بحث قانوني واسع عن المحامي والأخلاق في القانون التونسي والقانون الأنقلو – أمريكي
المحاماة مهنة أخلاقية بالأساس لذلك وجب على المحامي الاعتصام بالفضيلة فهي التي ستكفل له القيام بالواجب الاجتماعي المحمول عليه في تطوير مجتمعه و الأخذ بيده ليرتقي دروب التحضّر و الأخلاق .
الأستاذ الحبيب الرّياحي
A central question facing today’s bar is; has our profession abandoned principle for profit, professionalism for commercialism. The answer cannot be a simple yes or no. further, most of the lawyers, the commission believes, are consciences, fair and able.
The American Bar Association.
المـخـطـط
المقدّمة العنوان الأول: الأخلاق أساس المحاماة المبحث الأول: الأخلاق في المحاماة بين القانون والأعراف الفقرة الأولى: الأخلاق جزء من الأعراف المهنية الفقرة الثانية: الأخلاق مصدر من مصادر مهنة المحاماة الفقرة الثالثة: القاعدة الأخلاقية متجدّدة في مهنة المحاماة المبحث الثاني: الأخلاق شرط ضروري لممارسة المحاماة في تونس والولايات المتحدة الفقرة الأولى: الأخلاق ضرورة للمحامي خارج أطر المهنة الفقرة الثانية: الأخلاق ضرورة للمحامي داخل أطر المهنة العنوان الثاني: آليات مراقبة أخلاق المحامي المبحث الأول: الهياكل المهنية والسلط القضائية الفقرة الأولى: الهياكل المهنية الفقرة الثانية: السلطة القضائية مثال أول: إفشاء السرّ المهني مثال ثاني: جلب الحرفاء تحيلا في تونس مثال ثالث: التطرّف من مساندة الحريف في الولايات المتحدة الأمريكي المبحث الثاني: الضمير آلية رقابة ذاتية الخاتمة
المقــدّمـة
“أقسم بالله العظيم أن أقوم بأعمالي في مهنة المحاماة بأمانة وشرف وأن أحافظ على سرّ المهنة وأن أحترم القوانين وأن لا أتحدّى الاحترام الواجب للمحاكم وللسلط العمومية”.
إنه القسم والعهد. إنه قبس النور الذي يهدي المحامي في سبيل الحق والعدل ويبوؤه عرش الدفاع إذا لسانه به نطق وقلبه به آمن.
أول الكلمات التي يستهل بها المحامي انتسابه إلى مهنة المحاماة هي التزام بمراعاة الشرف والأمانة والمحافظة على سرّ المهنة واحترام القوانين وفي ذلك تأكيد على أن صرح المحاماة لا يستقيم إلا إذا كانت الأخلاق عماده.
الأخلاق في المحاماة لها أصول متجذرة في التاريخ البشري. فالمحامي أو (voir probus dicendi peritus) أي الرجل الذي يحسن الكلام كما جاء وصفه منذ آلاف السنين في العهد اليوناني، بحاجة إلى أكثر من الكلمات ليتبوّأ صف الدفاع عن الضعفاء ممن يستغيثونه فيغيث ويستنجدونه فينجد، إنه بحاجة إلى أخلاقيات مهنية أو ethikos بمعنى التمسك بالتقاليد. ولأن الأخلاق أساسية في شخصية المحامي فقد عمل روادها على مرّ السنين وفي كل الأصقاع على تجذ يرها والاستناد إليها وتداولها. ذلك إن المحامي ليس فقط مهني محترف يقوم بواجبه بمقابل، إنه جدار الصد عن مجتمعه وشعبه إذا غشيه الاستعمار والفاعل في عملية البناء الاجتماعي والثقافي والأخلاقي والمساهم في الدورة الاقتصادية لبلده بما يوفره من مواطن شغل وما يسديه من خدمات قانونية ترفع من مستوى المعاملات.
المحامي عنصر فعّال في مجتمعه، لا يقتصر دوره على إسداء الخدمات القانونية والإحاطة بالمتقاضين بل يتجاوزه إلى تطوير مجتمعه والرفع من مستوى تفكيره. ولكل ذلك على المحامي أن يكون متخلقا، معتصما بأهداب الفضيلة.
فالمحامي اختار مهنته ولكن أخلاقه المهنية هي قدره.التزامات المحامي تجاه مهنته ومجتمعه تتطلب الاستقامة التامة فهو المعلم وهو القدوة. ويتجلى من كل ذلك أن الأخلاق ضرورية للمحامي في جميع أنحاء العالم ومهما اختلفت المقاييس التي يعتمدها كل مجتمع في تحديد ماهية الأخلاق فإن الفضيلة والرفعة والشرف لا يمكن أن يكون لها أكثر من معنى ولا تحتمل أكثر من تفسير.
ولعل ترسيخ المبادئ الأخلاقية العريقة يقتضي منا الاستنارة بما أورثه لنا رواد مهنتنا في تونس ولكن أيضا علينا التطلع إلى المعايير الأخلاقية التي يعتمدها المحامون في المجتمعات المتقدمة مما سيلهمنا مبادئ أخلاقية جديدة نتبنى منها ما يتلائم مع تطلعاتنا ونورثه بدورنا إلى أجيال مقبلة.
ووجب الإشارة في هذا الصدد أن أخلاقيات مهنة المحاماة هو موروث عالمي مشترك بين كل الشعوب أصله واحد والتلاقح المستمرّ فيه يثري القواعد السلوكية التي على المحامي التمسّك بها مهما شهد مجتمعه من تطوّر اقتصادي واجتماعي وثقافي. ومن هنا كان البحث في أخلاقيات مهنة المحاماة في القانون الأنقلو-أمريكي ذات أهمية وجدوى .
وعلى خلاف النظام القانوني التونسي الذي يعد المشرّع هو مصدر التشريع الوحيد فيه فإن المحاكم العليا الفدرالية الأمريكية هي كانت أول المنظمين لمهنة المحاماة في الولايات المتحدة متخذين من القانون الانقليزي ملهما لأعمالها ثمّ وفي منتصف القرن التاسع عشر قام دافيد هوفمان وهو أستاذ قانون بجامعة بجامعة ميرلاند بصياغة خمسين قاعدة بالنظر إلى مهنة المحاماة Fifty resolutions in Regard to professional department (1936) أعقبتها محاولة أخرى من طرف القاضي في محكمة بنسيلفانيا، جورج شيرزوود لتجميع أخلاقيات مهنة المحاماة. Essay on Professional Ethics (1854).
وعندما تشكل أول هيكل فدرالي للمحامين الأمريكيين في سنة 1878 American BAR Association أخذ عن هذه الكتابات معظم القواعد الأخلاقية التي جاءت بها وبوبها في كتاب سمي القواعد الأخلاقية وكان ذلك في سنة 1908 The ABA’s Canons of Ethics ثمّ في مرحلة ثانية سنة 1969 تم إصدار مجلة المسؤولية المهنية Model code of Professional responsibility التي تمّ العمل به إلى سنة 1983 حيث تمّ إصدار مجلة قواعد السلوك المهنية Model Rules of Professional Conduct وهو القانون المطبق إلى اليوم.
والجدير بالذكر في هذا الخصوص أن هذه القوانين لا تلزم إلا الولايات التي قامت بالمصادقة عليها وإلا فإن هذه الأخيرة تكتفي بقوانينها المحلية State Bar Association مما خلق قوانين وقواعد محلية وفدرالية عديدة ومتضاربة في بعض الأحيان ولكنها من الثراء أيضا بما يجعل الإطلاع على جانب منها ذا فائدة كبرى.
إن دراسة علاقة المحامي بالأخلاق في تونس والولايات الأمريكية المتحدة تقتضي منا دراسة أهمية الأخلاق في مزاولة المحامي لعمله وفي العلاقات الاجتماعية التي يعقدها خارج إطار المهنة فالأخلاق المهنية تلمّ بكل الجوانب الحياتية للمحامي والأخلاق المهنية هي جزء من الأعراف والقوانين التي تسير مهنة المحاماة. كما أن هذه الدراسة لن تكون مستوفية لجميع أوجهها إذا لم يقع التطرّق إلى الآليات المعتمدة في بلادنا والولايات المتحدة لمراقبة الأخلاق المهنية. ولذلك يجب طرح الأسئلة التالية: ما مدى أهمية الأخلاق بالنسبة للمحامي ؟ وما هي الآليات المعتمدة لمراقبة الأخلاق ؟ وستقع الإجابة عن ذلك باعتماد المخطط التالي: 1- الأخلاق أساس المحاماة 2-آليات مراقبة أخلاق المحامي
العنوان الأول : الأخلاق أساس المحاماة
الأخلاق هي ركيزة أساسية لمهنة المحاماة، هي العماد الذي يشدّ أوتاد هذا البيت النبيل ويحميه من التطوّرات الاجتماعية والاقتصادية التي قد تعصف به إذا ضعفت هذه اللبنة منه.
المبحث الأول: الأخلاق في المحاماة بين القانون و الأعراف المهنية
الأخلاق في مفهومها الخاص بمهنة المحاماة هي جزء من الأعراف المهنية التي أطردت عبر السنين (1) وهي مصدر من مصادر القانون الوضعي لمهنة المحاماة (2) وهي قاعدة متجدّدة (3).
الفقرة الاولى : الأخلاق جزء من الأعراف المهنية:
الأخلاق المهنية تكوّنت بطريقة مطردة بتواتر السنين فهي جزء من الأعراف التي أسسها رواد الرداء الأسود ولكن قبل الخوض في هذه العلاقة وجب أولا تعريف العرف في النظام القانوني التونسي والأمريكي. في النظام القانوني الأول تمّ تعريف العرف فيه على أنه “ما درج عليه الناس منذ عهود استغرق بها الزمن وتقادم العهد وتنامي أمده إلى الحد الذي به اكتسب صفة الأمر الذي به يسلم تسليما والذي لا مجال لتجاوزه والخروج عنه … إنه كيان ذو وجهين أحدها مادي وثانيها نفسي” . فالعرف قوامه عنصر مادي هو السنون التي اطردت بانتظام ورسخته من جيل إلى جيل وعنصر معنوي يتكوّن من القوّة الإلزامية العرف والتي يكون مصدرها الاعتماد العام.
أما الأعراف المهنية فهي لا تختلف في تعريفها عن العرف بصفة عامة غير أن مصدرها هو فئة مخصوصة من المهنيين كوّنت عبر الزمن قواعد سلوكية تنظم المهنة التي تنتمي إليها فتسلم بها وتصبغها بطابع إلزامي لا يقلّ قوّة عن القانون.
والعرف في الولايات المتحدة هو أصل كل القواعد الإلزامية على اختلاف مجالاتها ذلك أن القواعد القانونية كانت إلى وقت قريب غير مدوّنة والقضاء الفدرالي متمثلا في المحكمة العليا The supreme court هو مصدر التشريع الوحيد حيث يقع تطبيق الحلول القانونية التي جاءت بها القرارات القضائية في وقت سابق (The precedent). فالنظام القانوني الأمريكي هو نظام عرفي (Common law) ولا يقوم على تشريعات مدونة ومضبوطة سلفا كما هو الحال في نظامنا القانوني لذلك كان القانون المتعلق بالمحاماة والأعراف المهنية والقواعد الأخلاقية هي نتاج القضايا المطروحة أمام القضاة بالأساس ثمّ قامت الهياكل المهنية وأساتذة القانون والجمعيات الحقوقية الغيررسمية بتطوير الأعراف المهنية وضبط أخلاقيات المهنة. وفي تطوّر الأعراف المهنية وإلمامها بكل ما يخص مهنة المحاماة تمّ تطوير الأخلاق المهنية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الموروث الذي يتمّ الرجوع إليه وتطويره مهما صيغ من قوانين وأحدث من قواعد. فقد صاغت الأعراف المهنية مجموع الأخلاقيات التي سارت بين المهنيين عهدا ودستورا وأصبحت جزءا لا يمكن فصله عن تقاليد مهنة المحاماة، وقد تمّ تقنين البعض منها ولكن أكثرها لم تشر النصوص القانونية إليها وهذا الأمر ينسحب على النظام القانوني التونسي والأمريكي.
