تطبيقات نظرية الضرورة في مصر :

في مصر كما هو الحال في فرنسا لم تصل فكرة الضرورة الى ما هي عليه من تنظيم دستوري الا بعد ان مرت بمراحل متعددة لذلك فأننا سنتناولها ايضاً من خلال التطور الذي مرت به وصولاً الى تنظيمها الدستوري الحالي وذلك في مطلبين :

المطلب الأول : التطور التاريخي للنص الدستوري على نظرية الضرورة حتى عام 1971 .

المطلب الثاني : التنظيم الدستوري لنظرية الضرورة في دستور جمهورية مصر العربية ( دستور سبتمبر 1971 ) المادة ( 74 ) .

المطلب الأول : التطور التاريخي لنظرية الضرورة في الدساتير المصرية حتى عام 1971.

التقليد الذي درجت عليه الدساتير المصرية هو على العكس عما حصل في الدساتير الفرنسية حيث درجت الدساتير المصرية على ان ترخص لرئيس الدولة في ان يصدر عند قيام ظروف استثنائية في غياب البرلمان لوائح لها قوة القانون لمواجهة المشاكل الناجمة عن هذه الظروف وسنتناول هذه الدساتير على النحو الآتي :

اولاً : دستور سنة 1923 :

نصت المادة 41 من دستور سنة 1923 على انه ( اذا حدث فيما بين أدوار الانعقاد ما يوجب الإسراع الى اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير فللملك ان يصدر في شأنها مراسيم تكون لها قوة القانون بشرط ان لا تكون مخالفة للدستور ويجب دعوة البرلمان الى” اجتماع غير عادي ” وعرض هذه المراسيم عليه اول اجتماع له فاذا لن تعرض او لم يقرها احد المجلسين زال ما كان لها من قوة القانون ) (1) . ومن الجدير بالإشارة هنا ان هذا النص الدستوري سبقه نص ورد في المادة 41 من اللائحة الأساسية التي أصدرها مجلس شورى النواب بتاريخ 8 حزيران عام 1879 وكذلك المادة 41 من اللائحة الأساسية لمجلس النواب الصادر سنة 1882 وكلا هذين النصين ينصان على لوائح الضرورة ولو دققنا في المادة 41 من دستور 1923 لوجدنا ان المراسيم التي يصدرها الملك تخضع للقيود الاتية :

1ــ ان هذه المراسيم لا يجوز إصدارها الا في فترة العطلة السنوية للبرلمان والتي تقع بين ادوار انعقاد البرلمان . وسبب هذا القيد هو ان البرلمان اذا كان منعقداً فهو صاحب السلطة في التشريع ولا يوجد مبرر عندئذ لممارسة التشريع من قبل السلطة التنفيذية .

2ــ يجب ان يحدث ما يوجب الإسراع الى اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير ، وأمام غموض هذه العبارة وعموميتها فأنه من الناحية العملية ان السلطة التنفيذية تقوم بتقدير قيام الحالات التي تتطلب سرعة اتخاذ هذه التدابير .

3ــ عدم جواز مخالفة هذه اللوائح للدستور . أي عدم جواز تعطيل الدستور من قبل رئيس الدولة ويقتصر دور هذه المراسيم بقانون على تعديل او الغاء القوانين القائمة او إنشاء قوانين جديدة .

4ــ يجب دعوة البرلمان الى اجتماع غير عادي لعرض لوائح الضرورة عليه في اول اجتماع له واذا لم تعرض عليه او لم يقرها احد المجلسين زال ما كان لها من قوة القانون

5ــ وتخضع هذه المراسيم بقوانين الى نوعين من الرقابة الأولى برلمانية والأخرى قضائية ، فبالنسبة للرقابة البرلمانية هي رقابة ملاءمة يتم من خلالها للبرلمان تقدير ملاءمة وصلاحية التشريع وبقائه او عدم صلاحيته وسقوطه من تاريخ إقراره . أي ان المراسيم بقوانين تزول عنها قوة القانون باثر رجعي(2) . اما بالنسبة للنوع الثاني من الرقابة وهي القضائية فهي رقابة مشروعية من حيث ملاحظة مشروعية المرسوم بقانون وهل هو مستوف ام لا لشروطه الدستورية وعند توفر شروطه الدستورية يحكم القاضي بصحته وبعكسه فأنه يقضي بإلغائه وعندئذ يعتبر المرسوم بقانون باطلاً منذ صدوره .

ثانياً : دستور سنة 1930 :

نصت المادة 41 من دستور 1930 الذي حل محل دستور سنة 1923 بعد إلغائه على انه ( اذا حدث بين ادوار الانعقاد او في فترة حل مجلس النواب ما يوجب اتخاذ تدابير عاجلة فللملك ان يصدر في شأنها مراسيم تكون لها قوة القانون بشرط الا تكون مخالفة للدستور ويجب ان تعرض هذه المراسيم على البرلمان في ميعاد لا يتجاوز الشهر من اجتماعه التالي فاذا لم تعرض على البرلمان في ذلك الميعاد او لم يقرها احد المجلسين انتهى ما كان لها من قوة القانون ويجب ان ينشر في الجريدة الرسمية امر عدم عرض المراسيم او عدم إقرارها . ويمكننا ان نسجل الملاحظات الآتية على النص اعلاه وهي :

1ــ ان هذه المادة أجازت إصدار لوائح الضرورة في فترة حل البرلمان إضافة الى الفترة التي تقع بين أدوار الانعقاد وبذلك فلم يحدث الجدل الفقهي الذي اثير في ظل دستور 1923 حول إمكانية صدور لوائح الضرورة عند حل البرلمان حيث ان النص المذكورة لم يتضمن الإشارة الى فترة الحل(3) .

2ــ ان المادة 41 في ظل الدستور الجديد اكثر مرونة من المادة 41 في الدستور السابق والتي كانت متشددة بشأن اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة الظروف الاستثنائية حيث ان المادة الجديدة تطلبت اتخاذ التدابير العاجلة في حين ان النص في ظل الدستور الاول كان متشدداً حيث تطلب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير .

3ــ ان المادة 41 من الدستور الجديد تكفل سرعة عرض المراسيم بقوانين على البرلمان وبالتالي سرعة الرقابة عليها من قبل البرلمان وهذا واضح من اشتراطها عرض تلك المراسيم على البرلمان خلال موعد لا يتجاوز الشهر من اجتماعه التالي في حين ان المادة 41 من الدستور القديم كانت قد نصت على دعوة البرلمان لاجتماع غير عادي لعرض المراسيم عليه في اول اجتماع له(4) .

4ــ اشترطت المادة الجديدة في ان تنشر حالتي عدم عرض المراسيم او عرضها وعدم إقرارها في الجريدة الرسمية في حين لا يوجد مثل هذا الشرط في دستور 1923 .

ثالثاً : دستور عام 1956 :

وهو أول دستور يصدر في مصر بعد قيام ثورة 23 تموز سنة 1952 وانبثاق الجمهورية المصرية . وقد نالت نظرية الضرورة نصيبها في هذا الدستور ايضاً وفي المادة 135 وعلى الوجه الآتي : ( اذا حدثت فيما بين أدوار انعقاد مجلس الأمة او في فترة حله ، ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير جاز لرئيس الجمهورية ان يصدر في شأنها قرارات تكون لها قوة القانون ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الأمة خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ صدورها اذا كان المجلس قائماً وفي أول اجتماع له في حالة الحل فاذا لم تعرض زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون بغير حاجة الى إصدار قرار بذلك اما اذا عرضت ولم يقرها المجلس زال بأثر رجعي ما كان لها من قوة القانون الا اذا رأى المجلس اعتماد نفاذها في الفترة السابقة او تسوية ما ترتب على آثارها بوجه اخر ) وهنا يمكن ملاحظة ما يأتي :

1ــ ان الدستور الجديد اشترط انعقاد مجلس الأمة خلال فترة خمسة عشر يوماً من تاريخ صدور القرارات بقوانين لعرضها عليه . والا زال ما كان لها من قوة القانون .

2ــ ان المادة 135 تضمنت النص على ان قرارات رئيس الجمهورية التي تصدر استناداً اليها تكون لها قوة القانون . أي انها أدنى مرتبة من الدستور في سلم تدرج القواعد القانونية وبالتالي لا يجوز لها مخالفته(5) .

3ــ اما فيما يتعلق بجزاء عدم عرض المراسيم بقانون او عرضها وعدم المصادقة عليها من قبل احد المجلسين فقد نصت المادة 135 من الدستور المذكور على زوال قوة القوانين عنها بأثر رجعي(6) .ويلاحظ ان النص في الدستورين السابقين كان أوضح من النص في هذا الدستور حيث وردت عبارة مراسيم تكون لها قوة القانون وبشرط ان لا تخالف الدستور .

رابعاً : دستور عام 1958 :

صدر في هذا العام وبعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا وفي 5 آذار من السنة نفسها وهو دستور الجمهورية العربية المتحدة الموقت وقد جاء في المادة 53 منه ( لرئيس الجمهورية ان يصدر أي تشريع او قرار مما يدخل اصلاً في اختصاص مجلس الأمة اذا دعت الضرورة الى اتخاذه في غياب المجلس على ان يعرض عليه فور انعقاده فاذا اعترض المجلس على ما اصدره رئيس الجمهورية بأغلبية ثلثي أعضائه سقط ما له من اثر من تاريخ الاعتراض وأهم ما يلاحظ على هذه المادة ما يأتي :

1ــ انها لم تحدد حالات الغياب التي يحق لرئيس الجمهورية فيها ان يصدر لوائح الضرورة مما يمكننا من القول بأنها تشمل كل حالات الغياب ( أي غياب البرلمان ) وهي حالة وقف لبرلمان وحالة حل البرلمان .

2ــ لم تحدد المادة 53 سالفة الذكر المدة التي يجب خلالها عرض ما اصدره رئيس الجمهورية من تشريعات وقرارات على مجلس الامة ولكنها اكتفت بالنص على ان تعرض هذه التشريعات والقرارات على المجلس فور انعقاده . أي عند انعقاده في دورته العامة .

3ــ وتضمنت هذه المادة شرطاً جديداً لم يرد في الدساتير السابقة على دستور 1958 وهو ضرورة ان يعترض ثلثا اعضاء مجلس الامة على قرارات رئيس الجمهورية حتى يسقط ما لهذه التشريعات والقرارت من اثر .

خامساً دستور عام 1964 :

في ظل هذا الدستور الذي صدره في 25 اذا من عام 1964 وفي المادة 195 منه التكرار حرفياً على ما ورد في المادة 135 من دستور 1956 باستثناء ما تقرره في نهايتها في زوال قوة القانون عن القرارات بقانون التي يعترض عليها مجلس الأمة اعتباراً من تاريخ الاعتراض على عكس المادة 135 والتي تنص على زوال ما لهذه القرارات من قوة القانون بأثر رجعي الا اذا رأى مجلس الامة اعتمادها للفترة السابقة او تسوية آثارها . واخيراً لا بد لنا من الإشارة الى ان السلطة التنفيذية قد أساءت استخدام هذه الرخصة التي خولتها لها الدساتير السابقة حيث كانت تصدر القرارات بقوانين سواء وجدت ظروف استثنائية تستدعي ذلك ام لم توجد(7) مثال ذلك القرار الصادر في ظل دستور 1930 وهو المرسوم بقانون الصادر في 22 تشرين الأول 1936 بشأن سريان أحكام المعاهدة الدولية لخطوط الشحن في الوقت الذي لم تكن هنالك ضرورة لصدور هذا المرسوم .ومن الأمثلة على إساءة استخدام الرخصة الدستورية الواردة في دستور 1958 صدور قوانين تموز الاشتراكية التي صدرت في 20 تموز 1961 دون ان تكون أية ظروف استثنائية تبرر ذلك ومن امثلة تلك القرارات بقوانين القرار بقانون المرقم 117 لسنة 1961 بتأميم بعض الشركات والمنشآت وفي ظل دستور 1964 ايضاً اسيء استخدام هذه الرخصة فأصدر في 9 تشرين الثاني القرار بقانون رقم 50 لسنة 1969 بشأن بعض التدابير الأمنية دون ان يكون هنالك ما يبرر صدور هذا القرار(8) . الأمثلة السابقة تبين لنا كيف أسيء استخدام رخصة الضرورة في الدساتير المصرية التي صدرت في ظلها فلقد كانت تنتهز السلطة التنفيذية العطلة البرلمانية لتصدر ما تشاء من القرارات بقوانين وبعد هذا العرض التاريخي لنظرية الضرورة في الدساتير المصرية السالفة الذكر ، ننتقل الى التنظيم الدستوري الأخير لها في ظل دستور 1971 .

المطلب الثاني : التنظيم الدستوري لنظرية الضرورة في المادة ( 74 ) من دستور أيلول 1971

ان المادة 74 على خلاف التطبيقات الجزئية السابقة هي نوع من التنظيم الدستوري لنظرية الضرورة بكل أبعادها وفي كل صورها (9). وان غالبية الفقه المصري يذهب الى ان المشرع قد استوحى هذه المادة من المادة ( 16 ) من الدستور الفرنسي لسنة 1958 السالفة الذكر حيث اعتبرت تلك المادة الأصل التاريخي لهذه المادة ولوجود التشابه في الظروف التي دعت الى وضع كل من المادتين ، فأذا كانت أزمة مايس السياسية سنة 1958 والتي ترتب عليها انهيار نظام الحكم في فرنسا هي السبب الرئيسي في وضع المادة ( 16 ) من دستور 1958 والتي تعد الأصل التاريخي القريب لنفس المادة 74 من دستور 1971 المصري فأن أزمة مايس السياسية في مصر عام 1971 والتي وقعت بسبب ما يسمى بثورة التصحيح التي حدثت في 4 او 5 مايس عام وبسبب ما اطلق عليه بمؤامرة مراكز القوى في ذلك الوقت وهي السبب الرئيس في وضع المشرع الدستوري المصري للمادة 74 من دستور 1971 الحالي(10) . ورغم التشابه الكبير بين الظروف التي ظهرت فيها المادتان ورغم التشابه ايضاً بين النصين الا ان النص المصري لم يتضمن الضمانات الكافية التي تكفل عدم إساءة استخدام رئيس الجمهورية للاختصاصات المخولة له . وذلك لمنحه اختصاصات تكاد تكون مطلقة حيث تشمل حتى المجالات المحتجزة أصلا للسلطة التشريعية والتي يجب تنظيمها بقانون كضمانة جوهرية في تنظيمها مما يجعل للرأي العام أهمية خاصة في هذا المجال(11) . ولا بد للإشارة هنا من ان الدستور المصري الحالي كان قد تناول حالة الضرورة في مواد أخرى كالمادة 147 والتي ايضاً تخول رئيس الجمهورية حق ممارسة العديد من الاختصاصات الاستثنائية الا ان هذه الاختصاصات يمارسها رئيس الجمهورية في فترات تعطيل البرلمان ( مجلس الشعب ) الا ان ما يميز المادة 74 هو حق رئيس الجمهورية في ممارستها في أوقات الأزمات حتى ولو كان مجلس الشعب منعقداً . وفيما يأتي نص المادة 74 من دستور 1971 : ( لرئيس الجمهورية اذا قام خطر يهدد الوحدة الوطنية او سلامة الوطن او يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري ان يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر ويوجه بياناً الى الشعب ويجري الاستفتاء على ما أتخذه من إجراءات خلال ستين يوماً من اتخاذها ) . وسوف نتناول دراسة المادة 74 من دستور 1971 حسب الترتيب الاتي :

الفرع الأول : شروط تطبيق المادة 74 .

الفرع الثاني : التطبيقات العملية للمادة 74 .

الفرع الثالث : مقارنة بين المادة 74 من الدستور المصري والمادة 16 من الدستور الفرنسي .

الفرع الأول : شروط تطبيق المادة 74 من دستور 1971 :

هنالك شروط موضوعية وأخرى شكلية اشترطها المشرع الدستوري المصري لتطبيق المادة 74 وسوف نتناولها على النحو الآتي :

أولا : الشروط الموضوعية(12) :

1ــ وجود خطر جسيم وحال ، الرجوع للشروط الموضوعية المادة 16 من الدستور الفرنسي ما هو المقصود بالخطر الجسيم والحال . وهو نفس المعنى الذي قصده المشرع المصري في نص المادة ( 74 ) وان لم يذكر صراحةً صفة الخطر الا ان هذه الصفة التي تبرر اللجوء الى المادة ( 74 ) على رأي الكثير من الفقهاء بحيث يعتبر اللجوء اليها هي الوسيلة الوحيدة الممكنة لدرء الخطر ومن المعلوم هنا بأن الدستور المصري الحالي قد نص على حالة الضرورة ومنح رئيس الجمهورية سلطات استثنائية في مواد اخرى يمكنه الرجوع اليها فمثلاً ان المواد 108 و 147 و 148 كلها تعطي الحق لرئيس الجمهورية في ذلك الا ان رئيس الجمهورية وكما بينا لا يستطيع ان يلجأ الى هذه المادة الا اذا لم يكن امامه من سبيل غيرها للتغلب على المخاطر التي تهدد كيان البلاد وهي التي تكون الأخطار حالة وجسيمة فعلاً اما تقدير ذلك فقد تركته المادة الى رئيس الجمهورية نفسه وهو واضح من عبارة ( لرئيس الجمهورية ) الواردة في بداية النص .

2ــ التهديد : لا يكفي ان يكون الخطر حالاً وجسيماً لكي يجوز لرئيس الجمهورية ان يلجأ للمادة 74 وانما يتعين ان يهدد ذلك الخطر موضوعات معينة وردت على سبيل الحصر في المادة 74 وهذه الموضوعات ثلاثة هي :

أ ــ الوحدة الوطنية :

عرفت المادة الأولى من قانون حماية القيم من العيب رقم 34 لسنة 1972 الوحدة الوطنية بأنها ( الوحدة القائمة على احترام نظام الدولة والمقومات الأساسية المجتمع ) كما عرفها الفقه بأنها :

1ــ تحالف قوى الشعب العاملة .

2ــ تكافؤ الفرص بين المواطنين الحقوق والوجبات العامة .

3ــ حرية العقيدة وحرية الرأي بما لا يمس الآخرين او المعوقات الأساسية للمجتمع .

4ــ سيادة القانون(13) .

ويقول الدكتور يحيى الجمل بشأن تهديد الوحدة الوطنية ( … ان تهديد الوحدة الوطنية الذي يبرر الرجوع الى نص المادة 74 بكل ما يحمله من معانٍ استثنائية لا يمكن ان يكون تهديداً فردياً او تهديداً عارضاً او من مجموعة لا قيمة لها من الناس وانما يتعين ان يصل التهديد الى حد لا يمكن معالجته في ظل القانون رقم 34 لسنة 1972 في شأن حماية الوحدة الوطنية بمعنى ان يكون تهديداً يوشك ان يعصف بتلك الوحدة عصفاً لا يقاومه الا الإجراءات السريعة التي يستطيع رئيس الجمهورية ان يتخذها بناءً على النص الدستوري(14) . وهنا ايضاً يقول الدكتور سامي جمال الدين وعلى هذا الأساس لا يعد تهديداً للوحدة الوطنية الا ما كان من شأنه ان يؤدي بالبلاد حقيقة وواقعياً الى عكسها أي الى انقسام وتطاحن من يعيش فيها كالحرب الأهلية مثلاً ، اياً كان مصدرها او اصل الخطر الذي ادى اليها فقد يكون صراعاً دينياً وقد يكون صراعاً طبقياً ، بل قد يصل الصراع الحزبي أحيانا الى هذا الحد من الخطورة فهذه الأمور هي جد خطيرة وهي التي تبرر اللجوء الى المادة 74 (15).

