مقال قانوني مميز عن حرية التظاهرات و الاعتصامات بين أحكام القانون الداخلي و قواعد القانون الدولي
عرف التظاهر السلمي أو ما يعرف قانونا بـالتجمع السلمي منذ قديم الأزل خاصة وأنه المظهر الرئيسي لكافة أشكال الاحتجاجات والثورات في كل زمان ومكان.
شهدت عدة دول عربية، ولا تزال، موجة عارمة من المظاهرات والاعتصامات منذ بدايات 2011، ، كانت مفاجئة من حيث التوقيت، ومختلفة من حيث مدى الاستمرارية، وتحولت في بعض الحالات إلى ثورات “كاملة”، أسقطت أنظمة سياسية. وفي حالات أخرى، لا تزال في الطريق إلى ذلك، رغم كل القمع الذي يجري بحق المشاركين فيها. وحتى الدول التي شهدت ثورات “كاملة”، مثل تونس ومصر وليبيا، لم يخل المشهد فيها من حالة المظاهرات والاعتصامات المستمرة، وهي حالة غابت عن العالم العربي لعقود طويلة، حيث لم يكن معهودا أن تخرج الشعوب العربية في مسيرات عارمة، تطالب بمطالب سياسية واجتماعية واقتصادية.
ورغم أن المظاهرات والاعتصامات تعد أحد أهم أشكال التعبير عن آراء الشارع ومطالبه، وربما تكون أكثرها مباشرة، فإنها من الظواهر الأقل دراسة. فهناك ندرة في الأدبيات العربية التي تتناول هذه الظاهرة بالتحليل، أو التي تناقش الأطر النظرية التي يمكن في ضوئها تحليل تأثير هذه الظاهرة في سياسات الدول.وتحاول هذه الورقة تحليل المظاهرات بأنواعها والاعتصامات، باعتبارها معبرا عن جزء من الشارع، خاصة في الدول التي تمر بمراحل انتقالية، مثل مصر وتونس وليبيا، وتحليل تأثيرها في السياسات الداخلية والخارجية للدول.
أولا:المظاهرات والاعتصامات .. التعريف والتكتيكات:
على الرغم من أن بدايات ظهور الاحتجاجات الشعبية ترجع إلى عهد بعيد نسبيا[1] ، فإن أول ظهور لمفهوم الاعتصام أو التظاهر في معناه الحديث كان في منتصف القرن التاسع عشر، وكان أول من استعمل هذا المفهوم هو الكاتب الأمريكي ديفيد هنري ثورو، في مقال شهير له نشر في 1849، بعنوان “العصيان المدني”. وقد بدأ الاهتمام بدراسة سلوك التظاهر والاعتصام في منتصف القرن العشرين، وذلك في إطار أدبيات الرأي العام التي تناقش ما اصطلح على تسميته بثقافة الاحتجاج الشعبي [2] .
ويلاحظ أن التعريفات المطروحة لمفهومي التظاهر والاعتصام، بعضها يضيق من نطاق سلوك التظاهر والاعتصام، وبعضها الآخر يوسع فيه. فعلى سبيل المثال، هناك اتجاه يعرف التظاهر على أنه “خروج إلى المجال العام طلبا لإحقاق حق، أو دفع ظلم، فهو خروج من البيت إلى الشارع أو الميدان يعبر عن حالة من عدم الرضا في الحيز الخاص، وحملها إلى الحيز العام [3] كما أن هناك اتجاها يعرف الاعتصام بأنه مظهر احتجاجي ضد سياسة ما عن طريق الوجود والتجمع السلمي، أمام مكان أو مقر يرمز إلى الجهة التي تمارس السياسة موضع الاحتجاج. ويرمز هذا التعريف غالبا إلى الاعتصامات الفئوية التي تختزل مطالبها في نقاط محددة،[4] وغالبا ما تمس احتياجات فئة بعينها من فئات المجتمع، بمعني أنها تعبر عن مطالب ضيقة مرتبطة بجماعات معينة. يقدم فريق آخر تعريفا أوسع للاعتصام، حيث يعرفه على أنه مرحلة متقدمة من حركة الاحتجاجات الشعبية، تسبب إزعاجا وضغطا كبيرين على الأنظمة السياسية القائمة، نتيجة لشمولية أهدافها، واتساع نطاق المشاركة فيها.
