أساس تطبيق القانون الأجنبي ومركزه أمام القاضي الوطني
الأستاذ: قاشي علال، كلية الحقوق، جامعة سعد دحلب بالبليدة
ملخص المداخلة
إنه من الثابت في فقه القانون الدولي الخاص أن هذا القانون إرتبط وجوده بظاهرة الحدود السياسية والإجتماعية فهو يقوم على إفتراض إنقسام المجتمع الدولي إلى عدة دول ذات حدود إقليمية تميزها عن غيرها، ولكل منها نظامها القانوني المستقل ثم نشوء علاقات وروابط متبادلة إقتصادية وإجتماعية بين أفراد كل منها: وقد أضحت تلك العلاقات التي تنمو عبر حدود الدول من معالم المجتمع الدولي المعاصر بعدما إرتبطت الدول بمصالح مع الدول الأخرى وعندها لجأت كل دولة إلى سن تشريع يطبق على إقليمها سواء بالنسبة للعلاقات الوطنية أو بالنسبة للعلاقات ذات العنصر الأجنبي وعن طريق قواعد الإسناد يمكننا معرفة القانون الواجب التطبيق على المنازعة ذات العنصر الأجنبي أهو القانون الوطني أم القانون الأجنبي فإذا أشارت قاعدة الإسناد إلى تطبيق القانون الأجنبي فإلى أي مدى يلتزم القاضي الوطني بتطبيقه وهل القاضي الوطني يبحث عن هذا القانون من تلقاء نفسه أم يتوجب على الخصوم إثبات مضمون هذا القانون وهل يخضع القاضي الوطني وهو بصدد تطبيقه وتفسيره لهذا القانون لرقابة المحكمة ؟ وهل يعد القانون الأجنبي قانونا ويظل محتفظا بهذه الطبيعة رغم تجاوزه للحدود الإقليمية للدولة التي سنته ، تلك أهم الإشكالات التي تثار في هذه المداخلة المتواضعة والتي تعالج محورا من محاور الملتقى ومن أجل الكشف والبحث عن هذه الإشكالات القانونية يتوجب علينا معالجة ذلك وفق فكرتين تتضمن الأولى: أساس تطبيق القانون الأجنبي، أما الثانية تعالج مركز القانون الأجنبي أمام القاضي الوطني مسترشدين ببعض القوانين المقارنة خاصة وأن المشرع الجزائري قد عدل الأحكام الخاصة المتعلقة بموضوعات القانون الدولي الخاص ( المواد من 09 إلى 24) في سنة 2005 في ظل عولمة القوانين.
مقدمة:
عندما تشير قاعدة الإسناد إلى تطبيق القانون الوطني فإن هذا الأخير هو الواجب التطبيق ،أما إذا كان القانون المشار إليه قانونا أجنبيا فإلى أي مدى يلتزم القاضي بتطبيقه وهل القاضي الوطني يبحث عن هذا القانون من تلقاء نفسه أم يتوجب على الخصوم إثبات مضمون هذا القانون وهل يخضع القاضي وهو بصدد تطبيقه وتفسيره لهذا القانون الذي أشارت إليه قاعدة الإسناد لرقابة المحكمة ،وهل يعد القانون الأجنبي قانونا ويظل محتفظا بطبيعته بالرغم من تجاوزه للحدود الإقليمية للدولة التي سنته أم أنه يعتبر مجرد وقائع يتعين على الخصوم إثباتها وتقديم الدليل حول مضمون هذه القواعد ؟ تلك هي أهم الإشكالات التي تثار بهذا الصدد ومن أجل الكشف وبحث هذه الإشكالات القانونية يتعين علينا معالجة ذلك وفق فكرتين أساسيتين نبحث في الأولى أساس تطبيق القانون الأجنبي وفي النقطة الثانية نتطرق إلى مركز القانون الأجنبي أمام القاضي الوطني ونتبع في ذلك المنهج التحليلي والمقارن والنقدي مسترشدين ببعض القوانين المقارنة بخصوص التعامل مع القانون الأجنبي من حيث الأساس وكيفية التطبيق السليم له.
المبحث الأول: أساس تطبيق القانون الأجنبي
إذا كان القانون يطبق داخل الحدود الإقليمية للدولة التي سنته كأصل عام إلا أن هذا القانون قد يمتد تطبيقه إلى خارج هذه الحدود خصوصا إذا كان أحد أطراف العلاقة أجنبيا فهل تحتفظ هذه القواعد القانونية المطبقة بأوصاف القاعدة القانونية الصادرة عن المشرع ليطبقها القاضي الوطني
إن مسألة تحديد الأساس القانوني لتطبيق القانون الأجنبي أمام القاضي الوطني أثارت جدلا فقهيا في القانون المقارن يمكن إجماله في النظريات التالية:
المطلب الأول: فكرة الحقوق المكتسبة كأساس لتطبيق القانون الأجنبي ( النظرية الأنجلو أمريكية)
يعتبر جانب كبير من الفقه الأنجلو أمريكي أن القاضي الوطني وهو يطبق القانون الأجنبي لا يعدو أن يكون مجرد إعتراف بالحق الذي تم إكتسابه في الخارج ، فمثلا إذا طرحت أمام القاضي الإنجليزي مسألة الإعتراف بزواج أبرم وفقا للقانون الجزائري فإن هذا القاضي لا يستطع أن يعترف بهذا الزواج وشرعيته إلا وفقا للشروط والأوضاع التي يحددها القانون الجزائري للإعتراف بهذا الزواج، ومدلول ذلك أنه إذا أشارت قاعدة الإسناد إلى تطبيق القانون الأجنبي فإنها تهدف إلى الإعتراف بالحق الذي نشأ وفق هذا القانون إذ أن القانون الأجنبي لا يخرج عن كونه عنصرا من عناصر هذا الحق ( الذي نشأ في الخارج) أو الواقعة المكسبة للحق وكل من يريد التمسك بنشأة هذا الحق في الخارج يقع عليه عبء الإثبات ويثبت القانون الأجنبي الذي يعتبر سببا في إكتساب هذا الحق ومتى تمكن الخصم من إثبات حقه وفقا للقانون الأجنبي فما على القاضي إلا الإعتراف بهذا الحق الذي نشأ وتم إكتسابه وفقا لقانون أجنبي (1).
إن مرتكزات هذه النظرية غير صائبة إلى حد بعيد على إعتبار أن مسألة الإعتراف بالحقوق المكتسبة في الخارج التي تنشأ صحيحة وفقا للقانون الذي قامت في ظله مسألة ليست محل جدل وخلاف شريطة أن يكون هذا الحق المكتسب لا يخالف النظام العام في دولة القاضي ومن جهة ثانية لا يمكن الفصل بين الإعتراف بحـق نشأ في الخـارج والقانون الأجنبي الذي نشأ في ظله الحق المكتسب (2).
لذا فإن هذه النظرية لم تلق رواجا في الفقه والقضاء في القانون المقارن إذ أن هذه النظرية تعد قاصرة وغير منطقية من جهة أخرى فمن حيث القصور تعترضنا مسألة بحث الأساس القانوني لتطبيق القانون الأجنبي عندما تكون أمـام فرضية نشوء حق أو مركز قانوني في دولة الـقاضي وفقا لأحكام
القانون الأجنبي؟ فمثلا لو أراد زوجان فرنسيان الطلاق أمام القاضـي الإنجليزي وفقا لإتفاق مشترك بينهما نزولا عن حكم القانون الفرنسي ففي هذا الفرض يطرح أمام القاضي الإنجليزي مركز قانوني جديد نشأ وفقا لأحكام قانون أجنبي ومثل هذا الفرض تقف نظرية الحقوق المكتسبة عاجزة عن تغطيته أما من حيث عدم منطقية هذه النظرية فإن مسألة الإعتراف بالحق المكتسب في الخارج وفقا لقانون أجنبي معناه من الناحية الواقعية الإعتراف بالقانون الأجنبي ذاته.