ب ـ سلامة الوطن :

يقصد بسلامة الوطن ( حماية أمن الدولة من أي تهديد داخلي او خارجي ) ايضاً هنا يقول الدكتور يحيى الجمل ( واذا كانت الصورة الأساسية لتعريض سلامة الوطن للخطر هي صورة الغزو الخارجي او التهديد الحقيقي به فأن سلامة الوطن يمكن ان تتعرض لخطر جسيم من الداخل ايضاً في بعض الصور التي أشرنا اليها ولكن ذلك أمراً لا يجوز التوسع فيه فأن إضرابا لقطاع الطلاب او العمال او معارضة ، حتى ولو كانت قوية ما دامت سلمية . للحكومة او حتى لرئيس الجمهورية نفسه لا تعد في تقديرنا مبرراً للرجوع الى هذه المادة ) (16) . واذا كان في تعرض سلامة الوطن للغزو الخارجي هو المثل الذي يتبادر الى الذهن ابتداءً الا ان عصياناً مسلحاً او تمرداً عسكرياً من القوات المسلحة او الشرطة او اذا تعرضت المرافق الأساسية في البلاد لنوع من الشلل . كل هذه صور تتعرض فيها سلامة الوطن للخطر . ونحن نرى بأن هذه الحالة وان كانت قد وردت مع الحالتين الأخريين وهي الوحدة الوطنية واعاقة مؤسسات الدولة ، وهي الحالات التي تبرر لرئيس الجمهورية اللجوء للمادة 74 من الدستور الا اننا نرى بأنها ذات مدلول واسع مما يستلزم عدم التوسع في تفسيرها من جهة بل التضييق في تفسيرها الى الحد الذي لا يسمح للجوء لاستخدم المادة 74 بسهولة تحت تبرير ( سلامة الوطن ) .

ج ــ أعاقة مؤسسات الدولة :

يقصد بإعاقة مؤسسات الدولة إعاقة السلطات العامة للدولة والمتمثلة بالسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية وايضاً الأجهزة العليا للدولة مثل القوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطني والشرطة والمحكمة الدستورية العليا والجدير بالذكر ان المشرع المصري استخدم عبارة مؤسسات الدولة على خلاف المشرع الفرنسي الذي استخدم في المادة ( 16 ) عبارة السلطات العامة وان هذا الخلاف لا يعدو ان يكون نظرياً ويؤكد ذلك الطبيعة الاستثنائية للنصين المصري والفرنسي(17) . الملاحظة المهمة التي يمكن إيرادها هنا هو ان النص المصري للمادة 74 قد اشترط ( إعاقة ) مؤسسات الدولة في حين ان النص الفرنسي للمادة 16 قد اشترط ( انقطاع ) السير المنتظم للسلطات العامة . ومعروف في ان كلمة إعاقة تقل مداها عن كلمة انقطاع . أي لا يشترط هنا ان يكون هنالك استحالة مادية تؤدي او تمنع المؤسسات من أداء عملها وبأداء دورها الدستوري بل تكفي مجرد الإعاقة عن ممارسة هذا الدور على النحو الطبيعي المعتاد . واخيراً فانه واضح وكما بينا بأن المؤسسات غير الدستورية غير مشمولة بهذا الشرط كالمؤسسات الاقتصادية مثلاً .

ثالثاً : الشروط الشكلية او الإجرائية :

هنالك إجراءان لاحقان يتعين على رئيس الجمهورية اتخاذها بعدما يقرر اللجوء الى المادة ( 74 ) وهما :

الشرط او الأجراء الأول : توجيه بيان الى الشعب : ان أول أجراء كما قلنا يتخذه رئيس الجمهورية بعدما يقرر الرجوع الى المادة ( 74 ) هو أعلام الشعب بالظروف التي تمر بها البلاد والتي اضطرته باستعمال المادة المذكورة كما ان هذه البيان يجب ان يأتي بعد قرار رئيس الجمهورية مباشرة ودون تراخٍ وذلك لاعلام الناس بتطبيق النظام القانوني الاستثنائي المستمد من تلك المادة . لذلك ينبغي ان يتم نشر هذا البيان والذي يعد بمثابة الوثيقة الرسمية في الجريدة الرسمية كما يجب إعلانه في جميع وسائل الأعلام من راديو وتلفزيون وتمكين جميع الباحثين والدارسين من الاطلاع عليه ومن ثم امام الراي العام ومن الملاحظ ان هذا البيان الموجه من رئيس الجمهورية واطلاع الشعب عليه بمكن ان يخلق نوعاً من التعاون والتكاتف والدعم لقرار رئيس الجمهورية سيما وان البلد يتعرض الى الخطر والحاجة ماسة الى وحدة الصف(18) . هذا ومن الملاحظ ان الرئيس السادات حينما قرر اللجوء الى هذه المادة في مرتين وفي عامي 1977 و 1981 فأنه وجه بياناً الى الشعب بذلك بين الأسباب والدوافع لذلك والاجراءات التي ينوي اتخاذها ففي ما يتعلق بأحداث عام 1977 فأن بياناً قد صدر في 3 شباط من نفس العام وأوضح رئيس الجمهورية بموجب ذلك البيان اللجوء للمادة 74 من الدستور وقد ورد فيه ( انه بالنظر لما دبر من حوادث شغب وتخريب وعدوان على المال العام في أحداث 18 و 19 كانون الثاني سنة 1977 مما يؤثر في تحقيق الأهداف القومية ويعوق المسيرة الوطنية ويهدد امن الشعب والأمن القومي للدولة ويقضي على وحدتنا الوطنية ، وحيث ان احتمال تكرار مثل هذه الحوادث يعد تقويضاً جذرياً لكل مكاسب الشعب ومؤسساته الدستورية والضمانات التي يوفرها الدستور لاقامة مجتمع اشتراكي ديمقراطي يأمن فيه كل مواطن على نفسه وماله وعلى عمله واستلهاما لما عبرت عنه جماهير شعبنا من تمسكها بالشرعية الدستورية ومؤسساتها الديمقراطية في ظل مجتمع يقوم على أساس سيادة القانون ورغبتها الأكيدة في الحفاظ على ثروتها القومية من كل عبث وتخريب ) … الى اخره(19) . اما فيما يتعلق بالتطبيق الثاني للمادة ( 74 ) من الدستور وذلك في عام 1981 فأن رئيس الجمهورية قد وجه ايضاً بياناً للشعب في 5 / 9 / 1981 والذي جاء فيه ( وفي الآونة الأخيرة وقعت أحداث جسيمة هددت الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي وسلامة الجبهة الداخلية بخطر جسيم … كما ان بعض الأفراد قد استغلوا هذه الأحداث وعمدوا الى تصعيدها الأمر الذي وجب معه اتخاذ إجراءات سريعة وفورية لمواجهة هذا الخطر الذي هدد الوحدة الوطنية وسلامة الوطن انطلاقاً من مسؤوليتنا الوطنية الدستورية المستمدة من أحكام المادة 73 من الدستور ) (20) . الشرط او الاجراء الثاني ــ استفتاء الشعب على الإجراءات المتخذة من قبل رئيس الجمهورية : يتضمن هذا الاجراء استفتاء الشعب وخلال فترة ستين يوماً من تاريخ اتخاذ تلك الاجراءات من قبل رئيس الجمهورية . اما عن الإجراءات التي يجب استفتاء الشعب عليها فأننا نرى مع الدكتور يحيى الجمل بأن تستبعد الإجراءات الفردية التي تتخذ ضد افراد معينيين في الاستفتاء مثال ذلك قرار فصل موظف او وضع شخص تحت الحراسة اذ ليس من المعقول ان يستفتى الشعب على فصل موظف او وضع شخص تحت الحراسة . والامر الجائز والمعقول ان يستفتى الشعب في الأمور والإجراءات ذات الطابع العام . اما عن طبيعة الإجراءات والاستفتاء التي يتم عليها فقد كان للفقه اراء متعددة فالأستاذ طعيمه الجرف(21) يرى بأن هذه الإجراءات تمثل نموذجاً لاعمال السيادة العليا ومن ثم لا تخضع لرقابة القضاء او مجلس الشعب ذاته وانما تخضع لرقابة شعبية تتمثل في الاستفتاء بينما يرى الدكتور فؤاد مهنا بان الإجراءات التي يصدرها رئيس الجمهورية استناداً للمادة ( 74 ) انما يصدرها بوصفه سلطة حكومية لا بوصفه سلطة إدارية ومن هنا يبدو إخضاعها لقضاء الإلغاء محل نظر(22) . اما الدكتور سليمان الطماوي فيرى سيادته بأن هذا الاستفتاء يكسب القرارات التي يصدرها رئيس الجمهورية استناداً للمادة 74 طبيعة قانونية تميزها عن الأعمال القانونية الأخرى التي يباشرها رئيس الجمهورية وثم لا يجوز المساس بها سواءً بالتعديل او الإلغاء الا بأجراء مماثل وفقاً لقاعدة تقابل الإجراءات(23).

وأخيراً فأن الدكتور عبد العظيم عبد السلام يذهب الى ان هذا الاستفتاء لا يعد استفتاءً تشريعياً بل هو استفتاء سياسي وتأييدٌ من الشعب للحكومة في سياستها فهو لا يؤثر في الطبيعة القانونية للإجراءات محل الاستفتاء او على قوتها القانونية او على مشروعيتها او صلاحيتها أمام القضاء او البرلمان حيث تبقى الإجراءات قبل الاستفتاء وبعدها قرارات إدارية لها قوتها الإدارية الى ان يوافق عليها البرلمان اذ تصبح بعد هذه الموافقة أعمال تشريعية وتخضع لرقابة المحكمة الدستورية . ونحن نؤيد في هذا الموضوع ما ذهب اليه الاستاذ الدكتور الطماوي من ان قرارات رئيس الجمهورية التي تفسر استناداً للمادة 74 قرارات ذات طبيعة قانونية خاصة تتميز بها عن الأعمال القانونية الأخرى لرئيس الجمهورية ومن ثم لا يجوز تعديلها او إلغاؤها الا بأجراء مماثل وفقاُ لقاعدة تقابل الاختصاص .

الفرع الثاني : التطبيقات العملية للمادة 74 من دستور 1971 :

لجأ رئيس الجمهورية المصري السابق ( السادات ) للمادة 74 مرتين منذ صدور دستور 1971 وسوف نحاول ان نستعرض هذين التطبيقين كل منها على حدة وكما يأتي :

اولاً : التطبيق الأول للمادة 74 ( تطبيق عام 1977 ) :

أعلن رئيس الجمهورية لجوءه للمادة المذكورة في 3 شباط 1977 على اثر أحداث الشغب التي تعرضت لها البلاد في يومي 18 و 19 من كانون الثاني من نفس العام والتي شملت معظم مدن الجمهورية حيث وجه بياناً للشعب ثم أصدر القرار بقانون والمرقم 2 لسنة 1977 وقد تضمن جملة تدابير وقيود نوردها فيما يلي :

1ــ السماح بتكوين الأحزاب طبقاً لما ينص عليه القانون الخاص بإنشاء الأحزاب(24) حال صدوره من السلطة التشريعية .

2ــ التنظيمات السرية او التنظيمات المعادية لنظام المجتمع او ذات الطابع العسكري محظورة طبقاً للدستور ويعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة او المؤبدة كل من شارك فيها او دعى الى إنشائها.

3ــ معاقبة كل من تجمهر بقصد تخريب او إتلاف الأملاك العامة او التعاونية او الخاصة بالأشغال الشاقة المؤبدة وتطبيق نفس العقوبة على المحرضين او المشجعين .

4ــ إعفاء من يملكون 3 أفدنة فأقل من الضرائب وكذلك الدخول التي لا تتعدى 500 جنيه في السنة .

5 ــ على كل مواطن ان يتقدم ببيان ما لديه من ثروة مهما تنوعت وأينما يكون هو وزوجته وأولاده القصر خلال ثلاثة شهور من صدور القانون وتدرج في بطاقة ضريبة كل مواطن ويعاقب كل من يتقدم ببيانات غير صحيحة عن ثروته او يتهرب من اداء الضرائب والتكاليف العامة بالأشغال المؤقتة وتعد جريمة التهرب من اداء الضريبة او تقديم بيانات غير صحيحة عن الثروة جريمة مخلة بالشرف والأمانة تحرم من تثبت عليه من تولي المناصب العامة وتفقده الثقة والاعتبار .

6ــ يعاقب بالأشغال الشاقة المؤيدة كل من دبر او شارك في تجمهر يؤدي الى اثارة الجماهير بدعوتهم الى تعطيل تنفيذ القوانين اللوائح بهدف التأثير على ممارسة السلطات الدستورية لاعمالها . او منع الهيئات الحكومية او مؤسسات القطاع العام والخاص او معاهد العلم من ممارسة عملها باستعمال القوة او التهديد باستعمالها وتطبيق نفس العقوبة على مدبري التجمهر ولو لم يكونوا مشتركين فيه وعلى المحرضين والمشجعين .

7ــ يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة الذين يضربون عن عملهم عمداً متفقين في ذلك او مبتغين تحقيق غرض مشترك اذا كان شأن هذا الأحزاب تهديد الاقتصاد القومي

8ــ يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة كل من دبر او شارك في تجمهر او اعتصام من شأنه ان يعرض السلم العام للخطر .

وبعد ان ذكرنا تلك القيود او التدابير التي أوردها القرار السالف الذكر يرد تساءل عن مدى توافر شروط التطبيق التي أوردناها سابقاً بالنسبة للمادة ( 74 ) . الجواب عن ذلك وكما يراه الدكتور حميد الساعدي بأن القرار المذكور قد جانب الصواب وذلك لان أحداث 19 كانون الثاني 1977 لم تكن من الجسامة والخطر الذي ( يعوق مؤسسات الدولة عن اداء دورها الدستوري ) (25) بدليل ان الدولة استطاعت ان تقضي على تلك الأحداث خلال فترة اسبوع . كما ان الدكتور سامي جمال الدين(26) يرى ان تلك الأحداث لم تكن ( حالة ) حيث ان تلك الأحداث كانت قد وقعت وانتهت بدليل ما ذكره رئيس الجمهورية في بيانه من انه ( تم القضاء على المؤامرة في مهدها ) كما ان مؤسسات الدولة قد استمرت في أداء عملها اذ تمكنت من القضاء على هذا الخطر . لذلك فان اللجوء الى المادة ( 74 ) كان غير صحيح .

ثانياً ــ التطبيق الثاني للمادة ( 74 ) :

أثر أحداث ايلول عام 1981 المتعلقة بالفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين وتخريب دور العبادة وتعرض البلاد لأخطار جسيمة تهدد الوحدة الوطنية ، لجأ رئيس الجمهورية الى المادة ( 74 ) حيث وجه بياناً في 5 ايلول عام 1981 الى الشعب اعلن فيه لجوءه للمادة المذكورة حفاظاً على وحدة الوطن والسلام الاجتماعي وقام رئيس الجمهورية بإصدار عشرة قرارات ثلاثة منها ذات صفة تنظيمية تستند للمادة 47 من الدستور والتي تجيز لرئيس الجمهورية إصدار قرارات بقوانين في حالة الضرورة وسبعة قرارات فردية استندت الى المادة ( 74 ) تناولت في جملتها طوائف عديدة من الشعب في الوقت الذي كان يفترض فيها ان تصدر لمواجهة خطر يهدد الوحدة الوطنية(27) والقرارات السبعة هي :

1ــ القرار بقانون رقم 486 لعام 1981 الخاص بنقل الصحفيين وبعض العاملين في المؤسسات الصحفية القومية وبعض العاملين في الإذاعة والتلفزيون الى جهات اخرى .

2ــ القرار بقانون رقم 490 لعام 1981 الخاص بنقل بعض أعضاء هيئة التدريس في الجامعات والمعاهد العليا الى الوظائف التي يحددها وزير التعليم العالي والبحث العلمي .

3ــ القرار بقانون 491 لسنة 1981 الخاص بإلغاء قرار تعيين البابا شنودة الثالث بطريرك الأقباط الأرثوذكس .

4 ــ القرار بقانون 492 لسنة 1981 الخاص بحل الجمعيات الإسلامية والمسيحية .

5ــ القرار بقانون 493 لسنة 1981 الخاص بالتحفظ على كل من توافرت فيه دلائل جديدة على انه شارك في او جند او استغل الأحداث التي هددت الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي او سلامة الوطن .

6ــ القرار بقانون 494 لسنة 1981 الخاص بإلغاء التراخيص الممنوحة لبعض الصحف والمطبوعات .

7ــ القرار بقانون رقم 495 لسنة 1981 الخاص بالتحفظ على أموال الهيئات والمنظمات والجماعات والجمعيات التي مارست نشاطاً او أعمالا هددت الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي

هذا وان ما وجه من نقد الى التطبيق الأول وجه ايضاً الى التطبيق الثاني والى قراري رئيس الجمهورية باللجوء للمادة ( 74 ) في عامي 1977 و 1981 أضف الى ذلك ما قيل بشأن قرار اللجوء للمادة ( 74 ) الثاني المؤرخ 5 ايلول 1981 ( بالرغم من قيام قانون حماية الوحدة الوطنية رقم 34 لسنة 1972 وكفايته لمواجهة الأحداث المشار اليها الا ان الرئيس فضل اللجوء للمادة ( 74 ) مما يؤكد ان الدافع في ذلك هو تحقيق بعض الأهداف السياسية عن طريق اجراء الاستفتاء المنصوص عليه في تلك المادة )(28) . هذا وقد قضت محكمة القضاء الإداري في 11 / 2 / 1982 ( الدعوى 3123 لسنة 35 ق ) بصدد هذا التطبيق بعدم توافر الخطر الحال في ذلك الوقت علاوة على انه لم يكن يستحيل على الإدارة مواجهة الخطر بالقواعد القانونية القائمة وبذلك ينتفي قيام حالة الضرورة ) (29) .

الفرع الثالث : مقارنة بين نص المادة ( 74 ) في الدستور المصري والمادة ( 16 ) في الدستور الفرنسي ( اوجه الشبه والاختلاف بين النصين ) :

بالرغم مما ذهب اليه غالبية الفقه من ان المادة ( 16 ) من الدستور الفرنسي تشكل الاصل التاريخي للمادة ( 74 ) من الدستور المصري وبالرغم من التشابه الكبير في الظروف التي أدت الى تدوين كلاً النصين الا ان ثمة ملاحظات يمكن تسجيلها على كلا النصين وتحت عنوان اوجه الشبه والاختلاف وكما يلي :

اولاً ـ اوجه الشبه :

1ــ يتفق كلا النصين ابتداءً في ضرورة أعلام الأمة وذلك عن طريق بيان يوجهه رئيس الجمهورية يبين فيه دواعي لجوئه للمادة المذكورة والإجراءات التي ينوي اتخاذها .

2ــ ان كلا من النصين اورد وصفاً لتلك الإجراءات التي يتخذها رئيس الجمهورية .

ففي النص المصري وردت عبارة ( الإجراءات السريعة ) في حين استعمل النص الفرنسي عبارة ( الإجراءات اللازمة ) وهذا ما دفع بعض الفقهاء الى القول بأن عبارة الإجراءات السريعة تحمل نوعاً من الحيطة الدستورية أريد بها الاشارة الى ان هذه الإجراءات لا تتصف بالديمومة او الاستقرار بل هي أشبه ما تكون بالإسعافات الأولية التي تعطي للمريض كي تساعده على تخطي الازمة المرضية(30) .

3ــ ولعل ما يوضح القول السابق هو ان الفقه اجاز لرئيس الجمهورية استناداً لحالة الضرورة وقف بعض مواد الدستور مؤقتاً . في حين لم يجز قط تعديل او الغاء الدستور .

4ــ ان كلا النصين اجاز لرئيس الجمهورية اختراق المجال التشريعي والمحتجز اصلاً للسلطة التشريعية وبالقدر الذي تقتضيه الضرورة .

ثانياً : اوجه الاختلاف :

1ــ لقد تضمن النص الفرنسي بعض الضمانات اللازمة لاستخدامه مثل استشارة رئيس الوزراء ورئيسي المجلس الدستوري والبرلمان ، بينما لم يتضمن النص المصري مثل هذه الضمانات .

2ــ اما فيما يتعلق بالبرلمان نفسه فقد نصت المادة ( 16 ) من الدستور الفرنسي على عدم جواز حل الجمعية الوطنية اثناء فترة تطبيقها ، لتمكينها من رقابة الإجراءات التي يصدرها رئيس الجمهورية استناداً اليها في حين ان المادة 74 لم تتضمن النص على عدم جواز حل مجلس الشعب طيلة مدة تطبيقها .