أما فيما يتعلق بالتكتيكات والأساليب المستخدمة في المظاهرات والاعتصامات، فإنه تقليديا كان يتم الاهتمام بشكل أساسي بالشعارات المستخدمة وتحليل مضمونها وما ترمز إليه، ولكن حركة الاحتجاجات التي شهدتها عدد من الدول العربية، منذ بداية 2011، كشفت عن أساليب وتكتيكات جديدة لم تكن معروفة من قبل، ومختلفة عما تعودت عليه المجتمعات العربية بل والغربية في هذا الشأن، حتى إن بعض المهتمين دعا إلى تطوير أدب المظاهرات والاعتصامات.
وهناك ثلاثة التكتيكات أولها في الشعار، ويعد من أهم وأبرز التكتيكات التقليدية المستخدمة في المظاهرات والاعتصامات، ويلعب دورا رئيسيا وحاسما في التظاهر. ويمثل المضمون السياسي للشعار أحد أهم مكوناته، والذي يجب أن يلخص في كلمات قليلة حالة عامة شاملة، ومن ذلك الشعار الذي تناقلته القوي الثورية في الدول العربية “الشعب يريد إسقاط النظام”.
ويتمثل التكتيك الثاني في المكان، وهو من أهم الأساليب المستحدثة في المظاهرات والاعتصامات التي شهدتها بعض الدول العربية أخيرا، حيث مثل التجمع في الميادين العامة سمة مشتركة بينها، مثل ميدان التحرير في القاهرة، والساحة الخضراء في ليبيا، وميدان التحرير بالعاصمة صنعاء في اليمن، وميدان اللؤلؤة في البحرين، وساحة الإرادة في الكويت. وهذه الميادين عادة ما تكون لها رمزيتها التاريخية في مجتمعاتها، فضلا عن اتسامها باتساع رقعتها الجغرافية، بما يسمح باستيعاب العديد من المتظاهرين، فضلا عن سهولة وصول وسائل الإعلام إليها.
ويتعلق التكتيك الثالث بالتنظيم والحشد والتعبئة، حيث لم تكن المظاهرات والاعتصامات التي شهدتها الدول العربية أخيرا عفوية، وإنما اتسمت بالحشد والتعبئة والتنظيم، عبر الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تبادلت فيما بينها ما تمت تسميته بـ “كتالوج” أو “إرشادات” التظاهر، مع سرعة انتقاله من مكان إلى آخر دون إمكانية احتجازه في حدود الأنظمة، مهما بلغت درجة الرقابة فيها.[5]
ومنذ عقود أصبح من المتعارف عليه بين الأمم( ولو نظريا)أن جميع البشر يتمتعون بحق تأييد ودعم حقوق الإنسان وتطويرها وحمايتها عبر الوسائل القانونية والسلمية. وتشمل هذه الوسائل السلمية الحقوق في حرية التعبير الذي يعد حق التظاهر السلمي أو التجمع السلمي من بين مظاهره.ووفق ما ورد بإعلان الأمم المتحدة الخاص بالمدافعين عن حقوق الإنسان والصادر عام1998, فإن الدولة تتحمل المسئولية الأساسية عن اتخاذ جميع الخطوات الضرورية لضمان حماية أولئك الذين يدافعون عن حقوق الإنسان.
لقد سعت الكثير من الشعوب إلي المحافظة علي حقوقها فيما يتعلق بالحق في التجمع السلمي حيث يحق للناس التجمع معا لإعلاء شأن حقوق الإنسان وحمايتها من خلال الاحتجاج السلمي أو التعبير عن آرائهم.فوفق ما جاء بالمادتين5 و12 من إعلان الأمم المتحدة الخاص بالمدافعين عن حقوق الإنسان: لغرض تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية, يكون لكل شخص الحق, بمفرده وبالاشتراك مع غيره, علي الصعيدين الوطني والدولي:
1 ـ الالتقاء أو التجمع سلميا…و1- لكل شخص الحق بمفرده وبالاشتراك مع غيره, في أن يشترك في الأنشطة السلمية لمناهضة انتهاكات حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
2- تتخذ الدولة جميع التدابير اللازمة التي تكفل لكل شخص حماية السلطات المختصة له بمفرده وبالاشتراك مع غيره, من أي عنف أو تهديد أو انتقام أو تمييز ضار فعلا أو قانونا أو ضغط أو أي إجراء تعسفي آخر نتيجة لممارسته أو ممارستها المشروعة للحقوق المشار إليها في هذا الإعلان.