المطلب الثاني: القانون الأجنبي مسألة واقع ( المدرسة الفرنسية)
إن بعض الفقه في فرنسا – باتيفول ولاجارد- يعتبر أن تطبيق القانون الأجنبي من طرف القاضي الوطني ما هو إلا عنصرا من عناصر الواقع وينطلقون من فكرة مفادها أن كل قاعدة قانونية لها عنصر عقلي وهي عامة ومجردة وعنصر الإلزام الذي يضفي على القاعدة قوتها الملزمة وتظل القاعدة تتمتع بهذين العنصرين متى طبقت داخل الدولة التي سنتها، ومتى طرحت هذه القاعدة أمام قاض آخر بوصفها قانونا أجنبيا فإنها تفقد عنصر الإلزام وتطبق بوصفها واقعة ثبت وجودها أمام القاضي يتعين على الخصوم إثبات هذا القانون وكل خطأ في تفسير هذا القانون الأجنبي لا يخضع لرقابة المحكمة العليا باعتباره مسألة واقع.
إن الفقه لم يرحب بهذه النظرية بل إنتقد النظرية من عدة أوجه إذ قوام النظرية خاطئ عند تقريره بأن القانون الأجنبي يتحول إلى واقعة وأن القاضي الذي يطبق هذا القانون لا يخاطب بالأحكام التي ترد في هذه القاعدة فهذا فيه نوع من المجازفة والمجاز ولا يصح التسليم به، فالقاعدة القانونية تحتفظ بجوهرها سواء طبقت من طرف القاضي الوطني أو طبقها قاضي أجنبي بوصفها قانونا أجنبيا ومن جهة ثانية ولو سلمنا بأن القاعدة القانونية عندما ترحل خارج حدود دولتها لتطبق أمام قاضي أجنبي مفتقدة لعنصر الأمر فلماذا لا نسلم بأن عنصر الأمر والإلزام تسترده القاعدة القانونية بمقتضى قاعدة الإسناد الوطنية (3) .
المطلب الثالث: إحتفاظ القانون الأجنبي بطبيعته القانونية
إن الاتجاه الغالب في القانون المقارن يذهب إلى القول بأن القانون الأجنبي يظل قانونا محتفظا بطبيعته ليس داخل حدود الدول التي صدر عنها وإنما أمام قاضي دولة أخرى ولا يعتبر عنصرا من عناصر الواقع ولكنه قانون بمعنى الكلمة ولكن الفقهاء لم يتفقوا حول أساس تطبيق هذا القانون بالرغم من التأكيد على طبيعته القانونية وفي هذا الشأن فإن الفقه الايطالي يذهب إلى القول بأن القانون
الأجنبي يندمج في القانون الوطني ويطبقه القاضي الوطني بوصفه هكذا ،أما فريق آخر من فرنسا وألمانيا يجعل من أساس تطبيق القانون الأجنبي وفقا لفكرة التفويض وهنا نفصل المسألة نوعا ما .
الفرع الأول: إستقبال القانون الأجنبي
أنصار فكرة إندماج القانون الأجنبي في القانون الوطني حسبهم أن قاعدة الإسناد تشير إلى تطبيق القانون الأجنبي وتجذب هذا الأخير فتدمجه في القانون الوطني إذ لا قيمة للقانون الأجنبي إلا بإندماجه في النظام القانوني الداخلي وإستغراقه فيه وبذلك فإن القاضي لا يطبق القانون الأجنبي وإنما يطبق القاعدة القانونية التي يتوافق مضمونها مع قواعد القانون الأجنبي ويرى أنصار هذه الفكرة بأن الإستقبال يكون بإحدى الطريقتين: إستقبال مادي وفيه تفقد القاعدة صفتها الأجنبية، وإستقبال شكلي وبمقتضاه يندمج القانون الأجنبي في قانون القاضي إلا أنه يحتفظ بقيمته ومدلوله الذي يصبغه عليه المشرع الأجنبي الذي صاغ أحكام هذا القانون (4).
لكن فكرة الإستقبال تعرضت من قبل غالبية الفقه للنقد إذ أن هذه الفكرة تقوم على نوع من الإحتيال والمجاز والخيال إذ تقوم على تصور إمكان احتواء قانون القاضي لكافة قوانين دول العالم زيادة على ذلك فإنه من غير المقبول القول بإمكان إحتواء قانون القاضي لقاعدة أجنبية إذا كانت تتعارض مع الأسس التي يقوم عليها قانون القاضي ( النظام العام) .
مما تقدم فإن فكرة الإستقبال هذه غير منطقية في الحالات التي يكون فيها القانون الأجنبي متنافرا وأحكام قانون القاضي إلى حد لا يصل إلى مخالفة النظام العام فكيف يتم تلقي وإستقبال القانون الأجنبي في وجود هذا التباين ومن جهة ثانية فان فكرة الإستقبال غير مكرسة من الناحية الواقعية .
الفرع الثاني: فكرة التفويض
يذهب غالبية الفقه في ألمانيا وفرنسا إلى القول بأن إلتزام القاضي الوطني بتطبيق القانون الأجنبي يستند إلى تفويض من المشرع الوطني بمقتضى قاعدة الإسناد إلى مشرعي الدول الأجنبية من أجل إعطاء الحكم المناسب ،يظهر من هذه الفكرة أن القانون الأجنبي يحتفظ بصفته وهيئته بالصورة التي تكون له في دولة إصداره ويلتزم القاضي الوطني بتطبيق هذا القانون بصفته ،لكن فكرة التفويض لم تسلم من النقد إذ أنه من غير المتصور أن يأتمر القاضي الوطني بغير أوامر مشرعه ومن جهة أخرى لا يعقل بأن مشرع دولة القاضي يفوض سلطة تشريعية أجنبية للتشريع عوضا عنه ولو سلمنا بفكرة
التفويض فكيف يكون لأنه غير معروف مسبقا بل يختلف بإختلاف المنازعات المطروحة على القاضي ولا علم للمشرع الأجنبي بتفويض المشرع الوطني له فهذا تفويض بدون إرادة وهو نوع جديد من التفويض (5).
المطلب الرابع: التفسير الراجح لأساس تطبيق القانون الأجنبي
إن غالبية الفقه والاجتهاد في القانون المقارن يؤكد الطبيعة القانونية للقانون الأجنبي ويركز بإلحاح على صفته الأجنبية ولا يعتبره عنصرا من عناصر الواقع بل إنه قانون يطبقه القاضي الوطني نزولا على أمر مشرعه الذي أودعه قاعدة الإسناد الوطنية دون حاجة إلى خلق مبررات غير منطقية وبما أنه قانون ولكنه أجنبي فأمر طبيعي بأن يلقى معاملة إجرائية تختلف عن تلك التي يتلقاها القانون الوطني. والقول بأن القانون الأجنبي يفقد صفته الإلزامية بمجرد عبوره الحدود ويعتبر واقعة تطبق أمام القاضي الوطني فهذا غير منطقي وكأن القاضي يطبق واقعة على وقائع وهذا لا معنى له وإذا كان القانون الأجنبي يتمتع بهذه الخصوصية فإنه حتما لا يعامل مثل القانون الوطني فحتما بينهما فوارق ومن الصعب إفتراض علم القاضي الوطني بمضامين كافة القوانين الأجنبية زيادة على ذلك فإن القانون الأجنبي لا يصدر ولا ينشر في دولة القاضي (6).
ومن خلال ما سبق فإن المشرع الجزائري لا ينكر الصفة القانونية للقانون الأجنبي لكن يخضع لمعاملة تختلف عن القانون الوطني وبناء على ذلك فإنه من يتمسك بالقانون الأجنبي عليه إثباته وكذلك فإنه متى كان القاضي الجزائري عالما بالقانون الأجنبي طبقه من تلقاء نفسه.
المبحث الثاني: مركز القانون الأجنبي أمام القاضي الوطني
إن تطبيق القانون الأجنبي أمام القاضي الوطني يجد أساسه في أن إختصاص هذا القانون قد تحدد بأمر من المشرع الوطني الذي جعل إرادته في قاعدة الإسناد التي أشارت إلى تطبيق هذا القانون وقد بينا سابقا بأن القانون الأجنبي يحتفظ بصفته بالرغم من أن تطبيقه يكون حتى خارج حدود الدولة التي شرعته (7) لذا نكون أمام إشكالات مفادها هل القاضي الوطني يلتزم بالكشف عن مضمون القانون الأجنبي من تلقاء نفسه أم يتحمل ذلك الخصوم وكيف يتم تفسير هذا القانون هل وفقا لقانون الدولة الشارعة له أم وفقا لقانون القاضي وفي حالة حصول خطأ في تفسير هذا القانون هل للمحكمة العليا دور في الرقابة على صحة تطبيق وتفسير هذا القانون؟
المطلب الأول: تعامل قضاة الموضوع مع القانون الأجنبي
إذا كانت قاعدة الإسناد المشار إليها في القانون الوطني هي المحدد للقانون الواجب التطبيق عند النزاع وهذه القاعدة لها صفة الإلزام ويجب على القاضي أن يثيرها من تلقاء نفسه في الإطار الذي ذكرناه سابقا إلا أن عملية تطبيق القانون الأجنبي تقتضي التعرض إلى مسألة قانونية هامة تتعلق بإثبات هذا القانون بوسائل محددة ونطاق تطبيق القانون والحكم فيه فيما إذا تعذر إثبات مضمون هذا القانون وهذا ما نتناوله .