3ــ اوجد النص المصري نوعاً من الرقابة الشعبية على تطبيق المادة ( 74 ) وذلك من خلال نصه على وجوب استفتاء الشعب خلال فترة ستين يوماً من تاريخ اصدار القرارات التي يتخذها استناداً للمادة المذكورة في حين لا يوجد مثل ذلك في النص الفرنسي .

_____________________

(1) نص المادة 41 من دستور مصر سنة 1923 .

د . السيد صبري – اللوائح التشريعية – 1944 -مرجع سابق – ص25 .

و .د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق -ص65 وما بعدها .

(2) د . محمد كامل ليله – القانون الدستوري – مرجع سابق – ص432 وما بعدها .

و . د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق ص68 .

(3) د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص179 .

(4) د . مدحت احمد علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص 69 – 70 .

(5) د . عثمان خليل – النظام الدستوري المصري – القاهرة – 1956 – ص310 .

(6) د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص70 .

(7) د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص71 .

(8) د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – ص71 – مرجع سابق .

(9) د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص182 .

(10) د . رمزي الشاعر – القانون الدستوري – النظرية العامة والنظام الدستوري المصري – دار النهضة العربية – القاهرة -1996 – ص259.

(11) د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط – مرجع سابق – ص287

(12) راجع في ذلك : د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط – مرجع سابق – ص290 وما بعدها .

د . سامي جمال الدين – لوائح الضرورة – مرجع سابق – ص125 وما بعدها .

د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص192 وما بعدها .

(13) د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط – مرجع سابق – ص287

(14) د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق ص ص 196 – 197 .

د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط – مرجع سابق – ص290.

د . جابر جاد الحق – نظام الاستفتاء . دراسة مقارنة – القاهرة – 1992 – ص202 وما بعدها.

(15) د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص196 – 197 .

(16) د . يحيى الجمل – نفس المرجع – ص196 .

(17) د . رمزي الشاعر – القانون الدستوري . نظرية العامة والنظام الدستوري المصري – مرجع سابق ص262 .

(18) د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط – مرجع سابق ص294

(19) د . هشام عبد المنعم حسين عكاشة – مسؤولية الإدارة عن اعمال الضرورة – دار النهضة العربية – سنة 1998 – ص 119 . رسالة دكتوراه – جامعة القاهرة .

(20) د . وجدي ثابت غبريال – السلطات الاستثنائية لرئيس الجمهورية – مرجع سابق – ص 467 .

(21) د . طعيمه الجرف – مبدأ المشروعية – مرجع سابق – ص128 .

(22) د . فؤاد مهنا – مبادئ واحكام القانون الإداري في ظل الاتجاهات الحديثة – القاهرة – 1975 – ص766 0 767 .

(23) د . سليمان الطماوي – القرارات الإدارية – دار النهضة العربية – القاهرة – 1984 ص112 وما بعدها .

(24) د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط – مرجع – سابق ص299 .

و . د . حميد الساعدي – الوظيفة التنفيذية لرئيس الدولة في النظام الرئاسي – دراسة مقارنة رسالة دكتوراه القاهرة – جامعة عين شمس – 1981 ص341 القاهرة .

(25) راجع في ذلك د . حميد الساعدي – الوظيفة التنفيذية لرئيس الدولة في النظام الرئاسي – مرجع سابق ص342 .

(26) د . سامي جمال الدين – لوائح الضرورة – مرجع سابق – ص136 .

(27) د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط – مرجع سابق – ص302

(28) د . سامي جمال الدين – لوائح الضرورة – مرجع سابق – ص139 .

(29) ومما ما ورد في قرار المحكمة المذكور ( ان الضرورة كسبب للقرار الاداري لا تقوم الا بتوافر ثلاثة اركان هي :

1ـ ان يكون هناك خطر جسيم مفاجئ يهدد النظام والامن … وانه يتبين ان خطاب رئيس الجمهورية ان الخطر الجسيم المفاجئ الذي دفعه الى اصدار القرارات هو .. ولما كانت القرارات المطعون فيها قد صدرت في تاريخ لاحق على وقوع تلك الاحداث فانها بذلك تكون قد صدرت في وقت لم تكن فيه الامور تستلزم صدورها لان اتخاذ هذه القرارات منوط بتوافر خطر حال لا خطر زال او خطر قد يحدث في المستقبل . بذلك ينتفي الركن الاول لقيام حالة الضرورة ) .. المرجع نفسه – ص139 .. .

(30) د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص 204 .

تطبيقات نظرية الضرورة في العراق :

لقد كان لنظرية الضرورة نصيب في الدساتير العراقية كما هو الشأن في دساتير الكثير من دول العالم ، وحيث ان النظام الدستوري في العراق قد مر بمرحلتين منذ تأسيس الحكومة العراقية ولحد الان ، المرحلة الاولى ــ النظام الملكي ــ والمرحلة الثانية ــ النظام الجمهوري ــ لذا فأننا سنتناول حالة الضرورة في كلتا المرحلتين وفي مطلبين :

المطلب الأول : تطبيقات نظرية الضرورة في ظل النظام الملكي

لم يصدر في هذه المرحلة والتي تمتد ما بين عامي 1921 ــ 1958 سوى دستور واحد وهو القانون الأساسي العراقي لسنة 1925 (1)، لقد تضمن هذا الدستور وهو الدستور الأول للعراق بعد قيام الحكم الوطني نصاً عالج فيه قيام حالة الضرورة حيث ورد في الفقرة ( 3 ) من المادة ( 26 ) ما نصه : ( اذا ظهر ضرورة أثناء عطلة المجلس لاتخاذ تدابير مستعجلة لحفظ النظام والأمن العام ولدفع خطر عام او لصرف مبالغ مستعجلة لم يؤذن بصرفها في الميزانية او بقانون خاص او للقيام بواجبات المعاهدة فللملك الحق بإصدار مراسيم بموافقة هيئة الوزراء يكون لها قوة قانونية تقضي باتخاذ التدابير اللازمة بمقتضى الأحوال على ان لا تكون مخالفة لاحكام هذا القانون الأساسي ويجب عرضها جميعها على مجلس الأمة في اول اجتماع عادي ما صدر منها لا جل القيام بواجبات المعاهدات المقترحة من قبل مجلس الأمة او المجلس التأسيسي فان لم يصدق مجلس الامة هذه المراسيم فعلى الحكومة ان تعلن انتهاء حكمها وتعتبر ملغاة من تاريخ هذا الإعلان ويجب ان تكون هذه المراسيم موقعاً عليها بتواقيع الوزراء كافة . وتشمل لفظة القانون ( المراسيم الصادرة بمقتضى إحكام هذه المادة ما لم تكن في متنه قرينة تخالف ذلك )(2). يتضح من النص السابق ان المراسيم التي لها قوة القانون هي الوسيلة التي أشار اليها القانون الأساسي لتطبيق نظرية الضرورة والتي تتمثل في ظروف استثنائية وطارئة تمر بها البلاد والتي عبر عنها النص بـ ( التدابير المستعجلة لحفظ النظام والأمن العام ولدفع خطر عام او لصرف مبالغ مستعجلة لم يؤذن بصرفها في الميزانية او بقانون خاص او للقيام بواجبات المعاهدة ) (3). عند ذلك فأن الجهة التي يحق لها إصدار تلك المراسيم هو الملك بموافقة هيئة الوزراء ويكون لتلك المراسيم قوة القانون ومن الجدير بالإشارة اليه هنا ان نظام الحكم في العراق في ظل النظام الملكي كان نظاماً نيابياً برلمانياً لذلك فأن من الملاحظ على هذا النظام انه حاول مسايرة الأنظمة البرلمانية ذات الهيمنة الرئاسية والتي أطلق عليها ( بالأنظمة البرلمانية المنحرفة ) (4)كونها خرجت على مبدأ نيابي صحيح وهو ان التشريع عمل من اعمال البرلمان ، لذا فأن اعطاء السلطة التنفيذية ممثلة برئيس الدولة القدرة على ممارسة التشريع عن طريق اصدار المراسيم ليس الا عملاً دخيلاً على هذا النظام(5). لذا فأن من اهم واخطر الحقوق التي تعترف بها لرئيس الدولة الأعلى هو حق اصدار المراسيم اذا ما دعت الضرورة لذلك في فترات عطلة البرلمان . وتظهر اهمية هذا الحق وخطورته في انه يؤدي الى جمع السلطتين التشريعية والتنفيذية في يديه(6). لذلك فأن الدساتير تحرص عادةً وبعد اعترافها بهذا الحق الى احاطته بسياج من الشروط والقيود في محاولة منها الى الحيلولة دون سوء الاستعمال ، وهذا ما فعل الدستور العراقي لسنة 1925 في الفقرة 3 من المادة ( 26 ) ، وقبل ان نتناول هذه القيود لا بد من الإشارة الى أساس الأخذ بفكرة المراسيم ودور الملك فيها وسوف نعرض لذلك في فرعين :

الفرع الأول : أساس الأخذ بفكرة المراسيم في العراق ودور الملك في إصدارها .

الفرع الثاني : القيود والشروط الواجب توافرها ومدى التزام السلطة التنفيذية بها .

الفرع الأول : أساس الأخذ بفكرة المراسيم في دستور 1925 ودور الملك في إصدار المراسيم

لقد سبق وضع القانون الأساسي العراقي توقيع المعاهدة العراقية – البريطانية عام 1922 وقد ألزمت المادة ( 3 ) من المعاهدة المذكورة ان يضع مشروع دستور يعرض على المجلس التأسيسي العراقي يراعى ( اولاً ان لا يُضمنّ أي شيء يناقض المعاهدة ) ويلاحظ بأن هَّم السلطة البريطانية التي أوجدت النظام الملكي البرلماني في العراق ان تثبت في دستور هذا النظام ما يضمن قدرة الملك على اتخاذ أي اجراء يحقق مصلحتها التي أكدتها في معاهدة 1922، لذلك كان منح الملك سلطة إصدار مراسيم لها قوة القانون مع النص على اعتبار تنفيذ التزامات العراق التعاهدية حالة من حالات الضرورة خير وسيلة لتحقيق هذا الهدف ، ولقد افصح وزير المستعمرات البريطاني عن هذه الغاية بكتاب وجهه الى المندوب السامي البريطاني في بغداد بتاريخ 19 نيسان 1923 حيث يقول ” يكفي في جميع الظروف ان تعطى الى الملك صلاحيات اصدار تشريع عند الضرورة بشكل مرسوم يضمن تحقيق التزامات الحكومة العراقية المدرجة في المعاهدة ) (7) . هذا عن خلفية واساس الاخذ بفكرة المراسيم اما عن دور الملك في اصدارها فالذي يفهم من المادة ( 26 ) فقرة / 3 انها اناطت سلطة اصدار تلك المراسيم بالملك ومجلس الوزراء معاً (8)، الا ان الصيغة التي جاء بها النص تثير تساؤلاً حول دور الملك في اصدار المراسيم ، ان اشارة النص الى ان الملك هو الذي يصدر المرسوم بموافقة هيئة الوزارة يدفع الى الاعتقاد بأن له دور المبادرة في هذا الشأن اما دور الوزارة فيقتصر على الموافقة على مبادرة الملك ، الا ان الواقع غير ذلك فقيام الملك بأقتراح المراسيم امر يكاد يكون مستحيلاً عملياً لان الملك ليس في وضع يمكنه معرفة ضرورات اصدار المراسيم فذلك يحتاج الى قدر كبير من الاطلاع والمساهمة في العمل اليومي في حين ان الوزارة هي اقرب من الملك في معرفة حاجة البلاد الى المراسيم لانها الجهاز العامل في الدولة وتمتلك وسائل التتبع فمثلاً ان احدى الوزارات تحتاج الى صرف مبالغ اضافية لم ينص عليها في الميزانية لغرض القضاء على آفة زراعية فهل يمكن للملك تقدير ذلك المبلغ ؟ الجواب ان هذا الامر لا تقدر عليه الا الجهة المختصة وفي هذا المثل هي وزارة الزراعة اذاً لا بد ان تكون هي صاحبة المبادرة والتي ترفع بدورها اقتراحها الى مجلس الوزراء لا الى الملك . اذن كل ما يمكن قوله هنا بأن النص لم يكن موفقاً في صياغته اذ كان يجب ان يأتي بشكل يبين حقيقة دور الملك والوزارة . فيبين ان إصدار المراسيم يكون بقرار من الوزارة وموافقة الملك وان هذا التصور هو الذي كان معمولاً به ومطبقاً فعلاً فمجلس الوزراء هو الذي كان يقرر إصدار مرسوم ما و بناءً على اقتراح وزير معين اذا كان الامر يتعلق بأعمال وزارته او ان الوزارة بكامل هيئاتها ترى إصدار مرسوم لمواجهة حالة عامة وذلك عندما يتعلق الامر بالسياسة العامة او الوضع العام وهذا القول لا يعني ان دور الملك شكلي فكثيراً ما كان الملك يتحكم في موضوع اصدار المراسيم وهي بعد في مرحلتها الأولى عندما تكون مشروع مرسوم وبالتالي يستطيع الملك من خلال هذه السلطة ان يمنع صدور المرسوم . وقد حصل فعلاً ان رفض الملك فيصل الأول في عام 1930 الموافقة على قرار كان مجلس الوزراء قد اتخذه في 30 أيلول 1930 وتضمن إصدار مرسوم الصرف مبالغ غير اعتيادية للدفاع عن الحدود(9) .

الفرع الثاني : الشروط والقيود الواجب توافرها كي تطبق الفقرة الثالثة من المادة ( 26 ) من الدستور ومدى التزام السلطة التنفيذية بها

سنبحث هذا الفرع كالآتي :

اولاً : الشروط او القيود الواجب اتباعها عند صدور المرسوم بقانون :

لم يترك القانون الأساسي العراقي السلطة التنفيذية حرة في هذا الصدد بل قيدها بقيود(10) تتعلق بالزمن والظروف والمدى ومدة النفاذ .

1ــ الشرط او القيد المتعلق بالزمن : أي الفترة التي يجوز فيها إصدار المراسيم وهي ” عطلة المجلس ” وهنا يقول المرحوم الدكتور إسماعيل مرزا ( لا يجوز للسلطة التنفيذية اصدار هذه المراسيم الا في فترة عطلة المجلس ، هذا اذا تقيدنا(11) . بحرفية النص ، اما اذا اخذنا ” العلة ” واساس وجود النص بنظر الاعتبار فيجوز عندي اصدار هذه المراسيم في حالة الحل ايضاً اذا توفرت بقية الشروط الاخرى ) . اما الدكتور عبد الله إسماعيل البستاني(12). فأنه يقول ( ان المراسيم تصدر استناداً للمادة / 26 اثناء عطلة البرلمان ) وهنا نستطيع ان نتساءل ما هو المقصود بعطلة البرلمان ؟ ويجيب على ذلك بالقول ( النص الإنكليزي لهذه الفقرة ينص على العبارة التالية ( When Parliament is not sitting ) ومدلول هذه العبارة كما يرى شراح القانون الدستوري يتضمن كل فترة يكون فيها البرلمان غير منعقد ( سواء كان ذلك لانتهاء دورته العادية ام لحله او لتأجيله ) .

2ــ الشرط او القيد الخاص بالظرف : حدد الدستور العراقي الظرف الذي يجوز استعمال هذا الحق ( حق اصدار المراسيم ) في ظروف خاصة وهي حالة الضرورة التي تستدعي اتخاذ تدابير مستعجلة لا تحتمل التاخير فيما يخص الامور الاتية :

أ ــ حفظ النظام والامن .

ب ــ دفع خطر عام .

ج- صرف مبالغ لم يؤذن بصرفها في الميزانية او بقانون خاص .

د ــ المراسيم اللازمة للقيام بواجبات المعاهدة ( المعاهدة العراقية البريطانية عام 1922 ) .

هذه هي الامور التي اذا ما توافرت ضرورة اتخاذ تدابير مستعجلة فأنه يصار الى اصدار مرسوم بقانون فيها .

اما اذا ما توافرت الضرورة في امور اخرى غير ما ذكر فأنه لا يصار الى اصدار مراسيم بل يصار الى الطريق الاعتيادي وهو السلطة التشريعية وهذا يعني وجوب عدم التوسع في اصدار المراسيم لان هذا الحق اعطي للسلطة التنفيذية على خلاف الاصل ، لذا لا يجوز التوقع ولا القياس على ما جاء خلاف الاصل . وهنا يرى الدكتور مصطفى كامل(13). ( ان الأسباب التي ذكرها القانون الأساسي العراقي تتضمن عبارات مطاطية كحفظ النظام او دفع خطر عام بحيث يمكن للسلطة التنفيذية ان تصدر ما تشاء من المراسيم في اثناء عطلة البرلمان دون ان تخشى محاسبة البرلمان ) .

3ــ الشرط او القيد الخاص بالمدى : عدم مخالفة المراسيم للقانون الأساسي :

ولقد ورد هذا الشرط في نص المادة 26 ايضاً ( على ان لا تكون المراسيم مخالفة لاحكام القانون الأساسي وهذا القيد مهم جداً لانه يمنع السلطة التنفيذية من ممارسة التشريع التأسيسي الذي هو من حقوق الشعب وحده والمحددة كيفيته على الوضع المبين في الدستور . كما ان هذا الشرط يحول دون اعطاء السلطة التنفيذية سلطة تعطيل الدستور وهو مانع ايضاً من الاعتداء على الحريات العامة(14) . ولا بد من التذكير هنا بأن هذا القيد خاص بنصوص الدستور اما بالنسبة للقوانين العادية فأنه بالإمكان تعديلها او إلغاؤها عن طريق المراسيم وكذلك يجوز انشاء قواعد قانونية جديدة بواسطة المراسيم .

4ــ الشرط او القيد الخاص بمدة النفاذ(15) : وقد ورد النص على هذا القيد بالقانون الأساسي على الشكل التالي : ( ويجب عرضها ــ المراسيم __ جميعها على مجلس الامة في اول اجتماع ما عدا ما صدر منها لاجل القيام بواجبات المعاهدات المصدقة من قبل مجلس الامة او المجلس التأسيسي فأن لم يصدق مجلس الامة هذه المراسيم فعلى الحكومة ان تعلن انتهاء حكمها وتعتبر ملغاة من تاريخ هذا الاعلان .. ) وان الواضح من منطوق النص انه يجب عرض هذه المراسيم في اول اجتماع للبرلمان وان البرلمان بالمقابل يجب ان يبت فيها في ذلك الاجتماع ولا يجوز له ان يتسامح بذلك ابداً فأن صدقها البرلمان تصبح قوانين شرعية والا ينتهي حكمها وعلى الحكومة ان تعلن ذلك وتعتبر ملغاة من تاريخ هذا الاعلان . وهنا يرد سؤال عما اذا لم تعلن الحكومة انتهاء حكم هذه المراسيم ؟ الجواب : يمكن للبرلمان ان يسحب الثقة من الوزارة فتضطر الى الاستقالة ويكون على الوزارة الجديدة الاعلان عن انتهاء اثر هذه المراسيم وكثيراً ما يكون التهديد بسحب الثقة كافياً لدفع الوزارة على سحب المراسيم(16) . واخيراً لا بد من الاشارة الى عدم وجود نص في التشريع العراقي يتعلق بهذا القيد ويتمثل في حالة عدم عرض هذه المراسيم من قبل السلطة التنفيذية على البرلمان في اول اجتماع له فالملاحظ ان القانون الاساسي العراقي قد سكت عن حكم ذلك في حين اننا نلاحظ بأن المشرع المصري لم يقع فيما وقع فيه المشرع العراقي حيث نص على ان عدم عرض المراسيم بقانون على البرلمان يفقدها ما كان لها من أ ثر(17) .

