بحث قانوني هام يناقش مشروع قانون الأحزاب السياسية من منظور الحريات الدستورية
د. محمد الحموري
مقدمة:
*
إن من يقرأ مشروع قانون الأحزاب السياسية لسنة 2005، يشعر بأنه يقرأ نصوصا لا صلة لها بالفصل الثاني من الدستور الأردني الذي يتحدث عن حقوق الأردنيين وحرياتهم. كما يشعر أيضا، أن الظروف غير العادية التي تمر بها دول الجوار العربي، قد انعكست على ذهنية واضع المشروع ونفسيته، الى حد اعتقد معه أن الأمر يقتضي منه أن يضع قانونا عرفيا للأحزاب السياسية. ومثل هذا الاعتقاد أمر غير سليم. ذلك أن انتماء الحكومات الى مواطنيها، وإشعارهم بالحرص على حقوقهم وحرياتهم السياسية، وليس تقييدها أو مصادرتها، هو الذي يمكّن تلك الحكومات من التعامل مع الظروف غير العادية التي تواجهها والتغلب عليها. كما أن التشريعات الناضجة والمتوازنة هي أداة الحكومات للنهوض بالحقوق والحريات المذكورة. وإذا كان الأصل أن التشريعات توضع لتعيش عقودا من الزمن، فإنه لا يجوز أن يصدر تشريع *لأهم المؤسسات الديمقراطية في الدولة، كالأحزاب السياسية، إنطلاقا من ظرف آني لا يلبث أن يزول. ولقد وجدت أن من الضروري أن أبدي بعض الملاحظات الأولية على مشروع قانون الأحزاب، خاصة وأن دستورنا الأردني يحتوي على نصوص ناضجة في مجال الحقوق والحريات، مستقاة من أفضل الدساتير في الديمقراطيات المعاصرة، ومن الظلم لدستورنا وللشعب الذي يستظل فيه، إصدار تشريعات تعبر عن حالات انفعال ونزق حكومي، أملتها ظروف آنية، لتحكم مستقبل الحياة السياسية في هذا الوطن. وسوف أبدي هذه الملاحظات، تحت عناوين ثلاثة، وذلك على النحو التالي:
اولا : اثر المشروع على الحقوق والحريات الدستورية
ولبيان الخلفية التي ينبغي أن تنطلق منها التشريعات الناظمة للحريات الدستورية أقول، أنه على الرغم من التعديلات التي جرت على الدستور الأردني، إلا أن المواد المتعلقة بحقوق وحريات الأردنيين، ظلت كما هي، ودون أن يطالها التعديل منذ صدور الدستور عام 1952 حتى الآن. وهذه المواد هي من (5 ـ 23)، وقد وردت تحت الفصل الثاني من الدستور. ويلاحظ على هذه الحقوق والحريات الدستورية، أن ممارستها تتم على النحو الذي ينص عليه القانون، لكنه لا يجوز للقانون الذي يصدر لتنظيم ممارسة أي واحدة من الحريات الدستورية أن يصادر هذه الحريات أو يفرغها من مضمونها تحت ستار تنظيمها. وبالنسبة للأحزاب السياسية، فقد جعل الدستور حق إنشائها مستمد من الدستور نفسه وليس من القانون، وذلك بموجب الإستثناء الذي ورد في المادة * (16/2) من الدستور، المتعلقة بحق الأردنيين في إنشاء الأحزاب السياسية، حيث أن حق إنشاء الحزب وفقا لهذه المادة، يستمده الأردنيون من الدستور مباشرة، وذلك أسوة بما نصت عليه دساتير الدول التي أخذت بالنهج الديمقراطي، مثل المادة (4) من الدستور الفرنسي لعام 1958، والمادتين * *(9 و 21) من الدستور الألماني لعام 1949 وفق آخر تعديلات جرت عليه في عام 1991، والمادتين (18و 49) من الدستور الإيطالي الصادر عام 1947 وفق آخر صيغة له عام 2003، والمادة (19) من الدستور الهندي لعام 1949، والمادة (26) من الدستور الليبي في العهد الملكي لعام 1963، والمادة (21) من الدستور الياباني لعام 1963، والمادة (21) من الدستور المصري في العهد الملكي لعام 1923، والمادة (27) من الدستور البلجيكي لعام 1921، علما بأن الدستور الأردني أخذ أحكامه ونصوصه عن الدستور البلجيكي متأثرا بالترجمات والصياغات المصرية.
*
وتنص المادة (27) من الدستور البلجيكي لعام 1921، التي تشكل المصدر التاريخي المباشر للمادة (16/2) من الدستور الأردني، على ما يلي في نسختها الإنجليزية:
*
“Belgians have the right to enter into association or partisanship, this right cannot be liable to any preventative measures.”
*
وباللغة العربية:
*
“للبلجيكيين الحق في تكوين الجمعيات والأحزاب السياسية، ومن غير الممكن أن ترد على هذا الحق أية تدابير تمنع من ممارسته.”
*
وواضح من هذا النص البلجيكي أن حق تكوين الأحزاب السياسية وممارسة هذه الأحزاب لنشاطها لا ترد عليه أية قيود. وبالطبع، فإن حق التكوين والممارسة لهذه الأحزاب، لا يجوز أن يتعارض أو يخالف باقي نصوص الدستور البلجيكي، سواء من حيث المشروعية أو من حيث الوسيلة.
