتى بعد استرجاع المسوغ لمحله (ب).

استرجاع مشروط :
تختلف شروط الاسترجاع باختلاف حالاته، إذ يمكن أن نميز بين شروط الاسترجاع بتعويض مخفف (1) وشروط الاسترجاع المؤسس على الفصل 08 أي الاسترجاع دون تعويض (2).

شروط الاسترجاع بتعويض مخفف :
يمكن أن نميز في إطار شروط الإسترجاع بتعويض مخفف بين شروط الاسترجاع للسكنى (أولا) وشروط الاسترجاع للبناء، لإعادة البناء، للتعلية (ثانيا).

أولا : شروط الإسترجاع للسكنى :

إن توفير مزيد من الحماية للأصل التجاري قد يكون أحيانا على حساب حق مالك العقار في التصرف واستغلال ملكه بكل حرية، حيث أن المشرع لم يمكن هذا الأخير من استرجاع محله -ولو كان ذلك للسكنى- إلا بشروط، ولكن تضل هذه الشروط أقل حدة من تلك التي أوجبها أمر 30/12/1984 والتي تجعل من “حق الاسترجاع في حكم المعدوم”[142].
وقد يفسر ذلك بالأزمة السكنية التي تمر بها البلاد مما يجعل إيجاد مسكن لائق بسعر معقول أمرا صعبا مما يفرض أولوية وأحقية المالك بالمحل المسوغ لتلبية هذه الحاجة الملحة.

ومهما كانت هذه الأسباب التي دفعت بالمشرع للتقليص من الشروط الواردة بأمر 30/12/1954 فإن هذه الشروط تضل صارمة.

أول هذه الشروط هو ذاك المتعلق بصفة المنتفع بحق الإسترجاع، حيث يشترط أن يكون الاسترجاع لفائدة مالك العقار نفسه وأصوله وفروعه.

أما فيما يتعلق بالمالك فهو الشخص الذي يمكنه المطالبة بالاسترجاع للسكنى سواء كان هو المستفيد من الاسترجاع أم غيره ممن حددهم المشرع، ويشترط فيه أن يكون شخصا طبيعيا لا ذاتا معنوية فالشركة المسوغة لمحل تجاري مثلا لا يمكنها المطالبة باسترجاع هذا المحل لإسكان موظفيها ولا يمكن لعمال وموظفي الشركة المطالبة بالاسترجاع لفائدتهم فهم لا يعتبرون لا مالكين ولا متسوغين[143].

كما فرض المشرع في الفقرة الثانية من الفصل 13 من القانون على المالك الذي اقتنى العقار بثمن أن يكون شراؤه برسم ثابت التاريخ طبقا لما جاءت به مجلة الإلتزامات والعقود ومجلة الحقوق العينية ويجب أن تزيد أقدمية شرائه عن ستة أعوام قبل القيام بهذا الحق.

أما فيما يتعلق بأصول المالك وفروعه الذين يمكنهم الإستفادة من هذا الاسترجاع فمن الفقهاء من رأى أن الفروع تقف عند الدرجة الأولى في حين تمتد الأصول للدرجة الثانية واعتبروا أن الأصول تقتصر على أبوي المالك وأبوي أبويه، أما الفروع تشمل الأبناء الشرعيين والأبناء بالتبني دونا عن أبناء الزوجة أي أرباء المالك الذين كان يشملهم الفصل 14 من أمر ديسمبر[144]، ويمكن أن يعزى هذا الحذف لأبناء الزوجة لرغبة المشرع في عدم جعل هذا الاسترجاع صوريا.

ويستوجب الشرط الثاني “أن لا يكون للمتمتع بالاسترجاع مسكن”.

أما الشرط الثالث فيفرض توافق المحل موضوع الاسترجاع مع حاجيات المسوغ المادية وحاجيات أفراد عائلته العائشين عادة معه، ويوحي اعتماد المشرع لعبارة “للمتمتع بالاسترجاع” رغبته في رفع كل لبس ذلك أن هذه العبارات لا تقتصر على المالك بل تمتد لتشمل الأصل أو الفرع الذي تمتع فعليا باسترجاع العقار.