ثانياً : مدى ألتزم السلطة التنفيذية بالشروط والقيود التي وضعتها المادة ( 26 ) الفقرة ( 3 )

من الملاحظ هنا بأن فكرة إصدار المراسيم هي فكرة استثنائية وبالتالي لا تمارس الا في حالات استثنائية ، الا ان واقع الحال في العراق قد اظهر خلاف ذلك حيث تحولت هذه الوسيلة الى أداة اعتيادية تمارسها السلطة التنفيذية متجاوزة حالات الضرورة الحقيقة وبذلك استطاعت ان تمارس خلال عطلة البرلمان سلطة التشريع الكامل(18) . ومن الملاحظ ان مجلس الامة كان مجرداً عملياً من سلطاته ــ مسؤولية الوزارة السياسية ــ استجواب ــ سحب ثقة ــ سلاح لا يقوى المجلس على استعماله فهي في مأمن من أخطاره ومن الملاحظ ايضاً ان هذه المراسيم كانت في منآى من رقابة المحاكم العادية ــ عدى المحكمة ــ العليا اذ لا يحق لها بحث دستورية تلك القوانين لانها ممنوعة دستورياً من ذلك ، كما ان المحكمة العليا نفسها لا تنظر في ذلك الا اذا أحيلت لها المراسيم من السلطة التنفيذية نفسها ، فهل يتصور ان تحيل هذه مرسوماً على المحكمة العليا لفحص دستوريته اذا كان لها صالح في أعماله(19) . واخيراً فاذا ما عُرضت تلك المراسيم على المحكمة العليا وقررت هذه المحكمة عدم دستوريتها فأنها تعتبر ملغاة من تاريخ صدور هذا القرار ، وهكذا كان هذا الواقع في العراق وبذلك كثُرت المراسيم بقانون التي أصدرتها السلطة التنفيذية وفي غير محلها وخلافاً لما اشترطه القانون الأساسي وكمثال لذلك نذكر مرسوم المطبوعات الذي أصدرته السلطة التنفيذية برقم 24 لسنة 1954 والذي وقف من الصحافة موقفاً كله ريبة وحذر ومرسوم الجمعيات المرقم 9 لسنة 1954 ومرسوم رقم 25 لسنة 1954 مرسوم الاجتماعات والمظاهرات وهذه المراسيم كلها غير دستورية لعدم توافر شرط الضرورة الذي ورد في المادة 26 ف 3 من الدستور ( لاتخاذ تدابير مستعجلة في مسائل معينة ) (20) .

المطلب الثاني : تطبيقات نظرية الضرورة في ظل النظام الجمهوري ( ما بعد 14 تموز 1958 )

في البدء نود التذكير الى ما سبق وان بيناه من أن حالة الضرورة التي نبحثها هنا تشكل الاستثناء من مبدأ سمو الدستور وكذلك الاستثناء من مبدأ الفصل بين السلطات من جهة والتي تشكل وفي الوقت نفسه تنظيماً دستورياً شاملاً حيث يتم بموجبه واستناداً الى نص دستوري إعطاء السلطة التنفيذية سلطات استثنائية تتضمن الحق بممارسة التشريع من جهة أخرى لذلك فأننا ابتعدنا عن التشريعات الجزئية والتي ايضاً تعالج حالة الضرورة كالتفويض التشريعي او حالة الطوارئ وهو نفس النهج الذي اتبعناه في تطبيقات الضرورة في الدول وسنتناول في هذا المطلب الدساتير العراقية التي تضمنت نصاً يشير الى حالة الضرورة في دساتير العهد الجمهوري اما الدساتير التي صدرت في هذا العهد فهي وحسب سنوات صدورها كالآتي(20) :

1ــ دستور 27 تموز 1958 .

2ــ دستور 4 نيسان 1963 ( قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة المرقم 25 لسنة 1963 )

3ــ دستور 29 نيسان 1964 .

4ــ دستور 21 ايلول 1968 .

5ــ دستور 16 تموز 1970 .

6ــ قانون ادارة الدولة العراقية رقم 40 لسنة 2004 .

7ــ الدستور الجديد ( دستور 15 تشرين الاول 2005 ) (21) .

ومن مراجعة الدساتير المذكورة نلاحظ بأن دستورين فقط تناولا حالة الضرورة بالنص عليها وذلك في المادة ( 51 ) من دستور 1964 والمادة 57 الفقرة ( ح ) من دستور 1970(22) وذلك عند تناولهما السلطات الاستثنائية لرئيس الجمهورية والتي من خلالها يمارس سلطة التشريع عن طريق اصدار قرارات لها قوة القانون وسنتناول هاتين المادتين فيما يأتي :

اولاً : المادة ( 51 ) من دستور 1964 وهي اول نص دستوري في العهد الجمهوري تناول حالة الضرورة حيث ورد في نص المادة المذكورة ( لرئيس الجمهورية في حالة خطر عام او احتمال حدوثه بشكل يهدد سلامة البلاد وأمنها ان يصدر قرارات لها قوة القانون بقصد حماية كيان الجمهورية وسلامتها وأمنها بعد موافقة مجلس الوزراء ) . يتضح من النص المذكور ان رئيس الجمهورية يتمتع بسلطات استثنائية اضافة الى السلطات العادية التي يتمتع بها والتي نص عليها الدستور المذكور وتتمثل هذه السلطات الاستثنائية بحق اصدار قرارات لها قوة القانون وتعد هذه المادة اول تطبيق دستوري وكما بينا في دساتير العهد الجمهوري ويمكننا ومن قراءتنا للنص المذكور ان نسجل الملاحظات الاتية :

1ــ ان نص المادة ( 51 ) قد اخذ بشرط الضرورة كما هو الامر في المادة 26 من دستور 1925 ( القانون الأساسي للعراق ) .

وكذلك المادة ( 16 ) من دستور 1958 الفرنسي والمادة ( 74 ) من دستور 1971 المصري والضرورة هنا يمكن الاستدلال عليها من عبارة ( .. في حالة خطر عام او احتمال حدوثه بشكل يهدد سلامة البلاد وأمنها ) وان من شأن هذه القرارات حماية كيان الجمهورية وسلامتها وأمنها. ومن الملاحظ ان النصوص الدستورية التي اليها في الدول التي أخذت بشرط الضرورة اشارت الى الخطر واعتبرته شرطاً لتوفر حالة الضرورة وقد اعطت وصفاً خاصاً لهذا الخطر ( وهو الجسيم والحال ) وقد بينا فيما سبق متى يكون الخطر جسيماً وحالاً ، والملاحظة التي نريد ان نشير اليها هنا هي ان النص الوارد في المادة ( 51 ) من دستور 1964 قد ذهب الى ابعد من ذلك الوصف للخطر بحيث اضاف اليه الخطر الاحتمالي وذلك من خلال ذكر عبارة ( او احتمال حدوثه ) أي شملت الخطر الجسيم والحال والاحتمالي .

2ــ ومن الملاحظ ايضاً ان النص المذكور قد جاء بصياغة غامضة بحيث يسمح لرئيس الجمهورية التدخل في كافة الامور مما يؤدي الى عرقلة حقوق المواطنين والضمانات التي يتمتعون بها بموجب الدستور(23) .

3 ــ اما فيما يتعلق بأخذ موافقة مجلس الوزراء على اصدار القرارات التي نصت عليها المادة ( 51 ) فهي لا تتعدى كونها مسألة شكلية خاصة(24) ، اذا ما علمنا بأن رئيس الجمهورية هو الذي يتولى تعيين مجلس الوزراء واقالته وهو المهيمن الفعلي على السلطة التشريعية وكان بأمكانه اصدار أي قانون يريد اصداره دون اللجوء الى اصدار هذه القرارات(25) .

__________________

1- د . نوري لطيف – القانون الدستوري –دار الحرية للطباعة – بغداد – ط 1 – 1976 – ص ص242 – 245 .

2- د . رعد ناجي الجده – التطورات الدستورية في العراق – الطبعة الاولى – دار الحرية للطباعة بغداد ط 1 – 1976 – ص 442 – 445 .

3- د . عبد الله اسماعيل البستاني – مذكرات في القانون الدستوري – مطبعة الرابطة – بغداد -1950 – 1951 – ص461 وما بعدها .

د . فائز عزيز اسعد – انحراف النظام البرلماني في العراق – مطبعة السندباد – بغداد – 1984 ص157 وما بعدها .

4- من الانظمة البرلمانية المنحرفة هي البرلمانية الفايمارية نسبة لدستور فايمار الصادر – 1919 وكذلك البرلمانية الدكولية نسبة الى دستور ديكول سنة 1958 مادة ( 6 ) وكذلك البرلمانية الناصرية نسبة الى الدستور الذي اصدره في مصر جمال عبد الناصر سنة 1964 المادة ) 119 ) والمادة ( 120 ) وقد تأثر هذا الدستور بدستور ديكول عام 1958 .

5- د . فائز عزيز اسعد – انحراف النظام البرلماني في العراق – مرجع سابق – ص158 .

6- د . عبد الله اسماعيل البستاني – مذكرات في القانون الدستوري – مرجع سابق – ص361 .

7- د . فائز عزيز اسعد – انحراف النظام البرلماني في العراق – مرجع سابق – ص167 .

8- د . فائز عزيز اسعد – انحراف النظام البرلماني في العراق – مرجع سابق – ص169 .

9- د . فائز عزيز اسعد – انحراف النظام البرلماني في العراق – مرجع سابق – ص ص ( 169 – 172 ).

10- د . اسماعيل مرزا القانون الدستور شركة الطبع الاهلية – بغداد 1960 – ص232.

د . عبد الله اسماعيل البستاني – القانون الدستوري – مرجع سابق – ص365 وما بعدها .

11- د . اسماعيل مرزا – نفس المصدر – ص232 .

12- د . عبد الله اسماعيل – مرجع سابق – ص365 .

13- د . مصطفى كامل ياسين – مرجع سابق – ص72 .

14- د . عبد الله اسماعيل البستاني – مذكرات في القانون الدستوري – مرجع سابق – ص 367 .

15- د . اسماعيل مرزا – القانون الدستوري – مرجع سابق ص233 .

16- د . إسماعيل مرزا – نفس المصدر – ص233 .

17- د . عبد الله إسماعيل البستاني – القانون الدستوري – مرجع سابق ص367 .

18- د . فائز عزيز اسعد – انحراف النظام البرلماني في العراق – مرجع سابق – ص173 .

د . عبد إسماعيل البستاني – مساهمة في أعداد الدستور الدائم وقانون الانتخاب – مرجع سابق – ص78

19- د . إسماعيل مرزا – القانون الدستوري – مرجع سابق – ص237 .

20- د . إسماعيل مرزا – القانون الدستوري – مرجع سابق – ص240 .

21- د . حكمت حكيم – الدساتير العراقية المؤقتة – مرجع سابق – ص42 .

و . د . رعد الجدة – التطورات الدستورية في العراق – دار الحكمة – بغداد – 2004 – ص114 .

ـ وبالاضافة الى هذه الدساتير هنالك مشروع دستور العراق الصادر في 30 تموز لسنة 1990 الا انه لم يرى النور حيث لم يجرِ العمل به بسبب احتلال العراق لدولة الكويت بعد ثلاثة ايام من اصداره ونشره في الصحف العراقية وقد نص في المادة ( 179 ) على ان يعمل باحكام هذا الدستور بعد موافقة الشعب عليه بالاستفتاء ونشره في الجريدة الرسمية في مدة لا تزيد على خمسة عشر يوماً من تاريخ اعلان الاستفتاء وبسبب عدم اجراء الاستفتاء على مشروع الدستور المذكور استمر النظام بالعمل وفقاً للدستور الصادر في 16 تموز 1970 وحتى سقوط النظام .

22- لقد تضمن هذا الدستور ( وفي المادة 58 تاسعاً ) نصاً اشار فيه الى اختصاص مجلس النواب بالموافقة على اعلان الحرب وحالة الطوارئ وذلك بناءً على طلب مشترك من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء .. وفي رأينا بأن هذا النص منتقد وغير دقيق . ذلك ان اعلان الحرب وحالة الطوارئ من الامور التي تدخل ضمن مفهوم الضرورة والتي تستلزم اجراءً سريعاً لمعالجتها وهذا لا يتم الا بإعطاء السلطة التنفيذية صلاحية اتخاذ اجراءات استثنائية سواءً تمثلت تلك السلطة برئيس الدولة او مجلس الوزراء اما ان تعطى تلك الصلاحية الى مجلس النواب فهذا يعني اطالة الإجراءات في هذا الصدد وذلك لطبيعة عمل المجلس المذكور والتي تتصف بالبطء من جهة واحتمال امتناعه وعدم موافقته على الطلب المشترك المقدم من قبل رئيس الجمهورية او مجلس الوزراء من جهة اخرى يضاف الى ذلك ان مجلس النواب قد لا يكون في حالة انعقاد عند تقديم الطلب المذكور .

23- وقد اشار مشروع الدستور سنة 1990 ايضاً الى حق رئيس الجمهورية في اصدار قرارات لها قوة القانون في المواد 99 و 100 ، وفيما يلي نص المادتين المذكورتين مع ملاحظاتنا عليها :

أ ـ نصت المادة 99 على ما يلي :

اولاً : لرئيس الجمهورية اذا قام خطر يهدد امن البلاد او استقلالها او سلامتها او وحدتها الوطنية ان يصدر في مدة لا تتجاوز ستة اشهر من قيام الخطر اوامر او قرارات لها قوة القانون لتلافي هذا الخطر . وله ان يعلم حالة الطوارئ في العراق او اية منطقة فيه . وينظم القانون حالة الطوارئ .

ثانياً : خلال مدة اعلان حالة الطوارئ وفي حدود المنطقة المشمولة بها يجوز بمرسوم يصدره رئيس الجمهورية وقف العمل مؤقتاً لاحكام المواد ( 43 و 47 و 88 و 52 و53 و 54 و 56 و 57 و 67 من الدستور ) ومما يلاحظ على هذا النص هو عدم الوضوح والتناقض الحاصل فيه وتحديداً في الفقرة اولاً حيث نلاحظ ان النص بعد ان حدد الحالات التي تدخل ضمن الخطر وهي ( يهدد امن البلاد او استقلالها او سلامتها او وحدتها الوطنية ) وان الغرض من قرارات رئيس الجمهورية هو لتلافي هذا الخطر . نرى ان النص قد حدد مدة لا تتجاوز ستة اشهر من قيام هذا الخطر لاصدار تلك القرارات . وقد لاحظنا سابقاً ان الفقه يكاد يكون متفقاً على اعطاء صفة ( الجسيم والحال ) على الخطر الذي يجيز اصدار مثل تلك القرارات وان اعطاء فترة ستة اشهر لرئيس الجمهورية تجعل من المحتمل ان يكون الخطر المراد تلافيه قد حصل وانتهى ولم يبقى له اثر أي ان قرارات رئيس الجمهورية لم تعالج خطر حال بل خطر زال . وهذا يتنافى ومفهوم ووصف الخطر الذي يدخل في مفهوم ( الضرورة ) والذي يجيز اعطاء رئيس الجمهورية تلك الصلاحية الاستثنائية ( أي اصدار قرارات لها قوة القانون ) . وهنالك تساؤل ايضاً يرد على هذا النص ويتعلق بالغرض من اعطاء رئيس الجمهورية الحق في اعلان حالة الطوارئ اذا كان قد اعطي صلاحية اصدار قرارات لها قوة القانون لتلافي ذلك الخطر ؟ اما نص المادة 100 في مشروع الدستور المذكور فهو (( لرئيس الجمهورية اذا وقع ما يوجب الاسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير في غير الحالات المذكورة في المادة 99 من الدستور إصدار قرارات لها قوة القانون وتعرض هذه القرارات على مجلس الشورى خلال ستين يوماً من تاريخ صدورها وتسري عليها الإجراءات المبينة في الفقرات ( ثانياً ) و ( ثالثاً ) و ( رابعاً ) و ( خامساً ) من المادة 119 من الدستور )) . وجدير بالذكر بأن الفقرات المذكورة من نص المادة 119 تتعلق بآلية عرض تلك المراسيم على مجلس الشورى عند انعقاده اما فيما يتعلق بنص المادة 100 من مشروع دستور 1990 .فيلاحظ هنا بأن المادة المذكورة تجيز لرئيس الجمهورية إصدار قرارات لها قوة القانون باستثناء الحالات التي نصت عليها المادة السابقة أي المادة ( 99 ) من نفس المشروع . وفي تقديرنا ان هذا توسع من المشرّع الدستوري في منح تلك الصلاحيات من جهة ومن جهة ثانية قد تؤدي برئيس الجمهورية الى ان يصدر قرارات لها قوة القانون دون مبرر أي دون وجود حالة ضرورة وهي المسوغ الدستوري لا عطاء مثل هذا الحق لرئيس الجمهورية . أضف الى ذلك ان الفقرة الرابعة من المادة 119 قد أعطت الحق لرئيس الجمهورية ( في حالة عرض المرسوم على مجلس الشورى وعدم إقرار إقراره بأكثرية ثلثي الأعضاء الحاضرين ) حل المجلس المذكور

24- د . منذر الشاوي – القانون الدستوري والمؤسسات الدستورية في العراق – مطبعة شفيق – بغداد 1966 – ص 198 – 200 .

25- د . رعد الجده – التطورات الدستورية في العراق – دار الحكمة – بغداد – 2004 ص114.

26- د . علي جاسم العبيدي – رئيس الدولة في العراق ( من 1921 الى 1968 رسالة دكتوراه – جامعة بغداد – 1981 – ص ص 208 – 213 .

ثانياً : المادة ( 57 ) فقرة ( ج ) المعدلة من دستور 1970 :

وتنص هذه الفقرة على ما يأتي : ( لرئيس الجمهورية عند الاقتضاء اصدار قرارات لها قوة القانون ) .

ان هذه الفقرة لم تكن موجودة أصلا عند وضع دستور عام 1970 الا انها أضيفت بموجب التعديل الثالث والعشرين للدستور والذي صدر بموجب قرار مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم 15 في شباط 1993 .

ومما يلاحظ على هذه الفقرة انها لم تحدد المقصود بعبارة ( عند الاقتضاء ) والذي ترتب عليها منح رئيس الجمهورية سلطة استثنائية جديدة متمثلة بحق اصدار قرارات لها قوة القانون وقد ترك الباب مفتوحاً امام رئيس الجمهورية في تقدير اصدار مثل هذه القرارات وهو ما حدث فعلاً خلال الفترة بين صدور التعديل في عام 1993 وسقوط النظام في 9 / 4 / 2003 .

الا انه وبالرغم من اننا كنا قد اعتبرنا ما ورد في الفقرة ( ح ) من المادة ( 57 ) هو اشارة لحالة الضرورة ( رغم غموضها ) وذلك لما تضمنه من تخويل رئيس الجمهورية حق اصدار قرارات لها قوة القانون الا انه لدى رجوعنا الى تطبيقات المادة المذكورة فأننا لم نجد فيها ما يشير الى ان الدافع كان من ورائها وجود ظرف استثنائي او حالة ضرورة والتي تتمثل في اشتراط وجود الخطر الجسيم والحال ونورد فيما يلي بعض القرارات الصادرة استناداً للمادة المذكورة :

1 ــ قرار 69 في 27 / 8 / 1995 :

( يعفى النزلاء والمودعون المصريون المحكومون عن الجرائم الاقتصادية ووقف الاجراءات القانونية ضدهم).

2 ــ قرار رقم 98 في 16 / 12 / 1998 والخاص بتشكيل اربع مناطق في العراق استثناءاً وحتى أشعار اخر وهي كل من المنطقة الشمالية والمنطقة الجنوبية والمنطقة الوسطى ومنطقة الفرات الاوسط وتضم كل من هذه المناطق عدة محافظات وجاء في الفقرة الثانية من القرار ما يلي :

تكون مهام قيادة المنطقة الدفاع ضمن حدود المنطقة الجغرافية وقيادة واستخدام كافة موارد الدولة المادية والبشرية والتنظيم الحزبي ومجاهدي الشعب والقطعات العسكرية لمواجهة أي عدوان خارجي يستهدف سيادة العراق واستقلاله وامنه والمحافظة على الامن الداخلي ، كما تضمن القرار المذكور تعيين قائد عسكري لكل منطقة .

3 ــ قرار رقم 11 في 16 / 3 / 1999 والمتضمن جعل محافظة المثنى بحدودها الادارية ضمن المنطقة الجنوبية بدلاً من منطقة الفرات الاوسط .