*
أما في الأردن، فقد تم وضع المادة البلجيكية سابقة الذكر، بصياغة شكلت الفقرة الثانية من المادة *(16) من الدستور الأردني لتنص على النحو التالي:
*
“2. للأردنيين الحق في تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية على أن تكون غاياتها مشروعة ووسائلها سلمية وذات نظم لا تخالف أحكام الدستور.”
*
لكن المشرع الدستوري الأردني، تحوط لجوانب إجرائية تتعلق بالطريقة التي يتألف فيها الحزب، والكيفية التي تتم فيها مراقبة الموارد المالية للحزب، فنص على أن يكون ذلك وفقا لقانون يصدر لهذا الغاية.
*
ولذلك جاءت الفقرة الثالثة من المادة (16) من الدستور، ليصبح نصها على النحو التالي:
*
“3. ينظم القانون طريقة تأليف الجمعيات والأحزاب السياسية ومراقبة مواردها.”
*
وعلى هذا، فإن الفقرتين السابقتين المتعلقتين بالأحزاب السياسية تحتويان على أمرين جوهريين مختلفين في الأساس وفي المضمون، أولهما أمر موضوعي يتعلق بالحق في إنشاء الأحزاب السياسية، والثاني أمر إجرائي يتعلق بطريقة تأليف الأحزاب ومراقبة مواردها المالية، ولكل من هذين الأمرين مدلوله الدستوري الذي لا يجوز للقانون أن يتخطاه أو يعتدي عليه أو يصادره.
*
وبالنسبة للأمر الأول وهو الأمر الموضوعي، فإننا نجد أن الفقرة الثانية من المادة (16) تجعل الأردنيين يستمدون حقهم في إنشاء الأحزاب السياسية من الدستور مباشرة، وذلك أسوة بالنص بالبلجيكي. ومع أنه من المفهوم أيضا من الناحية الدستورية، أنه لا يجوز ممارسة هذا الحق على نحو يخالف باقي نصوص الدستور، سواء من حيث المشروعية أو من حيث الوسيلة، وأن هذه المسائل تشكل بالضرورة حدودا ومحددات ترد على أصل الحق، إلا أن واضعي الدستور الأردني رغبوا أن لا يتركوا ذلك للمفهوم الضمني المذكور، ومن ثم شرعوا المحددات التي نتحدث عنها صراحة في الفقرة الثانية، لتصبح هذه المحددات الثلاث هي: أن تكون غاية الحزب مشروعة، وأن تكون وسيلته في العمل سلمية، وأن يكون نظامه لا يخالف الدستور. ويلاحظ هنا أن هذه المحددات الثلاث تستعصي على الضبط التشريعي، بمعنى أنه من غير الممكن أن يصدر قانون يحدد حالات عدم المشروعية أو أنواع الوسائل غير السلمية أو الحالات التي يكون فيها النظام مخالفا للدستور. والسبب هو أن المحددات الثلاث تبلغ في عموميتها حدا أوسع من أي تصور تشريعي يمكن أن يوضع لحصرها وتحديدها مقدما، ولذلك فإن قوانين الأحزاب التي تصدر، لا يمكن أن تتضمن أي تفصيل عن المحددات الثلاثة السابقة، فتنص عليها كما هي، ليصبح الأمر بعد ذلك متروكا لتحديده من قبل القضاء في كل حالة من الحالات الثلاث، عندما يثور الخلاف بشأن أية مخالفة لها. وهنا لا يخرج الأمر عن واحد من فرضين:
الفرض الأول: أن تجد الجهة الحكومية في الوثائق المرفقة بالطلب الذي يقدم إليها لتوثيق إنشاء الحزب، أن غايات الحزب غير مشروعة أو وسائله غير سلمية أو نظامه يخالف الدستور. ففي هذه الحالة، عندما ترفض الجهة الحكومية الطلب المذكور لمخالفته أي واحدة من المحددات الثلاثة، فإن لصاحب الطلب أن يلجأ الى القضاء لإثبات خلاف ما تدعيه الجهة الحكومية، ويكون حكم القضاء في النهاية هو القول الفصل.
*
الفرض الثاني: أن تستجد أي واحدة من المحددات الثلاث بعد نشوء الحزب، فتتخذ الحكومة إجراء بحقه، وفي هذه الحالة فإن للحزب أن يلجأ الى القضاء، لإثبات خلاف ما تدعيه الجهات الحكومية، ويكون حكم المحكمة بالتالي هو القول الفصل أيضا في هذا الموضوع.
*
وتأكيدا لما سبق نقول، أنه حدث عام 1954 أن رفضت الحكومة الطلب المتعلق بإنشاء أحد الأحزاب السياسية، تحت ذريعة أن غايات الحزب وأهدافه غير مشروعة. وعندما طعن مؤسسو الحزب بقرار الحكومة قررت محكمة العدل العليا في حكمها رقم (45/1954) المنشور على الصفحة (430) من مجلة نقابة المحامين لسنة 1955، ما يلي:
اشتمال دستور الحزب على العبارات التالية: ‘الوطن العربي وحدة لا تتجزأ ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل حياته منعزلا عن الآخر‘ و ‘حزب البعث العربي اشتراكي نضالي يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية العربية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق النضال‘، هذه العبارات لا تدل بشكل من الأشكال بأن أهداف الحزب المذكور مقاومة نظام الحكم القائم وكيان الدولة.