-3 وفي هذا الصدد يحق لكل شخص, بمفرده وبالاشتراك مع غيره,أن يتمتع في ظل القانون الوطني بحماية فعالة لدي مقاومته أو معارضته, بوسائل سلمية للأنشطة والأفعال المنسوبة إلى الدول, بما فيها تلك ترجع إلي الامتناع عن فعل, و التي تؤدي إلى انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات الأساسية, فضلا عن أفعال العنف التي ترتكبها جماعات أو أفراد, وتؤثر في التمتع بحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
والمادة رقم20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي نصت علي أنه لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية.ولا يجوز إرغام أحد علي الانضمام إلي جمعية ما.
هذا بالإضافة لما ورد بالمادة 21 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية:يكون الحق في التجمع السلمي معترفا به. ولا يجوز أن يوضع من القيود علي ممارسة هذا الحق إلا تلك التي تفرض طبقا للقانون وتشكل تدابير ضرورية, في مجتمع ديمقراطي, لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم. وبالتالي فالحق في التظاهر السلمي هو حق له بداية وله حدود.[6]
وقد وضعت منظمة الأمن والتعاون الأوروبي عام2012 تعريفا للتجمع السلمي للأغراض التوجيهية وجاء به: التجمع معناه الوجود المقصود والوقتي لعدة أشخاص في مكان عام لخدمة القضية المشتركة. وتعد حرية التجمع السلمي هي حقا أساسيا من حقوق الإنسان التي يمكن أن يتمتع بها ويمارسها الأفراد والجماعات والجمعيات والكيانات القانونية والهيئات الاعتبارية. وتخدم التجمعات( أو المظاهرات)الكثير من الأغراض, فهي وسيلة للتعبير عن الآراء التي لا تحظي بشعبية كبيرة أو آراء الأقليات.وتعدها المجتمعات الديمقراطية( ولو نظريا) نشاطا مهما للحفاظ علي الثقافة وتنميتها وبالتالي فهي تتبني الرأي القائل إن حماية حرية التجمع السلمي أمر جوهري لبناء مجتمع متسامح تعددي متعدد المعتقدات والممارسات والسياسات الموجودة معا في سلام.[7]
ولم يقتصر التأكيد على الحق في التجمع السلمي على المواثيق والاتفاقيات الدولية والعالمية، وإنما ذهبت الاتفاقيات الإقليمية لحقوق الإنسان هي الأخرى إلى التأكيد عليه، كان أبرزها ذلك ما نصت عليه الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في المادة (11) بأن يكون لكل إنسان الحق في حرية الاجتماعات السلمية، وكذلك ما نص عليه الميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 2004 في المادة (24) بأن لكل مواطن حرية الاجتماع والتجمع بصورة سلمية.
ثانيا:كيف يمكن تحليل تأثير المظاهرات والاعتصامات؟
يمكن التمييز بين ثلاثة اتجاهات رئيسية في تحليل تأثير المظاهرات والاعتصامات[8] يتمثل الاتجاه الأول في اتجاه محدودية التأثير، حيث يرى أن تأثير المظاهرات والاعتصامات في عملية صنع القرار، حتى في النظام الديمقراطي، هو محدود بطبيعته. ويجادل أنصار هذا الاتجاه بأن الأولوية يجب أن تكون لاستقرار النظام، والحفاظ على الوضع القائم، وليس إشراك المواطنين في عملية صنع القرار.
ويتبنى الاتجاه الثاني موقف المبالغة في التأثير، ويهتم هذا الاتجاه بالنظم الديمقراطية تحديدا، ويجادل بأن سلوك التظاهر والاعتصام هو بمثابة استفتاء مستمر على سياسات الحكومة، وهو إحدى الوسائل التي تتيح للجمهور التعبير عن آرائه، وطرح أولوياته، كما أنه يمثل مصدر ضغط مهما على صناع القرار. كما يجادل بأن تعقد المشكلات وتزايد الاحتياجات يدفعان صانع القرار إلى الاهتمام بالمزيد من المدخلات القادمة من أفراد المجتمع العاديين، وبالتالي تصبح المظاهرات والاعتصامات وسيلة للتعرف على ما يحدث من تغير في مطالب المواطنين .