الفرع الأول: مرحلة إثبات القانون الأجنبي
نقول بداية بأن تحديد القانون الأجنبي المختص بالتنازع لا يفصل في المنازعة نهائيا بل يقتضي تطبيق القانون من طرف القاضي والتطبيق هذا يفترض في القاضي الوطني علمه الكافي بالقانون الأجنبي وهذه مسألة تكاد تكون مستحيلة لأننا نكون قد كلفنا القاضي ما ليس بمقدوره لذا فإن التشريعات المقارنة لم تسو بين القانونين الوطني والأجنبي من حيث العلم بمضمونها فالأول يكون القاضي عالما بأحكامه ملزما بتطبيقه وإلا عد مرتكبا لجريمة إنكار الحق ،أما الثاني فيقع عبء إثباته على من يتمسك به ما لم يكن القاضي عالما به ( .
-القانون الأجنبي واقعة مادية: لقد اعتبرت بعض التشريعات وذهبت الإجتهادات القضائية إلى إعتبار أن القانون الأجنبي واقعة مادية يجب على أطراف الخصومة إقامة الدليل عليه بكل الطرق القانونية ويجد هذا الإتجاه التقليدي مبرراته فيما يلي:
– القاضي الوطني لا يثيره من تلقاء نفسه ،الفارق الموجود بين القانونين من حيث إفتراض العلم بهما، وأن إفتراض علم القاضي الوطني بالقانون الأجنبي تكتنفه صعوبات عملية خاصة إذا كان هذا القانون غير مكتوب أو عندما تكون الحلول القضائية بشأن مسألة واحدة متفرقة وإذا كان القانون الوطني لا يحتاج إلى إثبات فإن القانون الأجنبي يجب إثباته وإعتباره واقعة مادية لو تم السماح بتطبيق القانون الأجنبي فقد يفاجأ الخصوم بحل غير متوقع، لذا يتعين إثبات القانون الأجنبي كما تثبت الوقائع.
– إن إعتبار القانون الأجنبي واقعة مادية تجد تبريرها في الصعوبات العملية الخاصة بالعلم بالقانون الأجنبي وإثبات مضمونه وهذا التبرير له صدى في القانون الفرنسي واللبناني فمثلا القضاء الفرنسي في بعض أحكامه في مرحلة من المراحل أصبح يعتبر بأن القانـون الأجنبي يمتزج فيه الواقع بالقانون…وأنه يمـكن للقاضي الوطتني أن يطبق القانون الأجـنبي من تلقاء
نفسه متى كان على علم بالقانون الأجنبي، أما القضاء اللبناني فلم يعتمد حرفية النص القانوني بل إعتمد تفسيرات مرنة قال بها الفقه المعتمد في لبنان وقررت محكمة التمييز المبادئ التالية:
حرية القاضي لا تتعارض مع أحكام المادة 135 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تحظر على القاضي إسناد قراراته على ما يعرفه شخصيا فإن للقانون الأجنبي قاعدة عامة تراعي الأوضاع المادية والواقعة وأن القانون الأجنبي يستعيد قوته عندما تفرض تطبيقه قواعد تنازع القوانين
– القانون الأجنبي يحتفظ بطبيعته وله معاملة إجرائية خاصة : لقد تبنى هذا الإتجاه الحديث القضاء الفرنسي وآمن بالصفة القانونية للقانون الأجنبي في حكمين بتاريخ 11، 18 أكتوبر 1988 ومضمون الحكم أن المحكمة تلزم القاضي بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي المختص دون إعتداد بتمسك الخصوم به ومن جهة أخرى فإن محكمة النقض المصرية في 06 فيفري 1984 إعـتبرت بأن علم القاضي الوطني بالقانون الأجنبي كافيا لتطبيقه التلقائي.
إن الاتجاه الحديث هو المعول عليه بإعتباره يضع المسألة في موضعها الحقيقي على إعتبار أن قاعدة التنازع الوطنية تنفخ الروح في القانون الأجنبي وتضفي عليه صفة الإلزام (9) ،إذا لم يحاط القاضي الوطني علما بالقانون الأجنبي وتحمل عبء الإثبات الخصوم فهذا لا ينزع عن القانون صفته الوطنية على أساس أن الواقعة المادية تثبت بكافة طرق الإثبات بينما القانون الأجنبي لا يقبل الإثبات بمقتضى الإقرار واليمين إذا كانت وظيفة القاضي تطبيق القانون وإعتبرنا بأن القانون الأجنبي عبارة عن واقعة لأمكننا القول في النهاية بأن القاضي يطبق واقعة على وقائع ومن جهة ثانية تعذر إثبات الواقعة يستتبع رد الدعوى، أما عدم إثبات القانون الأجنبي فيؤدي إلى تطبيق قانون القاضي وهذا ما نصت عليه المادة 23 مكرر من القانون المدني الجزائري الجديد 2005.
إن القاضي في الدعوى يلتزم بالعناصر الواقعية كما حددها أو إتفق عليها الخصوم عكس ذلك فإن إتفاق الخصوم على تفسير معين للقانون الأجنبي لا يلزم المحكمة،وإن استعانة القاضي الوطني بالخصوم لإثبات مضمون القانون الأجنبي لا يغير من طبيعته وكونه قانونا وهذا الوضع شبيه بإثبات العرف دون أن ينفي أحد عنه صفة القانون،وإذا كان القانون الأجنبي واقعة بالمعنى الفني للوقائع لما أمكن للقاضي أن يتدخل بل نجد في هذه المسألة عندما يحوم شك في صحة القانون الأجنبي المدلى به أمامه يكون له مجالا للتدخل .
الفرع الثاني: الوسائل القانونية لإثبات القانون الأجنبي أمام قاضي الموضوع
لقد ذكرنا بأن القاضي يلعب دورا إيجابيا في إثبات القانون الأجنبي متى كان عالما بمضمونه،كما أن للخصوم دورا في ذلك لكن الإثبات الذي نقصده لا يهدف إلى إخضاع القانون الأجنبي لقواعد الإثبات القضائي إذ أن طرق إثبات هذا القانون تكتسي نوعا من الخصوصية تميزها عن الطرق المحددة قانونا لإثبات الوقائع دون أن يعني ذلك قطع الوصال بينهما وفي هذا الخصوص فإن بعض التشريعات المقارنة لم تحدد صراحة طرق الإثبات مما جعل القضاء يجتهد في تحديد هذه الطرق
وإستقر العمل في القانون المقارن على أن هناك أصل وهو الإثبات بكافة الطرق التي تمكن من تحقيق الغرض (10) ، وبناء على ذلك يمكن للقاضي ان يلجا للوسائل القانونية للوقوف على مضمون القانون الاجنبي وهي:
– الشهادة العرفية: في فرنسا يجري العمل على إثبات القانون الأجنبي عن طريق مستند مكتوب تصدره شخصية متخصصة محيطة علما بأحكام القانون الأجنبي أو تكون عالمة بالقانون الأجنبي موضوع الإثبات وتكون هذه الشهادة العرفية محررة بلغة دولة القاضي الذي يتم الإثبات أمامه وتحرير هذه الشهادة يكون من جهات رسمية أو عن طريق شخصية عارفة بالقانون الأجنبي(11).