“اشتمال دستور الحزب على العبارات التالية: ‘الوطن العربي وحدة لا تتجزأ ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل حياته منعزلا عن الآخر‘ و ‘حزب البعث العربي اشتراكي نضالي يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية العربية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق النضال‘، هذه العبارات لا تدل بشكل من الأشكال بأن أهداف الحزب المذكور مقاومة نظام الحكم القائم وكيان الدولة.”
*
وكان هذا الحكم هو الحكم الوحيد الذي أتيح للقضاء الأردني إصداره في هذا المجال، إذ بعد هذا الحكم حلت الأحكام والقرارات العرفية، مكان القضاء وأحكامه، الأمر الذي أدى الى توقف الإجتهاد القضائي والفقهي في موضوع الأحزاب.
*
وبالنسبة للأمر الثاني: وهو الأمر الإجرائي المتعلق بطريقة تأليف الحزب ومراقبة موارده المالية، فهذا الأمر هو الذي يكون محلا للتفصيل في قانون الأحزاب السياسية. وهذا يعني أن قانون الأحزاب السياسية الذي تصدره السلطة التشريعية، ينظم الجوانب المتعلقة بإجراءات إنشاء الحزب ومراقبة موارده، مثل:
*
تقديم طلب لتوثيق قيام الحزب، والجهة التي ينبغي أن يقدم إليها الطلب، وما ينبغي أن يحتويه النظام الأساسي للحزب من حيث، الحد الأدنى لعدد المؤسسين، اسم الحزب ومركزه الرئيسي وفروعه، أسماء الأعضاء المؤسسين، شروط الالتحاق به وكيفية إسقاط عضوية الأعضاء، وطريقة اختيار قيادة الحزب واختصاصاتها، تغذية الحزب من اشتراكات الأعضاء، الموارد المالية للحزب وعدم تلقيه إعانات أو مساعدات من جهات أجنبية، ما تدفعه الخزينة العامة للحزب وكيفية احتساب ذلك، كيفية حل الحزب وكيفية التصرف بأمواله عند حدوث الحل، والمعلومات التي ينبغي أن يتم تدوينها في سجلات الحزب والجهة التي عليها أن تحتفظ بالسجلات.
*
ويلاحظ هنا أن المسائل الإجرائية السابقة ترد في قانون الأحزاب، من أجل ضبط المتطلبات اللازمة لضمان الجوانب التنظيمية والإدارية لقيام الحزب وتمتعه بالشخصية المعنوية. فإذا تبين للجهة الحكومية التي يقدم إليها طلب تأسيس الحزب، نقص في استيفاء الإجراءات أو البيانات أو المعلومات السابقة، وامتنعت عن الموافقة على تأسيس الحزب، أو استجد هذا النقص بعد قيام الحزب واتخذت الحكومة إجراء بحقه، فإنه يكون من حق طالبي التأسيس أو قيادة الحزب، حسب مقتضى الحال، الطعن بقرار الجهة الحكومية أمام القضاء، ويكون حكم المحكمة هو القول الفصل في هذا الشأن.
*
وإذا ما طبقنا المدلول الدستوري للمادة (16) من دستورنا، في ضوء الدساتير والقوانين المقارنة، على مشروع قانون الأحزاب السياسية الجديد، فإننا نتبين ما يلي:
*
1. إن القانون الجديد دخل على الجانب الموضوعي المتعلق بالأحزاب، وفرض عليها جملة من المحددات التي تستعصي على تحديد مدلول لها، سواء من الناحية القانونية أو حتى من الناحية الفقهية، وجعل من مخالفتها جريمة عقوبتها الحبس، ومن ذلك ما نصت عليه المواد (3 و 6 و 20) من القانون، مثل:
*
. عدم تقيد الحزب بمبدأ التعددية السياسية في الفكر والرأي والتنظيم.
وهنا نجد أنه من السهولة بمكان على أي جهة حكومية أو أي جهاز من أجهزتها، إتهام الحزب بأنه لم يتقيد بمبدأ التعددية السياسية في الفكر أو في الرأي أو في التنظيم، لأن هذه العبارات رحبة المدلولات وواسعة المضامين.
*
. عدم تقيد الحزب بالمحافظة على استقلال الوطن وأمنه وصون الوحدة الوطنية أو تمييزه بين المواطنين.
وهنا نجد أيضا، أن من السهولة بمكان اعتبار أي قول أو فعل أو سلوك يصدر عن الحزب، يشكل عدم تقيد بالمحافظة على إستقلال الوطن أو أمنه أو وحدته الوطنية.
*
جـ.تدخل الحزب في شؤون الدول والجهات غير الأردنية أو التصرف داخل المملكة أو خارجها بما قد يسيء الى الوطن أو علاقته مع الدول الأخرى.
