أثر فتح مسطرة التسوية القضائية على عقد الكراء التجاري
لا شك أن تطور الاقتصاد الوطني، ونمو المبادلات التجارية يتوقف تحقيقه على المقاولة، التي تلعب دورا أساسيا في إنعاش الحياة الاقتصادية وتوفير مناصب الشغل، على أن قيام المقاولة بهذا الدور، يحتاج إلى إبرام مجموعة من العقود التي تساهم في متابعة المقاولة لنشاطها، كعقود التزويد بالخدمات، العقود البنكية، عقود الشغل، عقود الائتمان الإيجاري، عقود الكراء وغيرها.
إلا أنه قد يحدث أن تعترض المقاولة بعض الصعوبات المالية تجعلها في حالة توقف عن دفع ديونها في تواريخ الاستحقاق المتفق عليها مع دائنيها، مما يستتبع بالتالي افتتاح المساطر الجماعية ضدها.
وقد سن المشرع المغربي، مسطرة معالجة صعوبات المقاولة، من أجل الوصول إلى مخطط يرمي إلى تجاوز الصعوبات التي تعترض استمرار نشاط المقاولة، وذلك من خلال المقتضيات التي جاءت بها مدونة التجارة، التي تهدف إلى الحفاظ على المقاولة المدينة ومساعدتها على تجاوز أزمتها، حتى لو اقتضى الأمر التضحية بمصالح المتعاملين معها، من أجل المصلحة العامة، ألا وهي الحفاظ على مناصب الشغل وإنقاذ الاقتصاد الوطني.
وذلك على خلاف القانون التجاري المغربي لـ 12 غشت 1913 الملغى، الذي كان يقوم على نظام الإفلاس وفكرة عقاب التاجر المتوقف عن دفع ديونه، حيث ينص الفصل 197 منه على أنه:”كل تاجر توقف عن دفع ديونه يعتبر في حالة إفلاس…”.
وبذلك فإن هذا القانون ربط افتتاح مسطرة الإفلاس بواقعة توقف التاجر عن دفع ديونه، في حين أن المشرع في م ت لسنة 1996 استعاض عن نظام الإفلاس وعوضه بنظام صعوبة المقاولة، القائم على مسطرة التسوية القضائية.
ويتم فتح مسطرة التسوية في مواجهة كل مقاولة تجارية في حالة عجز عن دفع ديونها المستحقة عند الحلول، بما في ذلك الديون الناجمة عن الالتزامات المبرمة في إطار الاتفاق الودي (المادة 560 من م ت)، دون أن تكون مختلة بشكل لا رجعة فيه.
أما مسطرة التصفية القضائية، فلا تطبق إلا إذا فشلت التسوية وفشلت كل محاولات الإنقاذ، وهو ما نصت عليه الفقرة الأولى من م 568 من مدونة التجارة التي جاء فيها:”يقضى بالتسوية القضائية إذا تبين أن وضعية المقاولة ليست مختلة بشكل لا رجعة فيه وإلا فيقضى بالتصفية القضائية”.
وهكذا يتضح أن الفلسفة التشريعية لمساطر معالجة الصعوبات، تختلف اختلافا بينا مع القواعد المألوفة في نظام الإفلاس الذي وقع إلغاءه، ولعل أهم المستجدات التي جاءت بها مدونة التجارة لسنة 1996، تفكيك كتلة الدائنين التي كانت تدافع عن حقوق الدائنين، هذا التفكيك وإن كان يشكل إضعافا للدائنين فإنه، بالمقابل قوى من سبل إنجاح مخططات إنقاذ المقاولة وتسويتها، فالمشرع وضع نصب عينيه مجموعة من الأهداف والغايات عند سنه لنظام صعوبات المقاولة، بغية إنقاذ هذه الأخيرة وإنقاذ الإنتاج والتشغيل.
فباندثار المقاولات تندثر هذه الأهداف، وبانتقاصها تتناقص، وبازدياد المقاولات وازدياد فعاليتها تزدهر الحركة التجارية وتتحقق هذه الأهداف
ومسطرة المعالجة بواسطة التسوية القضائية تمر عبر مراحل متعددة، تبدأ بصدور حكم فتح المسطرة مرورا بفترة إعداد الحل، أو ما يسمى في القانون الفرنسي بفترة الملاحظة، وصولا إلى المرحلة النهائية المتعلقة باختيار الحل.