4 ــ القرار 45 في 25 / 6 / 2000 المتضمن ( يوقف العمل بالقرار 98 في 16 / 12 / 1998 والخاص بتشكيل قيادات المناطق العسكرية حتى اشعار اخر ) .

5 ــ قرار 64 في 25 / 7 / 2001 المتضمن ( تعيين عبد التواب الملا حويش بمنصب نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير التصنيع العسكري ) .

وبعد استعراضنا للقرارات المذكورة يمكننا القول بأن رئيس الجمهورية كان بإمكانه اللجوء الى صلاحياته الاعتيادية التي ضمنها له دستور عام 1970 لمعالجة المواضيع الواردة في تلك القرارات سيما وأننا لم نرَ في تلك القرارات وجود خطر جسيم وحال .

تطبيقات نظرية الضرورة في الدستور الأردني – المادة / 94 ( القوانين المؤقتة ) :

تضمن الدستور الأردني سنة 1952 والمطبق حالياً نصاً يخول فيه السلطة التنفيذية ممثلة بمجلس الوزراء سلطة إصدار لوائح الضرورة والتي اسماها ” بالقوانين المؤقتة ” ومن الجدير بالذكر ان هذا النص الذي جاء به الدستور الأردني لم يأتِ من فراغ ولم يبتدعه المشرع بل استقاه من القانون المقارن . اما النص الأردني والذي جاء في المادة ( 94 ) من الدستور فهو ( عندما يكون مجلس الامة غير منعقد او منحلاً يحق لمجلس الوزراء بموافقة الملك ، ان يضع قوانين مؤقتة في الأمور التي تستوجب اتخاذ تدابير ضرورية لا تحتمل التأخير او تستدعي صرف نفقات مستعجلة غير قابلة للتأجيل ويكون لهذه القوانين المؤقتة التي يجب الا تخالف أحكام الدستور قوة القانون على ان تعرض على المجلس في اول اجتماع يعقده ، وللمجلس ان يقرر هذه القوانين او يعدلها أما إذا رفضها فيجب على مجلس الوزراء بموافقة الملك ان يعلن بطلانها فوراً ، ومن تاريخ ذلك الإعلان يزول مفعولها على ان لا يؤثر ذلك في العقود والحقوق المكتسبة . ويسري مفعول القوانين المؤقتة بالصورة التي يسري فيها مفعول القوانين بمقتضى حكم الفقرة الثانية من المادة ( 93 ) من الدستور . وفي ضوء ما ورد في نص المادة 94 نلاحظ ان المشرع الدستوري الأردني قد وضع شروطاً وضوابطً أمام السلطة التنفيذية تحتم عليها الالتزام بها ومراعاتها عند اللجوء الى إصدار القوانين المؤقتة سوف نتولى دراستها تباعاً لذلك سنتناول نص المادة المذكورة في ثلاثة مطالب(1) :

المطلب الأول :الشروط الواجب توافرها لإصدار القوانين المؤقتة ( الأسباب والمبررات ) .

المطلب الثاني : الضوابط والقيود الواجب مراعاتها من قبل السلطة التنفيذية عند اصدار القوانين المؤقتة .

المطلب الثالث : ماهية القوانين المؤقتة ( طبيعتها وقوتها القانونية ) .

وسوف نتناول هذه المطالب الثلاثة وفق الترتيب الآتي :

المطلب الأول : الشروط الواجب توافرها لإصدار القوانين المؤقتة ( شروط اللجوء الى نص المادة 94 )

هنالك امران او شرطان لابد من توافرهما قبل اللجوء الى نص المادة ( 94 ) من قبل السلطة التنفيذية وهما :

اولاً : شرط الزمن : أي الفترة التي يكون فيها مجلس الأمة غير منعقد او منحلاً .

ثانياً : شرط الضرورة : أي حدوث ظروف توجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير(2) .

وسنعرض لكلا الشرطين فيما يأتي :

اولاً : الشرط الاول ــ شرط الزمن :

المقصود في هذا الشرط ان تصدر القوانين المؤقتة في فترة زمنية معينة وقد حددت المادة ( 94 ) هذه الفترة بقولها ( عندما يكون مجلس الأمة غير منعقد او منحلاً ) أي يجب توافر حالتين :

1ــ الحالة الاولى : عدم انعقاد المجلس :

ويقصد بها العطلة السنوية التي تفصل ما بين ادوار انعقاد البرلمان العادية وغير العادية وفيما يلي نبين ما هو المقصود بأدوار الانعقاد العادية وغير العادية والاستثنائية ..

أ ــ الدورة العادية : وهي الفترة الزمنية التي ينعقد خلالها مجلس الامة ليمارس اختصاصه المنوط به في الوقت المحدد في الدستور وهي دورة واحدة كل سنة تبدأ في اليوم الاول من تشرين الاول وتستمر لمدة اربعة اشهر كما يجوز للملك ان يمدد الدورة العادية فترة اخرى لا تزيد على ثلاثة اشهر(3) . ويكون انعقاد مجلس الأمة في دورته العادية بناءً على دعوة يوجهها الملك وفي حالة عدم توجيه الدعوة لمجلس الأمة للانعقاد في التاريخ المحدد فأنه يجتمع من تلقاء نفسه

ب ــ الدورة غير العادية : وهي الدورة التي يعقدها مجلس النواب المنتخب حديثاً خلال أربعة اشهر من تاريخ حل المجلس السابق وتعتبر هذه الدورة كالدورة العادية من حيث خضوعها للتمديد والتأجيل وفي كل الأحوال يجب ان لا تتجاوز نهاية هذه الدورة غير العادية يوم 30 ايلول حتى يتمكن مجلس الامة من عقد دورته العادية الاولى في اليوم التالي أي في اليوم الاول من شهر تشرين الاول .

ج ــ الدورة الاستثنائية : وهي الفترة التي ينعقد فيها مجلس الامة بناءً على دعوة الملك ( لضرورة ما ) من اجل أقرار امور معينة تذكر في الإرادة الملكية وتنتهي الدورة الاستثنائية بإرادة ملكية ايضاً وهنا يجدر الاشارة بأن الدورة الاستثنائية يمكن ان تعقد بناء على طلب من مجلس الأمة لبحث امور محددة يرى لزوم بحثها بشرط ان يوقع الاغلبية المطلقة على الطلب وبعد بيان المقصود من دور الانعقاد يمكن القول بأنه اذا ما اقدمت السلطة التنفيذية على اصدار قوانين مؤقتة في هذه الفترات الثلاث ــ الدورة العادية ــ وغير العادية ــ والاستثنائية ( أي التي يكون فيها المجلس منعقداً ) فأنها تكون قد ارتكبت مخالفة دستورية وعليه تكون هذه القوانين المؤقتة غير دستورية لتعارضها مع صريح النص الذي يشترط لاصدارها عدم انعقاد مجلس الامة(4) .

2ــ حالة حل المجلس :

ان الدساتير الاردنية السابقة لدستور 1952 وهي القانون الأساسي لشرق الاردن الصادر 1928 والدستور الاردني 1946 لم تنص على حالة حل مجلس الامة وقد سار الدستور الاردني الحالي لسنة 1952 على نفس المنهاج عند صدوره وقد تشابهت الدساتير الاردنية المذكورة مع الدستور المصري الصادر 1923 وذلك بعدم ذكرها جميعاً لحالة ( الحل ) حيث اقتصرت على ذكر عبارة ( عدم انعقاد مجلس الامة ) وقد ثار جدلٌ فقهي كبير حول حق السلطة التنفيذية في إصدار المراسيم بقانون وانقسم الفقه الى رأيين .. رأي ذهب الى انكار حق السلطة التنفيذية في اصدار لوائح تشريعية في فترة الحل(5) .. بينما ذهب رأي اخر الى القول بجواز إصدار اللوائح التشريعية في فترة الحل . لكن دستور سنة 1930 في مصر حسم الموضوع بإدخاله حالة الحل والنص عليها في المادة ( 41 ) منه بقوله ( اذا حدث فيما بين ادوار الانعقاد او فترة حل مجلس النواب ) (6) . كذلك الحال في الأردن حيث جرى عام 1958 تعديل على نص المادة 94 من دستور عام 1952 الحالي وذلك بالنص على فترة الحل ايضاً واصبح نص المادة ( عندما يكون مجلس الامة غير منعقدٍ او منحلاً .. ) أي اصبح من الجائز اصدار القوانين المؤقتة في حالتي عدم الانعقاد والحل .

3ــ حالتا الأرجاء والتأجيل :

هذا ولا بد من الإشارة اخيراً الى جدل فقهي اخر اثير حول ما يسمى بحالتي الأرجاء والتأجيل لمجلس الامة . وحول جواز إصدار القوانين المؤقتة خلالهما . والمقصود بفترة الارجاء هي تأجيل انعقاد مجلس الامة لمدة معينة لا تزيد على شهرين . اما التأجيل فيقصد به تأخير جلسات مجلس الامة لمدة معينة شريطة ان لا تزيد فترتا التأجيل والأرجاء على شهرين خلال الدورة العادية الواحدة(7) . اما عن الجدل الفقهي المذكور فقد انقسم على اثره الفقه الى رأيين الاول يرى عدم جواز اصدار القوانين المؤقتة خلال فترتي الأرجاء والتأجيل ويكاد يجمع الفقه الأردني على ذلك ويرون ان المادة ( 94 ) من الدستور الاردني يخول السلطة التنفيذية اختصاصاً استثنائياً على خلاف الاصل بذلك يجب تفسيره تفسيراً ضيقاً يقتصر مباشرة على الفترة الواقعة بين ادوار الانعقاد وفترة حل مجلس الامة فقط(8) . ويرى رأي اخر على خلاف الاجماع وهو رأي ضعيف حيث ذهب الى جواز منح الحكومة الحق بأصدار المراسيم بقانون في فترة التأجيل ويستندون بذلك الى نظرية الضرورة ذاتها (9). ومن الجدير بالذكر هنا ايضا ان محكمة العدل العليا الأردنية ذهبت الى رأي مخالف للأكثرية حيث قضت بجواز إصدار قوانين مؤقتة في هذه الحالة حيث ساوت بين فترتي عدم الانعقاد والحل وفترة التأجيل وكان هذا رأي الغالبية من قضاة المحكمة حيث خالفهم الأقلية من القضاة وذهب الى ان نص المادة / 94 نص استثنائي ولا يجوز التوسع في تفسيره(10) .

ثانياً الشرط الثاني ( شرط الضرورة ) :

ويشمل هذا الشرط أمرين ايضاً ، نصت عليهما المادة 94 من الدستور ، الامر الأول ( حدوث ما يستوجب لاتخاذ تدابير ضرورية ) . والأمر الثاني ( صرف نفقات مستعجلة غير قابلة للتأجيل ) وهذان الامران يعنيان بأنه لا بد من قيام طارئ يستوجب اتخاذ تدابير خاصة وفي هذا الصدد يرى بعض الفقهاء بأن الحالة الاولى التي ذكرها النص وهي ( حدوث ما يستوجب اتخاذ تدابير ضرورية ) يمكن ان يستوعب الحالة الثانية وهي عبارة ( الأمور التي تستدعي صرف نفقات مستعجلة غير قابلة للتأجيل ) ، أي ان العبارة الأولى تشمل العبارة الثانية ضمناً وعليه فأن ذكرها يأتي من باب التزيد وهناك من يرى بأن المشرع اراد بها المبالغة في توضيح الامور الضرورية (11). هذا ومن الملاحظ هنا بأن النص السابق للمادة ( 94 ) من الدستور الأردني قبل تعديله في عام 1958 كان اكثر تحديداً لمعنى الضرورة او حالة الطوارئ كما اسماها النص القديم حيث جاء فيه ( عندما يكون مجلس الامة غير منعقد يحق لمجلس الوزراء بموافقة الملك ان يضع قوانين مؤقتة لمراجعة الطوارئ الآتي بيانها :

1ــ الكوارث العامة .

2ــ حالة الحرب والطوارئ .

3ــ الحاجة الى نفقات مستعجلة لا تحتمل التأخير .

يلاحظ من النص السابق بأنه بعد ان حدد وأوضح المقصود بحالة الضرورة بقوله لمراجعة الطوارئ الآتي بيانها ، ثم قام بذكرها على وجه الحصر وبذلك لم يجعل الأمر متروكاً للسلطة التنفيذية كما تشاء بل ان ما تملكه في هذا سلطة استثنائية محدد بحصول ظروف طارئة معينة وضرورات ملحة قائمة . ويلاحظ هنا أيضا بأن المشرع الدستوري الأردني لم يحدد طبيعة ونوعية الظروف الاستثنائية الطارئة . لذلك فان المعول عليه في تحديها يكون بالرجوع إلى القواعد العامة لنظرية الضرورة التي قررها الفقه والقضاء .

المطلب الثاني : القيود التي ترد على تطبيق المادة 94 من الدستور الأردني

لقد أوردت المادة 94 قيدين يجب على السلطة التنفيذية مراعاتهما عند ممارستها للسلطة الاستثنائية وذلك بعد ان تكون قد تحققت من توافر الشروط التي ذكرناها في الفرع الثاني ، اما عن هذين القيدين فقد أشارت إليهما المادة المذكورة وهما :

1ــ عدم مخالفة الدستور .

2ــ وجوب عرض القوانين المؤقتة على البرلمان .

وسنتناول هذين القيدين فيما يلي :

1ــ عدم مخالفة الدستور :

تنص المادة 94 في فقرتها الاولى على ما يلي :

( يكون لهذه القوانين المؤقتة التي يجب الا تخالف احكام الدستور قوة القانون )

(( يستفاد من النص بأن قيداً أورده يفيد بوجوب عدم مخالفة القوانين المؤقتة للدستور وذلك لان سمو الدستور او علو الدستور مبدأ مسلم به في الدولة القانونية بغض النظر عن نظام الحكم جمهورياً كان ام ملكياً ، وحتى يمكن ان يقال بوجود نظام دستوري ديمقراطي لا بد من ان تكون هنالك قواعد عليا يجب على السلطة الحاكمة احترامها ومراعاتها والالتزام بالخضوع لها في كافة تصرفاتها ويقتضي مبدأ سمو الدستور الذي يعتبر تطبيقاً لمبدأ المشروعية عدم جواز مخالفة القوانين العادية لاحكام الدستور ومن باب اولى عدم جواز مخالفة القوانين المؤقتة هذه لاحكام القواعد الدستورية فأن خالفتها او تعارضت معها فأنها تكون باطلة وغير مشروعة والبطلان في هذه الحالة بطلان مطلق لانه ترتب على ذلك مخالفة القانون المؤقت لاحكام الدستور )) (12) .

2ــ وجوب عرض القوانين المؤقتة على البرلمان :

هذا القيد هو الاخر نصت عليه المادة / 94 من الدستور الاردني حيث جاء فيها ( على ان تعرض على المجلس في اول اجتماع يعقده وللمجلس ان يقر هذه القوانين او يعدلها اما اذا رفضها فيجب على مجلس الوزراء بموافقة الملك ان يعلن بطلانها فوراً ومن تاريخ ذلك الإعلان يزول مفعولها على ان لا يؤثر ذلك في العقود والحقوق المكتسبة ) وسوف نتناول هذا القيد ببيان المقصود بالعرض أولا ثم الآثار المترتبة على عملية العرض .

أ ــ ما هو المقصود بالعرض ( مدلول العرض ) . بما ان القوانين المؤقتة تصدر من السلطة التنفيذية نيابة عن السلطة التشريعية وبصورة استثنائية لذا اوجب المشرع عرض هذه التشريعات على البرلمان ليتمكن من ابداء رأيه فيها سواء بالموافقة او التعديل او الرفض .

اذن فما هو المقصود بالعرض على البرلمان ؟

يرى الفقه ان المقصود بهذا الاصطلاح ( هو تقديم اللوائح التشريعية وإيداعها البرلمان ) (13) هذا ويترتب على ايداع القوانين المؤقتة لدى مجلس النواب احتفاظها بقوتها القانونية وهنا يثار تساؤل عن صحة عرض القوانين المؤقتة على مجلس الامة اذا اقتصر العرض على تقديم قائمة من الحكومة بتلك القوانين دون الإيداع الفعلي لتلك القوانين الجواب عن ذلك هو عدم صحة ذلك ونستدل هنا على سابقة حصلت في مصر وذلك حينما أعيد العمل في دستور 1923 وعندما الغي دستور 1930 بموجب الامر الملكي المرقم 67 لسنة 1930 الذي اشترط عرض المراسيم بقوانين على البرلمان الجديد . وفي اول اجتماع لهذا البرلمان اعلن رئيس مجلس النواب بأن الحكومة قد أرسلت خطاباً يتضمن كشف بالقوانين التي صدرت في الفترة التي سبقت انعقاد البرلمان وقد أثيرت مناقشات كثيرة حول صحة ارسال هذا الكشف دون ايداع القوانين نفسها وبعد ذلك قرر المجلس احالة الموضوع على لجنة الشؤون الدستورية والتي بدورها قررت ان السوابق الدستورية قد فسرت العرض بأنه ( الإيداع الفعلي ) وان الحكومات المختلفة فيما عدا حكومة سنة 1930 قد جرت على إيداع المراسيم بقوانين وعليه فانه لا يمكن تقديم قائمة بالمراسيم بقوانين ولا بد من ايداع المراسيم بقوانين نفسها وقد وافق مجلس النواب والشيوخ على راي اللجنة وعلى هذا الأساس فانه لا يمكن مجرد تقديم قائمة بالقوانين المؤقتة وايداعها لدى مجلس الامة ففي هذه الحالة يكون العرض باطلاً لان الإجراءات الشكلية في المسائل الدستورية هي إجراءات جوهرية ، هذا وقد جرى العمل في الأردن على ان يقوم رئيس الوزراء بتوجيه خطابٍ الى كل من رئيس مجلس الأعيان ورئيس مجلس النواب يتضمن قائمة بالقوانين المؤقتة التي صدرت في فترة غياب مجلس الامة مرفقة بعدد كاف من النسخ التي تتضمن تفاصيل نصوص هذه القوانين المؤقتة(14) .

ب ــ الآثار المترتبة على عملية العرض : بعد عرض القوانين المؤقتة على مجلس الأمة فأنه يكون أمام احد ثلاثة خيارات وهي :

1ــ الموافقة على القانون المؤقت .

2ــ تعديل القانون المؤقت .

3ــ رفض القانون المؤقت .

وقبل ان نتناول هذه الخيارات لا بد من الإشارة الى ان المادة ( 94 ) من الدستور الأردني أوجبت عرض القوانين المؤقتة على مجلس الامة ” في اول اجتماع يعقده ” أي ان السلطة التنفيذية تلتزم بعرض هذه القوانين على مجلس الامة في حالة صدورها اثناء عطلته السنوية في اول اجتماع يعقده في دورة انعقاده الذي يلي العطلة مباشرة اما في حالة الحل فأنها تعرض على المجلس الجديد في اول اجتماع له . اما فيما يتعلق بالخيارات التي أشرنا اليها اعلاه فنتناولها كالاتي :

1ــ الموافقة على القانون المؤقت : أي إقرار مجلس الامة للقانون المؤقت :

عند عرض القانون المؤقت على مجلس الامة فأنه غالباً ما يقوم بإحالته الى اللجنة القانونية والتي تقوم بدورها بدراسته وتقديم التوصيات بشأنه ومن ثم يقوم المجلس بمناقشة التوصيات وإصدار قراره في هذا القانون المؤقت بالتصويت عليه وان موافقة مجلس الامة يمكن ان تتم بأحدى طريقتين :

الطريقة الاولى : ان يقوم مجلس الامة بسن قانون عادي يتضمن كل ما ورد في القانون المؤقت من أحكام كما هي او تعديلها اذا وجد هنالك ضرورة للتعديل وفي هذه الحالة فأن صدور القانون الجديد يكون قد الغي ضمناً القانون المؤقت وفي هذه الطريقة دليل على اهتمام مجلس الامة بوظيفته التشريعية(15) .

الطريقة الثانية : الموافقة على القانون المؤقت واقراره كما هو وتدل هذه الطريقة على اهتمام المجلس بوظيفته الرقابية .