وغني عن القول هنا أن نقد السياسة الأمريكية وسلوك الدولة الأمريكية، ونقد السلوك الصهيوني وما تقوم به إسرائيل يدخل تحت هذا البند.
*
. عدم إتباع الحزب للأساليب الديمقراطية.
وهنا نجد أن عبارة الأساليب الديمقراطية تتسع لتمكين أية جهة حكومية أو أي جهاز من أجهزتها من توجيه الاتهام الى الحزب بأن أساليبه غير ديمقراطية.
*
هـ.قيام الحزب وفقا لمنطلق ديني أو عقيدي أو طبقي.
وهذا يعني أن الأحزاب والتنظيمات الإسلامية، أو تلك التي تقوم للدفاع عن الفلاحين أو الفئة العمالية أحزاب تخالف القانون.
*
إن كل واحدة من العبارات السابقة فضفاضة المضمون، ويستحيل على أي سلطة تشريعية أو عقل قانوني أن يحدد ما يندرج تحتها، الأمر الذي يجعل، كما قلنا، إدعاء أية سلطة حكومية فيها، بأن ما صدر عن الأحزاب من طروحات ومواقف، مخالف لمدلول العبارات المذكورة، كاف لقتل هذه الأحزاب، في أي وقت تريده تلك السلطة، عن طريق توجيه الإتهام إليها وسوقها الى المحاكم الجزائية وتوقيع العقاب عليها، لأن القانون فرض عقوبة الحبس لمدة سنة بالإضافة الى الغرامة على مخالفة تلك المسائل التي لا يوجد لها مدلول محدد أو منضبط. وهذا يجعل من قانون الأحزاب قانونا عقابيا تستطيع الحكومة بمقتضاه أن تعبث بحق الأردنيين في تكوين الأحزاب وممارسة الحياة الحزبية.
*
2. والملفت للنظر أن عقوبة الحبس لسنة والغرامة، امتدت فوق ما سبق، لتشمل مسائل لا يمكن لأي عقل قانوني أن يعتبرها جريمة. فالمادة (23/د) من مشروع القانون تنص على ما يلي:
*
“يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بغرامة لا تتجاوز ألف دينار كل من ارتكب مخالفة لأحكام القانون ولم ينص على عقوبة خاصة بها، ويعاقب بكلتا هاتين العقوبتين في حالة التكرار.”
*
ومن هذه المسائل التي يشملها العقاب بالغرامة والحبس لسنة، على سبيل المثال، ما يلي:
. استخدام الحزب لمركز أي نادي أو نقابة أو جمعية خيرية في نشاطه.
. نشر الحزبية بين القضاة.
جـ.قيام التنظيم الحزبي بممارسة نشاطه في الجامعات أو المعاهد أو المدارس.
. عدم احتفاظ الحزب في مقره الرئيسي بالنظام الأساسي للحزب، أو بأسماء أعضاء الحزب، أو الأعضاء المؤسسين، أو أعضاء القيادة وعناوينهم وأماكن إقامتهم.
هـ.عدم وجود سجل لقرارات قيادة الحزب.
و.عدم وجود ملف خاص بالبروتوكولات أو الإتفاقات الموقعة مع أي حزب أو جهة غير أردنية أو عدم تزويد وزارة التنمية السياسية بنسخة منها خلال مدة لا تتجاوز أسبوعا من توقيعها.
ز.عدم عقد الحزب لمؤتمره السنوي.
*
إن مخالفة الحزب لأي أمر من الأمور الواردة أعلاه، يجعل الحزب وقيادة الحزب مقارفة لجريمة عقوبتها الحبس والغرامة. ومثل هذا النوع من الجرائم غريب على الفكر القانوني الجزائي، وغريب على القوانين التي تنظم الأحزاب السياسية. بل إن التجريم والحبس على الأفعال المذكورة، تعطي لكل منتم الى هذا الوطن حق القول، أن النظرة الأولية لمشروع قانون الأحزاب، توحي بأننا أمام قانون يصادر بعقوباته حريات دستورية كفلها الدستور للأردنيين. ولا ندري من أية دولة من الدول ذات الحكم الفردي تم إستقاء نصوص مشروع هذا القانون.
*
3. إن المادة (5) من مشروع القانون حددت على نحو آمر الشروط التي ينبغي أن تتوافر في أعضاء الحزب مثل، أن لا يكون محكوما بجناية أو بجنحة … الخ، وأن يكون متمتعا بالأهلية المدنية، وأن لا يقل عمره عن ثماني عشرة سنة، وأن لا يكون عضوا في أي حزب أردني آخر، وأن لا يكون من المنتسبين للقوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية أو الدفاع المدني. ومثل هذه الشروط مألوفة في قوانين الأحزاب.
*
لكن غير المألوف مما أوردته المادة المذكورة هو:
*
. أن يكون من ينتمي الى الحزب أردنيا منذ عشر سنوات على الأقل. ولا ندري ما هي حكمة هذا الشرط التحكمي، خاصة إذا علمنا أنه وفقا لقانون الجنسية، فإن من يحصل على الجنسية الأردنية يكون قد أقام في الأردن عددا من السنوات، وتوافرت فيه شروط المواطن الصالح، وفقا لما ينص عليه قانون الجنسية، ويتمتع بكامل حقوق المواطن الأردني.