ففي تونس مثلا كان يعتبر من الأعراف الأخلاقية الأصلية التي لا يجب الحياد عنها أن لا ينوب المحامي أي حريف إلا بعد استشارة زميله الذي تعامل طويلا مع هذا الأخير وبعد التأكد من أن طالب الخدمة القانونية قد أدى ما عليه من أجور محاماة إلى المحامي الأول وإلا فإنه يرفض نيابته ويطلب منه التعامل مجدّدا مع من وكله أولا. فهذه القاعدة الأخلاقية هي جزء من الأعراف المهنية فقط ولا يوجد لها أثر في أي من النصوص القانونية. وفي مثال آخر على ثراء الأعراف المهنية للمحاماة في تونس وعنايتها بالجانب الأخلاقي وتكريسها له حتى صارت الأخلاق جزء من العرف أنه في حالة كانت قاعة الجلسة ليس بها مقاعد شاغرة فإن المحامي الصغير في السن يترك مقعده لمحام يفوقه سنا وذلك تأدّبا منه والتزاما بآداب الجلوس في محضر شيوخ المهنة. وتعدّ هذه القاعدة السلوكية الأخلاقية جزء من الأعراف المهنية العريقة التي دأب الأولون في مهنة المحاماة على ترسيخها ولا يوجد لها صدى في النصوص القانونية.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية وباعتبار أن مهنة المحاماة ترضخ إلى اعتبارات أخلاقية مختلفة نسبيا عن تلك التي تسير دواليب مهنتنا في تونس فإن المحامي الأمريكي يجب عليه أن يتضامن تضامنا كليا مع موكله ويستعمل جميع الوسائل الدفاعية لإقناع هيئة المحلفين حتى وإن أدى ذلك إلى الإضرار بل وتدمير خصومه في المعركة القضائية. فالمعروف أن المحامي هو الذي يكوّن الأدلة ويجلبها إلى هيئة المحكمة مستعملا الأسلوب الاتهامي ضدّ الشهود والخصوم.
فمن الأعراف المهنية الأخلاقية أن يدافع المحامي الأمريكي ببسالة وبكل الطرق عن موكله معتبرا إياه البريء الوحيد.
من ذلك أنه في سنة 1820 وفي قضية طلاق ملكة انقلترا كارولين استند لسان دفعاها إلى عرف جاء به اللورد بروقهام والذي يعرّف دور المحامي كما يلي: “المحامي، في إطار أدائه لعمله يعرف شخصا واحدا في العالم هو موكله، يجب عليه إنقاذ موكله بكل الطرق والوسائل، وعلى حساب كل الأشخاص الآخرين وبالنسبة له يعتبر هذا واجبه الأول الوحيد: وفي قيامه بهذا الواجب لا يجب عليه مراعاة الألم، الأتعاب والدمار الذي قد يسببه للآخرين”. « An advocate, in his discharge of his duty, knows but one person in all the world, and that person is his client. To save that client by all means and expedients, and at all hazards and costs to other persons, and among them, to himself, in his first and only duty; and in performing this duty he must not regard, the alarm, the torments, the destruction which he may bring upon others » . فمن الأعراف الأخلاقية أن يدافع المحامي بكل شراسة وعنف عن موكله وهذه القاعدة السلوكية تجد مصدرها في مبدأين أساسيين هما التضامن والحياد. فالتضامن هو “أن يعمل المحامي بتضامن للدفاع عن أهداف موكله” « The second principle of conduct is partisanship, this principle, prescribes that the Bowyer work aggressively to advance his clients ends » . أما الحياد فهو “أن يبقى المحامي منفصلا عن أهداف موكله” « The lawyer remaid detached from his client’s sends » . وهذه القاعدة الأخلاقية التي أصبحت جزءا من الأعراف المهنية في الولايات المتحدة قد أثارت جدلا واسعا غير أنها ضلت راسخة باعتبار أن المحامي ليس مسؤولا من الناحية الأخلاقية عن الأخطاء التي يقوم بها موكله ولا عن تلك التي قد تقع فيها المحكمة.
لكن المحامي الأمريكي ورغم واجبه في الدفاع باستماتة عن موكله إلا أن الأعراف المهنية قد قيدته بواجبات أخلاقية أهمها عدم الكذب فلا يمكن له رغم استعماله لوسائل ضغط عديدة الكذب على المحكمة أو هيئة المحلفين ومن ذلك أن الكاتبة سيسيلا بوك اعتبرت في كتابها: الكذب اختيار أخلاقي في الحياة العامة والخاصة: “أن هؤلاء الذين يتبعون مع ماكيفيلي مقولة أن الأشياء العظيمة قدمت من طرف أشخاص لم يأخذوا بعين الاعتبار النية الحسنة هم يطلبون عادة من الناس أن يكونوا أمناء وهم دون ذلك وهذا الأمر يعتبر لا أخلاقيا”. « They may believe with Machiavelli that “great things” have been done by those have “little regard for good things”. They may trust that they can make wise use of the power that lies bring. And they may have confidence in their own ability to distinguish the times when good reasons support their decision to lie. Liars share with those they desire not to be deceived » .
وبهذا تكون الأخلاق جزء من الأعراف المهنية ونبراسا يهتدي به المحامون في أعمالهم، فهي قيود معنوية بالغة الأهمية من ذلك أنه حتى بعد تقنين مهنة المحاماة ظلت الأخلاق رافدا مهما عند صياغة النصوص القانونية في تونس أو الولايات المتحدة.
الفقرة الثانية :الأخلاق مصدر من مصادر قانون مهنة المحاماة
إن القوانين التي نظمت مهنة المحاماة في تونس أو في غيرها من الدول، قد جعلت من الأخلاق مصدرا من مصادر هذه القوانين غير أن تفسير الواجبات الأخلاقية وإدماجها صراحة ضمن الفصول القانونية يختلف في درجاته بين الأنظمة القانونية. ففي تونس تمّ صياغة نصوص قانونية خاصّة بمهنة المحاماة لأول مرّة في سنة 1958 بالقانون عدد 37 لسنة 1958 المؤرّخ في 15 مارس 1958 تمّ تنقيحه بالقانون عدد 87 لسنة 1989 المؤرّخ في 9 سبتمبر 1989 وهو القانون الجاري به العمل إلى اليوم وقد تضمّن 9 مبادئ أخلاقية هي الحرية، الاستقلالية، الشرف، الأمانة، سرّ المهنة، الاستقامة، الاعتدال، اللياقة وواجب الزمالة. ولم تأتي هذه المبادئ مفسّرة أو معرّفة بل قام المشرّع باستعمالها ضمن الفصول القانونية بصفة عرضيّة كما لم يبيّن إذا كانت هذه المبادئ المذكورة هي على وجه الحصر أم الذكر . ولكن يغلب الاعتقاد أن المبادئ الأخلاقية التي كرّسها قانون 89 لمهنة المحاماة قد جاءت على سبيل الذكر وفي كل الأحوال فإنها جاءت عامة يمكن أن تنضوي تحتها العديد من المبادئ الأخلاقية التي لا يمكن عدم اعتمادها. فواجب الزمالة التي جاء به الفصل 62 من قانون المهنة هو لفظ يمكن أن يستوعب احترام الزملاء، تقدير شيوخ المهنة وإكرامهم، التأدّب في السلوك واللفظ بمحضرهم وعدم القدح في أعمالهم داخل المهنة وخارجها…كما أن مبدأ الشرف الذي جاءت به الفصول 3، 5، 62 و64 من مجلة المحاماة يستوعب الكرامة والترفع والتعقل وغيرها من المبادئ الأصيلة التي يجب على المحامي التحلي بها. إن قانون المحاماة، وإن لم يكرّس صراحة هذه الواجبات الأخلاقية للمحامي خلافا للنظام القانوني الأمريكي والكندي فإنه أدرج الأصول الأخلاقية ضمن واجبات المحامي عامّة وفي العديد من فصول قانون 87 (الفصول1، 2، 3، 5، 16، 29، 39 .. 62، 64). وبهذا تكون الأخلاق مصدر هام من المصادر التي اعتمدها المشرّع التونسي عند صياغته النصوص القانونية المتعلقة بمهنة المحاماة. وهذا التكريس المادي لأخلاقيات المهنة ذو أهمّية قصوى ذلك أن القاعدة السلوكية الأخلاقية إذا كانت عرفية أو متفق حولها تكون إلزاميتها وقدرتها على التواجد والاستمرار ضعيفة باعتبار أن الرادع الوحيد في صورة خرقها هو الضمير الإنساني دون غيره في حين أنه عندما يقع تبويب هذه القاعدة الأخلاقية ضمن قانون فإنه صبغته الإلزامية تصبح أكثر صراحة وتطوّرا باعتبار أن سلطة العقاب تصبح خارجة عن ذات الإنسان وضميره ومرتبطة بهيكل مهني أو سلطة عمومية.
إن قانون 87 المنظم لمهنة المحاماة أخذ بعين الاعتبار بعض الأخلاق المهنية ولكنه لم يكرّسها جميعا وذلك على خلاف القانون الأمريكي الذي قام بتدوين جميع تفاصيل السلوك الأخلاقي الذي يجب أن يتحلى به المحامي وذلك لاختلاف وتطوّر عملية تقنين هذه المهنة بين البلدين. فالولايات المتحدة تعتمد القوانين التي تأتي بها المحاكم الفدرالية في كل ولاية مما ينتج عنه تباين بين مختلف الأعراف والقوانين في كل منهما ولتفادي ذلك قامت هيأة المحامين في الولايات المتحدة أو ما يسمّى بـAmerican Bar Association بصياغة قواعد أخلاقية موحّدة لكلّ المحامين الأمريكيين دون أن يكون لهذه القواعد صبغة إلزامية حيث وقع اعتمادها في أغلب الولايات الأمريكية وليس جميعها فولاية كاليفورنيا أو كارولينا الشمالية فضلت اعتماد قواعد أخلاقية خاصّة بهياكلها المهنية والمحلية. ولكن الولاية التي تعتمد هذه القواعد المهنية تصير بذلك مجبرة على الالتزام به كليا مثل أي قانون فدرالي. وقد بدأ مجهود الهيكل المهني للمحامين في الولايات المتحدة لتبويب الأخلاق المهنية ضمن فصول قانونية منذ سنة 1908 حيث أصدر ABA ما يسمّى بـ ABA’s Canons of Ethics وقد جاء فيه من القواعد الأخلاقية المحافظة على السرّ المهني والمحافظة على هيبة مهنة المحاماة وشرفها والعمل على الرفع من مستوى النظام القانوني.
Canon 1: A lawyer should assist in mainting the integrality and competence of the legal system.