وإذا وافق المجلس على القانون المؤقت صار قانوناً ( عادياً ) ومن ثم يسري عليه ما يسري على القوانين العادية من أحكام ، فيصبح غير قابل للطعن فيه بالإلغاء امام محكمة العدل العليا وهي المرجع القضائي الإداري الوحيد المختص بذلك في الأردن .

2ــ تعديل القانون المؤقت :

ان النص الأصلي للمادة ( 94 ) من الدستور الحالي لسنة 1952 لم يكن يتضمن النص على حق مجلس الأمة في تعديل القوانين المؤقتة وقد أعطي هذا الحق عند تعديل المادة المذكورة عام 1958 حيث اصبح النص ( وللمجلس ان يقر هذه القوانين او يعدلها ) .

ولا شك ان المشرع الاردني قد حالفه التوفيق عندما نص على إعطاء مجلس الامة الحق في تعديل القوانين المؤقتة ، فما دام ان هذا المجلس يملك رفض القانون المؤقت فمن باب اولى ان يكون له صلاحية اجراء التعديلات التي يراها مناسبة بشأنه علماً بأن النص القديم والذي لم يتضمن هذا الحق قد اثار خلافات عديدة بين أعضاء مجلس الامة من جانب والحكومة من جانب اخر حول حق المجلس في تعديل القوانين المؤقتة وقد ورد في الأسباب الموجبة لتعديل المادة ( 94 ) عام 1958 ( عدلت هذه المادة بصيغتها الحاضرة .. وقد تضمنت الحق لمجلس الامة بتعديل القوانين المؤقتة بالاضافة الى حقه في رفضها وذلك لازالة هذا الاختلاف في وجهات النظر التي كانت مثار جدل في مناسبات مختلفة بالنسبة للمادة الاصلية ) وهذا وان الدساتير الاردنية السابقة كانت تشير الى هذه الصلاحية رغم الاختلاف في صياغة النصوص الدستورية(16) .

3 ــ رفض القانون المؤقت :

نصت المادة ( 94 ) على حق مجلس الامة في رفض القوانين المؤقتة بقولها ( اما اذا رفضها فيجب على مجلس الوزراء بموافقة الملك ان يعلن بطلانها فوراً ومن تاريخ ذلك الإعلان يزول مفعولها ، على ان لا يؤثر ذلك في العقود والحقوق المكتسبة ) .

يتضح من هذا النص ان لمجلس الامة الحق في رفض القوانين المؤقتة وفي هذه الحالة فأنه يجب على مجلس الوزراء بموافقة الملك إعلان بطلانها ويترتب على بطلان القانون المؤقت زوال مفعوله من تاريخ ذلك الإعلان على ان لا يؤثر ذلك البطلان في العقود والحقوق المكتسبة وقد نصت الدساتير الاردنية السابقة ايضاً على هذا الحكم فقررت البطلان مع فارق في الاجراءات حيث تضمنت الدساتير القديمة اجراءات معقدة ابتعد عنها الدستور الحالي . اذ يعتبر رفض مجلس الامة للقانون المؤقت قراراً نهائياً ويجب على مجلس الوزراء بموافقة الملك اعلان بطلانه فوراً والسؤال الذي يتبادر الى الذهن هنا هو ما الحكم اذا صدر الرفض من مجلس الامة وان مجلس الوزراء اتخذ موقفاً سلبياً منه ولم يعلن بطلان القانون المؤقت ؟ . الجواب عن ذلك ان مفعول القانون المؤقت في هذه الحالة يزول من تاريخ صدور قرار مجلس الأمة برفضه لان مجلس الوزراء يكون قد ارتكب مخالفة دستورية عندما لاذ بالصمت ولم يعلن بطلان القانون المؤقت .

المطلب الثالث : ماهية القوانين المؤقتة

القوانين المؤقتة هي تشريعات استثنائية تصدرها السلطة التنفيذية بين ادوار انعقاد البرلمان او في فترة حله نظراً لوجود حالة ضرورة بهدف اتخاذ تدابير سريعة من ظروف لا تحتمل التأخير على ان تعرض على مجلس الامة في اول اجتماع يعقده اذاً فالأساس الذي تستدل اليه مثل هذه التشريعات الاستثنائية يكمن في نظرية الضرورة اصلاً (17).اذ ان السلطة التشريعية ( البرلمان ) وعملاً بمبدأ الفصل بين السلطات هو صاحب الاختصاص الاصلي في التشريع الا ان وجود حالة الضرورة من جهة وغياب البرلمان من جهة اخرى هي التي كانت وراء اعطاء السلطة التنفيذية حق اصدار القوانين المؤقتة . وقد أقرت الدساتير الأردنية الثلاثة بحق السلطات التنفيذية في إصدار مثل هذا النوع من التشريعات لمواجهة الضرورات او الظروف الطارئة . كما ان العديد من الدساتير العربية أخذت بهذه التشريعات الاستثنائية وان اختلفت في تسميتها ففي الاردن سميت ( بالقوانين المؤقتة ) المادة 94 من الدستور الأردني وفي سوريا سميت ( بالتشريعات ) المادة 111 من الدستور السوري وفي اليمن سميت ( بالقوانين ) المادة 73 من دستور اليمن ( الديمقراطي سابقاً ) وفي الكويت وتونس والإمارات العربية ( مراسيم بقوانين ) المادة 71 من الدستور الكويتي والمادة 31 من الدستور التونسي والمادة 113 من دستور الإمارات العربية المتحدة اما في مصر فسميت ( قرارات بقوانين ) المادة 147 من الدستور المصري وفي السودان سميت ( بالأوامر ) المادة 106 من دستور السودان وبعد هذا العرض لا بد لنا من الوقوف على طبيعة هذه التشريعات الاستنثائية والتمييز بين هذه الطبيعة والقوة القانونية لها وهذا ما سنتناوله في الفرعين الآتيين :

الفرع الأول : الطبيعة القانونية للقوانين المؤقتة

نعرض أولا لموقف الفقه ثم موقف القضاء .

أولا ــ موقف الفقه :

لقد استقر الفقه في مصر على ان اللوائح والأنظمة والمراسيم التي تصدر من السلطة التنفيذية في أوقات الضرورة تعتبر قرارات إدارية وذلك حسب المعيار الشكلي .أي إسنادها الى الجهة التي أصدرتها وهي الإدارة وتبقى تحمل نفس الصفة الى ان تتم المصادقة عليها من البرلمان وبالتالي يجوز المطالبة بإلغائها امام القضاء الإداري(18) . ويستند الفقه في تبريره لذلك بقوله(19) ( وتستفاد الصفة الإدارية لهذه اللوائح ( لوائح الضرورة ) من صياغة عبارة ” تكون لها قوة القانون ” التي تضمنها نص المادة 41 من الدستور المصري 1923 ) ، والتي تدل على ان هذه اللوائح وان كان قوة القانون الا انها ليست بقانون ) ويذهب جانب من الفقه وهو الرأي المستبعد الى بقاء الصفة الإدارية للوائح الضرورة حتى بعد تصديق البرلمان لها ، ويرى اصحاب هذا الرأي بان تصديق البرلمان لا يكسبها صفة القانون لان هذا التصديق لا يتعدى كونه عملاً رقابياً يقوم به البرلمان ممارسة لوظيفته السياسية بالرقابة على اعمال السلطة التنفيذية وبالتالي لا يكون لها سوى مدى سياسي دون ان يكون له أي اثر قانوني على طبيعة اللائحة(20) . الا ان غالبية الفقه يرى بأن هذه التشريعات تأخذ صفة القانون وطبيعته بعد اقرار البرلمان لها حيث يمتنع الطعن فيها بالالغاء اعتباراً من هذا التاريخ .

ثانياً ــ موقف القضاء الاداري :

يذهب القضاء الإداري في مصر الى اعتبار لوائح الضرورة قرارات ادارية فهو يخضعها لرقابته حتى مصادقة البرلمان عليها ، ويلخص الدكتور الطماوي هذا الموقف بقوله(21) ( يجري القضاء في مصر وفرنسا على انه اذا كانت لوائح الضرورة في قوة القانون فأنها ليست قانوناً وانما هي قرارات إدارية حتى مصادقة مجلس الأمة عليها وبالتالي يجوز إلغاؤها امام مجلس الدولة اذا كانت غير مشروعة ومن ذلك حكم المجلس الصادر في 22 كانون الاول سنة 1954 والذي جاء فيه ( ولما كان لا نزاع في جواز المطالبة بإلغاء المراسيم بقوانين صادرة من السلطة التنفيذية فيما بين دوري الانعقاد او في فترة الحل باعتبارها قرارات ادارية اخذاً بالمعيار الشكلي في التفرقة ما بين القانون والقرارات الادارية .. ) . كما يشير الدكتور محمود حافظ الى عدد من أحكام مجلس الدولة الفرنسي الصادرة في هذا الشأن(22) والتي تجيز الطعن بإلغاء هذه اللوائح والمراسيم باعتبارها قرارات إدارية طيلة الفترة التي تسبق موافقة البرلمان عليها وأقراره لها .

الفرع الثاني : القوة القانونية للقوانين المؤقتة

لقد جاء في المادة 94 من الدستور ( ويكون لهذه القوانين المؤقتة .. قوة القانون ) في البدء لا بد من القول بأن السلطة التنفيذية اذا ما أصدرت قانوناً مؤقتاً مخالفاً للدستور وجب على مجلس الامة رفضه كما يجب على المحاكم باختلاف درجاتها ان تمتنع عن تطبيقه حتى ولو اقره مجلس الامة . هذا فيما يتعلق بعلاقة القانون المؤقت بالدستور اما فيما يتعلق بعلاقة القانون المؤقت بالقانون العادي ففي نص المادة ( 94 ) الذي اشرنا اليه جواب على ذلك حيث كما لاحظنا بأن النص الدستوري رفع القوانين المؤقتة الى مستوى القوانين العادية من حيث القوة ومن حيث الاجراءات التي تتبع في اصدارها وعلى هذا الاساس فان مجلس الوزراء بعد موافقة الملك يستطيع ان يعدل او يلغي القوانين العادية بقوانين مؤقتة وهنا يمكن ان يثار السؤال التالي : هل يمكن ان يتناول القانون المؤقت المواضيع التي اوجب الدستور تنظيمها بقانون مثل مسائل الجنسية والحريات العامة التي ينص عليها الدستور في الفصل الثاني وتحت عنوان ( حقوق الأردنيين وواجباتهم ) وكذلك في الشؤون المالية كفرض الضرائب ؟ انقسم الفقه في الاجابة عن هذا التساؤل الى فريقين معارض ومؤيد وسوف نتناول آراء الفريقين ..

الفريق الاول : ( المُعارض ) .. يرى اصحاب هذا الرأي بأنه لا يجوز للسلطة التنفيذية اصدار لوائح الضرورة ( القوانين المؤقتة ) في مجال اوجب الدستور تنظيمه بقانون عادي كمسائل الانتخابات والحريات العامة كحريات التنقل والتملك والتعبير والعبادة وتكوين الجمعيات وقرض الضرائب ولا يجوز للقانون المؤقت ان يطرق هذه المسائل سواء بالتعديل او بالإلغاء لان البرلمان هو صاحب الاختصاص في تنظيم هذه المسائل بموجب ما يصدره من قوانين عادية خاصة وان هذه الموضوعات يحتاج بحثها الى روية ودقة وتمهل ، اما السلطة التنفيذية فأنها حين تمارس صلاحيتها بوضع لوائح الضرورة فأنها تقوم بذلك بوصفها هيئة إدارية لا هيئة سياسية ولمعالجة امور مستعجلة تحتاج الى تدابير ضرورية لا تحتمل التأخير بسبب قيام حالة طارئة او ظرف استثنائي وما دام ان بعض الاختصاصات التشريعية قد منحت للبرلمان بطبيعتها السياسية فلا مجال للسلطة التنفيذية بأن نتناولها بواسطة لوائح الضرورة(23) .

الفريق الثاني : ( المؤيد ) (24) .. ويرى اصحاب هذا الرأي بأن لوائح الضرورة يجوز لها ان تتناول كافة الموضوعات والمسائل بما فيها تلك التي نص الدستور على تنظيمها بقانون عادي ما دام للقانون المؤقت قوة القانون العادي علاوة على ان نص المادة ( 94 ) من الدستور الاردني جعل اختصاص السلطة التنفيذية مطلقاً في كافة الامور التي تستوجب اتخاذ تدابير ضرورية لا تحتمل التأخير او تستدعي صرف نفقات مستعجلة غير قابلة للتأجيل . وقد جرى العمل في الاردن وفق هذه الاتجاه حيث اصدرت السلطة التنفيذية مجموعة كبيرة من القوانين عالجت فيها مسائل وموضوعات اوجب الدستور تنظيمها بقوانين عادية ومن تلك القوانين المؤقتة ( القانون المؤقت لانتخابات مجلس النواب رقم 24 لسنة 1960 ) وقد عدل مرات عديدة بقوانين مؤقتة ايضاً ، وكذلك القانون المؤقت رقم 73 لسنة 71 ( قانون معدل لقانون ضريبة الدخل ) . وفي تقديرنا بأن هذا الرأي هو الراجح فقهاً وقضاءً حيث ان المادة 94 من الدستور ساوت بين القوانين المؤقتة والقوانين العادية من حيث القوة وهو ما ذهبت اليه ايضا محكمة العدل العليا الاردنية في حكمها الصادر سنة 1973 اذ تقول ( ان الفقه والقضاء قد اتفق على ان القانون المؤقت يستطيع ان يتناول بالتشريع ما يتناوله القانون العادي من مواضيع كما يجوز ان يجعل لها اثراً رجعياً طبقاً لنص المادة ( 93 ) من الدستور(25) . ولكن من الجدير بالاشارة الى ان السلطة التنفيذية وان كان لها ان تنظم بموجب هذه القوانين المؤقتة ما ينظمه القانون العادي ( كفرض عقوبة او ضريبة ) الا انها لا تملك ان تنظم المسائل والمواضيع التي لا تتناولها التشريعات العادية ذاتها كتقرير رجعية جريمة من الجرائم وهي نتيجة طبيعية لان الدستور يجعل لوائح الضرورة في قوة القوانين العادية لا اقوى منها(26) .

___________________

1- د . هاني علي إبراهيم الطهراوي – نظرية الضرورة في القانون الدستوري والاداري – رسالة دكتوراه – جامعة القاهرة سنة 1992 ص349 .

د . نعمان الخطيب – القوانين المؤقتة في النظام الدستوري الأردني – بحث مطبوع على الآلة الكاتبة دائرة العلوم القانونية – جامعة مؤتة – 1987 – ص19 .

2- د . هاني الطهراوي – نظرية الضرورة في القانون الدستوري والإداري – مرجع سابق – ص350 .

3- المادة ( 78 ) من الدستور الأردني – الفقرة الاولى والثالثة والثامنة .

4- د . هاني الطهراوي – نظرية الضرورة في القانونين الدستوري والإداري – مرجع سابق –ص ص358 – 359 .

5- د . السيد صبري – اللوائح التشريعية – مرجع سابق – ص38 – 39 .

6- د . إبراهيم شيحا – القانون الدستوري –الدار الجامعية للنشر والطباعة – القاهرة – 1983 ص424

7- المادة ( 81 ) من الدستور الأردني الحالي .

8- د . محمود حافظ – القضاء الأردني في الأردن مرجع سابق – ص132 .

د . عادل الجباري – القانون الدستوري – مصدر سابق – ص666 .

9- د . إبراهيم شيحا – القانون الدستوري – مرجع سابق – ص424 .

10- حكم المحكمة العليا الصادر بتاريخ 23 / 1 / 1973 في القضية 31 / 72 ، والذي جاء فيه (( حيث ان نص المادة 94 من الدستور قد اشترطت لاصدار قوانين مؤقتة من قبل السلطة التنفيذية ان يكون مجلس الامة غير منعقد ( وحيث ان مجلس الامة لا يكون منعقداً في فترة التأجيل ) المنصوص عليها في المادة 81 من الدستور فأن من حق مجلس الوزراء بموافقة الملك وضع قوانين مؤقتة خلال هذه الفترة )) . د . هاني الطهراوي – نظرية الضرورة في القانونين الدستوري والأردني – مرجع سابق ص373 .

11- هاني علي الطهراوي – نفس المصدر – ص374 .

12- د . هاني علي الطهراوي – نظرية الضرورة في القانونين الدستوري والاداري – مرجع سابق – ص375

13- د . السيد صبري – اللوائح التشريعية – مرجع سابق – ص83 .

د . سامي جمال الدين – لوائح الضرورة – مرجع سابق – ص89 – 90

14- د . هاني علي الطهراوي – نظرية الضرورة في القانونين الدستوري والإداري – مرجع سابق – ص ص399 – 400 .

15- د . هاني علي الطهراوي – نفس المصدر – ص440 .

د . حناندا – القضاء الاداري في الاردن – عمان سنة 1973 ص22 .

16- د . هاني علي الطهراوي – نظرية الضرورة في القانونين الدستوري والاداري – مرجع سابق ص405 – 406 .

17- د . السيد صبري – اللوائح التشريعية – مرجع سابق – ص3 .

18- د . هاني علي الطهراوي – نظرية الضرورة في القانونين الدستوري والإداري – مرجع سابق – ص430

د . سليمان الطماوي – النظرية العامة للقرارات الإدارية – دار الفكر العربي – ط 4 – 1976ص519

19- د . محمد زهير جرادة – الأمر الإداري ورقابة المحاكم القضائية له في مصر – رسالة دكتوراه – القاهرة 1935 – ص158 .

20- د . سامي جمال الدين – لوائح الضرورة – مرجع سابق – ص 97 – 98 .

21- د . سليمان الطماوي – النظرية العامة للقرارات الإدارية – مرجع سابق – ص 519 – 520 .

22- د . محمود حافظ – القضاء الإداري في الاردن – مرجع سابق – ص276 – 277 .

ومن هذه الأحكام الحكم الصادر في 4 حزيران 1947 . والحكم الصادر في 7 حزيران 1950 والحكم الصادر في 7 كانون الثاني 1944.. وهذا الحكم الاخير صدر في قضية تتلخص وقائعها (( بان المجلس المحلي لبلدية Fecamp اصدر سنة 1940 قراراً بفتح المحلات التجارية التي تركها ملاكها بسبب الحرب وقام بتعين مسؤولين بادارتها كما فرض الضرائب على المحلات التجارية والصناعية واصدر تعليمات التحصيل المؤقت للضريبة .. ولما كانت القاعدة ان فرض الضرائب والرسوم عمل في غاية الاهمية وانه لا بد ان يتم بموجب القوانين النافذة وان يتقيد بالاجراءات التي يتطلبها المشرع وحيث ان رئيس المجلس البلدي المذكور لا يمتلك اتخاذ مثل هذا الاجراء لمخالفته للقواعد القانونية التي تشترط صدور قرار من المجلس البلدي ومن ثم التصديق عليه من قبل الجهة المختصة .. الا ان مجلس الدولة اجاز تصرف الادارة رغم خروجه على هذه القواعد واقر بصحة هذه الإجراءات تأسيساً على ان ( الضرورة الناشئة عن الظروف الاستثنائية ) هي التي جعلت الاعمال غير المشروعة اعمالاً صحيحة ومشروعة ) ) .. ويرى الدكتور محمود حافظ ايضاً ان هذا الحكم يعتبر تطبيقاً نموذجياً لنظرية الضرورة وذلك ان الضرورة الناشئة عن ظروف الحرب هي التي اباحت مثل هذا العمل المخالف للقانون وجعلت منه عملاً مشروعاً ( ينظر في ذلك نظرية الضرورة في القانونين الدستوري والاداري .. الدكتور هاني علي الطهراوي – مرجع سابق – ص 236 .

23- د . هاني علي الطهراوي – نظرية الضرورة في القوانين الدستوري والإداري – مرجع سابق – ص44 .

24- د . سليمان الطماوي – النظرية العامة – مرجع سابق – ص519 .

د . محمود حافظ – القرار الإداري – المرجع السابق – ص275 .

25- د . هاني علي الطهراوي – نظرية الضرورة في القانونين الدستوري والاداري – مرجع سابق – ص ( 44 – 45 ) .

26- د . سليمان الطماوي – النظرية العامة – مرجع سابق – ص518 .