كما اشترط المشرع أن يكون المحل صالحا للسكنى بمجرد إجراء أشغال تهيئة للسكنى، أي أنه لا يجب أن تتحول أشغال التهيئة إلى عملية هدم وبناء وهذا ما يؤدي إلى “استبعاد المحلات المعدة بطبيعتها للتجارة كالمقاهي والمطاعم التي تقتضي إجراء أشغال وإدخال تغييرات جذرية لا مجرد أعمال تهيئة[145]“.

إضافة إلى ذلك اشترط المشرع في صورة الاسترجاع الجزئي أن لا يضر هذا الاسترجاع بالاستغلال التجاري للمتسوغ أو بسكناه.

إلا أنه حتى وإن توفرت هذه الشروط جميعا فإنه لا يمكن لمالك المحل استرجاعه إذ كان المحل المطلوب استرجاعه معدا ليسوغ نزلا أو مؤثثا وذلك حماية لهذا القطاع الحيوي وحماية لمشغلي هذه المحلات من كل تعسف.

إلى جانب هذه الشروط الموضوعية هناك شرط شكلي يتمثل في إعلام المستأجر بنية المؤجر في الاسترجاع من خلال تنبيه بالخروج يوجهه هذا الأخير للمسوغ حسب الإجراءات والشروط التي نص عليها الفصل 4 من نفس القانون، وذلك قبل مضي ستة أشهر على أقل تقدير.

هذه هي جملة الشروط التي اشترطها المشرع والتي يؤدي إثبات توفرها مجتمعة إلى استرجاع المسوغ للمحل .وعلى المستفيد من الاسترجاع أن يشغل المحل بنفسه في أجل أقصاه ستة أشهر من تاريخ مبارحة المتسوغ المحروم من البقاء للعقار، وهو أجل كاف لإجراء أشغال التهيئة والانتقال للعقار.

كما يجب أن يشغل المسوغ المستفيد من حق الاسترجاع المحل لمدة أدناها ستة سنوات يمنع خلالها من إعداد المحل لاستعمال تجاري أو صناعي أو لحرفة مهما كان السبب[146]، وهذا الشرط من شأنه إثبات نية المسوغ الحقيقية.

وفي صورة عدم احترام هذه الشروط يحق للمتسوغ المطالبة بغرامة الحرمان المنصوص عليها بالفصل7.

ثانيا : شروط الاسترجاع للبناء لإعادة البناء أو للتعلية :

لئن كانت الصورة السابقة المتعلقة باسترجاع المحل للسكن به تفترض مجرد أعمال تهيئة فحسب فإن هذه الصور التي نصت عليها الفصول 9 و12 و14 من قانون 25/05/1977 تشترك في كونها تفترض وجود أشغال سواء تعلقت بالبناء أو إعادة البناء أو التعلية.

وتختلف شروط الاسترجاع حسب حالاته؛ فإذا كان الاسترجاع للهدم وإعادة البناء فإن المشرع لم يشترط أن يكون البناء مهددا بالسقوط ولم يشترط حتى وجود قرار هدم أو مثال مبين لنوعية التجديد[147] أو تراخيص إدارية[148]، التي لا داعي في هذه الحالة للتنصيص عليها صلب التنابيه التجارية لإعادة البناء[149] بل اشترط فقط رغبة المالك في تجديد البناء، وعلى كل فكلمة مالك التي استعملها المشرع تنفي على غير مالك الشيء حق الاسترجاع للبناء أو لإعادته، وحتى لا تكون سهولة هذا الشرط أساسا يستند عليه المسوغ للتعسف في استعماله لحق الاسترجاع فقد مكن المشرع المكتري بصفة استثنائية من حق البقاء بالمكرى إلى حين الشروع في الأشغال وقبض المنحة المحددة و التي سنتعرض لها لاحقا. ويكون هذا البقاء “حسب القيود والشروط المنصوص عليها بالعقد المنتهية مدته[150]“.