Canon 5: A lawyer should preserve the confidences and secrets of a client.
Canon 8: A lawyer should assist in improving the legal system.
وبالإضافة إلى هذا القانون الموحّد فقد أصدر هيكل المحامين الأمريكيين العديد من النصوص التكميلية مثل:
Arbitration and Mediation: code of Ethics of the ABA for arbitrators in Commercial disputes and Standards of conduct for mediators.
Professionalism in General: ABA.
وقد شكلت حماية الأخلاق المهنية روح هذه النصوص والواعز الذي دعى المحامين الأمريكيين إلى التوحّد حماية لهذه المهنة العريقة من ذلك أن اللجنة التي دعت هؤلاء إلى الاجتماع وتبني قوانين أخلاقية في سنة 1906 أصدرت بيانا أكدت فيه “أن التطوّر الرائع … لمهنة المحاماة في أنشطتها قد تزامن معه توفر فرص أكثر للمحامين ضمن طريق الخير ولكن أيضا ضمن طريق الشرّ”. « With the marvelous growth and development of our country … with the ranks of our profession ever extending, its field of activities ever widening, the lawyer’s opportunities for good and evil are correspondingly enlarged ».
وبذلك تكون الأخلاق ركيزة قوانين المحاماة في بلادنا والولايات المتحدة على السواء مع الفرق في أن قوانينهم كانت أكثر إلتصاقا بالقواعد الأخلاقية حتى البسيطة منها وذلك حماية لهذا الهيكل من الانهيار إثر كلّ رجّة اجتماعية أو اقتصادية قد تصيب مجتمعه. فقانون المحاماة بتونس فيه بعض من أخلاقيات المهنة في حين قام قانون المحاماة بالولايات المتحدة الأمريكية بتبويب لأخلاقيات المهنة ضمن قانون ضمّ أيضا جميع الأعراف الأخرى التي تهمّ مهنة الدفاع. ولعل المشرّع التونسي كان محقا في عدم صياغته لجميع القواعد الأخلاقية التي لا تنفك تتغيّر وتتجدّد.
الفقرة الثالثة: القاعدة الأخلاقية متجدّدة في مهنة المحاماة:
إن الأخلاق بصفة عامّة متجدّدة تتلوّن حسب محيطها وتتشكل باستمرار طبقا لما يستجدّ من متغيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية فما هو أخلاقي اليوم قد لا يكون غدا. والأمر ينسحب أيضا على أخلاقيات مهنة المحاماة التي تتطوّر بتطوّر الظروف والمجتمعات.
من ذلك ما يتعلق بواجب السرّ المهني الذي كرسه قانون المحاماة في الفصول 5، 29، 39 والذي يترتب عليه “تحجير إفشاء أي سرّ من أسرار منوّبه التي أفضى له بها أو التي اطلع عليها بمناسبة مباشرته لمهنته”. فهذا الواجب المحمول على المحامي في عدم الخوض في أسرار منوّبه مع أي كان اعتبر لمدّة طويلة من أوكد الواجبات المفروضة عليه، غير أن التغيرات الاجتماعية والسياسية وازدياد موجات التطرّف والإرهاب قد دفعت المشرّع إلى التدخل لإصدار قانون حول مكافحة الإرهاب وهو القانون عدد 75 لسنة 2003 المؤرّخ في 10/12/2003 فهذا القانون يفرض الإدلاء بأية معلومات تؤدّي إلى مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال، وهو ما يشكل منعرجا جديدا في مهنة المحاماة، ذلك أن الواجب المهني والضمير المهني يجب أن ينكمش أمام الضمير الاجتماعي وواجبات الفرد تجاه موطنه. فالمحامي في هذه الحالة يصبح إزاء واجب قومي لا يجب أن يتردّد في القيام به حتى وإن كان سيؤدي إلى التضحية بواجب مهني تجاه حريفه. ولعل مفهوم السر المهني والضمير المهني هما من المسائل التي وجب تحديد مفاهيمها مجدّدا على المستوى العالمي وليس فقط في بلادنا ذلك أن نفس التغيرات قد طرأت على هذا الواجب في الولايات المتحدة الأمريكية. فإلى حدود منتصف القرن الفارط كان واجب الحفاظ على السرّ المهني هو المتحكم في العلاقة بين المحامي الأمريكي ومنوّبه، من ذلك أنه في سنة 1914 وفي قضيّة شهيرة وصلت إلى الرأي العام وسمّيت بـ The Leo Frank Case أدين ليو فرانك بقتل عامل بمصنع يبلغ 14 عاما وقد حكم عليه بالسجن مدى الحياة وتبرأة شخص ثان كان متهما معه في نفس القضية في حين أنه كان بريئا من التهمة. أغلق الملف ونسي الأمر سنوات عديدة إلى حين قيام أرتور قراي بوال Arthur Gray powell وهو محامي الشخص الثاني الذي برأ من التهمة بكتابة مذكّراته في سنة 1943 وفيها اعترف بأن موكله هو القاتل وأنه كان على علم بذلك بعدما أسرّ له موكله بهذا الأمر بعد مدّة من صدور الحكم ضدّ ليو فرانك. « I’ am one of the few people who know that Leo Frank was innocent of the crime for which he was convicted … we lawyers when we are admitted to the bar, take an oath never to reveal the communications made to us by our client » .
ولكن هذا التطرّف في المحافظة على السرّ المهني إلى حدّ الإضرار بمصالح الأبرياء قد تمّ تجاوزه في القانون الذي تمّ وضعه في سنة 1983 والذي يمكن المحامين في التخلي عن واجب الحفاظ على سرّ المهنة في بعض الأحيان والتي نصّ عليها الفصل 16 من هذا القانون من ذلك أنه يمكن للمحامي إفشاء السرّ المهني لمنع موكله من ارتكاب جريمة أو في أي حالة من الحالات التي يعتبر فيها ذلك ضروريا.
المبحث الثاني: الأخلاق شرط ضروري لممارسة مهنة المحاماة في تونس والولايات المتحدة:
تمثل الأخلاق ضرورة لا محيد عنها بالنسبة للمحامي سواء تعلق الأمر بحياته الخاصة خارج أطر المهنة (1) أو في معاملاته داخل أطر المحاماة (2).
الفقرة الاولى : الأخلاق ضرورة للمحامي خارج أطر المهنة:
إن المحامي في جميع بلدان العالم يجب أن يتحلى بصفات أخلاقية فاضلة حتى عندما ينزع ثوب المحاماة ويمارس حياته الخاصّة. من ذلك أن الفصل 64 من قانون المهنة قد جاء محذرا المحامي من مغبّة الاستهتار بالأخلاق أو الحياد عنها فقد نصّ على أنه “يؤاخذ تأديبيا المحامي الذي يخل بواجباته أو يرتكب ما ينال من شرف المهنة أو يحط منها بسبب سلوكه فيها أو سيرته خارجها”. فسلوك المحامي في حياته اليومية يجب أن يكون بعيدا كل البعد عن الشبهات أو المآخذ فكل فرد في هذه المهنة هو سفير لدى حصن الدفاع وهو الفاضل المعلم الذي يجب أن يرنو بنفسه عن كل ما من شأنه أن يمسّ بهيبة المحاماة وجلالها. والملاحظ أن عبارات المشرّع التونسي جاءت عامّة فلم تحدّد المقصود بعبارة حسن السيرة ولكن الأكيد أن المحامي يجب أن يتحلى بالأخلاق التي يرتضيها مجتمعه فلا يمارس ما ينافي الأخلاق ولا يتلفظ بما يشين ولا يرتدي لباسا غير محترم يهز من مكانته. وقد أشار الأستاذ عبد القادر الاسكندراني في محاضرته التي عنوانها “أخلاقيات المهنة ركيزة أساسية لتكوين المحامي” إلى أن “هيئة المحامين ببلجيكا وكذلك هيئة المحامين بباريس قد اعتبرت أن المحامي الذي ارتكب حادث سير وهو في حالة سكر ويتعمّد الهروب للتفصّي من المسؤولية قد أخل بواجباته ويستوجب إيقافه عن العمل”.
أما في الولايات المتحدة فإن الواجبات الأخلاقية المحمولة على المحامي خارج إطار مهنته قد جاءت أكثر دقة من ذلك أن الفصل 6.1 من Model Rule Professional قد أشار إلى أنه يجب على المحامين أن يخصّصوا 50 ساعة في السنة إلى الأنشطة الخيرية (Pro pono activities) لفائدة الجمعيات القانونية أو الحقوقية أو الدينية … وهذا القانون الذي جاء به المحامون الأمريكيين كان ذا هدف واحد هو أن يستعمل المحامون ملكاتهم وما يتمتعون به من خبرات وإمكانيات ذهنية لصالح مجتمعهم. فالواجب الأخلاقي للمحامي يحتّم عليه مدّ يد المساعدة للمجتمع حتى يتمكن من تطويره والرفع من شأنه. وبهذا يكون القانون الأمريكي قد تجاوز مجرّد تحذير المحامي من السلوك المشين إلى تحريضه على أن يكون نواة الخير والحرّية والعدالة فالمحامي ينتمي إلى النخبة وعليه واجب العمل على انتشال بقية أفراد مجتمعه. وخشية أن يشارك المحامي في تحضير قوانين أو قرارات في إطار الهياكل المهنية وغيرها ليستفيد منها شخص بعينه فإن الفصل 6.4 منModel Rule of Professional قد مكن المحامي من الانسحاب من المشاركة في أي من هذه القرارات إذا كانت ستفيد أحد حرفائه بصفة مادّية وذلك حتى دون أن يخبر هذا الأخير بقراره. « A lawyer may serve as a director, officer or a member if an organization in reform of the law or its administration not with standing that the lawyer knows that the interested of a client may be materially benified by a decision in which the lawyer participate the lawyer shall disclose that fact but need not identify (1) the client » .
الفقرة الثانية: الأخلاق ضرورة للمحامي داخل أطر المهنة:
إن المحامي عند حوضه غمار تجربته المهنية يكون محاطا بالكثير من العلاقات والمعاملات التي تفرض عليه انتهاج سلوك فاضل وأخلاق عالية. فالأخلاق هي نبراس المعاملات بين المحامي وزملائه (1) وبينه وبين السلط القضائية والعمومية (2) وكذلك بينه وبين حرفائه (3).
1) الأخلاق في علاقة المحامي بزملائه: إن الأخلاق والتضامن والتكافل هي المبادئ التي يجب أن تسود علاقة المحامي بزملائه وذلك في تونس أو في الولايات المتحدة.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن المحاماة في تونس لم تكتسحها التجمعات المهنية ولا النيابات العالمية فالعلاقات بين المحامين ظلت علاقات شخصيّة والاحتكاك بينهم ظل يوميا وذلك على عكس الولايات المتحدة التي اكتسحتها التجمعات المهنية للمحامين والشركات العالمية للاستشارات القانونية مما جعل التعارف والتعامل الشخصي بين المحامين شبه غائب. لهذا السبب تحديدا فإن المعايير الأخلاقية تختلف بين بلدنا والولايات المتحدة.
في تونس وعلى المستوى القانوني لم يحدّد القانون المنظم لمهنتنا بدقة الواجبات المحمولة على المحامي تجاه زملائهم ولكنه تعرّض إلى واجب الزمالة صلب الفصل 62 الذي نص على أنه “تتولى الهياكل المذكورة… إجراء المراقبة لصيانة مبادئ الاستقامة والاعتدال ومراعاة واجبات الزمالة التي تقوم عليها مهنة المحاماة وشرفها ومصلحتها”.