هذا الحل الذي يتمثل إما في حصر مخطط لاستمرارية المقاولة، أو مخطط لتفويتها لأحد الأغيار بهدف الحفاظ على النشاط ومناصب الشغل، وإما تحويل التسوية القضائية إلى مسطرة التصفية القضائية إذا تبين للمحكمة التجارية المفتوحة أمامها مسطرة المعالجة أن إمكانية التقويم باتت مستحيلة لكونها أصبحت مختلة بشكل لا رجعة فيه.
غير أنه لا يمكن الحديث عن المقاولة، دون الحديث عن العلاقات التعاقدية التي تساهم في متابعة نشاطها، بل وفي تحديد مصيرها أحيانا.
ومن ثم تظهر أهمية العقود جارية التنفيذ في تاريخ فتح مسطرة التسوية، فلا يمكن استمرار نشاط المقاولة الخاضعة للتسوية، دون استمرار شبكة العلاقات التعاقدية الجارية التي كانت تربط المقاولة بشركائها من مزودين وزبناء وأجراء وغيرهم.
وحماية لهذه العقود وضع المشرع آليات جديدة ومعقدة للعقود الجارية أو في طور التنفيذ، خرج بها عن القواعد العامة، من خلال السلطة التي منحها للسنديك من أجل ممارسة حق الخيار بين مواصلة العقود أو التخلي عنها، مما جعل إرادة الأفراد، وعلى الرغم من كونها ضرورية، لم تعد تشكل العامل الأساسي الذي يتحكم في العقود، وإنما تركت مكانها لعامل آخر أكثر أهمية وهو مدى نفعية العقد.
وهنا يثار الإشكال المطروح بخصوص نصوص مدونة التجارة المنظمة للعقود الجارية، والتي جاءت عامة وفضفاضة، بل أحيانا تجاهلها لمصير بعض العقود بالرغم من أهميتها كعقد الكراء التجاري.
ذلك أن جوهر مفهوم المساطر الجماعية في إطار نظام صعوبة المقاولة يتمحور حول فكرة إنقاذ المقاولة، ومساعدتها على مواصلة المقاولة لنشاطها، إلى جانب إيجاد حماية قانونية لحقوق الدائنين وتشجيعهم على مساعدة المقاولة، من خلال الضمانات المخولة لهم، خاصة أولائك الناشئة ديونهم في تاريخ فتح مسطرة التسوية.
إلا أن ذلك لا ينفي كون التدخل التشريعي الذي حصل على مستوى نظام التعاقد وعلى رأسها مبدأ سلطان الإرادة ومبدأ القوة الملزمة للعقد، خفف من وطأة هذه المبادئ وإخضاعها لتقلبات الظروف الاقتصادية، هذه الأخيرة التي أصبحت الموجه الرئيسي للنظم القانونية.
والمهم في هذا الموضوع هو مصير العقود جارية التنفيذ عامة، وعقد كراء المحل التجاري بوجه خاص، إثر فتح مسطرة التسوية القضائية ضد المقاولة المكترية، إذ يصبح عقد الكراء في هذه الحالة عقدا جاريا بمفهوم المادة 573 من مدونة التجارة.
ولا يستثنى عقد كراء المحلات المعدة لاستغلال نشاط المقاولة، المفتوحة ضدها مسطرة المعالجة، من نطاق تطبيق قاعدة مواصلة العقود جارية التنفيذ في تاريخ صدور الحكم القاضي بفتح هذه المسطرة. إذ يمكن للسنديك وحده أن يتخلص من عقد الكراء أو العدول عن تنفيذه إذا كان لا يساعد على تسوية وضعية المقاولة، وعلى العكس من ذلك قد يختار السنديك مواصلة العقد إما في إطار مخطط لاستمرارية المقاولة أو مخطط التفويت.
ومن هنا تتأكد أهمية دراسة موضوع مصير عقد الكراء التجاري إثر فتح مسطرة التسوية القضائية اتجاه المقاولة المكترية.
وبالرغم من أهمية الموضوع العلمية، إلا أن التنظيم التشريعي لعقد الكراء التجاري كعقد جاري التنفيذ في تاريخ فتح مسطرة التسوية القضائية اتسم بالعمومية، بالإضافة إلى عدم استلهامه للمقتضيات القانونية المنظمة لهذا العقد بما فيها قانون الالتزامات والعقود، وظهير 24 ماي 1955.