أ- صدور الشهادة عن السفارة أو القنصلية التابعة للدولة الأجنبية المراد إثبات قانونها: هذه الطريقة معتمدة أمام القضاء اللبناني من خلال قضية عرضت وكان من وسائل الإثبات إفادة صادرة عن القنصلية العراقية سابقا في بيروت لإثبات القانون العراقي ،وإن هذه الشهادة يجب إضفاء المصداقية عليها أمام القاضي لإثبات القانون الأجنبي ( حكم محكمة بداية بيروت،الغرفة الخامسة،حكم رقم 47 تاريخ 12/02/1975 يلحظ بأن المحكمة كلفت المدعية بمقتضى قرار إعدادي بإبراز القانون الأنجليزي دون أن تتطلب تصديقه من أيـة جهة…) كما يتعين ترجمة هذه الشهادة إذا كانت صادرة عن جهة قنصلية أو دبلوماسية لدولة غير عربية .
ب- صدور الشهادة عن أحد الأشخاص العاديين المتخصصين في القانون الأجنبي:
عادة ما يكون محاميا أو فقيها أجنبيا أو مواطنا على دراية بقانون هذه الدولة وموضوع هذه الشهادة قد يكون ذكرا للنصوص القانونية أو إعطاء تفسير لنصوص القانون مع إعطاء أمثلة من أحكام القضاء،أما عن قيمة الشهادة الصادرة عن أحد الناس المتخصصين لا يـرتاح إليها القضاء
وهي محل شك من قبله على إعتبار أن محررها ينحاز للطرف الذي طلب منه تحريرها لذا فإن للقاضي سلطة تقديرية في إستبعاد هذه الشهادة إذا قدر بأن ما بها من قضاء يثبت مضمون القانون الأجنبي هو قضاء مهجور.
– الخبرة: بمقتضى سلطة القاضي أو بناء على طلب الخصوم أن يستعين بالخبرة سواء كانت شفهية أم مكتوبة وإستخدام الأولى أمر شائع في القضاء الإنجليزي وتبقى للقاضي سلطته التقديرية في تقدير الخبرة المعروضة عليه والحدود التي يتقيد فيها بتقرير الخبير فإذا كانت الخبرة تتضمن الكشف عن فحوى القانون الأجنبي فيجب مناقشة تقرير الخبير من طرفي
– الخصومة إحتراما لحق الدفاع حتى لا يتم تطبيق القانون الأجنبي الذي قد يحمل مفاجأة للخصوم(12).
– القانون الأجنبي وترجمته: عندما تكون نصوص القانون الأجنبي مترجمة عن هيئة مختصة أو واردة في مؤلف علمي معتمد يمكن للقاضي أن يستعين بها في إثبات القانون الأجنبي.
– الآراء الفقهية: بحسب الإتجاه المعتمد فقها وقضاء في القانون المقارن فإنه يمكن للقاضي أن يستند في بحثه عن مضمون القانون الأجنبي إلى ما يقدم في الدعوى من مؤلفات ومراجع تتضمن دراسة لهذه القوانين شرحا وتفسيرا ووفقا لذلك إستندت المحكمة الشرعية الجعفرية في لبنان في إثبات مضمون القانون الإيراني إلى أطروحة مؤلفة باللغة الفرنسية عام 1936 لنيل شهادة الدكتوراه وفي ذلك قالت المحكمة : ” وحيث تبين من مطالعة النائب العام أنه لدى إطلاعه على الأطروحة التي ألفها باللغة الفرنسية السيد أحمد الياسدجي عام 1936 لنيل شهادة الدكتوراه في الحقوق وموضوعها الحالة القانونية للمرأة في إيران تبين له أن الأحوال الشخصية في إيران تخضع لأحكام الشريعة الإسلامية…” بالإضافة إلى ذلك فقد أرسلت المفوضية اللبنانية في طهران كتابا تسألها عن القانون الذي يحكم الأحوال الشخصية في إيران هل هو القانون المدني أم أحكام الشريعة الإسلامية .
– الأحكام القضائية: من أجل الكشف عن مضمون القانون الأجنبي يمكن لقضاة الموضوع أن يستعينوا بالأحكام القضائية السابقة الصادرة في المنازعات المشابهة لتلك المطروحة أمامهم وهنا يستوي أن تكون الأحكام قد صدرت عن القاضي الوطني تطبيقا لقانون أجنبي أو عن القاضي الأجنبي في دولة القانون الأجنبي موضوع الإثبات أو قضاء دولة أخرى أجنبية كأن يستعين مثلا القضاء الجزائري بحكم صادر عن القضاء الفرنسي متضمنا إثباتا لقانون ألماني بخصوص مسألة التبني ،لكن المشكلة نجدها تثور عند إحتمال إختلاف الواقعة محل النزاع في الحكم السابق مع الواقعة المعروضة أمام القاضي.
وفي الأخير نؤكد بأن كل الوسائل التي تم إدراجها في هذا الموضوع تخضع للسلطة التقديرية للقاضي ويستعين بها على سبيل الاستدلال (13) وعلى القاضي أن يراعي ما يلي:
أن يكون الحكم الصادر متضمنا الوسائل التي إعتمد عليها في إثبات الحكم الأجنبي وإلا أمكن الطعن في الحكم على أساس القصور في التعليل ،كما أن القاضي عليه أن يسبب إعراضه عن وسيلة تم بها إثبات القانون الأجنبي، وحتى نسهل عملية علم القاضي بالقوانين الأجنبية يمكن إضافة هذه الوسائل والتأكيد عليها لتحقيق علم كافي بالقوانين الأجنبية.
الفرع الثالث: ضرورة اللجوء إلى وسائل قانونية لتيسير العلم الكافي بالقانون الأجنبي
ينبغي أن نؤكد في هذه الفكرة على ضرورة عدم تحمل القاضي والخصوم إثبات مضمون القانون الأجنبي بل ينبغي التزود بالطرق الكفيلة والكافية لعلم القاضي بالقانون الأجنبي.
عقد الاتفاقات الدولية: من أجل تبادل المعلومات حول القوانين يجب على الدولة أن تسلك طريقة الإتفاقيات الدولية سواء كانت ثنائية أو جماعية من أجل بحث مضمون قانون دولة متعاقدة.
– قيام الدولة بدورها في توفير القوانين الأجنبية: ويكون ذلك عن طريق إنشاء مركز علمي لكافة القوانين الأجنبية تشرف على هذا المركز وزارة العدل وإمكانية إستدعاء الخبراء المتخصصين في القوانين الأجنبية أمام القضاة لمناقشتهم لإثبات مضمون القانون الأجنبي فيما يحتويه من مسائل غامضة وإنشاء معهد متخصص في القانون المقارن يضم نخبة من الأساتذة والباحثين المتخصصين في القوانين الأجنبية وتزويد المعهد بجهاز ترجمة.
– إعتماد فكرة الإنابة القضائية: يقصد بالإنابة القضائية طلب من السلطة القضائية المنيبة إلى السلطة المنابة قضائية كانت أو دبلوماسية أساسه التبادل بإتخاذ إجراء من إجراءات التحقيق أو جمع الأدلة في الخارج ،وكذا أي إجراء قضائي آخر يلزم اتخاذه للفصل في مسألة منظورة أمام القاضي المنيب ليس في مقدوره، أن يقوم به بنفسه في نطاق إختصاصه (14) ومما لا شك فيه أن إجراء الإنابة القضائية يعد من الوسائل الفعالة التي تمكن القاضي من الإستعانة بها لكن اللجوء إلى فكرة الإنابة ينبغي معه تأكيد المسائل التالية:
ا- اللجوء إلى هذه الوسيلة لا يكون إلا حيث لا يكون القاضي الوطني ( المنيب) عالما بمضمون القانون الأجنبي ويتعذر عليه العلم به أو يجد القاضي ما يقدمه الخصوم متعارضا أو متناقضا.
ب- متى تعذر على القاضي العلم بالقانون الأجنبي أمكنه اللجوء من تلقاء نفسه إلى الإنابة القضائية شريطة أن يحيط الخصوم علما بذلك إحتراما لمبدأ المواجهة في الخصومة.
ج- إن إلتزام القاضي بتطبيق القانون الوطني أو الأجنبي ليس إجراء قضائيا بالمفهوم الدقيق لأن جوهر وظيفة القاضي هو تطبيق القانون على المنازعة.
د- إن القاضي الأجنبي الذي يرسل بمقتضى الإنابة مضمون القانون الأجنبي إنما يقوم بذلك باعتباره خبيرا.