ويرى الاتجاه الثالث أن تأثير المظاهرات والاعتصامات يعتمد على متغير وسيط رئيسي، هو طبيعة النظام السياسي. وفي هذا السياق، تبرز نظرية بنية الفرصة السياسية Political Opportunity Structure التي ترى أن المتغير الرئيسي الذي يحدد تأثير المظاهرات والاعتصامات هو مدى قدرة نظام الحكم على استيعاب حركات الاحتجاج المختلفة، سواء المنظمة أو غير المنظمة. ووفقا لهذه النظرية، كلما ازداد انغلاق النظام السياسي في وجه المتظاهرين، زادت احتمالات قمع تلك التظاهرات، وكلما ازداد انفتاح النظام السياسي، زادت احتمالات استيعاب مطالب المتظاهرين. ووفقا لهذه النظرية أيضا، لا تتطور في الدول غير الديمقراطية مظاهر مستديمة للاحتجاج للتعبير عن مصالح جماعية، وإنما تنشأ بعض مظاهر الاحتجاج الفئوية، التي تنتهي إما بالقمع، أو بالاستجابة، إذا كانت لا تؤثر في مصالح النظام .[9]
ثالثا:المظاهرات السلمية في التجارب الدولية:
تظل المظاهرات هي الخيار التكتيكي الأقوى الذي تستخدمه الحركات السياسية المعارضة, كمقاومة مدنية سلمية أمام ما تراه من قرارات حكومية أو سياسية جائرة, أو للتعبير عن الرأي تجاه قضايا مثيرة للجدل.
عندما يتعلق الأمر بالأمن الوطني البريطاني لا تحدثوني عن حقوق الإنسان, كان هذا ما صرح به ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني في تعليقه علي العنف المفرط الذي استخدمته الشرطة ضد المواطنين البريطانيين عقب تحول احتجاجاتهم إلي أعمال عنف وشغب خلال واحدة من أعنف موجات الاحتجاج التي شهدتها بريطانيا عام 2011 بسبب بعض الأحداث التي حدثت بصورة متلاحقة ومنها الخطة التي أقرتها الحكومة لخفض الإنفاق العام وزيادة الضرائب وإصلاح قانون التقاعد, بالإضافة إلي زيادة الرسوم الدراسية وخفض التمويل الحكومي لميزانية التعليم الجامعي وهو ما جعل مئات الآلاف من البريطانيين يخرجون في مظاهرات سلمية احتجاجا علي تلك القرارات, ولكن سرعان ما تحولت تلك الاحتجاجات إلي أعمال شغب واشتباكات, وتدخلت قوات الأمن لمواجهة هذا الشغب الذي شهدته بريطانيا ولكنها لم تستطع إيقاف الاشتباكات مما أدي إلي الاستعانة بقوات مكافحة الشغب, وقام المحتجون برشق قوات الشرطة بكرات اللهب وسقط العديد من المصابين .[10]
ويعطي القانون البريطاني للمواطنين حق التظاهر السلمي وحق الأفراد في التجمع والتعبير عن أنفسهم بحرية, ويحظر علي الحكومة أو أي هيئة تابعة لها مثل الشرطة التدخل في هذا الحق, وإذا حدث أي تدخل من جانب الحكومة أو الشرطة فمن حق المتظاهر اللجوء إلي القضاء واتخاذ الإجراءات القانونية ضدهم.
أجاز القانون البريطاني في الفقرة 4 من المادة (13) لرئيس الشرطة إذا ما رأى أن هناك من الظروف الخاصة في أي مقاطعة أو جزء منها، أو عدم توافر قوات كافية لتأمين التجمعات ومنع الإضرار بالنظام العام أن يقوم برفع طلب إلى مجلس المقاطعة بإلغاء انعقاد أية تجمعات وذلك لمدة لا تتجاوز 3 أشهر، وللمجلس بعد موافقة وزير الدولة إصدار أمرا إما بوضع شروط لعقد التجمع، أو إدخال تعديلات عليه باستثناء التجمعات التي من المفترض أن يتم انعقادها بمدينة لندن أو في الــ Metropolitan Police District.
حيث أن لمفوض شرطة مدينة لندن أو مفوض شرطة العاصمة بعد موافقة وزير الدولة الحق في اتخاذ قرار بمنع انعقاد أية تجمعات لا تتجاوز 3 شهور إذا ما رأى أن هناك من الظروف ما يجعل انعقاد أي تجمع في أي مقاطعة أو جزء منها خطراً على النظام، والأمــــن العام. إلا أنه أعطي في مقابل ذلك لمنظمي التجمعات المتضررين من تلك الترتيبات الحق في الطعن عليها أمام المحكمة العليا.