أما على مستوى الأعراف المهنية فإن من واجبات الزمالة أن لا يقدح المحامي في زميله وأن لا يشكك في قدراته المهنية والصناعية أو في أخلاقه… كما أن على المحامي الذي توفرت فيه الشروط القانونية قبول الواردين الجدد على المهنة في مكتبه وتمرينهم ونصحهم وإرشادهم ذلك أن المحامي لا بدّ أن يفيد غيره بخبراته ونصائحه ويسلم هذا المشعل الوقاد، مشعل الحق إلى المحامين الشبان حتى يوفوا بالعهد كما يجب ويسيروا على نفس درب العدل والنجاح. فكيفما درّب المحامي تلميذه، ستكون محاماتنا غدا. والأستاذ المشرف على التدريب يجب أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة تجاه المحامي المتمرّن فلا يسيء معاملته أو يستغله لحسابه الخاص كما أن للمحامي المتمرّن واجب أخلاقي تجاه الأستاذ المشرف وهي نفس الواجبات المحمولة على الإنسان اتجاه معلمه.
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فإن العلاقة بين المحامي وزميله تأخذ أبعادا مختلفة ذلك أن طغيان التجمّعات المهنية جعل المحامين في تنافس شديد على الظفر بالخريجين الجدد من كليات الحقوق. فالممتازين منهم يعدّ غنيمة تريد كل الأطراف الظفر بخدماتها. لذلك فإن الهيكل الذي ينضوي تحته المحامون الأمريكيين قد أوصى في سنة 1986 بأن يقع تشغيل المتوسطين من طلبة الحقوق باعتبار أنه من غير المقبول أخلاقيا وضع شروط قبول مجحفة لا تتماشى مع حقيقة إمكانيات الطالب الأمريكي (1) كما أن الفصل 2.4 لـ California Rules of Professional conduct قد منع أن يضع المحامين الاعتبارات الدينية والانتماءات السياسية أو العرقية… عند تشغيلهم لزملائهم المحامين. A California lawyer: Shall not unlawfully discriminate or knowgly permit unlawful discrimination on the basis of race, national origin, sex, sexual orientation, religion, age or disability in : (1) hiring, promoting, discharging or otherwise determining the conditions of employment of any person… ». ومن الأمثلة الأخرى في القانون الأمريكي على واجبات الزمالة ما جاء به الفصل 4.2 من قانون المحاماة الأمريكي الذي منع المحامي من الاتصال بالخصم في القضية دون استشارة أو علم محامي هذا الأخير. « In representing a client, a lawyer shall not communicate about the subject of the representation with a person the lawyers knows to be represented by another lawyer in the lawyers in the mater, unless the lawyer has the consent of the other lawyer or is authorized by law to do so ». والجدير بالذكر أن هذه القاعدة الأخلاقية يوجد لها نظير في تونس ولكن قانون المحاماة لم يكرّسها وإن جاءت بها الأعراف المهنية. فالأخلاق هي أساس المعاملات بين المحامين ولكن أيضا بينهم وبين السلط القضائية والعمومية.
2) الأخلاق في علاقة المحامي بالسلط القضائية والعمومية:
وإن اختلفت المهام بين المحامي والسلط القضائية والعمومية فإن كل منهم يحاول من موقعه تحقيق العدالة الاجتماعية لذلك فإن العلاقة بين الدفاع والقضاء أو الإدارة لا يمكن أن يشوبها التنافس أو التحدّي. فالمحامي يجب أن يتبع القواعد الأخلاقية وأن يلزم سلوكا لائقا اتجاه القضاة، رجال الشرطة وغيرهم من الأعوان العموميين. هذا المبدأ هو نقطة مشتركة أخرى بين المحامي التونسي والمحامي الأمريكي. ففي تونس يحمل القسم الذي يؤدّيه المحامي واجب احترام المحاكم والسلط العمومية (الفصل الخامس من قانون 89)، وهذا الواجب هو واجب أخلاقي قبل أن يكون واجب يفرضه القانون ضمن الفصول المنظمة لمهنة المحاماة.
القضاة هم الساهرون على تحقيق العدل، والأعوان العموميين في الشرطة أو الإدارة هم السلطة التنفيذية التي تطبّق العدالة، فجميعهم بالتالي دعاة للخير والحق ومن الواجبات الأخلاقية على المحامي مساعدتهم في أعمالهم ولكن أيضا احترامهم لأنهم يمثلون العدالة وهي قيمة اجتماعية وأخلاقية لا يجوز الاستهتار بها. ومن أوجه السلوك الأخلاقي الذي يجب أن يتحلى به المحامي هو أداؤه لزيارة مجاملة لرؤساء المحاكم والدوائر عندما يترافع أمامهم لأول مرّة وذلك للتعريف بنفسه ولإبداء استعداده للتعاون معهم لتحقيق العدل والسلام الاجتماعي.
والأمر سيان أيضا في الولايات الأمريكية المتحدة حيث فرض قانون المحاماة في فصله (c) 3.4 على المحامي احترام القضاء والامتثال له: « A lawyer shall not knowgly disobey an obligation under the rules of a tribunal except for an open refusal based on an assertion that no valid obligation exists ». وقد فرض هذا الفصل على المحامي “احترام الإجراء المتبع أمام المحكمة وعدم عصيانه إلا إذا لم يكن هنالك ما يجعل المحكمة تتمسّك بهذا الإجراء.” فهذه قاعدة سلوكية صريحة تحث المحامي على الاحترام والالتزام. كما ينص الفصل 165 من The restatement of the law وهو قانون فدرالي على أن “في تمثيله لحريفه أمام المحاكم، المحامي يجب أن يلتزم بالقوانين بما في ذلك القوانين الإجرائية والقواعد الخاصّة بكل محكمة”. « In representing a client in a matter before a tribunal, a lawyer must comply with applicable law including rules if procedure and evidence and specific tribunal rulings ». فاحترام المحاكم أو المؤسسات العمومية ليس رضوخا لأشخاص بعينهم أو انكسارا أمامهم إنما هو التزام أخلاقي تجاه ما يمثلونه للمجتمع من قيم سامية مثل العدالة والإنصاف والنظام.
3)الأخلاق في علاقة المحامي بحريفه:
إن العلاقة بين المحامي ومنوبه هي الأصل علاقة بين مغيث ومستغيث فالحريف يلتجأ إلى المحامي للتغلب على إشكال قانوني قد يؤدي إلى المس من حرمته الجسدية أو ماله. فموازين القوى ليست متعادلة مما يفرض على المحامي العديد من الواجبات الأخلاقية اتجاه موكله. أوكد هذه الواجبات الأخلاقية هي الحفاظ على السرّ المهني (1) وكذلك العمل بإخلاص وضمير وأمانة (2) عدم نيابة المصالح المتضاربة (3) وعدم الشطط في تحديد الأجور (4) والالتزام بتسليم الأموال إلى أصحابها.
أ- في الحفاظ على السرّ المهني أمام التطوّارات الاجتماعية والتقنية.
إن الحفاظ على السرّ المهني ليس فرضا قانونيا فقط وإنما هو أيضا التزام أخلاقي تجاه الحريف الذي وضع ثقته في المحامي وأسرّ إليه بأشياء يجهلها عنه كثيرون. فالقسم الذي يؤديه المحامي التونسي وكذلك الأمريكي فيه تعهّد بالحفاظ على السرّ المهني وهو ما يرفع هذا الواجب الأخلاقي إلى مصاف العهود التي سيسأل عنها الله يوم الساعة. وسواء تعلق الأمر بالمحامين التونسيين أو الأمركيين فإن هذا الواجب الأخلاقي ذا أولوية كبرى حيث تمّ صياغته ضمن النصوص القانونية مما أضفى عليه قوّة ردعية في صورة خرقه. والحفاظ على السرّ المهني جاء القانون التونسي في 3 فصول من قانون 89 هي 5 و29 و39. أما في القانون الأمريكي فقد ورد بالفصل 1.6 من Model Rule of Professional a) A lawyer shall not reveal information relating to representation of a client unless the client consents after consultation, except for disclosures that are impliedly authorized in order to carry out the representation, and except as stated in paragraph b. b) A lawyer may reveal such information to the extend the lawyer reasonably believes necessary. 1- To prevent the client from committing a criminal act that the lawyer believes is likely result in imminent death or substantial bodily harm or 2- To establish a claim or defence on behalf of the lawyer in a controversy between the lawyer and the client, to establish a defence to a criminal change or civil claim against the lawyer based upon conduct in which the client was involved, or to respond to allegations in any proceeding concerning the lawyer’s representation of the client. وهذا الفصل يتحدّث عن وجوب مراعاة والحفاظ على السرّ المهني إلا إذا كان هنالك ما يوجب إفشاؤه كنية منوّبه إرتكاب جريمة مستقبلية.
إن السؤال الذي يجب طرحه اليوم هو هل أن الالتزام الأخلاقي تجاه المنوّب بالحفاظ على السرّ المهني حافظ على نفس القوّة ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال قد أثارت جدلا واسعا لكن المؤكد أن الالتزام الأخلاقي للمحامي تجاه مجتمعه هو أكثر وزنا من التزامه تجاه منوبه الذي يشكل فردا واحدا من هذا المجتمع. لذلك وسواء كان الأمر في تونس أو في الولايات المتحدة فإن المحامي عليه واجب الإبلاغ عن أي مسعى للتخريب أو لارتكاب جريمة… كذلك فإنه من الملاحظ أنه أمام التقدّم التكنولوجي فإن المحافظة على السرّ المهني يجب أن يشمل لا ما يصدر عن المحامي فقط وإنما أيضا جهاز الحاسوب في مكتبه. فعادة ما تكون الملفات الخاصة بالحرفاء مخزنة بهذا الجهاز الذي يجب أن لا يطلع عليه إلا المحامي شخصيا والعاملين معه. وهنا لم يحدّد القانون التونسي إذا كان العاملين في مكتب المحامي يحملون نفس واجب الحفاظ على السرّ المهني على عكس القانون الأمريكي الذي حمّل المحامي وكل العاملين معه واجبا أخلاقيا في الحفاظ على أسرار الحريف والحفاظ على السرّ المهني ليس الالتزام الأخلاقي الوحيد الذي يجب على المحامي تجاه حريفه إذ يجب أيضا التزاما بالعمل بإخلاص وضمير وأمانة.