 

 وتعتبر هذه الحالة من أخطر حالات الاسترجاع على الأصل التجاري باعتبار تقلص الضمانات فيها رغم عدم وجود خطأ ينسب للمتسوغ.

أما إذا كان الاسترجاع من قبل المالك لبعض أو كل الأرض البيضاء المؤجرة التي أقيمت عليها بموافقته الصريحة أو الضمنية بناءات لاستعمال تجاري أو صناعي أو لحرفة[151] فقد وضع المشرع شروطا لهذا الاسترجاع أوردها الفصل 14 من القانون، وأول هاته الشروط حصول المالك على رخصة بناء محل سكني بكامل أو بعض الأراضي المشار إليها بالفقرة الثانية من الفصل 2 من هذا القانون.

وتشترط الفقرة الثانية من الفصل 14 سالف الذكر أن لا يتعلق الاسترجاع سوى بالأجزاء الغير المبنية من الأراضي المسوغة.

وهنا يطرح سؤال حول استعمال المشرع لعبارة “بكامل” بالفقرة الأولى من الفصل14 رغم كون هذا غير ممكن باعتبار الفصل 2 من القانون في فقرته الثانية أكد على وجود هذه البناءات وإقامتها برضاء المالك.

وعلى كل فإن الأرجح عدم شمولية الاسترجاع للعقار المبني[152] وبالتالي فإن تجديد العقد يقع فيما بقي من الجزء المبني وذلك بشروط جديدة تتناسب مع المساحة المتبقية بعد الاسترجاع.

أما إذا كان الاسترجاع مؤسسا على الفصل 12 أي استرجاعا لتعلية العقار فحسب فقد اشترط المشرع أن تكون هذه التعلية موجبة لحرمان المتسوغ مؤقتا أي أنه لا يمكن استرجاع المحل كلما كان بإمكان المالك القيام بأعمال التعلية دونما ضرورة لاسترجاع المحل، أما إن كان هذا الاسترجاع ضروريا للقيام بالأشغال فقد اشترط المشرع أن لا يتجاوز حرمان المتسوغ من المحل مدة أقصاها 3 سنوات.

ولكن أليست هذه المدة طويلة نسبيا ومن شأنها الإضرار بالأصل التجاري هذا إن لم يضمحل أصلا؟ أليس في منح المالك هذا الحق في الاسترجاع وتمكينه من أقصى استغلال ممكن للمحل التجاري تسبيق للحق العقاري على الحق الشخصي وعلى حماية الأصل التجاري الذي تمثل حمايته الغاية الرئيسية لقانون 25/05/1977؟ وتبقى هذه الأسئلة مطروحة نظرا لاختلاف الأراء حولها.

وفضلا عن هاته الشروط المتعلقة بالاسترجاع بتعويض مخفف فقد أورد المشرع شروطا أخرى تتعلق بالاسترجاع المؤسس على الفصل 08 من قانون 25/05/1977.

شروط الاسترجاع دون تعويض :
يعتبر هذا النوع من الاسترجاع الأكثر ضررا بالأصل التجاري إلا أن المشرع راعي عند فرضه للاسترجاع دون تعويض مصالح أخرى منها ما هو عام يمس عديد الأشخاص كالحرفاء ومنها ما هو خاص يتعلق بالمالك فقط، كما راعى كذلك ضرورة الموازنة بين الحقوق العقارية والحقوق الشخصية وعدم السماح للمتسوغ بالإفراط في استعمال حقه في التجديد.

ونظرا لكون هذه الصورة من أكثر الصور التي تتراجع فيها الحماية القانونية للأصل التجاري فقد ضبطها المشرع بشروط وجعلها تقتصر على حالتين فقط تم ايرادهما على سبيل الحصر[153] والمتمثلتين في حالة ثبوت سبب خطير وشرعي ضد المتسوغ الخارج(أولا) وفي حالة وجوب هدم العقار كليا أو جزئيا لإضراره بالصحة ولصيرورته خطيرا(ثانيا).