*
. أن لا يدعي من يقبل عضوا في الحزب بحماية أية جهة غير أردنية. ولا ندري من كان وراء استخدام اصطلاح “حماية” البغيض. فإذا كان مقصودا به عدم التمتع بجنسية أخرى، فإن ذلك يفتئت على نصوص قانونية أخرى تبيح للمواطن الأردني أن يكتسب جنسية ثانية مع احتفاظه بجنسيته الأردنية، مع العلم بأن الكثير ممن تمتعوا بجنسيات أجنبية قد تسلموا مسؤوليات وزارية في الأردن، وأصبحوا شركاء في صنع القرار السياسي.
*
4. ولعل من أكثر الأمور غرابة في مشروع القانون، هو نص المادة (6/د)، وخاصة عندما نقارنها بنصوص قوانين الأحزاب في الديمقراطيات المعاصرة. فالمادة (10) من قانون الأحزاب الألماني الساري المفعول مثلا، تنص على أن من حق الحزب رفض قبول عضوية أي شخص يراه، دون أن يكون هذا الحزب ملزما ببيان أسباب رفض الطلب. أما عندنا، فإن من يقرأ نص المادة (6/د) يستخلص أن المشروع ينطلق من عقلية لا تؤمن البتة بالحقوق والحريات الدستورية للحزب. ذلك أن المادة المذكورة تقضي بأنه إذا تقدم بطلب الإنتماء الى الحزب أي شخص أردني توافر به سن البلوغ والأهلية وعدم المحكومية وعدم الانتماء الى الجيش أو الأجهزة الأمنية، فإنه ينبغي على الحزب قبوله عضوا فيه !! وإلا كان من حقه أن يطعن بمشروعية القرار أمام المحكمة لإلغائه. وهذا أمر في غاية الغرابة والشذوذ. وسبب هذه الغرابة والشذوذ، هو أن الحزب شخص معنوي يتكون من مجموعة من الأشخاص، جمع بينهم التجانس في الفكر، ووحدة في الأهداف والتطلعات والتوجهات والطروحات، فكيف لعقل قانوني أو سياسي يؤمن بالحريات مبدءا وغاية، أن يشرّع نصا يصادر فيه حرية الحزب وحقه في قبول أو عدم قبول من يتقدمون بطلبات للإنتماء إليه!! إن هذا النص وحده، لو تم تشريعه، لكفيل بتمكين جهات بعينها، من دس العديد من أشخاصها الى أي حزب لا يعجبها، وتفكيكه من داخله !! وأمام العقلية التي كانت وراء مثل هذا النص، فإن من حق الأردنيين أن يتساءلوا: هل هذه العقلية التي كانت وراء المشروع، ترغب حقيقة في نشوء أحزاب غير ديكورية الشكل والمضمون، وقيام ديمقراطية حقّة طال انتظار الأردنيين لها ؟
*
5. وبصفتي مواطنا أردنيا، فإن المادة (17) من الدستور تعطيني الحق في مخاطبة السلطات العامة لأتساءل بصوت مرتفع وأقول: من هم الذين أشاروا على الحكومة بقبول تلك النصوص؟ إنني عاتب عليهم كثيرا، لأن وطنهم وشعبهم يستحق منهم أفضل من ذلك، كما أن الديمقراطية التي يتطلع إليها الأردنيون، تستحق منهم الإنتماء الى دائرة الحريات، وليس الى دائرة العقل العرفي.
*
وأتساءل مرة أخرى انطلاقا من حقي الذي تكفله المادة (17) من الدستور وأقول: هل يعلم المستشارون والناصحون بما سبق ذكره من مفارقات تسلب الحقوق والحريات الدستورية الحزبية، التي قام على أساسها ومن منطلقها مشروع قانون الأحزاب؟ فإن كانوا لا يعلمون فتلك مصيبة، وإن كانوا يعلمون، فالمصيبة أعظم !!
*
ثانيا:نظرة الى المشروع بالمقارنة مع قوانين الأحزاب في الديمقراطيات المعاصرة:
*
ومرة أخرى نقول، أنه إذا كان من هم وراء مشروع القانون ينطلقون من فكرة الديمقراطية فعلا، فليتخذوا قدوة لهم قوانين أحزاب من ديمقراطيات معاصرة، كانت قد عانت من تعسف الحكومات وإداراتها، وانتقلت من ظل حكم تلك السلطات، الى رحابة حكم ديمقراطي يستند الى نصوص دستورية تجعل حق إنشاء الأحزاب السياسية نابعا من تلك الدساتير، دون أن تتحايل على هذا الحق فتفرغه من محتواه بموجب قوانين تطلق عليها قوانين الأحزاب.