المطلب الثاني: نطاق تطبيق القانون الأجنبي أمام قاضي الموضوع
إذا تم إثبات القانون الأجنبي أمام القاضي الوطني على النحو الذي ذكرناه طبق القاضي هذا القانون على المنازعة المعروضة أمامه بالكيفية والصورة التي يطبق بها في الخارج أمام الجهات القضائية للدولة الشارعة له وعلى القاضي أن يلتزم بالمبادئ العامة التي تحكم تفسير هذا القانون في الدولة التي يطبق قانونها ،وحتى يتمكن القاضي من تطبيق هذا القانون بالمعنى الذي يحدده له مشرعه في الدولة المصدرة له فعلى القاضي أن يتقيد بالتفسير القضائي السائد في الدولة التي يطبق قانونها ويعمل على التحقق من صحة القانون الأجنبي ونفاذه في الخارج.
الفرع الأول: تقيد القاضي الوطني في بعض الأنظمة بالتفسير القضائي المعطى له في الدولة التي يطبق قانونها
بالرجوع إلى القانون اللبناني فإن القاضي ملزم بتفسير القانون الأجنبي متى إكتنف النص الغموض وعدم وضوح المعنى والدلالة لكن التفسير هذا يختلف عن تفسير القانون الأجنبي فالقاضي هنا ينظر إلى القانون الأجنبي في مجمله أو مجموعة سواء في مصادره أو في الحلول المكرسة من طرف القضاء الأجنبي فالقاضي في لبنان مثلا عليه أن يتثبت من مضمون القانون الأجنبي بمعناه الذي يستقر من مصادره الرسمية التي يرصدها المشرع الأجنبي ذاته بالتفسيرات المعتمدة لدى قضاء هذه الدولة فالقاضي وهو يفسر القانون الأجنبي ليس في مقدوره بأن يبحث في قيمته أو أن يعطيه تفسيرا مغايرا وهذا حل يستجيب للغاية التي من أجلها وجدت قواعد التنازع التي تحسم المنازعات الخاصـة ذات الطبيعة الدولية بمقتضى أحكام القانون الأجنبي المختص ،إذ لا يمكن عزل النص القانوني المطبق عن جملة المبادئ والحلول السائدة في الدولة الأجنبية الشارعة له (15) وهذا هو الحل السائد لدى القضاء الفرنسي والعربي وخصوصا في مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت.
ا- الدور الايجابي للقضاء حالة كون القاعدة الأجنبية هي نص القانون وحده: في هذا الفرض لا وجود لتطبيقات قضائية تساعد على تفسير القانون كما أنه لا وجود لقاعدة أجنبية تعطي حلا للنزاع المطروح فما هو السبيل في هذه الحالة؟
– تفسير القانون الأجنبي من قبل القاضي دون إلتزامه بالتفسير الممنوح للقانون الوطني بل نتبع في هذه الحالة التفسير المعطى لهذا القانون من طرف القاضي الأجنبي فيما لو رفعت الدعوى أمامه والأبعد من ذلك أن القاضي الوطني يلتزم بالتفسير الذي يكرسه القضاء الأجنبي للنص الواجب التطبيق حتى ولو بدا له أن النص واضح وأن التفسير الذي يقول به القاضي الأجنبي مغلوط إذ أن المعتمد عليه ليس هو نية المشرع بل الحقيقة المطبقة بالفعل في الدولة الأجنبية.
– حين سكوت القانون الأجنبي عن تكريس حل صريح للمنازعة المطروحة أمام القضاء الوطني فيجب على القاضي تصديه لحل المسألة لكن لا تعترضنا فكرة التفسير إذ النص المطلوب تطبيقه غير موجود فلا بد من البحث عن القاعدة القانونية المتوجب تطبيقها وهنا يجب الرجوع إلى مختلف المصادر التي يرصدها القانون الأجنبي فمثلا لو طرح نزاع على القضاء المصري وكان القانون الواجب التطبيق هو القانون الجزائري فعلى القاضي المصري أن يلجأ إلى نص المادة الأولى من القانون المدني التي تحدد مصادر القانون الجزائري.
ب- الدور الايجابي للقضاء حالة كون القاعدة الأجنبية تحتمل تفسيرات متضاربة في القضاء: عندما يكتشف القاضي الوطني بأن القاعدة القانونية الواجب تطبيقها على النزاع يكرس لها القضاء في الدولة الأجنبية تفسيرات متضاربة ففي هذه الحالة فإن القاضي الوطني يقوم بتفسير النص ملتزما المبادئ العامة في الدولة الأجنبية ويميل إلى الحل الذي ينسجم مع المبادئ مع مراعاة الحلول الفقهية المعتمدة في الدولة الأجنبية وللقاضي أن يستعين بخبير يعينه لإختيار أنسب الحلول التي تتفق مع المبادئ العامة (16).
الفرع الثاني: تحقق القاضي من صحة القانون الأجنبي
وهنا قبل التصدي لمسألة التفسير على القاضي أن يبحث في مدى صفة القانون وفقا للمبادئ العامة في الدولة الأجنبية ويبحث في مدى دستورية القانون الأجنبي وهل هذا القانون هو النافذ من حيث الزمان.
أ- التحقق من الصفة القانونية للقاعدة الواجبة التطبيق: هنا القاضي يتحرى عن حقيقة القاعدة القانونية المطروح أمر تطبيقها أمامه فالقانون الأجنبي لا يتكون من التشريع فقط بل من كل ما يعتبره المشرع الأجنبي فلو كان لا يعتد بالعرف كمصدر للقانون فعلى القاضي ألا يأخذ بالعرف .
ب-تحقق القاضي من دستورية القانون الأجنبي: في هذه الحالة هل القاضي الوطني يبحث في مدى دستورية القانون الأجنبي الواجب التطبيق وفقا لدستور الدولة التي أصدرته فمثلا لو عرض نزاع أمام القاضي الجزائري وكان القانون الواجب التطبيق هو القانون الفرنسي وأثار الخصوم عدم دستورية هذا القانون الواجب التطبيق بمقتضى قاعدة التنازع فهل يبحث القاضي مسالة الدستورية رغم أن القاضي الجزائري لا يملك هذه السلطة نحو قواعد قانونه الوطني ؟ الجواب عن هذا يقتضي التمييز بين الرقابة الشكلية والرقابة الموضوعية.
– الرقابة الشكلية على دستورية القانون الأجنبي: بعض الدساتير تتطلب شروطا شكلية لصحة القاعدة القانونية الأجنبية الواجبة التطبيق سواء من جهة وجودها أو من جهة نفاذها كالتصديق والنشر أو مرور مدة زمنية من تاريخ صدورها لتدخل حيز النفاذ ومن هذه الإجراءات والشكليات لا تثير مشكلة لدى الفقه والقضاء فالقاضي يجب عليه أن يتيقن من إستيفاء هذه الأمور التي يفرضها دستور الدولة الصادرة عنها هذا القانون وإذا تخلف أحد شروط القاعدة القانونية يعني عدم وجودها (17).
– الرقابة الموضوعية على دستورية القانون الأجنبي: في هذه الحالة القاضي المعروض عليه النزاع والذي يفصل فيه بموجب قاعدة أجنبية عليه أن يعطي حلا مماثلا للحل المعمول به فعلا في الدولة الأجنبية المصدرة له وفي هذه الحالة على القاضي مراعاة ما يلي: إذا كان القانون الأجنبي للدولة المثار تطبيق قانونها أمام القضاء الوطني لا يسمح بمراقبة دستورية القوانين موضوعيا فليس للقاضي أن يتصدى لرقابة القانون الأجنبي حتى ولو ظهر له أن النص الذي يطبقه مخالفا لدستور الدولة الأجنبية ،أما لو كان النظام القانوني الأجنبي يمنح الرقابة على دستورية القوانين لجهة خاصة معينة فليس للقاضي أن يبحث في مدى دستوريته ما لم تكن الجهة المعنية قد فصلت في دستوريته ،أما لو كان القانون الأجنبي يسمح للقضاء العادي بالرقابة على دستورية القوانين في هذا الصدد هناك إتجاهين متعارضين:
– الاتجاه الأول: لا يملك القاضي حق الرقابة على دستورية القانون الأجنبي وحجتهم في ذلك منح القاضي الرقابة على الدستورية يعني في نهاية المطاف التدخل في ممارسة السلطة التشريعية الأجنبية وهذا أمر يخالف مبدأ سـيادة وإستقلال كـل دولة كذلك منـح الرقابة للقاضي معناه التحلل إلى مبادرة سياسية تهدف إلى رفض تطبيق الأمر الصادر من السلطة التشريعية الأجنبية.