ومما زاد في تعقيد الموضوع قلة الدراسات الفقهية والبحوث التي تناولت موضوع عق الكراء في مساطر صعوبات المقاولة، باستثناء بعض الكتابات التي تعرضت لمصير العقود الجارية في مساطر معالجة صعوبات المقاولة بصفة عامة أو بعض المقالات المحدودة.
وبالنظر إلى ما تقدم، فسأحاول من خلال هذا الموضوع رصد بعض الإشكالات التي تثار بشأن عقد الكراء التجاري، في حالة فتح مسطرة التسوية القضائية اتجاه المقاولة المكترية.
وتتمحور الإشكالية الرئيسية للموضوع حول أثر فتح مسطرة التسوية القضائية على الالتزامات المترتبة على عقد الكراء التجاري.
فهل تتم معالجة المكري كباقي الدائنين الآخرين؟ أم أن هناك امتيازات خاصة بهذا الطرف؟ وما هي الضمانات التي قدمها المشرع للمحافظة على حقوق المكري؟
وللإجابة على هذه التساؤلات ارتأيت تقسيم الموضوع إلى فصلين:
الفصل الأول: أحكام عقد الكراء التجاري بعد فتح مسطرة التسوية القضائية.
الفصل الثاني: أحكام عقد الكراء التجاري بعد حصر مخطط التسوية.
لائحة المراجع
*المراجع العامة
أحمد عاصم، الحماية القانونية للقانون التجاري دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ط 3، 1988.
سليمان مرقس، الواقي في شرح القانون المدني: المجلد الأول، نظرية العقد والإرادة المنفردة، مطبعة السلام، ط 4، 1987.
شريف مكرم، التوقف عن الدفع وأثره على حقوق دائني المفلس، دار النهضة العربية، ط 1، 2005.
عاطف النقيب، نظرية العقد، منشورات عويدات، ط 1، 1988.
عبد العزيز توفيق، عقد الكراء في التشريع والقضاء، دراسة تأصيلية، مطبعة النجاح الجديدة، ط 2، 1996.
عبد القادر العرعاري، النظرية العامة للالتزامات في القانون المدني المغربي، ج 1، مصادر الالتزام، مطبعة فضالة، 1995.
نجاة الكص، الحق في الكراء كعنصر في الأصل التجاري في ضوء ظهير 24 ماي 1955، دراسة تحليلية نقدية، مطبعة النجاح الجديدة، ط 1، 2006.
*المراجع الخاصة
أحمد شكري السباعي، الوسيط في مساطر الوقاية من الصعوبات التي تعترض المقاولة ومساطر معالجتها، ج 2، دار النشر المعرفة، الرباط، ط 1، 2000.
امحمد لفروجي، صعوبات المقاولة والمساطر القضائية الكفيلة بمعالجتها، سلسلة الدراسات القانونية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط 1، 2000.
امحمد لفروجي، وضعية الدائنين في مساطر صعوبات المقاولة، دراسات قانونية معمقة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2006.
عبد الحق بوكبيش، استمرار نشاط المقاولة الخاضعة للتسوية القضائية، مكتبة دار السلام، الرباط، ط 1، 2007.
عبد الرحيم السليماني، القضاء التجاري بالمغرب ومساطر معالجة صعوبات المقاولة، دراسة نقدية ومقارنة، مطبعة طوب بريس، الرباط، ط 1، 2008.
عزيز جبروني، التسوية والتصفية القضائية للمقاولة، دار القلم للطباعة والنشر، ط 1، 2001.
المهدي شبو، مؤسسة القاضي المنتدب في مساطر معالجة صعوبات المقاولة، دراسة مقارنة، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط 1، 2006.
*الرسائل والأطروحات
سعد القاسمي، خصوصيات نظام صعوبات المقاولة، دراسة مقارنة، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، وحدة التكوين والبحث في قانون الأعمال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة الحسن الثاني، عين الشق بالدار البيضاء، السنة الجامعية 1998-1999.
عبد العزيز حضري، التوقف عن الدفع في الإفلاس في القانون المغربي والمقارن، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العلي في القانون الخاص، كلية الحقوق، جامعة محمد الخامس الرباط، السنة الجامعية 1985.
عبد المنعم محسيني، التفويت القضائي للمقاولة في إطار مخطط التفويت، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة، وحدة التكوين والبحث في قانون الأعمال المغربي، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الأول، وجدة، السنة الجامعية 1999-2000.