*
وعلى وجه التحديد، فلننظر الى دولتين مثل إيطاليا وألمانيا مثلا، لنجد أن هاتين الدولتين كانتا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية تحكمهما نظم سياسية فردية متسلطة، حيث كانت تشكل إرادة الزعيم الأوحد في كل منهما، موسوليني في ايطاليا وهتلر في ألمانيا، أساس الحكم. وقد فرض هذا النوع من الحكم في كل منهما واقعا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وقانونيا وإداريا، يختلف كل الاختلاف عما هو الحال في بريطانيا وفرنسا آنذاك، ويقترب كل الاقتراب من واقع أنظمة الحكم في العالم الثالث، ومنها العديد من دول الوطن العربي خلال تلك الفترة التاريخية، أي الفترة التي أنهتها الحرب العالمية الثانية. ومع انتصار الحلفاء في الحرب المذكورة، وانهيار النظام في الدولتين، صدر في كل منهما دستور ينشىء من الصفر نظاما سياسيا ديمقراطيا، أعطى للمواطنين حق إنشاء الأحزاب السياسية، كما هو الحال في الدستور الأردني الذي ينتمي من الناحية الزمنية الى جيل الدستورين الإيطالي والألماني.
*
وهنا نجد أن المادتين (18 و 49) من الدستور الإيطالي لعام 1947 وتعديلاته تنصان على ما يلي:
*
Article 18: *
*
“Citizens have the right freely and without authorization to form * associations for those aims not forbidden by criminal law.”
*
وبالعربية:
*
المادة (18):
*
“للمواطنين الحق في إنشاء التنظيمات (أحزابا/نقابات) بحرية، وبدون أي ترخيص، لتحقيق أهداف لا تكون ممنوعة بقانون العقوبات”.
*
Article 49:
*
“All Citizens have the right to freely associate in political parties in order to contribute by democratic methods to determine national policy.”
*
وبالعربية:
*
المادة (49):
*
“لجميع المواطنين وبحرية التجمع في أحزاب سياسية من أجل المشاركة بالوسائل الديمقراطية في رسم السياسة الوطنية.”
*
كما نجد أن المادتين (9 و 21) من الدستور الألماني لعام 1949 وتعديلاته تنصان على ما يلي:
*
Article 9:
*
“1. All Germans have the right to form associations and societies.
2. Associations, the objects or activities of which conflict with criminal law … are prohibited,”
*
*
*
*
*
وبالعربية:
*
المادة (9):
*
“1. لجميع الألمان حق تكوين التنظيمات (الأحزاب/النقابات) والجمعيات.
2. تعتبر التنظيمات (الأحزاب/النقابات) التي يتعارض نشاطها مع قانون العقوبات ممنوعة.”
*
Article 21:
*
“The political parties participate in the forming of the political will of *the people. They may freely established.”
*
وبالعربية:
*
المادة (21):
*
“تقوم الأحزاب السياسية بالمشاركة في تشكيل الإرادة السياسية للمواطنين، ولهذه * الأحزاب الحرية في النشوء.”
*
ويلاحظ أن كلا من النصين الإيطالي والألماني يتفقان من حيث الأساس مع المادة (16/2) من الدستور الأردني الذي ينتمي الى جيل الدستورين المذكورين ذاته. ومع ذلك، لنقارن حالنا في الأردن، مع حال الحياة الحزبية في الدولتين المذكورتين، من حيث نموها ودورها الذي تصاعد حتى أصبحت الأحزاب في تلك الدولتين تتناوب على الحكم خلال فترة قصيرة من الزمن.
*
ولعل الحديث بشيء من التفصيل عن المقارنة مع ألمانيا التي سنكتفي بعرض قانون الأحزاب فيها، يجعل الصورة أكثر وضوحا.
*
فلقد خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية منهوكة القوى، مدمرة البنيان، ومقسمة الى دولتين، شرقية وغربية، موزعتين بين قوتين دوليتين، فأصبحت ألمانيا الشرقية تسبح في فلك معسكر الإتحاد السوفييتي المعادي للمعسكر الغربي، في حين جثمت قوات المعسكر الغربي على أرض ألمانيا الغربية.