أولا: شروط الاسترجاع لسبب خطير وشرعي :

نص الفصل الثامن على أنه “يمكن للمسوغ أن يرفض تجديد التسويغ بدون أن يكون مطالبا بدفع أي منحة وذلك : 1- إذا أثبت وجود سبب خطير وشرعي ضد المتسوغ الخارج”.

وبالاعتماد على هذا الفصل نجد أن المشرع قد أوجب توفر عديد الشروط لعل أبرزها وجود سبب خطير وشرعي والسؤال المطروح هنا هو ما المقصود بالسبب الخطير والشرعي؟

ولئن لم يعرف المشرع هذا المفهوم إلا أنه يمكن القول أن السبب الخطير هو كل ما من شأنه تهديد المسوغ في ملكه أو في حقوقه.

أما شرعية السبب فإنها تستمد إما من الاتفاق أو من القانون، ففيما يتعلق بالشرعية المستمدة من الاتفاق فإن كل إخلال من المتسوغ بالالتزامات المحمولة عليه بمقتضى العقد يكون سببا خطيرا وشرعيا مخولا لرفض التجديد دون تعويض[154]، أما فيما يتعلق بشرعية السبب المستمدة من القانون فإنه وبالنظر لمساس النزاع بالكراء التجاري الذي هو مادة قانونية خاضعة لجملة من الأحكام، منها القواعد القانونية العامة الواردة في مجلة الإلتزامات والعقود إضافة إلى القواعد القانونية الخاصة الواردة بنفس المجلة إلى جانب الأحكام الواردة صلب قانون عدد 37 مؤرخ في 25/05/1977، فانه يمكن القول أن كل فعل يخل بهذه الأحكام وكذلك كل فعل يمثل خرقا للقواعد الأخلاقية العامة يخالف الشرعية والأمثلة عديدة منها ما اختلف حوله على غرار عدم دفع معاليم الكراء في آجالها التي اعتبرها بعض الفقهاء من أنظار الفصل 23 الذي يرتب الفسخ، وخلاصة القول أن هذا السبب يتمثل في كل ما يمنعه القانون والاتفاق من تصرفات على المتسوغ وفي كل ما يوجبانه عليه[155] ويبقى الأمر موكولا لاجتهاد القضاء لتحديد السبب الخطير وشرعي من غيره.

وتجدر الإشارة إلى أنه على المسوغ التنصيص على هذا السبب صلب التنبيه الموجه للمتسوغ لإنهاء العلاقة الكرائية معللا، وزوال هذا السبب الخطير والشرعي يحرم المسوغ من حق الاسترجاع دون تعويض ويلزمه بدفع الغرامات إن هو أصر على رفض التجديد[156].

أما الشرط الثاني فهو يتعلق بنسبة هذا السبب الخطير والشرعي إلى المتسوغ أي أن يكون ناتجا عن فعله الشخصي حسب صريح الفصل 8 من قانون 1977 الذي اعتمد عبارة “ضد المتسوغ الخارج”، وبالتالي فإن كل فعل يخرج عن علمه وإرادته لا يمكن مجابهته به أو تحميله تبعاته واعتباره سببا ينجم عن رفض التجديد على أساسه إعفاء من التعويض[157]، ويتعلق الشرط الثالث بعبء الإثبات حيث أنه “وبالنظر إلى خطورة النتائج المترتبة فإن عبء الإثبات يقع على المكتري فهو الطرف المطالب بإثبات وجود مثل هذا السبب[158]“. ويكون الإثبات حرا باعتبار هذا السبب يمثل أمرا واقعيا لا قانونيا وبالتالي يقبل الإثبات بكافة الوسائل.

ثانيا : شروط الاسترجاع لحالة العقار :

نص الفصل الثامن في فقرته الثانية على أنه “إن اتضح أن العقار يجب هدمه كليا أو جزئيا حيث صار مضرا بالصحة إضرار أثبتته السلطة الإدارية أو إذا اتضح أنه صار لا يمكن شغله بدون خطر بسبب الحالة التي هو عليها” صار من حق المسوغ أن يرفض تجديد التسويغ بدون أن يكون مطالبا بدفع أية منحة”.