– الاتجاه الثاني: القاضي يملك حق الرقابة على دستورية القانون الأجنبي إذ أن الفقه الغالب يذهب إلى القول بإعطاء دور للقاضي في رقابة الدستورية متى كانت المحاكم العادية في الدولة الأجنبية التي يطبق قانونها تستطيع مباشرة هذه الرقابة وذلك في الفرض حيث لا يكون القضاء الأجنبي قد فصل فعلا في دستورية القانون.
الفرع الثالث: تحقق القاضي من نفاذ القانون الأجنبي
في هذه الحالة نريد بحث القانون الأجنبي الواجب التطبيق الذي أشارت إليه قاعدة الإسناد خاصة إذا كانت المسـألة المطروحة تعاقب عليها قانونان فـي الفترة ما بين تاريخ نشوئها وتاريخ الفـصل في الدعوى المتعلقة بها فما هو القانون الواجب التطبيق لحسم مشكلة التنازع الزماني ما بين القوانين الأجنبية ؟ بخصوص هذه المسألة هناك إتجاهين متعارضين (18):
ا- حل المشكلة يكمن في تطبيق قواعد التنازع الزمني في القانون الأجنبي: يرى الفقه والقضاء في القانون المقارن بأن حسم أي قاعدة موضوعية أجنبية تطبق من حيث الزمان مسألة تتحدد بالرجوع إلى المبادئ السائدة في الدولة الأجنبية التي يطبق قانونها إذ الحل لهذه المسألة يكون واحدا لا يختلف بإختلاف القاضي المختص من الوجهة الدولية فالتطبيق السليم للقانون الأجنبي يوجب مراعاة عناصره الثلاثة: الأشخاص والمكان والزمان التي منحها إياه واضعه ( المشرع الأجنبي).
ب- حل المشكلة بالرجوع إلى قواعد القانون الدولي الخاص في قانون دولة القاضي: يعتبر بعض الفقهاء المعاصرين بأن التنازع الزمني في القانون الأجنبي يحل بالرجوع إلى قانون القاضي والمقصود بذلك قواعد القانون الدولي الخاص به ،معنى ذلك بأن فكرة تنازع القوانين مكانيا يؤثر على حل التنازع الزماني بين القواعد الموضوعية في القانون الأجنبي وهذا الرأي مرجوح ،أما الرأي الأول فهو الراجح، لكن ما الحل لو تعذر إثبات مضمون القانون الأجنبي.
الفرع الرابع: الحلول الممكنة عند تعذر إثبات مضمون القانون الأجنبي
إذا كان القاضي الوطني عالما بالقانون الأجنبي أثاره من تلقاء نفسه أو يقع عبء إثبات ذلك على أطراف الخصومة فإذا نجح الأطراف في ذلك لا تثور أية مشكلة ويطبق القانون الأجنبي ويفسر وفقا لما قدمناه ،أما في حالة عدم توصل الأطراف إلى إثبات ذلك فهنا القاضي يسبب حكمه ويطبق قانون دولته ،أما الفرض الذي نواجهه هو تقاعس المتذرع بالقانون الأجنبي عن إثبات مضمونه الذي كلف من طرف القاضي دون أن يقدم الدليل على إستحالة إثبات ذلك وبحسب القانون اللبناني فإن المحكمة تقضي بوقف الدعوى لمدة معينة تقدرها وتلزم خلالها الشخص بتقديم الدليل على القانون الأجنبي(19)
وبذلك نقول بأن القاضي إذا لم يتوصل إلى معرفة القانون الأجنبي بعد إستنفاذ كل الطرق كان واجبا عليه أن يضمن حكمه هذه الإستحالة ،أما عندما تكون المسألة لا يحكمها نص أو وجود نص مع ندرة القضاء أو توجد أحكام لكنها متضاربة فهنا القاضي الوطني ينصب نفسه محل القاضي الأجنبي
ويبحث عن حل كان سيحكم به القاضي الأجنبي فيما لو طرح النزاع أمامه ،وهناك إتجاهات متباينة في حالة إستحالة إثبات مضمون القانون الأجنبي عن الموقف الذي يتخذ في هذه الحالة.
ا- رفض الدعوى أو الطلب: فحوى هذا الإتجاه أن القاضي عند إستحالة التوصل إلى مضمون القانون الأجنبي عليه رفض الطلبات المدعى بها وهذا الأمر أخذت به أحكام القضاء الأمريكي في قضية Walton وتتلخص الوقائع في أن مواطنا أمريكيا – والتون – أصيب في حادث تصادم وقع بين سيارته وإحدى عربات النقل التابعة لشركة أمريكية في المملكة العربية السعودية فرفع – والتون – دعوى تعويض عن الأضرار الحاصلة من جراء الحادث أمام المحاكم الفيدرالية لولاية نيويورك ضد الشركة في المرحلة الأولى لم يتمسك الطرفين بتطبيق القانون السعودي الذي يعد مختصا في المنازعة باعتباره مكان وقوع الفعل الضار لكن القاضي bricks أثار من تلقاء نفسه تطبيق القانون السعودي لكنه كان يجهل مضمون هذا القانون فطلب من – والتون – إثبات ذلك، لكن هذا السيد لم يبذل أي محاولة منه لإثبات القانون السعودي فرفضت المحكمة طلبه وقد تأيد الحكم استئنافا ،لكن الفقه إنتقد هذا الإتجاه وإعتبره إنكارا للعدالة ويهدر حقوق المضرور لمجرد أن المضرور لم يتمكن من إثبات القانون الأجنبي.
ب- تطبيق القانون الأقرب في أحكامه إلى القانون الأجنبي المختص: عند تحديد القانون الواجب التطبيق ولكن تعذر إثبات مضمونه على القاضي أن يطبق القانون الأقرب ويقصد بذلك أنه القانون الذي يفترض فيه أنه قريب في أحكامه من القانون المتعذر إثباته بحكم إنتمائهما لنفس العائلة أو بحكم التأثير (20) الموجود بينهما فلو كان القانون المختص هو الأمريكي يحل محله القانون الإنجليزي ،أما المعنى الثاني للقانون الأقرب يقصد به الأقرب إتصالا بالعلاقة بعد القانون الذي تعذر إثبات مضمونه مثال ذلك :إحلال قانون موطن الشخص في شأن أهليته إذا إستحال إثبات مضمون قانون جنسيته هذا الإتجاه لقي رواجا لدى القضاء الألماني، لكن هناك صعوبات عملية تكتنفه على أساس التأكد من مدى التقارب بين التشريعات المختلفة.
ج- تطبيق قانون القاضي عند تعذر إثبات مضمون القانون الأجنبي: في القانون الداخلي لا يجوز للقاضي الإمتناع عن الحكم بحجة غموض النص أو عدم وضوحه وعلى القاضي واجب الفصل في النزاعات ذات العنصر الأجنبي كما لو هو يفصل في النزاعات الوطنية فالأمر يشكل إلتزاما على القاضي من حيث أنه يطبق قانونا ليس منشورا في دولته ويطبق قانون القاضي ليس لأن أحكامه تتطابق مع مضمون القانون الأجنبي وليس لأن الأصل هو تطبيق قانون القاضي بل الصحيح أن هذا القانون ينطبق بما له من إختصاص إحتياطي عام عند عدم الوصول إلى الكشف عن مضمون القانون
الأجنبي صاحب الإختصاص للمنازعة الدولية بمقتضى قاعدة الإسناد،وإن تطبيق قانون القاضي هو حل عادل لأنه يجنب الخصوم النتائج السيئة المترتبة عن رفض دعواهم ومن جهة ثانية فهو قانون
ليس غريبا عن المنازعة المطروحة – فتطبيق قانون القاضي تزكيه الغاية من قاعدة التنازع – وإن الاتجاه الثالث هو المعمول به في بعض التشريعات المقارنة كلبنان والجزائر حسب المادة 23 مكرر من قانون 2005/10 المعدل للقانون المدني.