ب- العمل بإخلاص وضمير وأمانة:
إن للمحامي إلتزام أخلاقي تجاه موكله بالعمل بإخلاص وضمير وأمانة ومراعاة مصالحه والسعي جديا لتحقيق أهدافه وهذا الالتزام الأخلاقي يختلف عن الواجبات المحمولة على المحامي في إتقان مهنته والتمكن من الملكات التقنية والصناعية التي تجعله كفأ لتمثيل منوّبه. فالالتزام الأخلاقي يتمثل في العمل بإخلاص وتقديم النصح للحريف دون استغلال جهله للقانون وكذلك في الإيمان بأن الهدف الأسمى هو أن يكمل عمله ويقوم بواجبه بغض النظر عن النتيجة. كما يجب على المحامي الأمانة والإخلاص لحريفه والالتزام بالسعي لتحقيق أهدافه وهذه القاعدة الأخلاقية مشتركة بين المحامي التونسي والأمريكي. وقد تمّ صياغة هذه القاعدة السلوكية بصورة غير مباشرة في القانون التونسي الذي نصّ في فصله الخامس الذي يضمّ القسم على الشرف والأمانة. كما تمّ في القانون الأمريكي التنصيص على هذا الالتزام الأخلاقي في الفصل (A) 101-7 من Code of Professional conduct والذي ينصّ على أن المحامي “لا يجب أن يتعمّد الإخفاق في تحقيق الأهداف القانونية لحريفه أو الإضرار به خلال العلاقة المهنية التي تجمع بينهما”. « A lawyer shall not … fail to seek the lawful objectives of his client through reasonably available means or prejudice or damage his client during the course of the professional relationship ». فالمحامي في أي مكان من العالم يمكن أن يخفق في تحقيق نتيجة لصالح منوبه لكن الأخلاق تفرض عليه أن لا يتعمّد ذلك وأن يتمسك بمبادئ الإخلاص والأمانة والضمير في القيام بمهامه.
كذلك من الواجبات الأخلاقية المحمولة على المحامي أن لا ينوب المصالح المتضاربة:
ج) عدم نيابة المصالح المتضاربة: شركات المحامين كمثال
إن الالتزام الأخلاقي للمحامي تجاه منوبه يفرض عليه أن لا ينوب طرفي النزاع في وقت واحد أو أن يقدّم المساعدة لخصم منوبه بأي شكل من الأشكال. وقد تمّ تعريف نيابة المصالح المشتركة في القانون التونسي والأمريكي بصيغ متشابهة وإن كان القانون الأمريكي وسّع في دائرة التعريف بالمصالح المتضاربة Conflict of interest.
في تونس تمّ تعريف المصالح المتضاربة ضمن الفصل 31 من قانون سنة 89 للمحاماة الذي نصّ على أن: “لا يجوز للمحامي أداء الشهادة في نزاع أنيب أو أستشير فيه ويجب عليه أن يمتنع عن أداء أية مساعدة ولو من قبيل الاستشارة لخصم موكله في نفس النزاع أو في نزاع مرتبط به إذا كان قد أبدى فيه رأيا لخصمه أو سبقت نيابته فيه ثمّ تخلى عنها. كما لا يجوز للمحامي النيابة على من تتعارض مصالحهم في قضية واحدة”. وكذلك ضمن الفصل 28 الذي يتعلق بالشركات المهنية للمحامين والذي ينصّ على أنه “يمنع على المحامي، الشركاء أو المتعاطين، لنشاطهم بمكتب مشترك نيابة أطراف تتعارض مصالحهم في قضية واحدة”. فالمشرّع التونسي قد واكب التطوّر الذي أصبحت عليه مهنة المحاماة في تونس والتي أصبحت تمارس ضمن شركات مهنية تجمع عددا كبيرا من المحامين والمستشارين القانونيين وفرض عليهم عدم نيابة المصالح المتعارضة حتى ولو تعلق الأمر بنيابة كل محام لطرف فقط. ذلك أن تواجد محامين تجمعهم مصالح مشتركة ضمن شركة واحدة قد يضرّ بمصالح المنوّبين – الخصوم في القضية ويمسّ من شفافية المحامي تجاه منوّبه وقد يتأثر بوجود زميل له في نفس المكتب فيكون عمله في غير صالح منوّبه. ولكن هذه القاعدة القانونية هي قاعدة أخلاقية بالأساس ذلك أن اهتمام المحامي وتفكيره يجب أن ينصبّ على مساعدة منوّبه وليس على تحصيل الأموال والثراء ولأن تعدّد المحامين في الشركة الواحدة قد يفتح المجال أمام إنابة المصالح المشتركة بدعوى أن كل محام له ملفات ومكتب خاص به قام المشرّع بالتأكيد ضمن فصل خاص على أن الواجب الأخلاقي المحمول على المحامي الذي يعمل بمفرده هو ذاته المحمول على المحامي الذي يعمل ضمن شركة. فالمحامي عليه التزام النزاهة والأمانة والشرف للذود عن مصالح منوّبه ولا يمكن له أن يثري على حسابهم.
وقد فرض القانون الأمريكي نفس المعايير الأخلاقية في نيابة الموكلين ذلك أنه عرّف نيابة المصالح المتضاربة بكونها “أي تعارض بين مصلحة الحريف ومصلحة المحامي من نفسه أو أي حريف ثان للمحام أو حريف سابق أو شخص ثالث”. « A conflict of interest is involved if there is a substantial risk that the lawyer’s representation of the client would be materially and adversely affected by the lawyer’s own interests or by the lawyer’s own interests or by lawyer’s duties to another current client, a former client, or a third person ».
والملاحظ أن المشرّع الأمريكي قد وسع في تعريف المصالح المتضاربة حيث أخذ بعين الاعتبار مصلحة المحامي الشخصية، مصلحة الحريف وحتى مصلحة حريف سابق للمحامي وذلك لمنع هذا الأخير من استغلال ما لديه من معلومات ضدّ من وكله في الماضي أو أي شخص ثالث ونفس هذا الالتزام الأخلاقي محمول، كما في القانون التونسي، على المحامين العاملين ضمن شركة محاماة. من ذلك أن المحكمة العليا لولاية ماساشوستس قد اعتبرت أنه “لا يمكن لشركة محاماة تنوب الحريف أ، أن تقبل إنابة مشتكي بنفس هذا الحريف أ في قضية أخرى، إلا بعد قبول الطرفين لذلك”. « A law firm that represents client A in the defence of an action may not, at the same time, be consel for a plaintiff in an action brought against a client A, at least without the consent of both parties » . بالإضافة إلى الالتزام بعدم نيابة المصالح المتضاربة فهنالك واجب أخلاقي يحمل على المحامي وهو عدم الشطط في تحديد الأجور.
د- عدم الشطط في تحديد الأجور والالتزام بتسليم الأموال لأصحابها
إن الأجر الذي يتقاضاه المحامي عن الخدمات القانونية التي يقدّمها هي حق مكفول له قانونيا وشرعيا غير أن الواجب الأخلاقي للمحامي يحتم عليه عدم الإثراء على حساب المتقاضين وتقدير أتعابه بكل موضوعية، ذلك أن المحامي في تقديره لأتعابه عليه أن يراعي الحالة المادية لموكله، فالمحامي مهمته أن يجلب الحقوق لأصحابها لا أن يتقاسمها معهم. وقد نصّ القانون التونسي وكذلك القانون الأمريكي على وجوب مراعاة ظروف المتقاضي.
من ذلك أن الفصل 38 من قانون المحاماة لسنة 89 نصّ أنه: “للمحامي المنتدب حق مطالبة منوّبه بأتعاب المحاماة إذا زالت عنه حالة العسر”. وفي ذلك دليل على أنه من الواجبات الأخلاقية المحمولة على المحامي أن يتعامل بإنسانية مع الموكل وأن ينتظر انفراج أزمته المادية حتى يطالب بأجره فهل يجوز أخلاقيا أن يقع مطالبة امرأة ليس لها مورد رزق بأجر المحاماة، ولم يصدر لها حكم النفقة بعد وغير ذلك من الحالات الاجتماعية التي تعترض المحامي في مهنته. فالتعاطف مع المنوّب وتفهّم ظروفه المادية مساهمة منه في التضامن مع مجتمعه.
أما في الولايات المتحدة فإنه رغم طغيان المادة على المعاملات في ظل الفردانية التي تمزق المجتمع الأمريكي فإن القانون المنظم للمحاماة قد نصّ على وجوب “أن أجور المحامي يجب أن تكون معقولة” وذلك ضمن الفصل (a) 1.5 من Model Rule « A lawyers fees shall be reasonable ». ولكن الجدير بالذكر أن “معقولية الأجور” لم يقع تحديدها أو تفسيرها بدقة ضمن القانون الأمريكي مما جعل العديد من المحامين يشطون في تحديد أجورهم دون أن يقع مسائلتهم.
إلى جانب ذلك فإن المحامي التونسي ليس له أن يطلب نسبة من الأموال التي تحصل عليها لفائدة منوّبه، وهنا يكمن الاختلاف الجوهري بين القانون التونسي والقانون الأمريكي ومن هنا نتبيّن مجدّدا أن الأخلاق هي وليدة مجتمعها. فقد نصّ الفصل 41 من قانون المحاماة لسنة 89 أنه: “لا يجوز تخصيص المحامي مباشرة أو بواسطة أو بأي عنوان كان بنسبة معيّنة مما سيصدر به الحكم لفائدة منوّبه ويبطل كل اتفاق مخالف لذلك بطلانا مطلقا”. وهذه القاعدة القانونية هي نتاج للالتزام الأخلاقي الذي يحمل على المحامي بعدم الشطط في تحديد أجره. ذلك أن المحامي له الحق في الحصول على أجر وليس أخذ نصيب من حقوق منوّبه. أما في الولايات المتحدة فإن القانون أجاز أن يتحصّل المحامي على نسبة من الأرباح من ذلك قانون نيوجرزي New Jersey الذي أباح للمحامي الحصول على النسب التالية: 33 % بالنسبة لأول 500.000 دولار يقع الحصول عليها من القضية. 30 % بالنسبة لثاني 500.000 دولار يقع الحصول عليها من القضية. 25 % بالنسبة لثالث 500.000 دولار يقع الحصول عليها من القضية. 20 % بالنسبة لرابع 500.000 دولار يقع الحصول عليها من القضية. ولعل ارتفاع التعويضات والمبالغ المالية المتداولة في القضاء الأمريكي وكذلك ارتفاع المصاريف القضائية قد شجعت المحامين على المطالبة بأجور نعتبرها مشطة وخيالية ويعتبرونها معقولة وأخلاقية. وقد أجاز المشرّع الأمريكي الحصول على نسبة من الأرباح على أساس أن هذه المبالغ والتعويضات قد شارك المحامي بفاعلية في الحصول عليها وأنه لولاه لضاع الحق من صاحبه لذلك يجوز له أخلاقيا الحصول على نسبة منه. كما انه من الواجبات الأخلاقية المحمولة على المحامي إرجاع الأموال إلى أصحابها وعند تنفيذ الأحكام وعدم تأخيرها عنهم أو استغلالها ولو مؤقتا لحسابه الخاص.
العنوان الثاني: آليات مراقبة أخلاق المحامي:
إن السلوك الانساني بصفة عامة بحاجة إلى آليات رقابة عديدة حتى يضمن المجتمع أن لا يحيد الأفراد عن أصول المعاملات فيه وحتى يحقق الأمن والسلم الاجتماعي. فالعقوبات التي تأتي بها المجلات الجنائية هي خير رادع للناس لتجنب اقتراف الجرائم والمسؤولية المدنية التي يحمّلها القانون لبعض المهنيين أو المواطنين تكبح جماحهم عن ارتكاب الأخطاء. لكن القيم الأخلاقية إذا لم تكن مقننة ضمن قواعد قانونية فإن الرادع الوحيد الذي يمنع الناس من انتهاكها هو الضمير فقط. والضمير هو آلية رقابة داخلية وذاتية لا يكفي في أغلب الأحيان لمنع الناس حتى ولو انتموا إلى صفوة المجتمع مسلما هو الحال بالنسبة للمحامين، من انتهاك الفضيلة والتعدي على الأخلاق أو أخلاقيات المهنة. لهذه الأسباب ستقع دراسة آليات الرقابة الخارجية والذاتية، حيث الهياكل المهنية (1) والسلط القضائية من جهة والضمير من جهة ثانية (2).