والجدير بالملاحظة أن المشرع نص صلب هذه الفقرة على حالتين مسببتين للرفض وهما على التوالي، الحالة التي يصير فيها المحل المسوغ مضرا بالصحة، والحالة التي يصير فيها شغل المتسوغ للمكري لا يخلو من خطورة بسبب حالته. وسواء تعلق الأمر بهذه الحالة أو تلك فإن هدم المحل كليا أو جزئيا يكون ضروريا لتجنب المضرة.

فبالنسبة للحالة الأولى فقد اشترط المشرع “إثبات حالة الضرر بالصحة بقرار إداري”[159]، واتجه عديد الفقهاء والدارسين إلى اعتبار أنه لا يجوز للقاضي العدلي
مراقبة القرار الإداري المتخذ ضرورة أن المشرع أسند هذه المراقبة للقضاء الإداري[160].

ولا بد أن ينص القرار هذا على عدم صلاحية المحل لممارسة الأعمال التجارية مما يستوجب انقطاعها لضرورة الهدم سواء كان كليا أو جزئيا، ويختلف الأمر متى كانت مضرة المحل يمكن تجاوزها بمجرد إجراء بعض الإصلاحات البسيطة التي لا تستوجب حرمان المتسوغ من مكراه[161].

وبالرجوع إلى عبارات الفصل الثامن نجد أن المشرع فصل بين الحالة الأولى والحالة الثانية باعتماده على “أو” وذكر شرط القرار الإداري في الحالة الأولى دون الثانية
وهو ما يعني أن الرفض المؤسس على حالة الخطورة التي عليها المحل لا تتطلب
أي قرار إداري بشأنه وبالتالي يمكن القول أنه للقاضي أن يجتهد في هذه الحالة في تقدير مدى خطورة المحل.

وسواء تعلق الأمر بقرار إداري أو اجتهاد قضائي فإنها تضل وسائل ضرورية للتأكد من أن حالة العقار الخطرة أو إضراره بالصحة العمومية بلغ حدا يوجب الهدم وحرمان المتسوغ من استغلال أصله التجاري بالمكرى وأن لا يكون مجرد تعلة لاسترجاع المحل دون تعويض.

ومتى ثبت هذا الضرر أو الخطورة، فإن شغل المحل يصير مستحيلا لضرورة الهدم ويعفي تبعا لذلك المسوغ الرافض للتجديد من كل تعويض وفي المقابل يضطر المتسوغ لمغادرة المحل وهو ما من شأنه الإضرار بالأصل التجاري.

وقد يكون اعتماد المشرع لهذا الحل ناجم عن غياب مصلحة في جانب مالك العقار فهو سيتضرر كذلك من هدم العقار ولو كان ضررا نسبيا . كما أنه لم يرتكب خطأ كان سببا في هذا الاسترجاع حيث أنه يشترط أن لا تكون الحالة التي وصل إليها المحل ناتجة عن فعل المسوغ أو تقصيره أو إهماله بل نتيجة عن الوضع الطبيعي للزمن أو للأحداث والظروف على المكرى كأن يتسبب فيها قدم البناء أو كارثة طبيعية كالزلزال مثلا، وهذا ما أكده فقه القضاء الفرنسي الذي اعتبر أن “حالة العقار المنذرة بالخطر والتي يكون المتسبب فيها صاحب العقار بعدم تعهده وصيانته الصيانة اللازمة تمكن المتسوغ من تعويضات حسب مقتضيات القانون العام ولكن لا تمكنه من تجديد الكراء وذلك للحالة الخطرة التي أصبح عليها، وبالتالي لا يكون له الحق في غرامة الحرمان”[162].

استرجاع لا يضع نهاية لحقوق المتسوغ :
إن استرجاع المالك لمحله لا يمنع استمرار حقوق المتسوغ المتمثلة في الحق في التعويض (1) والحق في الأولوية (2).