*
كانت حالة ألمانيا المدمرة والمقسمة والمحتلة في تلك الفترة، إن لم تكن أكثر سوءا من العديد من الدول العربية، فمثلها على الأقل. ومع ذلك، فإنه من ناحية الحياة الحزبية، فإن الألمان وضعوا نص المادتين (9 و 21) سابقتي الذكر من دستورهم محل التطبيق، بكل أمانة وإخلاص وجدية، دون أن تشكل ظروفهم السيئة نتيجة التدمير والتقسيم والاحتلال ووصاية الحلفاء عليهم، أعذارا تصادر الحكومات بموجبها حرية الشعب الألماني وحقه في تكوين الأحزاب ونموها ثم تناوبها على الحكم. بل العكس من ذلك هو الذي حدث. فقد وجد الألمان أن الإعلاء من شأن الحقوق والحريات، هو وسيلتهم للنهوض، وخلق نظام جديد في المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والإدارية والثقافية. وفي مجال الأحزاب، لننظر الى القانون الذي يحكم هذه الأحزاب ويرعاها ويكفل نموها وتقدمها لتحقيق ضمان مستمر لسلامة الحكم ورعاية الحقوق والحريات:
*
فالقانون الحالي الذي يحكم الأحزاب في ألمانيا، هو القانون الصادر في 24/7/1967، المنشور في الجريدة الرسمية الفيدرالية رقم (1) الصفحة (773)، المعدل في 31/12/1994 في التعديل المنشور في الجريدة الرسمية الفيدرالية رقم (1) الصفحة (149). ويتكون هذا القانون من (41) مادة، وتتحدث المواد من (18-41) عن كيفية تمويل الحزب والتبرعات له، ودور الدولة في تمويله والمعادلات الحسابية التي يتحدد على أساسها حصة كل حزب من التمويل، وشروط اقتراض الحزب خلال السنة من هذه الحصة وكيفية تقديم طلبات الإقتراض ومواعيدها، ومقدار ما تدفعه الخزينة العامة لدعمه في الانتخابات البرلمانية والمحلية، وتدقيق الحسابات وغيرها من المسائل المتعلقة بالشؤون المالية. أما المواد من (1-17) من القانون، فتتحدث عن تعريف الحزب ودوره وواجباته في التعبير عن إرادة المواطنين في المجالات كافة، وتشكيل الرأي العام، وتأثيراته في توجه الحكومات، وضرورة أن يكون للحزب نظام وبرامج، والشكل التنظيمي للحزب وكيفية انتخاب قيادته ولجانه وممثليه، والمحكمة الخاصة بالحزب لتفسير نصوص نظامه وقراراته والفصل في الخلافات داخله، وكيفية اختيار من يرشحهم الحزب للإنتخابات البرلمانية. على أن من يتفحص الـ (41) مادة المذكورة لا يجد سوى فعل واحد معاقب عليه، وهذا الفعل وفقا للمادة (23/أ) من القانون هو تلقي الحزب لتبرعات غير مشروعة أو استخدام أمواله بطريق غير مشروع. أما العقوبة على هذا الفعل فهي، حسم ضعف مبلغ التبرع أو المال المستخدم بطريق غير مشروع من المخصصات التي تدفعها له الدولة، وتسليم هذا المبلغ المحسوم الى رئاسة مجلس الأمة الألماني ليتم توزيعها على المؤسسات الخيرية خلال السنة المالية اللاحقة !!
*
لقد مر المجتمع الألماني بحقبة من الزمن، كان خلالها محكوما بالدم والحديد من الحكم النازي وفرديته وتسلطه، كما كان العالم العربي محكوما بتسلط سلاطين الدولة العثمانية وولاتها. وزال الحكم النازي في أواخر الربع الثاني من القرن العشرين كما زال حكم آل عثمان في أواخر الربع الأول من ذات القرن. ووضعت ألمانيا دستورا ديمقراطيا يرعى الحقوق والحريات، كما فعلت العديد من دول الوطن العربي. ولكن في الوقت الذي وضعت فيه نصوص الدستور الألماني في التطبيق الحقيقي من خلال قوانين ناضجة، لتنمو في ظلها الحقوق والحريات ،وينطلق العقل عندهم الى مجالات الإبداع والتقدم، ولتصبح ألمانيا نموذجا يحتذى، وقوة اقتصادية عالمية هائلة، أُفرغت نصوص الدساتير العربية في التطبيق من محتواها بموجب قوانين قيدت الحريات وعمّدت فردية السلطات، ليصبح العقل العربي خائفا مرتعشا تحت وطأة القيود التي فرضت على حريته، من قبل إدارات وحكومات أصبحت القيود عندها هي الأصل والحرية هي الإستثناء، ووصلنا الى عصر العولمة ونحن نرسف في أغلال تلك القيود.
*
وإذا كانت الأحزاب السياسية هي الرئة للتنفس السياسي في المجتمع، وهي وسيلة توعية الناس بحقوقهم وحرياته، والأداة الضابطة لتوازن السلطات، والرقيبة السياسية على الخروج على مبدأ سيادة القانون ومبدأ المشروعية، فقد تم منعها أو تقييد حركتها أو وضع العقبات في وجه نشوئها أو نموها، بقوة الدولة وسلطتها، والدستور مغيب أو مجمد أو ممنوع الحراك.
*
ولقد آن أوان التغيير في النهج والأسلوب والمفاهيم.
*
ثالثا:المحصلة والمقترح:
*
إن ما سبق يؤكد أن مشروع قانون الأحزاب برمته لا يصلح أساسا يجري نقاشا حوله، لأنه ينطلق من مبدأ أن القيود والعقوبات هي الأصل، وأن الحرية الدستورية هي الإستثناء فيه. كما يؤكد أن الحدة والانفعال التي عكستها الظروف القائمة في بعض دول الجوار على سلوك الحكومات، جعلتها تتعامل بروح عرفية حتى في تشريعها لنصوص قوانين الحريات.
*
*
*
*
إن من حق كل منتم أن يتساءل: الى متى يستمر تخلفنا وعندنا في هذا الوطن من المؤهلين المغيبين وأصحاب الكفاءات المغيبة، ما يستطيعون إدارة دولة عظمى !!
*
إن الأردنيين يتمنون الإقتداء بقانون تسجيل الأحزاب السياسية الصادر في بريطانيا عام 1998، انطلاقا من أن المصدر التاريخي للدستور الأردني والنظام البرلماني هو الدستور البريطاني. ذلك أن المادة الأولى من هذا القانون تنص على ما يلي:
*
Article (1):
*
“(1) There shall be a register to be known as the register of political *parties.