المبحث الأول: الهياكل المهنية والسلط القضائية
إن القانون قد كفل حماية الأخلاق من مختلف التجاوزات التي يمكن أن تخترقه بأن أعطى للهياكل المهنية للمحاماة والقضاء السلط الكافية لردع المخالفين.
الفقرة الأولى: الهياكل المهنية:
تمارس الهياكل المهنية للمحاماة وعلى رأسها الهيئة الوطنية للمحامين نفوذا مطلقا على المحامين إذا خالفوا قانون المحاماة لسنة 89 أو الأعراف المهنية وهي في ذلك سلطة رقابة وسلطة ردع.
1- سلطة رقابة:
إن الهياكل المهنية للمحاماة في تونس والولايات المتحدة لها سلطة رقابة على مجموع المحامين المنتمين إليها. فقد نصّ الفصل 62 من مجلة المحاماة على انه: يختصّ مجلس الهيئة الوطنية للمحامين بما يلي: (3) ممارسة السلطة التأديبية والعفو المنصوص عليها بالفصل 69 وما بعده من هذا القانون. ونفس الأمر ينطبق في القانون الأمريكي والذي يخوّل فيه لـ American Bar Association على المستوى الفدرالي أو لـ American State Association على مستوى الولايات الأمريكية مؤاخذة المحامون على ما يصدر عنهم من أفعال تخلّ بشرف المهنة.
وهذه السلطة التأديبية التي تتمتع بها الهياكل المهنية للمحامين في تونس والولايات المتحدة لا تشمل فقط الأخطاء المهنية أو الصناعية وإنما تشمل أيضا الأخطاء الأخلاقية التي يمكن أن يرتكبها المحامي من ذلك أن الفصل 64 من قانون المحاماة لسنة 89 قد نصّ على أنه: “يؤاخذ تأديبيا المحامي الذي يخل بواجبه أو يرتكب ما ينال من شرف المهنة أو يحط منها بسبب سلوكه فيها أو سيرته خارجها”. كما ينصّ الفصل 62 من نفس القانون في فقرته الأخيرة على انه “تتولى الهياكل المذكورة – كل في حدود اختصاصه – إجراء المراقبة لصيانة مبادئ الاستقامة والاعتدال ومراعاة واجبات الزمالة التي تقوم عليها مهنة المحاماة وشرفها ومصلحتها”. وبالاستناد إلى هذه الفصول يتبين لنا أن الهياكل المهنية لها سلطة واسعة ليس فقط في مراقبة مدى احترام المحامي للأخلاق وإنها أيضا في التكيف القانوني لأفعال المحامي. ذلك أن العبارات التي أتت بها الفصول القانونية هي عبارات عامّة وتحتمل تأويلات عدّة مما يجعل للهياكل المهنية سلطة تقديرية واسعة في اعتبار الفعل أخلاقي أولا. ولعل هذا الأمر كان متعمدا أولا: لأن الأخلاق متجدّدة ودائمة التغيّر وثانيا لأنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال حصر الأفعال الأخلاقية ضمن قائمة حصرية.
وقد عمد القانون الأمريكي في نفس السياق إلى استعمال عبارات فضفاضة حيث حذر المحامين الأمريكيين ضمن الفصل 9 من Code of Professional responsibility من “تجنب أي مظهر من المظاهر المخلة بشرف المهنة”. « A lawyer shall avoid even the appearance of professional impropriety ».
وقد حث القانون الأمريكي أيضا في الفصل (a) 8.3 من Model Rule على أن “كل محام يحصل له علم بتصرّف غير لائق لمحام آخر وكان هذا التصرّف يمس بصفة جوهرية بالشرف أو الأمانة أو اللياقة، أن يعلم الهياكل المهنية المختصّة”. « A lawyer having knowledge of misconduct by another lawyer that raises a substantial question as to that lawyer’s honesty, trust worthiness or fitness as a lawyer in other respects, shall inform the appropriate professional authority ».
وبذلك تكون النصوص القانونية قد أعطت الهياكل المهنية كل السلطات الناجعة للقيام بعمليات الرقابة حتى تحمي مهنة المحاماة من بعض الممارسات التي قد تسيء إليها.
والهياكل المهنية ليس لها سلطة رقابة فقط بل إن لها أيضا سلطة ردع:
2) سلطة الردع:
إن للهياكل المهنية في كل بلدان العالم سلطة اتخاذ الإجراءات التأديبية ضد المحامين الذين تقاعسوا عن أداء واجبهم. وسواء تعلق الأمر بالمحامين في تونس أو الولايات المتحدة فإن هنالك سلم عقوبات محدّد يقع الاعتماد عليه للعقاب. ففي تونس نص الفصل 64 من قانون المهنة أن العقوبات ممكن أن تتمثل في: الإنذار – التوبيخ – الشطب من قسم التعقيب إلى قسم الاستئناف – الإيقاف المؤقت عن ممارسة المهنة لمدّة لا تتجاوز العامين – التشطيب على الاسم من الجدول لمدّة لا تتجاوز ثلاثة أعوام – محو الاسم من الجدول بصفة نهائية.
وهذه العقوبات المهنية يقع تطبيقها بصفة تتناسب مع حجم الخطأ الذي ارتكبه المحامي. من ذلك أن هيئة المحامين التونسيين قد عاقبت بعض المحامين بالإيقاف المؤقت عن العمل إثر التجائهم لأسلوب غير أخلاقي في مزاولتهم للمهنة وهو السمسرة أو جلب الحرفاء عن طريق وسيط بمقابل. وتعتبر هذه الممارسة مشروعة في الولايات المتحدة حيث أن هنالك شركات أو أشخاص يديرون أعمال أصحاب الأموال والأعمال ويختارون لهم الشركات المهنية للمحامين التي تناسب احتياجاتهم ويكون ذلك بمقابل مادي يقبضه من هذا الطرف أو ذلك حسب الاتفاق.
كما تنزل الهيئة الوطنية للمحامين العقاب بالمحامي الذي يفتح أكثر من مكتب في الجمهورية التونسية في حين أن هذه الممارسة هي مشروعة في الولايات المتحدة بل إن بعض الشركات الكبرى تفتح فروعا لها في كل ولاية وفي كل مدينة.
و من العقوبات التي يمكن ان تسلطها American BAR Association أن تجبر محامي على التخلي عن نيابته في قضية إذا ثبت أن خصمه في القضية لا يعدو أن يكون موكل سابق له في قضية أخرى. ففي الولايات المتحدة يعتبر أن المحامي الذي سبق له أن دافع عن مصالح شخص ما لا يسمح له بالوقوف ضدّه في قضية أخرى إلا إذا وافق طرفا القضية الجديدة على ذلك وبدون موافقتهما يعدّ ذلك ممارسة غير أخلاقية لأن المحامي سيستعمل حتما ضدّ خصمه (الذي كان في وقت سابق منوبه) المعلومات السرية التي أطلعه عليها. وبالتالي فإن الهياكل المهنية التونسية أو الأمريكية لها سلطة تقديرية على مستوى الرقابة والردع إذا أخل المحامي بواجباته الأخلاقية تجاه موكله أو مهنته أو زملائه. لكن هذه الرقابة المهنية ليست وحدها المتكفلة بردع المخالفات الأخلاقية فهنالك أيضا رقابة قانونية وقضائية يمكن لها أن تحرس المحاماة.
الفقرة الثانية: السلطة القضائية:
إن القضاء هو عادة الفضاء الذي يمارس فيه المحامون مهامّهم ولكنه قد يتحوّل بقوّة القانون إلى سلطة إدانة فيستوي بذلك المحامي – بفعله ويد القانون – مع عامّة الناس قد تتأسس الإدانة على أساس المسؤولية المدنية أو الجزائية.
1) المسؤولية المدنية للمحامي
إن بعض التجاوزات الأخلاقية للمحامي في علاقته بمنوّبه قد يترتب عنها المسؤولية المدنية للمحامي فما هو أساس هذه المسؤولية المدنية ؟ (1) وما هي آثارها ؟
ا- أساس المسؤولية المدنية للمحامي:
إن المسؤولية المدنية للمحامي هي بالأساس مسؤولية تعاقدية باعتبار أن العلاقة بين المحامي ومنوّبه في أصلها اتفاق شفاهي أو كتابي، وهذا الأمر هو سيان في تونس أو في الولايات المتحدة الأمريكية. فالمحامي في تونس عليه واجب الالتزام بالسعي وبذل ما في وسعه لخدمة مصالح موكله فأي إخلال مادي أو أخلاقي ينشأ عنه مسؤولية تعاقدية. من ذلك أن المحامي الذي ينوب المصالح المتضاربة يعرّض نفسه للمسؤولية المدنية تجاه منوّبه الذي حصلت له خسارة جراء عدم مراعاة المحامي للأخلاق المهنية في القيام بعمله. ذلك أنه إذا توفرت أركان المسؤولية العقدية من خطأ وضرر وعلاقة سببية فإن المحامي يصبح مسؤولا أمام حريفه ومدينا له بالتعويض. وفي القانون الأمريكي:” فإن العلاقة بين المحامي وحريفه هي أيضا علاقة تعاقدية تنشأ ويبدأ مفعولها إذا أبدى شخص رغبته في إنابة المحامي ووافق هذا الأخير على ذلك أو لم يبدي اعتراضا صريحا على رفضه إنابة هذا الشخص أو تمّ تعيين المحامي من قبل المحكمة لإسداء خدماته القانونية” وذلك حسب الفصل 26 من The restatement of the law governing lawyers “A relationship of client and lawyer arises when: 1- A person manifests to a lawyer the person’s intent that the lawyer provide legal services for the person: and either: a) The lawyer manifest to the person consent to do so: or b) The lawyer fails to manifest lack of consent to do so, and the lawyers knows or reasonably should know that the person reasonably relies on the lawyer to provide the services; or 2- The tribunal with power to do so appoints the lawyer to provide the services.”
وتنشأ المسؤولية التعاقدية باعتبار أن المحامي يجمعه بالحريف عقد وكالة وهذا الأساس هو نقطة إلتقاء أخرى بين القانون التونسي والأمريكي حيث نصّ الفصل 1131 م أ ع “على الوكيل القيام بما وكل عليه بغاية الاعتناء والتثبت وهو مسؤول بالخسارة الناشئة لموكله عن تقصيره كما لو خالف وكالته اختيارا أو خالفت الإرشادات الخصوصية الصادرة له من موكله أو فرّط فيها أعتيد”. وقد أكد المشرّع الامريكي أيضا على أن العلاقة بين المحامي وحريفه هي علاقة وكالة Agency بما فيه من واجب الحذر Diligence وتحقيق المنفعة fiduciary duty. من ذلك أن المحكمة العليا لولاية بنسيلفانيا قد أكدت في أحد قراراتها أنه “في بعض الأحيان هنالك تضارب في المصالح وإخفاق في تحقيق المنفعة لشركة محاماة تنوب نفس الخصوم…”. « Under some circumstances it was a conflict of interest and breach if fiduciary duty for a law form to represent competitors » .