الحق في التعويض :
ولئن كانت بعض الحالات مقصات من الحق في التمتع بغرامة الحرمان إلا أن المشرع مكن المتسوغ في بعض الحالات الأخرى من الحصول على تعويض ليعوض ولو جزئيا الضرر الذي قد يلحق بأصله التجاري وهو ما يوفر حماية نسبية للأصل التجاري.

وتتمثل الحالة الأولى الموجبة للتعويض في حالة الاسترجاع للسكنى التي سبق الحديث عنها، ويتمثل التعويض في هذه الحالة في دفع تعويض يساوي قيمة معاليم الكراء التي تم دفعها المتسوغ بعنوان الخمسة سنوات الأخيرة، وفي صورة ما إذا كان التسويغ لمدة أقل من الخمسة سنوات فإن التعويض يكون مساويا لكراء السنة الأخيرة مضاعفا خمسة مرات[163]. على أن هذا التعويض قد يتحول إلى غرامة حرمان في صورة مخالفة أحكام وشروط الاسترجاع التي أسلفنا بيانها، وعلاوة على ذلك يضل المسوغ عرضة لخطية تتراوح بين 100 دينار وألف دينار.

أما الحالة الثانية الموجبة للتعويض فهي تلك المتعلقة بالاسترجاع للهدم وإعادة البناء، و يساوي التعويض في هاته الصورة معين كراء أربعة سنوات[164] تدفع قبل مغادرة المتسوغ للمحل[165].

وكذلك الشأن بالنسبة لاسترجاع الأرض البيضاء لبناء مسكن عليها مما يؤدي إلى انقطاع الاستغلال التجاري فإن مقدار الغرامة يساوي معين كراء أربعة سنوات حسب الفصل 14 من قانون 1977، ويرى الأستاذ بلقاسم القروي الشابي أنه يمكن تطبيق قاعدة الفصل 13 من القانون إذ كانت أقدمية المكتري أقل من أربعة أعوام “وهي القاعدة القاضية في صورة الحال بمضاعفة كراء السنة الأخيرة أربع مرات[166]“،

أما إذا تحيل المالك فاسترجع الأرض طبق رخصة بناء ثم عدل عن بناء مسكن أو باع أو أقام بناء آخر وطبقنا الفصل 18 من هذا القانون فإن الغرامة ترتقي لتشمل كامل عناصر الخسارة داخلا في ذلك قيمة الأصل ومصاريف النقلة ومصاريف البحث عن مكان آخر ومصاريف الاسترجاع وغيرها[167]“.

وتختلف قيمة الغرامة التعويضية في صورة ما إذا كان رفض التجديد للتعلية فإنها تساوي الضرر الذي تعرض له المتسوغ لكن دون أن تتجاوز مقدار كراء ثلاثة أعوام.

والغريب أن المشرع قد وضع المعيار الأساسي لتحديد قيمة التعويض ألا وهو الضرر الذي لحق المتسوغ ولم ينتبه إلى كون هذا الضرر قد يفوق بكثير معينات كراء ثلاثة سنوات وذلك لاعتبار الطول النسبي لهذه المدة الذي قد يجعل الأمر لا يتعلق بتجديد مؤجل بل بعدم تجديد الذي إما أن يكون ناتجا عن اندثار الأصل التجاري خلال هذه المدة أو لكون المتسوغ قد استقر بمحل آخر وقد يكون اكتسب به الحق في التجديد واكتسب خلال هذه المدة حرفاء جدد بدلا عن الذين خسرهم جراء مغادرته للمحل الأول.

أما في صورة الإنتزاع من أجل المصلحة العامة فإنه يمكن للمجموعة العمومية المعنية أن تمتنع عن دفع غرامة الحرمان إذا ما وفرت للمستأجر عقارا آخر مماثلا للعقار الأول وفي نفس الموقع أو بجواره[168]، وفرض المشرع لهذين الشرطين المتعلقين بموقع العقار وحالته تدلان على رغبته في حماية الأصل التجاري وضمان استمراريته وحفاظه على حرفائه، ويبقى في هذه الصورة للمستأجر الحق في غرامة تعويضية من أجل حرمانه الوقتي من استغلال المحل كما يتحصل كذلك على مصاريف النقل والإنتصاب من جديد.