تطبيقات نظرية الضرورة في فرنسا :

يقول الكاتب الفرنسي ( Jean Lamarque ) في مقال عن نظرية الضرورة ( ان قضية الضرورة هي قضية كل الأزمنة وكل الأنظمة ) (1) وحيث ان نظرية الضرورة في فرنسا مرت بمراحل متعددة قبل ان تصل الى ما هي عليه من تنظيم دستوري لذا فأننا سنتناول التطور التي مرت به اولاً وصولاً الى ما هي عليه في الدستور الحالي .

المطلب الاول : التطور التاريخي للنص الدستوري على نظرية الضرورة في الدساتير الفرنسية حتى عام 1958

المطلب الثاني : التنظيم الدستوري لنظرية الضرورة في الدستور الحالي – دستور 1958 المادة ( 16 )

المطلب الأول : التطور التاريخي للنص الدستوري على نظرية الضرورة في الدساتير الفرنسية حتى عام 1958

سوف نتعرض هنا للدساتير التي تمثل المراحل التاريخية الهامة التي مرت بها فرنسا منذ قيام ثورة 1789 ومن الملاحظ ان بعض هذه الدساتير قد خول رئيس الدولة سلطة اصدار اللوائح ( لوائح الضرورة ) عند قيام ظروف استثنائية في حين ان القسم الاكبر من هذه الدساتير قد جاء خالياً من أي نص يشير الى ذلك(2) وعلى التفصيل الاتي :

اولاً : دستور أيلول عام 1791 ودستور أيلول عام 1792 :

نتيجة لمعاناة الشعب الفرنسي من تعسف واستبداد الملوك في استخدام سلطاتهم قبل قيام ثورة سنة 1789 لذا فأن الشعور السائد نحو هؤلاء الملوك بعد قيام الثورة هو الاستياء العام وعدم الثقة بهم ونتيجة لذلك ظهرت معارضة شعبية شديدة ضد كل محاولة يقصد منها منحهم سلطات استثنائية لمواجهة الأزمات والتمسك الشديد بفكرة الفصل بين السلطات(3) . وفي 21 ايلول عام 1792 الغي النظام الملكي في فرنسا واعلن قيام الجمهورية الاولى وبالرغم من هذا التطور فان النظرة السيئة وعدم الثقة ظلت قائمة بالنسبة للسلطة التنفيذية لذلك فان الدستور الجديد لهذه الجمهورية هو الاخر لم يتضمن أي نص يخول الحكومة سلطات استثنائية .

ثانياً : دستور عام 1799 :

استولى ” نابليون بونابرت ” في هذه السنة على الحكم واسقطت الجمهورية الاولى وقد اصدر في 15 ديسمبر من تلك السنة دستوراً اسماه دستور السنة الثامنة للجمهورية وقد ضمنه نصاً خاصاً يخول سلطات تمكنه من المحافظة على بقاء النظام الذي أنشأه حيث جاء في نص المادة 92 ( اذا حدثت ثورة مسلحة او اضطرابات تهدد سلامة الدولة وكان البرلمان في عطلة ، جاز للحكومة ان تصدر قراراً بوقف تطبيق الدستور والقانون في الاماكن وخلال المدة التي تتطلب فيها الظروف ذلك على ان يتضمن هذا القرار دعوة البرلمان للانعقاد في اقرب وقت ممكن ) . يلاحظ من نص المادة بأنها تخول الحكومة سلطات استثنائية خطيرة تشمل وقف تطبيق الدستور إضافة الى وقف تطبيق القانون ، وبذلك فأنها – أي الحكومة – تستطيع ان تصدر ما تشاء من لوائح الضرورة و ويلاحظ ان تطبيق هذه المادة يكتنفه شيء من الغموض حيث انها لم تقتصر على حالة مواجهة الثورة بل شملت حالة حدوث اضطرابات وهي ظروف استثنائية غير محددة المعالم عكس حالة الثورة المسلحة التي يمكن تحديدها بسهولة وفضلاً عن ذلك لم تخضع المادة ( 92 ) المراسيم التي تصدرها الحكومة استناداً اليها لاية رقابة على دستوريها كما لم تنص على المدة التي يجب ان ينعقد البرلمان خلالها بل اكتفت بالنص على دعوة البرلمان للانعقاد في أقصر وقت ممكن(4) .

ثالثاً :دستور سنة 1814 (5):

لم يتضمن هذا الدستور نصاً كالمادة 92 في دستور 1799 وقد صدر بعد هزيمة نابليون وانهيار امبراطوريته واكتفى واضعو هذا الدستور على بيان اهم واجبات الملك في المادة ( 14 ) والتي نصت على ” ان الملك هو الرئيس الاعلى للدولة والقائد العام للقوات المسلحة يعلن الحرب ويبرم معاهدات السلام والتحالف والتجارة ويعين الموظفين ويصدر اللوائح والاوامر اللازمة لتنفيذ القوانين ولحماية امن الدولة ” .

رابعاً : دستور سنة 1830 (6):

صدر هذا الدستور بعد اندلاع الثورة التي أطاحت بحكم الملك شارل العاشر اثر أربعة أوامر أصدرها ، تناولت تلك الأوامر الغاء حرية الصحافة وحل الجمعية الوطنية المنتخبة قبل ان تعقد أي اجتماع لها وحرمان بعض الطوائف من حقها الانتخابي ودعوة المواطنين لا جراء انتخابات جديدة ، ولقد صدر هذا الدستور خالياً من أي نص لمواجهة الأزمات واكتفى واضعوه بالنص في المادة 13 منه على ان يصدر الملك اللوائح والأوامر اللازمة لتنفيذ القوانين ولا يحق له ان يوقف العمل بالقوانين او ان يعفى من تنفيذها .

خامساً : دستور الجمهورية الثانية(7) :

بتاريخ 24 شباط عام 1848 اندلعت ثورة ضد الملك ( لويس فيليب ) الذي اتجه الى الحكم الاستبدادي وإساءة استخدام السلطات التي قررها له الدستور وكان من نتائج تلك الثورة الى سقوط النظام الملكي وقيام الجمهورية الفرنسية الثانية . حيث صدر دستورها الجديد في 4 تشرين الثاني من نفس العام وقد تجنب واضعو هذا الدستور على النص على سلطات خاصة لرئيس الجمهورية يمارسها وقت الأزمات وقد نص في المادة 43 منه على ان السلطة التنفيذية يباشرها رئيس الجمهورية .

سادساً : دستور الجمهورية الثالثة والرابعة :

لم يتضمن أي من دستوري الجمهورية الثالثة الصادر في سنة 1875 والجمهورية الرابعة الصادر في 27 تشرين الاول سنة 1946 النص على سلطات استثنائية لرئيس الجمهورية يباشرها في فترات الأزمات . وبالرغم من حصول ظروف استثنائية خطيرة في فرنسا خلال فترة نفاذ الدستورين المذكورين من تلك الظروف الحربين العالميتين الاولى والثانية والازمات الاقتصادية(8) .

المطلب الثاني : التنظيم الدستوري لنظرية الضرورة

في ظل دستور الجمهورية الخامسة سنة 1958

لاحظنا في المطلب السابق بأن كافة الدساتير التي اشرنا اليها سارت على تقليد دستوري يتمثل بعدم النص على منح رئيس الدولة سلطات يعالج بها الظروف الاستثنائية والدستور الوحيد الذي خرج على هذا التقليد هو دستور نابليون سنة 1799 الا ان دستور 4 تشرين الاول سنة 1958 وفي المادة 16 منه قد عالج موضوع الظروف الاستثنائية حيث نص على تخويل رئيس الجمهورية سلطة إصدار لوائح الضرورة في أوقات الأزمات .

وسوف نتناول البحث عن المادة ( 16 ) وفق الترتيب الاتي :

الفرع الأول : الظروف والمراحل التي مرت بها صياغة المادة ( 16 ) :

اولاً ــ ظروف صياغة المادة ( 16 ) :

اما فيما يتعلق بظروف صياغة نص المادة ( 16 ) من دستور 1958 فأن اصل الفكرة تعود الى الجنرال ديكول الرئيس الفرنسي انذاك اثر تكليفه برئاسة الوزراء من قبل الجمعية الوطنية بعد احداث الجزائر في 13 مايو سنة 1958 حيث كلف بتاريخ 3 يونيو من نفس العام بأعداد دستور جديد . عند ذاك افصح الرئيس ديكول عن فكرته امام اللجنة الدستورية الاستثنائية التي شكلت لوضع الدستور ، وتتلخص هذه الفكرة في انه يجب على رئيس الجمهورية عند احاطة المخاطر بالوطن ان يكفل استقلاله وان يؤمن تنفيذ المعاهدات المبرمة مع فرنسا ، أي انه وبعبارة اخرى كان يرى ضرورة تجمع السلطات في يده خلال مواجهة للظروف الاستثنائية التي كانت تمر بفرنسا ولذلك قيل بأن نص هذه المادة هو احدى بصمات ديكول في فرنسا(9) .

اما نص المادة ( 16 ) من دستور 1958 فهو كالاتي : ( اذا تعرضت انظمة الجمهورية او استقلال الوطن او سلامة اراضيه او تنفيذ تعهداته الدولية لخطر جسيم وحال ونشأ عنه عرقلة السلطات الدستورية العامة عن مباشرة مهامها كالمعتاد يتخذ رئيس الجمهورية الاجراءات التي تقتضيها هذه الظروف بعد التشاور بصفة رسمية مع الوزير الاول ورؤساء مجلس البرلمان والمجلس الدستوري ويحيط الأمة علماً بذلك برسالته ويجب ان يكون الغرض من هذه الاجراءات هو تمكين السلطات الدستورية من القيام بمهامها في اقرب وقت ممكن ويستشار المجلس الدستوري بشأن هذه الإجراءات ويجتمع البرلمان بقوة القانون ولا يجوز حل الجمعية اثناء ممارسة السلطات الاستثنائية ) (10).

ثانياً ــ المراحل التي مرت بها المادة ( 16 ) :

اما المراحل التي مرت بها هذه المادة الى ان وصلت الى صياغتها الحالية فهي عديدة ، اذ قد بدأت هذه الصياغة بمشروع اعده وزير العدل في 18 / 6 / 1958 ثم ادخل عليها بعض التعديلات بواسطة ديكول في 23 / 6 / 1958 وعن طريق اللجنة الوزارية برئاسته في 30 / 6 / 1958 ومجلس الوزراء برئاسته في 25 / 7 / 1958 واللجنة الاستشارية الدستورية في 29 / 7 / 1958 ورئيس مجلس الوزراء الذي ارسل تعديلاً للمادة الى ديكول عن طريق وزرائه الا ان الرئيس الفرنسي قد رفض مشروع اللجنة الاستشارية الدستورية ومشروع رئيس الوزراء لانهما لم يحققا ما يهدف اليه من تجمع السلطات في يده ، ولذلك أعيدت الصياغة مرة أخرى بواسطة ميشيل دوبريه في 5 / 8 / 1958 وعن طريق اللجنة الدستورية لمجلس الدولة في 25 / 8 / 1958 واللجنة العمومية لمجلس الدولة في 27 / 8 / 1958 وهو النص الذي وافقت عليه الحكومة في الصورة الحالية(11) .
الفرع الثاني

شروط تطبيق المادة ( 16 ) من دستور 1958 (12) من مراجعة نص المادة ( 16 ) من دستور عام 1958 نلاحظ بأن هنالك نوعين من الشروط يجب توافرها عند تطبيق المادة المذكورة وسوف نتناولها بالدراسة كما يلي :

اولاً : الشروط الموضوعية :

1 ــ وجود خطر جسيم وحال :

أ ــ الخطر الجسيم : يذهب الدكتور يحيى الجمل(13) في تحديد المقصود بالخطر الجسيم بأنه الخطر الذي يهدد موضوعاً دستورياً جوهرياً فالموضوع الذي يلحقه التهديد من ناحية ومدى الخطر نفسه من ناحية اخرى هما اللذان يحددان جسامة الخطر ، ولقد انتهى الفقه الفرنسي الى تعريف الخطر الجسيم بأنه الخطر غير المألوف وغير المتوقع ويخرج عن المخاطر المتوقعة والمعتادة ولا يمكن مواجهته او دفعه الا باستخدام السلطات الاستثنائية المقررة في المادة ( 16 ) من الدستور(14) . هذا ولا يشترط ان يكون الخطر خارجياً فقط بل يجوز ان يكون داخلياً وقد يكون داخلياً وخارجياً في نفس الوقت . واخيراً يمكننا القول بأن جسامة الخطر يمكن تحديدها بتلك التي تهدد سلطات الدولة الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية او باستقلال الوطن وسلامة اراضيه وتنفيذ تعهداته الدولية(15) .

ب ــ الخطر الحال : الوصف الثاني للخطر الواجب توفره كشرط موضوعي لقيام حالة الضرورة هو ان يكون الخطر حالاً . والخطر الحال يقصد به الخطر الواقع فعلاً او الخطر الوشيك الوقوع على نحو مؤكد وعليه يكون الخطر حالاً ، اذا كان قد بدأ بالفعل ولم ينته بعد اما اذا كان الخطر قد حدث وانتهى فلا يعتبر حالاً لانه قد انقضى وترتبت عليه آثاره كما لا يكون الخطر حالاً ، اذا كان متوهماً لم يتحقق بعد(16) .

2 ــ اما الشرط الثاني من الشروط الموضوعية اللازمة لتطبيق المادة ( 16 ) فهي ( توقف السير المنتظم للسلطات العامة الدستورية ) (17)

 لقد ذهب مجلس الدولة الفرنسي الى تحديد السلطات العامة وهي السلطات التي بينها الدستور ( رئيس الدولة والحكومة والبرلمان والسلطات القضائية ) اما المجلس الدستوري والمجلس الاقتصادي والاجتماعي فهما وان كانا من السلطات الدستورية الا انهما ليسا من السلطات العامة . ولقد انقسم الفقهاء في تفسير هذا الشرط الى قسمين ، القسم الاول : اصحاب التفسير الضيق لهذا الشرط وهم الاقلية حيث ذهبوا الى ان المقصود هنا بتوقف السير المنتظم للسلطات هو الاستحالة المادية التي تمنع السلطات العامة من القيام بمهامها ومن ثم فان رئيس الجمهورية لا يمكنه الرجوع الى نص المادة ( 16 ) الا في حالة الاستحالة المادية ، اما القسم الثاني من الفقهاء وتمثله غالبية الفقه الفرنسي والذي ذهب الى التفسير الواسع لهذا الشرط فقد قالوا بأنه لا يقصد بهذا الشرط التوقف التام لسير السلطات العامة الدستورية بل الاكتفاء بتوقف السير المنتظم لهذه السلطات بمعنى انه ليس ضرورياً ان يكون البرلمان والحكومة في حالة لا تمكنها من اداء وظائفها بل يكفي ان يتعذر عليها مباشرة هذه الوظائف بصورة عادية وطبيعية وهذا امر متروك تقديره لرئيس الجمهورية وكتطبيق لهذا الانقسام في الرأي بصدد هذا الشرط هو ما حصل من خلاف بين الفقهاء حول قرار الرئيس الفرنسي ديكول في 23 نيسان 1961 بتطبيق المادة ( 16 ) على اثر التمرد الذي حصل عند الجيش الفرنسي المرابط بالجزائر في 21 / نيسان / 1961 فلقد اثير جدل فقهياً حول صحة هذا القرار فالمعارضون ذهبوا الى انه لم يتوقف السير المنتظم للسلطات العامة حيث كان بأمكان مجلس الوزراء والبرلمان بمجلسيه الاجتماع دون عائق في حين ذهب فريق اخر مؤيد للقرار بأن شروط المادة ( 16 ) كانت متوفرة بقرار الرئيس وذلك كون المتمردين من الجيش الفرنسي بالجزائر قد اعتقلوا الوزير الذي ارسله اليهم الرئيس الفرنسي ( ديكول ) وكذلك تهديد المتمردين بغزو باريس بالمظلات ، واخيراً فأن الرأي الغالب ان الدستور قد اعطى الى رئيس الجمهورية فقط حق تقدير اللجوء الى المادة ( 16 ) (18) .

ثانياً : الشروط الشكلية / من قراءتنا لنص المادة ( 16 ) من الدستور الفرنسي لسنة 1958 نجد ان شروطاً شكلية لا بد من اتباعها عند تطبيق المادة المذكورة وذلك التزاماً بالنص الدستوري وهما شرطان الاول يتعلق بالسلطات العامة والثاني يتعلق بالأمة .

1 ــ الشرط المتعلق بالسلطات العامة في الدولة :

لقد اوجبت المادة المذكورة على رئيس الدولة استشارة بعض الاشخاص والهيئات العامة على سبيل الحصر وهم كل من رئيس الوزراء ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ بالاضافة الى استشارة المجلس الدستوري ومن الملاحظ ان النص لم يشترط شكلية معينة عند الاستشارة سوى كونها ( رسمية ) وهذا يعني بأن الاستشارة يمكن ان تكون خطية أي مكتوبة او شفهية وهو ما دفع غالبية الفقهاء الى القول باعفاء رئيس الجمهورية عن هذه الاستشارة الوجوبية في حالة حدوث اسباب تجعلها مستحيلة كما في حالة حدوث أسباب القوة القاهرة وفي كل الاحوال فأن الراي الذي تبديه الجهات السالفة الذكر غير ملزم لرئيس الجمهورية والرأي متروك له بأتباع اراء هذه الجهات ، اما فيما يتعلق برأي المجلس الدستوري فهو ايضاً استشاري الا انه يختلف عن اراء الجهات السابقة ومرد هذا الاختلاف الى نص المادة ( 53 ) من القانون الاساسي الخاص بالمجلس الدستوري الصادر في 7 تشرين الاول 1958 والذي بمقتضاه ضرورة ان يكون راي المجلس ( مسبباً ومنشوراً ) .

وخلاصة القول : ان اخذ الراي لكل الاشخاص والجهات السابقة هو استشاري وغير ملزم له الا انه ولغرض دعم هذه الجهات والتفاف الراي العام حوله فأنه يلجأ الى اخذ رأيها والحصول على موافقتها على ما يتخذه من اجراءات استثنائية لمواجهة الظروف الاستثنائية(19) .

2 ــ الشرط المتعلق بالامة ( توجيه رسالة الى الامة ) :

الشرط الثاني من الشروط الشكلية الذي اوجبته المادة ( 16 ) هو توجيه رسالة من رئيس الجمهورية الى الامة يعلن فيها لجوءه الى حالة الضرورة والإجراءات التي ينوي اتخاذها وانقسم الرأي بشان هذه الرسالة الموجهة من رئيس الجمهورية فالبعض اعتبرها أعلاماً وتبريراً من رئيس الجمهورية للإجراءات السريعة التي ينوي اتخاذها استناداً للمادة ( 16 ) والتي تبقى عادة سرية ولا يلتزم رئيس الجمهورية عن الكشف عن تفاصيل الاحداث او الإجراءات التي ينوي اتخاذها بل قد تكون من الامور السرية التي يحتفظ بها رئيس الجمهورية(20) .

في حين ذهب رأي اخر الى ان هذه الرسالة أجراء لازم لا بد منه على أي حال ويأخذ هذا الشرط أهمية كبيرة للأسباب الآتية :

1 ــ يؤدي الى كسب رئيس الجمهورية للرأي العام وتأييد الأمة له في مواجهته للظروف الاستثنائية التي تمر بها الدولة .

2 ــ يعتبر هذا الشرط دعوة للمشاركة السياسية الشعبية وهو ما ينبغي توافره في الدولة الديمقراطية كفرنسا من جهة ومن جهة ثانية فأنه يعطي الرأي العام الفرصة في الرقابة الفعالة والمباشرة على اعمال وقرارات رئيس الجمهورية التي يصدرها استناداً للمادة ( 16 ) (21) .
الفرع الثالث

الآثار المترتبة على تطبيق المادة ( 16 )

هنالك آثار متعددة تترتب على تطبيق المادة ( 16 ) من دستور 1958 وسوف نتناول اهمها وهي :

1 ــ آثارها بالنسبة لمبدأ الفصل بين السلطات .

2 ــ آثارها بالنسبة لمبدأ سمو الدستور .