كذلك فإن المحامي الأمريكي قد يتحمّل المسؤولية المدنية إذا أخل بواجب أخلاقي هام هو الشرف إزاء المهنة وذلك في حالة قام بمجاراة حريفه في دعوى الهدف منها التحرّش بشخص ما أو الإضرار به”. فالمحامي يجب عليه أن لا يرفع قضية أو يقوم بالدفاع في قضية إلا إذا كان هنالك سبب غير تعسفي” وذلك ضمن الفصل 3.1 من Model rule of professional « A lawyer shall not bring or defend a proceeding, or assert or controvert an issue therein, unless there is basis for doing so that is not frivolous, which includes a good faith… ». وقد اعتبر هذا الفصل “أن الدعوى تكون تعسفية إذا كان الهدف الأول منها هو التحرّش بشخص ما أو الإضرار بصورة خبيثة بالشخص”. « The action is frivolous, however, if the client desires to have the action taken primarily for the purpose of hoarding or maliciously injuring a person ».
والملاحظ هنا أن القانون التونسي لا يؤاخذ المحامين الذين يرفعون القضايا في حق منوبيهم مهما بلغت درجة التعسّف فيها فالقانون الأمريكي يعتبر أكثر صرامة ويحمل المحامي واجبات أخلاقية تنجر عنها مسؤولية مدنية في حال الإخلال بها. ويترتب عن المسؤولية المدنية أثار قانونية يتمثل في التعويض.
ب- أثار المسؤولية المدنية للمحامي: يترتب عن المسؤولية المدنية حسب النصوص التي أوردتها مجلة الالتزامات والعقود التعويض المادي عن الأضرار التي تسبب فيها القائم بالفعل الضار ونجد نفس هذا المبدأ القانوني في الولايات المتحدة التي عادة ما يكون فيها مبالغ التعويض ذات قيمة خيالية نظير الضرر المادي والمعنوي للحريف الذي أخطأ المحامي في حقه. وهنا يجب الإشارة إلى ان المحامي في الولايات المتحدة مجبر على القيام بتأمين مسؤوليته المدنية وقيمة التأمين ترتفع مع كل مرّة يخطئ فيها المحامي حتى تتجاوز الملايين من الدولارات والمعروف أنه إذا قامت شركة تأمين بتغطية التعويض المادي لثلاث مرات متتالية تقوم بفسخ العقد ويصبح بعدها من المستحيل على المحامي (أو أي شخص) العثور على شركة تأمين أخرى مما قد يجعله نظريا ينسحب من مهنة المحاماة إذا لم يجد من يقبل بتأمين مسؤوليته المدنية. ولذلك فإن شركات التأمين تنظم إلى المحامي في صورة القيام ضدّه بقضية في إطار واجبها في الدفاع Duty to defend. أما في تونس فإنه ليس هنالك نص قانوني يجبر المحامي على تأمين مسؤوليته المدنية مما يجبره على دفع التعويض بنفسه وتحمل المسؤولية بمفرده إزاء ما قد يقترفه من أخطاء. هذا وقد نصّ القانون عدد 65 لسنة 1998 المؤرخ في 20 جويلية 1998 صلب الفصل 29 على أنه “يجب على الشركة المهنية للمحامين أن تبرم عقد تأمين يغطي مسؤوليتها المدنية والمهنية التابعة عن نشاطها وعليها أن تودع نسخة من ذلك العقد وكذلك ما يفيد خلاص التأمين سنويا لدى الهيئة الوطنية للمحامين وبكتابة المحكمة الابتدائية التي تمّ بهما إيداع العقد التأسيسي”. ويعدّ هذا النص القانوني تطوّرا في نظرة المشرّع باعتبار أن التأمين هو حماية وضمانة للمتقاضين إذا قام المحامي بارتكاب أخطاء مهنية ونظرا لأن كل البلدان المتطوّرة قد فرضت على المهنيين تأمين مسؤوليتهم المدنية والمهنية وفي ذلك دليل على الجدوى الاقتصادية والاجتماعية لهذه العقود. ولكن عدم الالتزام الأخلاقي للمحامي قد يجعله ليس فقط تحت طائلة المسؤولية المدنية بل وأيضا المسؤولية الجزائية.
2) المسؤولية الجزائية للمحامي:
إن بعض القواعد الأخلاقية قد أسبغ عليها المشرّع قوّة إلزامية قصوى مما جعل المحامي الذي يقوم بخرقها عرضة للتتبعات الجزائية بالإضافة إلى العقوبات المهنية والمسؤولية المدنية. ومن بين هذه القواعد الأخلاقية والتي هي قواعد قانونية في ذات الوقت نجد كمثال أوّل: إفشاء السرّ المهني وهو مثال مشترك بين القانون التونسي والأمريكي والسمسرة في تونس (2) وكذلك التطرّف في التضامن مع الحريف في الولايات المتحدة (3):
1) مثال أوّل: إفشاء السرّ المهني
إن الحفاظ على السرّ المهني كما لاحظنا في الجزء الأول من هذه المحاضرة هو من أوكد الواجبات الأخلاقية المحمولة على المحامي ولكن إفشاء أسرار الحريف يتعدّى حدود الأخلاق ليصبح جريمة يعاقب عليها القانون في تونس والولايات المتحدة.
ذلك أن الفصل 254 من المجلة الجنائية قد نصّ على أن “الأطباء والجراحين وغيرهم من ضباط الصحة وكذلك الصيدليين والقوابل وغيرهم من الأشخاص المؤتمنين للأسرار التي تودع عندهم نظرا لحالتهم أو حرفتهم الذين يفشون هاته الأسرار في غير الصّورة أوجب عليهم القانون أو أرخص لهم فيها القيام بالوشاية يعاقبون بالسجن مدّة ستة أشهر وبخطية…”. فهنا يصبح إفشاء السرّ المهني هو جريمة يعاقب عليها القانون بستة أشهر سجنا مع ما يعنيه ذاك من فقدان المحامي لكرامته وحقوقه المدنية”.
فالواجب الأخلاقي تصبح له قوّة نافذة تتجاوز حدود آلية الردع الآلية ويصبح معها المحامي مهدّدا بانتهاك حرّيته الجسدية. هذا مع التأكيد على أن واجب الحفاظ على السرّ المهني يفقد كل قيمته في الصّور التي نصّ عليها القانون كما أشار إلى ذلك هذا الفصل وهذه المسؤولية الجزائية هي نفسها المحمولة على المحامي الأمريكي. من ذلك أنه في قرار يدعى Sheppard V Maxwell تتلخّص وقائعه في أن الدكتور رسام شيبرد Sam Sheppard قام بقتل زوجته الحامل وقد تحولت هذه القضية إلى قضية رأي عام بالنظر إلى ثراء المتهم واتجهت أنظار الصحافة إلى قاعة المحكمة والأحداث فيها وحصل ضغط إعلامي كبير جعل القاضي يحكم بالإدانة رغم براءة الطبيب الزوج المتهم وقد نقضت المحكمة العليا قرار محكمة البداية وأدانت القاضي نفسه لأنه لم يستطع تطبيق القانون إزاء الهجمة الصحفية التي تعرّض لها المتهم، كما لم يمكن المطلوب من محاكمة عادلة ولكن الأهم من كل ذلك أنه وقع إدانة محامي الطرفين بجريمة إفشاء الأسرار المهنية للصحافة. وللتدليل على ما أحدثه قرار المحكمة العليا من إدانة للقضاء والمحامين والشهود وعناصر من الشرطة هو تحوّل هذه القضية إلى فيلم شهير عالميا هو “الهارب” The fugitive ظلّ شاهدا على الظلم الذي قد يتعرّض له المتقاضي في صورة لم يلتزم المحامي بالواجب الأخلاقي المحمول عليه في عدم إفشاء السرّ المهني.
ب) مثال ثان: جلب الحرفاء تحيّلا في تونس
إن التوسط في جلب الحرفاء هو من الممارسات اللا أخلاقية التي يعاقب عليها القانون. إن الواجب الأخلاقي للمحامي يوجب عليه الشرف في التعامل مع مهنته والترفع عمّا يسيء إلى صورته أمام المجتمع، فاستجلاب الحرفاء بطرق غير شرعية يعدّ من الممارسات التي يجب أن يتنزّه عن اقترافها سيد الدفاع ولسان الحق. وهذه الممارسة اللا أخلاقية لها تبعات قانونية خطيرة توجب مساءلة المحامي قانونيا وعقابه جزائيا إذا ثبتت مسؤوليته. لكن قبل الخوض في كل ذلك ما هو تعريفها تحديدا ؟
لقد عرّفها الأمر المؤرّخ في 12 مارس 1948 المتعلق بزجر جلب الحرفاء تحيّلا في فصله الأوّل بكونها: “استجلاب الحرفاء تحيّلا لفائدة أشخاص متعاطين لصناعة حرّة يعتبر جريمة”. وقد جاء هذا النصّ القانوني عاما ينطبق على جميع أصحاب المهن الحرّة بها في ذلك المحامي.
ومن القرائن التي تدل على عدم تسامح القانون مع هذه الممارسة هو أن الفصل الثاني من هذا الأمر قد جرّم هذا الفعل حتى وإن لم يثبت بأن هؤلاء الوسطاء قد قبضوا أجرا عن ذلك. والمسؤولية الجزائية للمحامي عن إخلاله بشرف مهنته وعدم مراعاته للأصول الأخلاقية التي تحكم مهنته قد تؤدي به إلى العقاب البدني ذلك أن الفصل 3 من هذا الأمر ينصّ على أن: “جميع الأنفار الذين يثبت عليهم ارتكاب هذه الجنحة يعاقبون بالسجن من 3 أشهر إلى عام وخطية من 3 آلاف فرنك إلى 12 ألف فرنك والعقوبات نفسها تنطبق على الشركاء في المخالفة”.
والمحامي يعتبر شريكا إذا تعامل مع “من يشتغلون اعتيادا بالبحث عن الحرفاء ليعرفوهم بكل شخص مباشر لصناعة حرّة مرتبة بقانون” وفي هذا دليل على أن بغض الحياد عن الأخلاق قد ينجرّ عنه أكثر من تأنيب الضمير. والجدير بالذكر أنه في الولايات المتحدة لا يعتبر جلب الحرفاء مخالفا للقانون إذا كان في إطار القوانين المعمول بها، ذلك أنه لكل شخص وكيل أعمال أو شركة تنظم عملية وتقوم بتنصيع صورة الشخص وجلب الأسواق أو المعاملات له مقابل عمولة قد تصل إلى 25 % من القيمة الجملية للعرض وذلك ينطبق في كل المجالات والمهن الحرّة.
ولكن هنالك أساس أخلاقي لهذه العلاقات وهي المنافسة الشريفة والنزيهة ولكن أيضا وبالنسبة للمحامين اعتماد شبكة علاقات بعيدة عن المأمورين العموميين، الشرطة والقضاة.
المثال الثالث: التطرّف في مساندة الحريف في الولايات المتحدة
إن من الواجبات الأخلاقية المحمولة على المحامي التعاطف مع منوّبه ومساندته والإيمان بنفس أهدافه وبذل المجهودات اللازمة بكل نشاط وحزم ذلك أن الفصل 7 من The Code of Professional Responsibility يحرّض “المحامي على تمثيل حريفه بكل حماس وذلك في إطار القانون”. « A lawyer should represent a client zealously within the bounds of the law ».
كما ينصّ الفصل 1.3 من Model rule of Professional على أن “المحامي يجب أن يتصرّف بحرص وإيمان في مصالح حريفه كما عليه أن يمارس المحاماة بحماسة لصالحه”. « A lawyer should act with commitment and dedication to the interests of the client and with zeal in advocacy upon the client’s behalf ».