وتأكد هذه الصورة أن غرامة الحرمان ليست غاية في حد ذاتها إذ يمكن الاستغناء عنها كلما تحققت الغاية الأساسية وهي حماية الأصل التجاري وضمان استمراريته.

وتجدر الإشارة إلى وجود صورة خاصة للتعويض وهي تلك التي يقوم فيها المالك باسترجاع عقاره من مستأجر لا يتمتع بحق التجديد ولا بالحق في غرامة الحرمان وهذه الصورة هي التي نص عليها الفصل 35 من القانون وتساوي هذه الغرامة الغنم الذي يمكن أن يتحصل عليه المالك “من جراء الزيادة في قيمة الملك التجاري أو في القيمة الكرائية للعقار بسبب التحسينات المادية التي أنجزها المكتري بالاتفاق الصريح مع المالك[169]“.

حق الأولوية :
يقتصر هذا الحق على صورة الاسترجاع لتجديد البناء حيث أنه في صورة تجديد البناء من قبل مالكه أو المستحق الجديد. حيث أنه ورغبة من المشرع في “حماية المستغلين الذين تم حرمانهم من الإنتفاع بحق التجديد ومن الحق في المطالبة بغرامة الحرمان[170]” فقد مكنهم المشرع من حق الأولوية في الكراء في العقار المجدد، “إلا أن هذا الحق لا يعدو أن يكون حقا وهميا لاحقا فعليا واقعيا[171]“.

لكن المالك غير ملزم بتجديد البناء، وحتى إن تم تجديد البناء فإنه يجب أن تتوفر عديد الشروط كي يتم التمتع بهذا الحق وهي شروط إجرائية نص عليها الفصل 10 من القانون وهي شروط يجب على المتسوغ إتمامها كي لا يسقط حقه وعلى المالك احترامها كي لا يضطر إلى دفع غرم الضرر، وشروط أخرى موضوعية تتعلق بضرورة أن يتم تحديد البناء وبتخصيص المحل لاستعمال التجاري وأن تكون له نفس مواصفات المحلات المهدومة خاصة من حيث المساحة والقدرة على تسديد الحاجيات التجارية. ومع ذلك وحتى إن توفرت جميع هذه الشروط فإن حق الأولوية يضل إحتماليا إذا ما تعدد المتسوغين المحرومين حيث إنه يقع إرجاع أصحاب أقدم عقود تسويغ فيما يحرم البقية من هذا الحق.

هذا فضلا عن المناورات القانونية التي قد يلجأ إليها المسوغ غاية التملص من هذا الحق، ومن ذلك مطالبته بفسخ العقد بناءا على عدم دفع معاليم كراء سابقة لتاريخ توجيه التنبيه، وفي هذا السياق يمكن أن نذكر القرار الصادر عن الدوائر المجتمعة لمحكمة التعقيب في القضية عدد 12857/2007 بتاريخ 25/03/2010[172]،

والذي تفيد وقائعه بأن المدعى عليه متسوغ لمحل منذ 1976 وأنه تم إخراجه منه لهدم وذلك بناءا على حكم استعجالي صادر عن ابتدائية تونس، وبعد إتمام عملية الهدم وإعادة البناء قام المتسوغ بتوجيه إعلام للتمتع بحق الأولوية بكراء المحل التجاري طبق أحكام الفصل 10 من قانون الأكرية التجارية، إلا أن المسوغ وهو المدعي قام بتوجيه تنبيه على معنى الفصل 23 من القانون سالف الذكر مطالبا فيه المدعى عليه بمعينات الكراء المتخلدة بالذمة، ومطالبا إزاء عدم الخلاص بفسخ العقد.