أولا : آثار تطبيق المادة ( 16 ) من دستور 1958 في مبدأ الفصل بين السلطات :

تناولنا فيما سبق مبدأ الفصل بين السلطات والذي من مقتضاه ان تختص كل من السلطات الثلاث في الدولة وهي التشريعية والتنفيذية والقضائية بالعمل المحدد لها دستورياً ولكن الملاحظ هنا ان الاثر المباشر الذي يترتب على تطبيق النظام الاستثنائي الذي تحدثه المادة ( 16 ) من دستور 1958 في فرنسا هو وضع تلك السلطة الضخمة في كافة الميادين بيد رئيس الجمهورية الى الحد الذي يصبح الحديث معها عن الفصل بين السلطات حديث غير وارد عملياً . وهذا الوضع هو الذي دفع الفقيه الفرنسي ( هوريو ) الى تسميتها بالدكتاتورية المؤقتة(22). لذلك فسوف نتناول اثر هذه المادة في كل سلطة من هذه السلطات :

1ـ اثر تطبيق المادة ( 16 ) في السلطة التشريعية .

البرلمان هو صاحب التشريع الأصيل ولقد ثار خلاف في الفقه الفرنسي بين فئتين الأولى ذهبت الى عدم جواز ممارسة التشريع في ظل المادة ( 16 ) الا من قبل السلطة التشريعية وهذا هو التفسير الضيق للمادة المذكورة والفئة الثانية التي هي اكثر وجاهةً وقبولاً هو ان جوهر وروح المادة ( 16 ) يهدف الى تخويل رئيس الجمهورية اتخاذ الإجراءات التي تتطلبها الظروف الاستثنائية بما في ذلك ممارسة الوظيفة التشريعية خاصة وان هنالك حالات يتعذر فيها على السلطة التشريعية القيام بوظيفتها ، فعندئذ يكون لا مناص من ان يمارس رئيس الجمهورية سلطته التي خولته فيها المادة ( 16 ) واتخاذه الإجراءات والتدابير اللازمة لمواجهة الموقف الاستثنائي ومنها المسائل التي يختص بها المشرع حسب المادة ( 34 ) من الدستور وحتى لو ترتب على ذلك وقف العمل بالضمانات الخاصة بممارسة الحريات العامة(23) . الا ان هنالك قيداً وحيداً ورد على سلطة رئيس الجمهورية المذكورة هو عدم جواز حل الجمعية الوطنية من قبل رئيس الجمهورية اثناء ممارسته للسلطة الاستثنائية استناداً للمادة ( 16 ) وان كان رئيس الجمهورية يستطيع ان يتحايل على هذا القيد وذلك بلجوئه الى حل الجمعية الوطنية قبل لجوئه لممارسة المادة ( 16 ) الا ان ذلك التحايل ليس في صالحه ويلاحظ في هذا الصدد ان هذا القيد دفع الشراح الى القول بأن الجمعية الوطنية لا تستطيع بالمقابل سحب الثقة من الحكومة وعلى العكس من ذلك ذهب البعض الاخر الى القول بأن تطبيق المادة ( 16 ) لا يؤدي الى وضع أي قيد على سلطات البرلمان المنصوص عليها في الدستور فيكون للجمعية الوطنية ان تطرح الثقة بالحكومة لان هذه المادة لم تتضمن أي قيد في هذا الصدد(24) . والذي حدث في الواقع حين وضعت المادة ( 16 ) موضع التطبيق في 23 / نيسان / 1961 وهو التطبيق الوحيد لحد الان لهذه المادة ان رئيس الجمعية الوطنية رفض اقتراحاً بطرح الثقة بالحكومة في ذلك الوقت مستنداً الى انه من الضروري في ظل الظروف الاستثنائية التي تطلبت تطبيق المادة ( 16 ) ان يجري التوازن الأساسي بين السلطات العامة على النحو الذي أقامه الدستور فأن الجمعية الوطنية بالمقابل تفقد حقها في طرح الثقة بالحكومة والحقيقة ان فترات الأزمات تحتاج الى تضامن السلطات العامة جميعها لا الى تناحرها خوفاً من ان يضعفها الصراع بينها ويؤدي الى عجزها عن مواجهة متطلبات هذه الأزمات(25) .

2ــ اثر تطبيق المادة ( 16 ) في السلطة التنفيذية :

لدى الرجوع الى دستور 1958 في فرنسا نلاحظ ان الأصل في السلطة التنفيذية هو تقاسمها بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومجلس الوزراء ولكل منهم اختصاصات خاصة به يمارسها على وجه الاستقلال او بالاشتراك مع الجهة الأخرى مثال ذلك ان مجلس الوزراء له اختصاصات عندما ينعقد برئاسة رئيس الجمهورية ، وله اختصاصات عندما ينعقد برئاسة رئيس الوزراء ، ومن المعلوم ان رئيس الجمهورية في حالة الضرورة وكما هو مستقر ايضاً لدى الفقهاء يمارس وباعتباره رئيس الجهاز التنفيذي سلطات حالة الضرورة والتي من شأنها تركيز السلطة بيده وان لم يوجد نص بذلك ومن مقتضى ذلك ان تأتمر كافة الأجهزة التنفيذية ومنها أجهزة القهر بأمره مباشرة وخاصة أجهزة الأمن والقوات المسلحة . وعلى ذلك يمكن القول بأن رئيس الجمهورية يستطيع ان يمارس في ظل النظام الاستثنائي وفقا للمادة ( 16 ) من الدستور بالإضافة لعمله كرئيس للجمهورية يمارس ايضاً عمل رئيس الوزراء وكذلك عمل بعض الوزارات الأساسية كالدفاع والداخلية مثلاً بل قد يصل الأمر الى ابعد من ذلك حيث يستطيع رئيس الجمهورية ممارسة الوظيفية الإدارية كما في حالة إصدار اللوائح او ممارسة التعيينات الأساسية والتي هي من اختصاصات رئيس الوزراء والوزراء في الأوقات العادية وخلاصة القول ان النظام الاستثنائي الذي تخلفه المادة ( 16 ) يُمكّن رئيس الجمهورية من تركيز وممارسة الوظيفة الحكومية والوظيفية الإدارية بالشكل الذي يراه ويقرر ضرورته(26).

3ــ أثر تطبيق المادة ( 16 ) في السلطة القضائية :

لما كان رئيس الجمهورية هو الذي يمارس سلطة الضرورة في ظل المادة ( 16 ) لذا فقد اثير التساؤل عما اذا كان لرئيس الجمهورية الحق في ممارسة الوظيفة القضائية في اوقات الأزمات والمقصود هنا بالوظيفة القضائية المعنى الفني الدقيق والذي يتمثل في حق إصدار الأحكام القضائية وفرض العقوبات على البعض مثلاً ، لقد ذهب رأي الى انه لا يوجد من الناحية النظرية ما يمنع رئيس الجمهورية من ممارسة هذا الحق ولكن المشكلة هي مدى تقبل الرأي العام لذلك . وقد رُد على هذا الراي بالرفض التام ولقد جاء في هذا الرد بأنه لا يجب الاعتراف بهذا الحق لرئيس الجمهورية تحت أي تبرير بما في ذلك الظروف الاستثنائية وتساءل اصحاب هذا الرأي بأنه ما هو التبرير في حالة صدور حكم الإعدام على شخص من قبل رئيس الجمهورية دون محاكمته او دون ضمان كافة حقوق الدفاع له . اذاً لا يمكن تبرير ذلك مهما كان الظرف استثنائياً وكذلك الحال في بقية العقوبات الجنائية الا انه في غير المجال الجنائي يستطيع رئيس الجمهورية فرض العقوبات الإدارية والسياسية كفصل الموظفين بغير الطريق التأديبي او اعتقال بعض الأفراد في فترة الأزمات او المنع من السفر او فرض الحراسة على البعض او إغلاق بعض المحلات والأمكنة او الاستيلاء على بعض المنقولات وغير ذلك من العقوبات التي ليس لها طابع جنائي وبالمناسبة فانه خلال التطبيق الوحيد للمادة ( 16 ) أي في عام 1961 وآثر التمرد العسكري الذي قام به بعض العسكريين الفرنسيين الموجودين في الجزائر آنذاك يلاحظ بأنه لم تتخذ أية قرارات ذات طبيعة قضائية(27) .

ثانياً: آثار تطبيق المادة ( 16 ) من دستور 1958 في مبدأ ” سمو الدستور ” :

…مبدأ سمو الدستور و… نظرية الضرورة تشكل استثناءً على ذلك المبدأ ولا حظنا بأن غالبية الفقه قد ذهب الى ضرورة تنظيم نظرية الضرورة دستورياً كي تكون أمام تنظيم قانوني دقيق وواضح لها . ان الاتجاه الدستوري عند العديد من دول العالم قد نحى هذا المنحى وقام بتدوين هذا الاستثناء دستورياً ولقد ذهبت فرنسا الى ذلك في دستور 4 تشرين الاول 1958 وفي المادة ( 16 ) منه وقد لاحظنا بان لتطبيق هذا النص اثراً مباشراً على مبدأ الفصل بين السلطات وبالخصوص سلطات رئيس الجمهورية في فرنسا وسوف نحاول الآن دراسة آثار المادة المذكورة على مبدأ سمو الدستور وذلك من خلال آثارها على القواعد الدستورية . قلنا بأن الأثر المباشر لهذه المادة هو تلك السلطة الضخمة التي توضع في يد رئيس الجمهورية وهو ما دفع العميد ( فيدل ) الى القول بأن رئيس الجمهورية يمسك بيده في تلك الفترة وفي تلك المادة بكل سلطات الدولة(28) . وهذا بدوره يدفعنا الى التساؤل عن اثر تطبيق المادة ( 16 ) في الدستور نفسه او بعبارة اخرى هل يستطيع رئيس الجمهورية في ظل المادة ( 16 ) ان يوقف نفاذ الدستور ؟ ، ثم هل يستطيع ان يذهب الى أبعد من ذلك بأن يعدل بعض أحكام الدستور ؟ واخيراً ان يلغي الدستور بحجة الضرورة ؟ وهو ما سنوضحه فيما يأتي :

1ــ فيما يتعلق بوقف العمل بالدستور : من استعراض آراء غالبية الفقهاء الفرنسيين في هذا الموضوع نلاحظهم يذهبون الى ان رئيس الجمهورية يملك وقف العمل ببعض مواد الدستور ويؤسسون رأيهم على ان المادة ( 16 ) ليست سوى تنظيم دستوري لحالة الضرورة والتي تتيح للحاكم ان يخرج على أحكام النظام القانوني القائم فيكون له ان يوقف العمل بمواد الدستور التي يرى ان استمرار العمل بها مع وجود حالة الضرورة يؤدي الى تعرض الدولة الى مخاطر جسيمة(29) . ونحن نؤيد ما ذهب اليه الدكتور يحيى الجمل الى القول في هذا الصدد ( نرى انه من المنطقي في ظل هذه المادة جواز إيقاف العمل في بعض نصوص الدستور بل ان هذا الإيقاف يبدو وكأنه لا مندوحة عنه في ظل الضرورة ولكن قيداً أساسياً لا بد وان يرد هنا ذلك القيد هو المستفاد من قاعدة ان الضرورة تقدر بقدرها ) (30) .

2ــ فيما يتعلق بتعديل الدستور : اما فيما يتعلق بتعديل الدستور فان الفقه في جملته لا يرى لرئيس الجمهورية إمكانية تعديل الدستور في ظل المادة ( 16 ) حتى ولو كان ذلك التعديل جزيئاً . فلقد ذهب الفقيه الفرنسي ( لامارك ) الى القول ان الغرض الرئيسي من منح رئيس الجمهورية سلطات استثنائية في ظل المادة ( 16 ) هو تمكين السلطات الدستورية العامة من اداء وظائفها المنصوص عليها في الدستور وعلى أساس ذلك لا يمكن القول بإمكانية تعديل الدستور في ظل هذا النص ولقد أيدت هذا الاتجاه ايضاً الدكتورة ( Voisset ) في رسالتها عن المادة ( 16 ) حيث قالت انه لا يجوز تعديل الدستور في ظل المادة ( 16 ) ويقول ( ديفرجيه ) ان رئيس الجمهورية في ظل تلك المادة يستطيع ان يفعل كل شيء الا ان يعدل الدستور . ويذهب العميد ( فيدل ) نفس المذهب حيث يرى ان رئيس الجمهورية لا يملك بمقتضى المادة ( 16 ) تعديل الدستور ويعلل ذلك بان المادة المذكورة تستهدف إعادة الأوضاع الدستورية الطبيعية للمؤسسات العامة فكيف يمكن ان يقال ان تلك المادة تبيح تعديلاً دائماً في أوضاع المؤسسات . واخيراً يرى الدكتور يحيى الجمل ان تعديل الدستور يقتضي وجود سلطة مؤسسة ذلك على حين ان رئيس الجمهورية في الأوقات العادية او في أوقات الأزمات على حد سواء يظل سلطة مؤسسة او منشأة ولا تستطيع المادة ( 16 ) ان تغير من هذه الحقيقة شيئاً (31). بقي ان نشير الى ان رأياً اخر يخالف الغالبية التي أجازت وقف الدستور دون تعديل ولو كان التعديل جزئياً (32). ان هذا الرأي يمثله ما ذهب اليه الفقيه الفرنسي ( كاريه دي مالبرج ) فهو يرى ان وقف الدستور هو نوع من تعديله ذلك ان تعديل الدستور اذا ما تم خلال ظروف استثنائية مع فرض جواز ذلك فالقاعدة ان إجراءات الضرورة تسقط بزوالها ومن ثم فأن تعديل الدستور خلال الأزمة لا يمكن الا ان يزول مع زوال الأزمة وإنهاء حالة الضرورة وبالتالي فأن النتيجة النهائية تكون واحدة بالنسبة للوقف او التعديل ( عكس ما اذا تم تعديل عن طريق طبيعي وهو ما نصت عليه المادة ( 19 ) من الدستور الفرنسي ) .ثم يتساءل اذا وافقنا على إمكانية وقف بعض أحكام الدستور فهل يمكن للرئيس ان يوقف العمل بالمادة ( 16 ) ذاتها وبالتالي يمكنه حل الجمعية الوطنية مثلاً على اساس ان الظروف تقتضي ذلك ؟ كما ان رأياً اخر في الفقه العربي يمثله الدكتور سامي جمال الدين هو الأخر ذهب الى ان كلاً من الإجراءين الوقف او التعديل يعتبر انتهاكاً للدستور لا ضرورة له ذلك لان الدستور ينظم نفسه بنفسه حالة الضرورة محدداً كيفية ومدى الخروج عليه وقت الأزمات ثم ينتهي الى القول الى ان السماح بمثل هذه السلطة يعد مخالفة للمبادئ الدستورية وللديمقراطية والمشروعية . لذلك يجب التمسك بقاعدة عدم جواز المساس بقواعد الدستور على الإطلاق سواء في الظروف العادية ام الاستثنائية ما لم يكن هناك نص صريح في الدستور يقتضي ذلك . ونحن بدورنا نؤيد ونتبنى هذا الرأي ولنفس الأسباب التي اوردها الدكتور سامي جمال الدين .

3ــ الغاء الدستور : اذا كان الفقه الفرنسي في غالبيته وكما رأينا لا يرى إمكانية تعديل الدستور استناداً للمادة ( 16 ) ولو بشكل جزئي فأنه ومن باب اولى لا يمكنه الغاء الدستور استناداً لذلك النص ، وهنا ايضاً يرى الدكتور يحيى الجمل ( ان الغاء الدستور تأسيساً على نص المادة ( 16 ) امر غير وارد ولا هو بمستحق للدراسة والبحث وهو ان حدث يجعلنا في مواجهة نوع من الانقلاب الذي يخرج عن اطار الدراسة الدستورية والذي لا يجد له سنداً في غير القوة التي يعتمد عليها من ناحية وامكانية استمراره من ناحية اخرى )(33) .

___________________

1-نقلاً عن . د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص116 .

2- د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة- 1978 ص ص 46 – 49 . رسالة دكتوراه .

3-د . يسري محمد العصار – نظرية الضرورة في القانون الدستوري والتشريع الحكومي في فترات إيقاف الحياة النيابية دراسة مقارنة – دار النهضة العربية – القاهرة – 1995 ص 71 – 75 .

4- د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص47 .

د . محمد شريف اسماعيل – سلطات الضبط الإداري في الظروف الاستثنائية – القاهرة 1979 – ص155- رسالة دكتوراه .

5- د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص47 .

6- د . محمد شريف اسماعيل – سلطات الضبط الإداري – مرجع سابق – ص160 .

7- د . احمد مدحت علي – مرجع نفسه – ص48 .

8- د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص48 .

9- د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص49 .

الدستور الفرنسي لعام 1958 .

10- د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط –دار النهضة العربية القاهرة – 2004 -ص234 .

11- د . رمزي الشاعر –القانون الدستوري وتحليل النظام المصري 1971 – 1996 – دار النهضة العربية – القاهرة سنة 1996 – ص 332 .

د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط – مرجع سابق –ص ص234 – 235 .

12- د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستشارية – مرجع سابق – ص50 وما بعدها . د . رمزي الشاعر – النظام الدستوري المصري – تطور الأنظمة السياسية المصرية– مرجع سابق – ص ص398 – 399 . د . وجدي ثابت عربال – السلطات الاستثنائية لرئيس الجمهورية – منشأة المعارف الإسكندرية – 1988 – ص37 . د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط – مرجع سابق -ص237 .د . محمد شريف اسماعيل – سلطات الضبط الإداري في الظروف الاستشارية – مرجع سابق – ص175

13- د . يحيى الجمل – نظرية في القانون الدستوري – مرجع سابق – ص87 .

14- د . حامد التهامي كرات – نظرية سلطات الحرب في الدولتين الحديثة والاسلامية – القاهرة – 1985 ص 255 وما بعدها .

15- د . محمد شريف اسماعيل – سلطات الضبط الاداري في الظروف الاستثنائية – مرجع سابق ص176

16- د . هاني علي ابراهيم الطهراوي – نظرية الضرورة في القانونين الدستوري والاداري – رسالة دكتوراه – جامعة القاهرة – 1992 – ص168 .

17- د . حسن الترابي – سلطات الأزمة – دراسة مقارنة في القوانين الانكلوسكسونية والفرنسية – رسالة دكتوراه –باريس – 1964 ص88 .

18- د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص52 .

19- د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص133 – 135 .

د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط – مرجع سابق – ص 245 – 247 .

20- راجع في ذلك : د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة في القانون الدستوري – مرجع سابق ص137 .

و . د . عبد العظيم عبد السلام – الدور التشريعي لرئيس الدولة في النظام المختلط – مرجع سابق ص248 .

21- د . عبد العظيم عبد السلام – نفس المرجع – ص 248 .

22- د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة مرجع سابق – ص150 .

23- د. احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص 54 – 55

24- د . احمد مدحت علي – نفس المصدر – ص55 .

25- د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص150 – 151 .

26- د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص142 .

د . هاني علي إبراهيم الطهراوي – نظرية الضرورة في القانون الاداري والدستوري – مرجع سابق ص 274 وما بعدها . د . طعيمة الجرف – مبدأ المبدأ المشروعية – مرجع سابق – ص164 .

27- د . سامي جمال الدين – لوائح الضرورة – مرجع سابق ص181 .

28- راجع في ذلك : د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص139 .

29- المرجع نفسه – ص155 .

و .د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص55 .

30- د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق ص153

31- راجع في ذلك د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص154 – 155 .

و .د . احمد مدحت علي – نظرية الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص16 .

و .د . محمد شريف اسماعيل – سلطات الضبط الإداري في الظروف الاستثنائية – مرجع سابق – ص192 .

32- د . سامي جمال الدين – لوائح الضرورة – مرجع سابق – ص173 – 175 .

33- د . يحيى الجمل – نظرية الضرورة – مرجع سابق – ص156

المؤلف : حسن ضياء حسن الخلخالي
الكتاب أو المصدر : نظرية الضرورة كاستثناء على مبدا سمو الدستور

اعادة نشر بواسطة لويرزبوك .

تطبيقات عملية لنظرية الضرورة في التشريع المقارن – بحث قانوني