ولكن الحماسة لا يجب أن تذهب بعيدا بالمحامي الذي قد يعرّض نفسه لجريمة “الإفراط في الحماس” extreme over zealousness إذا قام بمساندة حريفه إلى درجة تحريضه على تظليل العدالة أو تدمير مستندات تدينه وتغيّر مجريات القضية أو ممارسة العنف اللفظي ضد الشهود وتتراوح العقوبات بين المطالبة بالتعويض، التنحي عن القضية ولكن أيضا السجن كما حدث في العديد من القضايا . مثل Ferraro Koncalass تحت عدد 467 صادرة عن محكمة نيو يورك. فالمحامي الأمريكي قد يكون محل مساءلة قانونية يتحمّل إثرها عقوبات بالسجن إذا ثبتت مسؤوليته الجزائية. فالاعتصام بالأخلاق هو الحل الوحيد الذي يحمي شرف المحامي في كل مكان من العالم. ولأن البعض منهم قد لا يرتدعون تلقائيا فإن العقوبات المدنية والجزائية قد تكون هي الفيصل. لكن هل أن هذه الآليات المهنية والقانونية ناجعة بشكل كامل ؟ الإجابة هي قطعا لا، إذ يجب أن يكون هنالك آلية رقابة ذاتية هي الضمير.
المبحث الثاني : الضمير آلية رقابة ذاتية:
إن المحافظة على الأخلاق المهنية والتمسّك بها لا يمكن أن يكون وليد الرقابة التي تمارسها الهياكل المهنية أو السلط القضائية فقط. ذلك أن الهياكل المهنية مهما حاولت الاحاطة بالمحامي وتوعيته بل وتأديبه لن تتمكن من غرس القيم الأخلاقية في نفسه إذا لم يكن به وازع من ضميره. كما أن القوانين التي يجب المحامي تطويعها لن تجدي في ردعه أو إذا لم يرتدع تلقائيا. فالضمير وحده هو الضابط والحكم. فالضمير المهني هو الذي بإمكانه أن يعصم المحامي كليا عن ارتكاب الأخطاء مهما كانت بساطتها وهو المحدّد الذاتي الذي يسطر السبل الأخلاقية التي على المحامي انتهاجها في مهنته ومعاملاتها وذلك لسببين: 1- أولا لأن بعض التجاوزات الأخلاقية مثل الإخلال بواجب الزمالة وعدم الجدية في العمل، لا يمكن للقانون أن يثبتها إلا بصعوبة. من ذلك أن الواجب المحمول على المحامي للاتصال بزميله واستشارته عن إمكانية التعامل مع حريف لهذا الأخير وسؤاله إن كان أخذ منه مستحقاته كاملة، لا يمكن أن يثبت الإخلال به وحتى في صورة إثباته فإن العقوبة تكون مهنية وليست قانونية. وكذلك واجب التنسيق بين الأعمال إذا كان المحامون ينتمون إلى نفس الشق في الدفاع، لا يمكن إثبات الإخلال به إن وجد. 2- لأن الأخلاق هي عنصر معنوي لا يمكن الإطلاع عليه بسهولة ولأن المحامي يجب أن تكون روحه نقية ونفسه مهذبة وهذا الأمر يتطلب رقابة ذاتية أكثر من الرقابة التي تمارسها الهياكل المهنية أو القوانين.
من ذلك أن المحامي الأمريكي قد يعمد إلى تقديم تصريحات بمقابل إلى مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة ويكون ذلك خاصّة في القضايا الجنائية ويكون ذلك أثناء المحاكمة. وتعدّ الأموال التي يقبضها من وسائل الإعلام، بعد موافقة منوبه، جزءا من أتعابه في القضية التي لا يمكن أن يتحملها الحريف بمفرده نظرا لضخامتها. والاتجار بآلام الناس ومصائبهم رغم بشاعته فإن القانون لا يمنعه في ولاية كاليفورنيا التي لها قانون محاماة محلي لا يتطابق مع القانون الذي أصدره الهيكل الفدرالي للمحامين الأمريكيين والذي ينصّ صراحة في فصله (b) 1.8 على أنه “لا يمكن للمحامي أثناء إنابته لحريفه أن يعقد أي اتفاق للحصول على حقوق أدبية من وسائل الإعلام أساسها معلومات متعلقة بالمعلومات المرتبطة بنيابته”. « Prior to the conclusion of representation of a client, a lawyer shall not make or negotiate an agreement giving the lawyer library or media rights to a portrayal or account based in substantial part on information relating t the representation ».
ولعل هذا النصّ الذي جاء محدودا في الزمن قد شجع المحامي الأمريكي على قبول الاتصال بوسائل الإعلام بعد انتهاء القضية فقط. وهذا القانون رغم أنه محدود الفاعلية إلا أنه لم يأخذ به أصلا في ولايات مثل كاليفورنيا، كارولينا الشمالية…
وبذلك تكون الأخلاق صعبة التحقيق بشكل مثالي مع عدم نجاعة القانون في بعض الأحيان حيث يعجز عن تطويقها بشكل كامل مما يفتح المجال أمام التجاوزات التي يكون الضمير فقط عاصمها.
فالأخلاق بالمحصلة ليست دروسا تلقن أو قوانين تجبرنا على عدم الإخلال بها إنما هي سلوك ذاتي يرفع من شأن صاحبه إلى مصاف العظماء المصلحين إذا اعتصم بها. والأمثلة عديدة ولا سبيل إلى حصرها وكلها تؤكد عدم النجاعة الكاملة لآليات الرقابة ورغم أنه من واجبات المحامي تجاه مهنته أن يعلم الهيئة الوطنية للمحامين عن أي تجاوز يلاحظه يمسّ من هيبة المهنة وشرفها. إلا أن هذا أيضا إلتزام أخلاقي وقع تناسيه وإغفاله ولا يعاقب أي قانون على عدم الإشارة إلى فعل لا أخلاقي من قبل زميل.
الخــاتـمـة
إن هذه المحاضرة كانت محاولة بسيطة للتعريف بأخلاقيات مهنة المحاماة، ذلك أن الالمام بجميع المعطيات المتعلقة بهذا الموضوع وذكر جميع القواعد السلوكية الأخلاقية يستوجب أكثر من دراسة. أخلاقيات مهنة المحاماة هي إرث معنوي عريق لا سبيل إلى التنازل عنه أو الاكتفاء ببعضه ولعل الصعوبات التي تعترض مهنة المحاماة اليوم والتحديات التي ما فتئت ترفع أمامها تستوجب منا أكثر من أي وقت مضى التمسّك بأخلاق مهنتنا والتكاتف حول المبادئ الأخلاقية التي هي أساس مهنتنا. المحاماة هي أمانتنا التي في محافظتنا عليها نضمن مستقبل مجتمعنا الذي يحتاجنا رعاة للحق وحماة للأخلاق ودفاعا عن الحرّية فيه. إن كل فرد فينا مسؤول عن حماية أخلاقيات مهنتنا والذود عنها كمسؤوليته عن حماية كل ضعيف وطالب حق. المحامي هو خط الدفاع الأول للمجتمع ضد الاستعمار الثقافي والاقتصادي الجديد والأولي بالفارس أن يحمل اللواء ويكون القدوة والمثال.
قائمة المراجع
المراجع باللغة العربية
علي بن الصادق عبيد: “المسؤولية الجزائية للمحامي” مذكرة لنيل شهادة الدراسات المعمقة في الحقوق اختصاص علوم إجرام السنة الدراسية 2000/2001 جامعة تونس المنار، كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس.
الأستاذة لمياء الشابي: “أتعاب المحاماة” مذكرة ختم تمرين سنة قضائية 2006–2007.
الأستاذ رابح الخرايفي: “مقالات في مهنة المحاماة التونسية” دار قتيبة.
الأستاذة أمينة ذكار الشايبي: “مسؤولية المحامي المهنية” مذكرة ختم تمرين سنة قضائية 2002-2003.
الأستاذ سامح التليلي، محاضرة تم التمرين السنة القضائية 2006-2007.
مدخل لدراسة القانون، محمد الشرفي وعلي المزغني، المركز القومي البيداغوجي، تونس 1993.
النظرية العامة للالتزامات: 1- العقد، محمد الزين، مطبعة الوفاء، تونس، 1997.
قائمة المراجع
المراجع باللغة العربية
عبد القادر الاسكندراني: “محاضرة بعنوان أخلاقيات المهنة ركيزة أساسية لتكوين المحامي”، “ندوة تكوينية حول تكوين المحامي ضمانة لحق المتقاضي”.
علي بن الصادق عبيد: “المسؤولية الجزائية للمحامي” مذكرة لنيل شهادة الدراسات المعمقة في الحقوق اختصاص علوم إجرام السنة الدراسية 2000/2001 جامعة تونس المنار، كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس.
الأستاذة لمياء الشابي: “أتعاب المحاماة” مذكرة ختم تمرين سنة قضائية 2006–2007.
الأستاذ رابح الخرايفي: “مقالات في مهنة المحاماة التونسية” دار قتيبة.
الأستاذة أمينة ذكار الشايبي: “مسؤولية المحامي المهنية” مذكرة ختم تمرين سنة قضائية 2002-2003.
الأستاذ سامح التليلي، محاضرة تم التمرين السنة القضائية 2006-2007.
مدخل لدراسة القانون، محمد الشرفي وعلي المزغني، المركز القومي البيداغوجي، تونس 1993.
النظرية العامة للالتزامات: 1- العقد، محمد الزين، مطبعة الوفاء، تونس، 1997.
المراجع باللغة الانقليزية
Alisdair Macintyre, after virtue; a study in moral theory
Bernard Williams, morality; an introduction to ethics.
Debarah L.Rhode, Professional responsibility, ethics by the pervasive method.
Geoffry James Warnok, the object of morality.
Henry Sidgwick, the methods of ethics.
James Rachel, the elements of moral philosophy.
Kurt Baier, the moral point of view.
Nathan M.Crystal, an introduction to professional responsibility.
Stanley MILGRAM, obeidience to Authority: an experimental View.
فقه القضاء الأمريكي
Meyerhofer v. Empire Fire & Marine Ins. Co, 497 F.2d 1190 (2d Cir.), cert, denied, 419 U.S. 998 (1974), and text at Chapter 4.G.
Estate of Pinter v. McGee, 679 A.2d 728 (N.J. Sup. Ct. app. Div. 1996).
Hopper v. Frank, 16 F.3d 92 (5th Cir. 1994); ABA Comm. On Ethics and Prof Resp, Formal Opinion 91-361.
Hishon v. King & Spalding, 467 U.S. 69 (1984) (female associate who had been passed over for partnership stated cause of action for sex discrimination against her firm under Title VII of the Civil Rights Act of 1964).
Doe v. Kohn Nast & Graf, P.C., 862 F. supp. 1310 (E.D. Pa. 1994) (facts similar to movie Philadelphia).
White v. McBride, 937 S.W.2d 796 (Tenn. 1996) (one-third contingent fee in contested probate proceeding was clearly excessive).
Townsend v. State Bar of California, 197 P.2d 326 (Cal. 1948) (en banc).
Committee on legal Ethics v. Hart, 410 S.E.2d 714 (W. Va. 1991). March21, 1997) and Model Rule 1.2 (d
بحث قانوني كبير حول المحامي و الأخلاق في القانون التونسي و القانون الأنقلو- أمريكي