(2) The register shall be maintained by the registrar or other officer who performs the duty of registration of companies in England and Wales under the Companies Act 1985.”
*
وبالعربية:
*
المادة (1):
*
“1. ينشأ سجل يسمى سجل الأحزاب السياسية.
2. يقوم على هذا السجل مراقب الشركات أو أي من الموظفين الذي يتولون تسجيل الشركات في كل من انجلترا وويلز بمقتضى قانون الشركات لعام 1985.”
*
وإذا كان الوصول الى الصيغة الإنجليزية غير ميسور في الوقت الحاضر، فإن الأردنيين يمكن أن يتطلعوا الى الإقتداء بقانون الأحزاب السياسية الألماني المستند الى نصوص دستورية مماثلة لنصوص الدستور الأردني ،ليكون قانون الأحزاب الذي يصدر عندنا، القانون العصري الذي طال انتظار الأردنيين له، قانون الحريات الحزبية وليس قانون النصوص العقابية.
*
وبالتأكيد فإن الأردنيين يستحقون أفضل بكثير من مشروع قانون الأحزاب المطروح عليهم، وذلك حتى يتمكنوا من التأسيس لحياة حزبية وحياة ديمقراطية، طال انتظار هؤلاء الأردنيون لها.
*
*
*
*
*
وقد آلمني جدا ما صاحب طرح مشروع القانون في حينه، من تصريحات لوزراء لم يتورعوا في نسبة ما احتواه مشروع قانون الأحزاب الى توجيهات جلالة الملك، لأني واثق أن جلالته لا يقبل بأي مساس بالحقوق والحريات الدستورية، ولا يقبل بأحزاب ديكورية لا قيمة لها ولا وزن، كالتي يقود إليها مشروع قانون الأحزاب المذكور. ليس من حق أحد وزيرا كان أم غير وزير، أن يتستر خلف جلالة الملك ليداري بهذا التستر ما يصدر عنه. يكفيني ما قلت ولا أريد في هذا المجال أن أقول المزيد.
*
إنني أدعو الى صدور قانون أحزاب تكون الحرية فيه هي الأصل والقيد هو الإستثناء، قانون أحزاب يقوم على الثقة بالمواطن وبانتمائه دون عقوبات أو ممنوعات، سوى النص فيه على أن تكون غايات الحزب وأنشطته غير ممنوعة بقانون العقوبات الذي يسري على المواطنين جميعا، قانون أحزاب يمكن الناس من ممارسة حريات طال انتظارهم لها، ويأخذ بيدهم للتجمع في مؤسسات حزبية تكون فاعلة في الحياة السياسية، ويكون القضاء وحده هو الرقيب على مشروعية أنظمتها وبرامجها وسلوكها ونشوئها واستمراريتها أو إغلاق أبوابها، قانون أحزاب تكون مضامينه غير خاضعة لأهواء حكومات وإدارات بعينها، فلعل الممارسة الحزبية في ظل مثل هذا القانون تلغي بشكل تدريجي عنصر الخوف من ممارسة الحرية الحزبية، الذي تراكم في وجدان الناس وعقولهم على مدى نصف قرن بسبب سلوكيات السلطة العرفية، قانون أحزاب تدفع فيه الدولة بسخاء لتمويل الأحزاب في نشاطها، وعقد مؤتمراتها، وتغذية مشاركاتها في الانتخابات المحلية والبرلمانية، وتمويل مطبوعاتها، وفتح وسائل إعلام الدولة أمام طروحاتها، وتمكينها من اجتذاب أهل الفكر والرأي، لتكون المحصلة في النهاية مشاركة حقيقية للمواطنين في صنع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يحكم حياتهم، وانتهاء التفرقة القائمة بين مواطنين موالين ومقربين وبين مواطنين غير موالين ومستبعدين، لأن الموالاة والانتماء الى الوطن مفترضة في كل مواطن، ومن يخرج على مبدأ سيادة القانون ومبدأ المشروعية، فالقانون والقضاء العادل له بالمرصاد.
*
إنني أدعو الحكومة الى تشكيل لجنة من كافة الأطياف السياسية، ومعهم ممثلين عن الحكومة لوضع مسودة لمشروع قانون للأحزاب السياسية انطلاقا من المبادىء السابقة، بحيث تكون نصوص قانون الأحزاب الألماني، الذي يشكل نموذجا ديمقراطيا في العالم، أساسا ينطلقون منه، ليتم تقديم هذه المسودة الى الحكومة، فلعل هذه المسودة تعبر عن توجهات الشعب الأردني وتطلعاته، لأن هذا الشعب هو في النهاية جمل المحامل، لما يصدر عن السلطات كافة. وثقتي كبيرة في أن القانونيين وغير القانونيين في الحكومة الجديدة، على مستوى من الوعي والثقافة، يمكنهم من التطلع الى تشريعات للحريات، تتجاوب مع ما استهدفته أحكام الدستور نصا وروحا، وتستلهم ما تغيّاه آباء دستورنا، عندما استخلصوا نصوصه من أفضل الدساتير في الديمقراطيات المعاصرة.
مشروع قانون الأحزاب السياسية من منظور الحريات الدستورية في بحث قانوني ودراسة مفصلة