فقضت ناحية تونس في حكمها الابتدائي بفسخ عقد الكراء معتبرة أن منح حق الأولوية في الرجوع إلى المكرى تعني استمرارية العلاقة الكرائية رغم الخروج والهدم وبالتالي امكانية فسخ العقد.

وهذا الحكم لم يحضى بتأييد محكمة الاستئناف في حين أيدته محكمة التعقيب التي قضت بالنقض مع الإحالة مع اختلاف التعليل، ومن ثمة تمت إحالة الملف للمحكمة الابتدائية بتونس والتي قضت بعدم سماع الدعوى معتبرة أن العلاقة الكرائية انفصمت على معنى الفصل9 من قانون الأكرية، وبالتالي فإن العلاقة بين الطرفين لا تخضع لهذا القانون إلا في خصوص الفصل 10 وتوابعه أي فيما يتعلق بحق أولوية الكراء الممنوحة للمتسوغ، وبذلك فإن توجيه التنبيه على معنى الفصل 23 يكون في غير طريقه.

إلا أنه تم تعقيب هذا الحكم مرة ثانية فأصدرت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة قرارها القاضي بقبول مطلب التعقيب شكلا ورفضه أصلا والحجز ما يعني أنها أيدت حكم محكمة الإحالة. ومثل هاته القرارات من شأنها حماية الأصل التجاري من حيل المسوغ الراغب في حرمان مالك الأصل التجاري من حقه في التمتع بأولوية الكراء.

خاتمة الجزء الأول

إن الحماية القانونية للأصل التجاري من الداخل تفترض حمايته من مالك المكرى التجاري، وقد تم تكريس هذه الحماية القانونية صلب قانون الأكرية التجارية المؤرخ في 25 ماي 1977 والذي أقر قواعد استثنائية تختلف عن القواعد العامة المؤسسة على نظرية سلطان الإرادة، وتكفل هاته القواعد حماية الأصل التجاري سواء في مرحلة تنفيذ عقد الكراء التجاري أو عند إنهائه، وذلك من خلال منح مالك الأصل التجاري، المتسوغ لمحل معد للاستغلال التجاري،الصناعي أو الحرفي والذي مارس فيه نشاطه التجاري حسب الشروط المفروضة بمقتضى القانون أو العقد لمدة سنتين متواصلتين، الحق في تعديل وتجديد عقد الكراء.

أما الحق في التعديل فيتسلط على معين الكراء ويكون تعاقديا بموجب إدراج لبند السلم المتغير صلب العقد أو بموجب تجديد عقد الكراء بشروط جديدة. كما يمكن أن يكون قانونيا وذلك عند إعمال قواعد التعديل الثلاثي أو في بعض الحالات القانونية الخاصة التي يدخل فيها طرف ثالث في العلاقة الكرائية وهي بالأساس حالات التعديل عند الكراء الثاني أو عند إحالة الأصل التجاري.

ويتم تعديل معين الكراء وفق إجراءات خاصة تضمن بلوغ الغاية الأساسية من إقرار حق التعديل والمتمثلة في بلوغ القيمة الكرائية العادلة والغير المجحفة بحقوق مالك الأصل التجاري.

أما حق التجديد والذي يتأسس عليه قانون الأكرية التجارية فإنه يخول للمتسوغ عند احترامه لبعض الشروط الموضوعية والشكلية التمتع بتجديد عقد الكراء سواء بصفة صريحة أو ضمنية، ويلزم المسوغ عند رفضه للتجديد بدفع غرامة الحرمان – و التي قد تفوق قيمتها أحيانا قيمة العقار المسوغ – أو ما يعوضها من غرامات خاصة، عدى بعض الصور التي استثناها القانون حصرا والتي يعفي فيها من آداء الغرامات التعويضية.

والهدف الحقيقي من وراء فرض حق التعديل وحق التجديد هو حماية الأصل التجاري من تحمل أعباء إضافية علي غرار معاليم الكراء المشطة وضمان استقراره وعدم انقراضه .

الحماية القانونية للأصل التجاري في بحث قانوني متعمق

مقال جيد وفي المستوى مزيد من التألق والعطاء