مليكة عفيفي، وضعية الدائنين في إطار نظام صعوبات المقاولة، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في قانون الأعمال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة الحسن الثاني، عين الشق، الدار البيضاء، السنة الجامعية 2002-2003.
محمد لعروصي، مصير العقود جارية التنفيذ في تاريخ فتح مسطرة التسوية القضائية، رسالة لنيل دبلوم الدكتوراه في القانون الخاص، وحدة قانون التجارة والأعمال، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة محمد الخامس السويسي، الرباط، السنة الجامعية 2004-2005 .
*المقالات
أحمد الحجامي، مآل العلاقة الكرائية عند إشهار الإفلاس، مجلة الميادين، ع 8، 1993.
امحمد لفروجي، دور القضاء التجاري في بلورة الحل الكفيل بإنقاذ المقاولة التي تعترضها صعوبات، المجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات، ع 13، 2007.
امحمد لفروجي، مصير العقود الجارية التنفيذ في تاريخ فتح مسطرة التسوية القضائية، المجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات، ع 5، 2005.
امحمد لفروجي، وضعية الدائنين الناشئة ديونهم بعد الحكم بفتح مسطرة التسوية القضائية، المجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات، ع 2 ماي 2003.
برونوبيرجي بيران، وقاية ومعالجة صعوبات المقاولة، دراسة مقارنة للقوانين المغربية والفرنسية، ترجمة منية أكنسوس، مجلة المحاكم المغربية، ع 82، ماي- يونيو 2000.
الحسين قاسمي، حقوق الدائنين خلال مساطر معالجة صعوبات المقارنة، مجلة المحاكمة المغربية ع 118، يناير-فبراير 2009.
عبد الرحيم السلماني، التصريح بالديون وتحقيقها في إطار قانون صعوبات المقاولة، الإجراءات والآثار، المجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات، ع 5، 2005.
عمر أزوكار، استمرار العقود الجارية في مساطر معالجة الصعوبات، مجلة المرافعة، ع 12، يناير 2002.
فاطمة بنسي، تعليق على القرار الاستئنافي عدد 391/2001، بتاريخ 16/02/2001، بشأن ممارسة دعوى الاسترداد للعقود الجارية، مجلة المحاكم التجارية، ع 1، ماي 2004.
محمد أبو الحسين، التفويت القضائي للعقود في نطاق التسوية القضائية، مجلة المحاكم المغربية ع 102، ماي- يونيو 2006.
محمد البعدوي، دور السنديك في إدارة المقاولة الخاضعة لمسطرة التسوية القضائية سلسلة القانون والممارسة القضائية، ع 5، 2005، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.
محمد بن زهرة، آثار فتح مسطرة التسوية القضائية على العقود الجارية، المجلة المغربية للمنازعات القانونية، ع 2، 2004.
محمد صابر، أثر فتح المسطرة على الديون الامتيازية، مجلة المعيار، ع 33، 2005.
محمد لعروصي، مآل عقد الكراء التجاري إثر فتح مسطرة التسوية القضائية ضد المقاولة المكترية، المجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات، ع 2، 2004.
محمد لعروصي، مصير العقود ذات الطابع الشخصي في تاريخ فتح مسطرة التسوية القضائية، المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية، ع 6، دجنبر 2005.
نبيل أبو مسلم، آثار الحكم القاضي بفسخ مخطط الاستمرارية في مساطر صعوبات المقاولة، مجلة المحاكم المغربية، ع 118، يناير –فبراير 2009.
نبيل مصباحي، مساطر صعوبات المقاولة التجارية هل تحتاج إلى الإلغاء أم إلى الإصلاح فقط؟ مجلة الملف، ع 10، 2007.
يوسف ملحاوي، مصير العقود الجارية إثر فتح مسطرة التسوية القضائية، مجلة القصر، ع 15، 2006.
*الندوات
خالد بن كيران، التوقف عن الدفع وسلطة القضاء في الاستجابة لطلبات التسوية، الندوة الرابعة للقضاء البنكي، سلسلة الندوات والأيام الدراسية، ع 1، 2004.
عبد العزيز الصقلي، محمد وزاني طيبي، آثار فتح مساطر صعوبات المقاولة على عقد الكراء المحل التجاري، الذكرى الخمسينية لتأسيس المجلس الأعلى، الندوة الجهوية الأولى، فاس، 22-23 فبراير 2007.
ما هو أثر فتح مسطرة التسوية القضائية على عقد الكراء التجاري