المطلب الثالث: القانون الأجنبي أمام رقابة المحكمة العليا
إن القاضي الوطني يثير قاعدة التنازع من تلقاء نفسه وهذا إلتزام يفرضه عليه مشرعه الوطني أو قد يثبت الخصوم مضمون القانون الأجنبي لكن قد يحدث وأن القاضي الوطني يسيء تطبيق هذا القانون فهل في هذه الحالة يخضع لرقابة المحكمة ؟
الفرع الأول: خضوع قاعدة الإسناد إلى الرقابة
إذا كانت قاعدة التنازع قاعدة وطنية يلتزم القاضي بتطبيقها بإعتبارها خطابا من مشرعه فلو حصل خطأ في تطبيق قاعدة التنازع فإن الرأي في الفقه المقارن يقول بخضوع ذلك لرقابة المحكمة العليا (21) فلو تمسك المدعى بأن الحكم المطعون فيه لم يطبق القاضي فيه القانون المختص نتيجة عدم التفسير الصحيح لقاعدة التنازع فإن المحكمة تراقب ذلك التفسير وكمثال على ذلك إنحراف القاضي بتفسير القاعدة ويطبق قانونه بدلا من القانون الأجنبي أو يطبق قانون الموطن في مسألة من الأحوال الشخصية بدلا من قانون الجنسية، ففي هذه الفروض يمكن التمسك بالخطأ في التطبيق أو الإساءة في التفسير ونشير إلى أن رقابة المحكمة العليا على الخطأ في إعمال قاعدة الإسناد أو إساءة تفسيرها تعد رقابة عامة تحكم كل القواعد المتعلقة بالمعاملات المالية أو الأحوال الشخصية.
أما في الجزائر فقد نصت المادة 233/05 من قانون الإجراءات المدنية على ما يلي : ” يجوز الطعن بالنقص لمخالفة أو خطأ في تطبيق القانون الأجنبي المتعلق بالأحوال الشخصية فقط “
الفرع الثاني: الخطأ في التكييف يخضع لرقابة المحكمة
إن عملية التكييف أو كما تسمى في البلدان بالتصنيف عملية قانونية تهدف إلى تحديد طبيعة المسألة التي تطرحها المنازعة – وهي عبارة عن لباس قانوني – لتحديد قاعدة التنازع التي تحكمها وصولا إلى القانون الواجب التطبيق – المختص – ويكون لقضاة الموضوع في عملية التكييف السلطة المطلقة
في تقدير الوقائع وهذه تخرج عن رقابة المحكمة العليا،أما إضفاء الوصف السليم على الوقائع فلا بد وأن يخضع للرقابة باعتبار ذلك عملية قانونية فمثلا تقدير وجود الخطأ من المتسبب في الضرر يتم وفقا لتقدير القاضي بناء على وقائع ولا يخضع للرقابة،أما تحديد نوع اأما تحديد نوع المسؤولية هل هي تقصيرية تخضع لقانون محل وقوع الفعل أم عقدية تخضع لقانون الإرادة عملية تخضع للرقابة (22).
الفرع الثالث: الخطأ في تطبيق القانون الأجنبي وتفسيره ومدى خضوعه للرقابة
نؤكد في البداية بأن موقف التشريعات والقضاء في القوانين المقارنة متباينة بين مؤيد للرقابة ورافض لها.
ا- رفض الرقابة ( موقف محكمتي التمييز في فرنسا ولبنان): إن المذهب المعتمد في كل من فرنسا ولبنان أنه لا رقابة على تفسير القانون الأجنبي وهذا المبدأ مكرس أيضا في ألمانيا وإسبانيا وهولندا ورومانيا وبعض البلاد العربية مثل تونس والمغرب ولهذا الإتجاه جملة من الحجج نتعرض لها:
– القانون الأجنبي هو واقعة مادية يجب إقامة الدليل عليها وما دام هو كذلك فلا يخضع لرقابة المحكمة العليا التي تتبعها محكمة الموضوع.
– مهمة المحكمة العليا توحيد تطبيق القانون الوطني،أما الإشراف على تنسيق الأحكام الأجنبية فمن مهام المحكمة العليا في الدولة الأجنبية التي يطبق القاضي قانونها.
– المحكمة العليا مخولة بمراقبة تفسير القوانين الوطنية دون القوانين الأجنبية لكي تتجنب الوقوع في الخطأ والإنحراف عن مضمون القانون الأجنبي.
– منح الرقابة للمحكمة العليا من شأنه أن يوقعها في التعارض مع أحكام المحكمة العليا الأجنبية في الدولة الشارعة للقانون.
ب- قبول الرقابة ( مذهب القضاء المصري وبعض التشريعات العربية والأجنبية): إن الخطأ الحاصل من قضاة الموضوع عند تفسيرهم للقانون الأجنبي يخضع لرقابة المحكمة العليا وهذا ما هو معتمد في إيطاليا وتركيا واليونان ومصر والكويت والأردن والإمارات العربية المتحدة ويستند أنصار هذا المذهب إلى الأسانيد التالية:
– منح المحكمة العليا لتراقب قضاة الموضوع في تفسيرهم وتطبيقهم لقاعدة الإسناد يستتبع لإكتمال حلقة المتابعة والرقابة على تفسير القانون الأجنبي.
– من وظائف المحكمة العليا توحيد الاجتهاد القضائي ولتحقيق تلك المهمة يتعين على المحكمة العليا فرض رقابتها على تفسير القانون سواء كان وطنيا أو أجنبيا.
– عملية إخضاع تفسير القانون الأجنبي لرقابة المحكمة العليا يتفق مع ما يلزم من أن يكون القانون الأجنبي قانونا بمعنى الكلمة فهو ليس واقعة مادية ولا يصح تجريده من سلامة التطبيق بتوفير رقابة المحكمة العليا على تفسيره.
وقد إعتنق القضاء المصري هذا الإتجاه وكرست محكمة النقض ذلك وبسطت رقابتها على تفسير وتطبيق القانون الأجنبي (23) .
ج- التلطيف من الرفض المطلق للرقابة بواسطة بعض الآليات: لقد ذكرنا سابقا بأن فرنسا ولبنان يرفضان الرقابة بيد أن المتأمل في أحكام القضاء في هذين القانونين يلاحظ بأن المحكمة العليا تمارس رقابة فعلية على تفسير القانون الأجنبي بالآليات التالية:
– مراقبة التسبيب تقتضي مراقبة التفسير: عندما يقدم الأطراف القانون الأجنبي كوسيلة لتأييد طلباتهم فالمحكمة يكون لها قدر من الرقابة.
– الرقابة من خلال إحترام مبدأ الوجاهية في الدعوى بين الخصوم: عندما يقوم القاضي الوطني بتفسير القانون الأجنبي، ومثل هذه الأوضاع كرستها محكمة التمييز في لبنان إذ راقبت تفسير القانون من خلال رقابة التعليل.
– مراقبة تفسير القانون الأجنبي من خلال فكرة التشويه أو المسخ: إن فكرة تشويه القانون الأجنبي أو مسخه إبتدعتها محكمة التمييز الفرنسية من أجل مراقبة إساءة تفسير القانون الأجنبي وفكرة التشويه مستعارة من ميدان العقود والمستندات في الدعوى ، ففي العقود فقضاء النقض يتواتر على أن تفسيرها يخرج من نطاق رقابة هذه المحكمة متى كانت شروطها لا تتصف بصفة العموم كما هو الحال بالنسبة للعقود النموذجية ووثائق التأمين فتفسير العقد يخضع للسلطة التقديرية لقضاة الموضوع لكن التشويه يخضع لرقابة المحكمة العليا عند خروج قضاة الموضوع عن شرط واضح في العقد.
الخاتمة:
إن المجتمع الدولي المعاصر لا ينتظم في كيان سياسي وقانوني واحد ، بل ينقسم إلى عدة دول لكل منها نظامها الإقتصادي والسياسي والقانوني المستقل وإذا كانت كل دولة لا تستطع أن تعيش منقطعة الصلة عن غيرها من الدول فكل دولة تسعى لأن تكون طرفا في تلك العلاقات أو كان أعضاء وأفراد شعبها هم الأطراف مع مواطني الدول الأخرى من أجل إشباع الحاجات الاقتصادية والإجتماعية التي تعجز عن تحقيقها الموارد والإمكانات الذاتية للدولة وهذه العلاقات في ازدياد متواتر يوما بعد يوم مع تطور وسائل الإتصال والإنتقال عبر الحدود ومن ثمة فإن التنظيم القانوني للعلاقات القانونية ذات العنصر الأجنبي يجب أن تكون له خصوصيته وذاتيته – نظرا لاختلاف طبيعة تلك العلاقات عن غيرها من العلاقات التي تتم داخل كل دولة بين رعاياها فقط وهي علاقات وطنية ينظمها القانون الوطني بمختلف فروعه- لذلك عمد الفقه القانوني إلى إيجاد جملة من القواعد التي تلائم طبيعته تلك العلاقات التي تتم عبر الحدود بين الأفراد – رعايا الدول المختلفة- وهذه القواعد تحكم وتنظم الانتماء القانوني والسياسي لهؤلاء الرعايا بدء من مرحلة التمتع بالحقوق وتنظيم ممارستها وصولا إلى الحماية القضائية لتلك الحقوق عندما يتم الإعتداء عليها خارج الحدود الإقليمية للدولة الأم عندها تثار قواعد الإسناد التي توجهنا إلى القانون الواجب التطبيق فإذا كان القانون المشار إلى تطبيقه أجنبيا – لإنطواء العلاقة على عنصر أجنبي – فهنا يتوجب تطبيقه أمام القاضي الوطني المعروض عليه النزاع لكن يجب قبل تطبيق هذا القانون أن ينبني التطبيق على أسس قانونية من شأنها أن تضفي الصفة القانونية على هذا القانون ويجب أن يعامل معاملة إجرائية خاصة وأن يكون له مركز قانوني من أجل التعامل معه بصفته قانون وليس وقائع لتطبيقها على وقائع أخرى وفي هذه الحالة إذا كان القاضي عالما بهذا القانون فيطبقه من تلقاء نفسه أو يقع عبء إثبات هذا القانون على طرفي الخصومة وأن يخضع تفسير هذا القانون من طرف القاضي الوطني ويعطيه التفسير القضائي الممنوح له في الدولة الشارعة له،ويتحقق القاضي الوطني من الصفة القانونية لهذا القانون ومدى دستوريته ونفاذه وفي حالة تعذر إثبات هذا القانون هناك حلول يمكن التوصل إليها وهي إما رفض الدعوى،أو تطبيق القانون الأقرب في أحكامه إلى القانون الأجنبي وهذا يصعب من الناحية العملية،أو تطبيق قانون القاضي حسب ما تذهب إليه بعض التشريعات بشأن هذه المسألة ومنها موقف المشرع الجزائري في المادة 23 مكرر من القانون المدني.
وبخصوص تطبيق القانون الأجنبي أمام القاضي الجزائري ومسألة خضوع قاعدة الإسناد لرقابة المحكمة العليا فإن المشرع الجزائري يجعل المسألة قاصرة على مسائل الأحوال الشخصية فقط نظرا لاعتبارات إجتماعية وهناك تباين في المواقف بخصوص هذه المسألة – الرقابة – إلا أن الموقف المجمع عليه هو تقرير الرقابة على ذلك. وفي هذا الصدد ينبغي أن:
-نقول بأن القضايا ذات العنصر الأجنبي في الجزائر قليلة جدا .
– مسألة القيمة القانونية للقانون الأجنبي ينبغي تأكيدها بنص واضح في القانون المدني الجزائري.
– العمل على تدريس القوانين المقارنة في الجامعات الجزائرية.
– ضرورة الإسراع في جمع القوانين الأجنبية وجعلها في متناول القضاة الجزائريين.
– العمل على رسكلة القضاة وتحسين مستواهم لكي يتسنى لهم الإطلاع على مختلف التشريعات الأخرى من أجل إعطاء حل عادل للقضايا ذات العنصر الأجنبي.
– ضرورة إنشاء مركز علمي يتضمن كافة القوانين الأجنبية تشرف عليه وزارة العدل.
– إنشاء معهد متخصص في القانون المقارن وتزويد المعهد بجهاز ترجمة.
قائمة الهوامش والمراجع:
(1) الدكتورة: سامية راشد ،قاعدة الإسناد أمام القضاء ،الطبعة الثانية ،دار النهضة العربية،القاهرة،1989،ص 37.
(2) الدكتورة: نادية فضيل، تطبيق القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني،دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع،الجزائر،2004،ص 24.
(3) الدكتور: هشام علي صادق ،دروس في القانون الدولي الخاص،دار النهضة العربية، القاهرة، 1980،ص 40.
(4) الدكتور: هشام علي صادق،الموجز في القانون الدولي الخاص- تنازع القوانين-دار الفكر الجامعي، الإسكندرية،1998،ص 134.
(5) عكاشة محمد عبد العال،الوجيز في تنازع القوانين،دراسة مقارنة،دار المعرفة الجامعية،2004،ص 161.
(6) الدكتور: أحمد عبد الكريم سلامة،مبادئ القانون الدولي الخاص الإسلامي المقارن،دار النهضة العربية،1989،ص 115.
(7) الدكتور: هشام علي صادق،مركز القانون الأجنبي أمام القاضي الوطني، دراسة مقارنة،منشأة المعارف الإسكندرية،1968،ص 267.
( الدكتور علي علي سليمان ،مذكرات في القانون الدولي الخاص الجزائري،الطبعة الثالثة،ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر 2005،ص 135.
(9) الدكتور: محمد المبروك اللافي،تنازع القوانين وتنازع الاختصاص القضائي ،دراسة مقارنة في المبادئ العامة والحلول الوضعية المقررة في التشريع الليبي ، الجامعة المفتوحة،دار الكتب الوطنية بنغازي،1994،ص 95.
(10) الدكتور:شمس الدين الوكيل،دراسة مقارنة في إثبات القانون الأجنبي ورقابة المحكمة العليا على تفسيره، الإسكندرية، 1987،ص 05.
(11) الدكتور: عكاشة محمد عبد العال،تطبيق القانون الأجنبي أمام القاضي اللبناني،مقال منشور بمجلة الدراسات القانونية الصادرة عن كلية الحقوق،جامعة بيروت العربية،العدد الأول،المجلد الثاني،جوان 1998،ص 57.
(12) الدكتور: محمد عبد المنعم رياض،مبادئ القانون الدولي الخاص،الطبعة الثانية،مكتبة النهضة المصرية،1943،ص 37.
(13) الدكتور شمس الدين الوكيل ،دروس في القانون الدولي الخاص،الإسكندرية، 1963 ،ص 06.
(14) الدكتور: عكاشة محمد عبد العال،الإنابة القضائية في نطاق العلاقات الخاصة الدولية،دار المطبوعات الجامعية،القاهرة، 1994،ص 125.
(15) الدكتور: أحمد مسلم،القانون الدولي الخاص،الجزء الأول،دار النهضة المصرية،1957،ص 32.
(16) الدكتور: منصور مصطفى منصور،مذكرات في القانون الدولي الخاص،1965،ص 18.
(17) -الدكتور: جابر جاد عبد الرحمان،القانون الدولي الخاص العربي،تنازع القوانين،دار النهضة العربية،1970،ص 55.
(18) -الدكتور: حامد زكي، القانون الدولي الخاص المصري،الطبعة الثانية،مطبعة فتح الله الياس نوري وأولاده ،مصر،1940،ص 60.
(19) الدكتور: عز الدين عبد الله ، القانون الدولي الخاص،الجزء الأول،الطبعة الحادية عشرة،الهيئة العامة للكتاب،1986،ص 210.
(20) الدكتور: محمد كمال فهمي،أصول القانون الدولي الخاص،الطبعة الثانية،مؤسسة الثقافة الجامعية،الإسكندرية،1985،ص 173.
(21) الدكتور: محمد كمال فهمي،رقابة المحكمة العليا على تطبيق القانون الأجنبي،مقال منشور بمجلة القانون والإقتصاد،سنة 1963،(السنة الثالثة والثلاثون)،ص 356.
(22) الدكتور: عبد السلام بلبع،دراسات في توحيد وتطوير القانون الدولي الخاص،مطبوعات معهد البحوث والدراسات العربية،1973،ص 111.
(23) الدكتور: علي إبراهيم الزيني ،القانون الدولي الخاص المصري والمقارن،1928،ص 40.
قراءة قانونية في القانون الأجنبي ومركزه أمام القاضي الوطني