كما نصت المادة (14) على أنه يحق لضابط الشرطة (السينور) بهدف الحفاظ على النظام والأمن العـام، وكبح الفوضى التدخل بإجراء تعديلات علي خطة التجمع وبرنامجه من خلال تحديد موعد أقصى لانتهائه، وحد أقصى للمشاركين فيه انعقاد التجمع، كما يحق له التدخل بإجراء تعديلات على خطة التجمع أو إلغائه إذا كان من شأنه أن يفضي إلى إجبار الآخرين علي القيام بفعل لهم الحق في عدم القيام به أو العكس.
وتعد بريطانيا صاحبة تاريخ طويل في الخروج في تظاهرات سلمية والتعبير السلمي عن الآراء أو المطالبة بتغيير القوانين التي يرونها ضد مصالحهم, ولكن أقر البرلمان البريطاني في السنوات الأخيرة بعض القوانين التي تقيد حق التظاهر وتعطي صلاحيات أكبر للشرطة وذلك وفق قانون مكافحة الجريمة المنظمة لعام2005 ومكافحة الإرهاب لعام2006, وذلك بعد انتشار الجريمة المنظمة والإرهاب بطريقة تشكل خطرا علي الأمن القومي للبلاد, حيث أعطى القانون الإنجليزي الشرطة في حالة خرق القيود المفروضة على التجمع وحدوث انتهاكات جماعية من قبل المشاركين في التجمعات الحق في فضها، وتفتيش أي شخص يشتبه في ضلوعه في القيام بأي أعمال إجرامية أو عدائية تهدد الأمن والنظام العام والقبض عليه، كما أعطى لقوات الشرطة الحق في اتباع تكتيك الـkittling أي تطويق المتظاهرين المشاغبين واحتجازهم، معطياً للمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان كذلك الحق في مراقــبة سلوك وتصرف المشاركين في التجمعات لتحديد من قام بالخرق والانتهاك وما إذا ما قامت به الأجهزة الأمنية قد مثل تعسفاً من عدمه.كما فرض علي المتظاهرين قيودا شديدة في مناطق معينة للتواجد أو التظاهر بها مثل القواعد العسكرية أو المحطات النووية وداوننج ستريت, مقر رئاسة الوزراء في بريطانيا, وقصر ويست منيستر والذي يضم مبني البرلمان البريطاني وغيرها من المناطق الحيوية والتي تشكل خطرا علي الأمن القومي.[11]
يظل حق التظاهر في الولايات المتحدة من القضايا التي تثير جدلا متواصلا منذ أن وضعت وثيقة الحقوق عام1791, فحق التعبير عن الرأي الذي يكفله الدستور ليس مطلقا, كما قد يتصور البعض, بل تحده الكثير من القيود والشروط, التي قد تبدو أحيانا في نظر الحركات المدنية شديدة القمع, ففي الوقت الذي يكفل الدستور عدم حق أي ولاية من الولايات الأمريكية في منع قيام أي مظاهرة أو احتجاج أو مسيرة مهما يكن الغرض منها, حتى لو كانت ضد قوانين الولاية نفسها, إضافة إلي واجب الشرطة في حماية المتظاهرين وتأمينهم ووضع الحواجز المتحركة لحمايتهم من الآخرين, فإن هناك الكثير من الشروط التي تكفل سلمية تلك الاحتجاجات, ومنها علي سبيل المثال, انه لا يحق القيام بمظاهرات بالقرب من المستشفيات أو المدارس أو الجامعات أو أماكن الخدمة العامة كالوزارات والمطارات وأماكن تجمع وسائل النقل أو إغلاق الشوارع والممرات, وعدم استخدام مكبرات الصوت العالية إلا بعد تصريح علي ألا تستخدم بعد السادسة مساء, كما لا يسمح بالكتابة علي السيارات أو جدران المنازل أو إتلاف أي منشآت خاصة أو عامة, كما انه يحق للشرطة منع دخول المزيد من المتظاهرين إلى إمكان التظاهر في حال إذا وجدت أن العدد أكثر من الحد المسموح به وذلك منعا للتدافع الذي قد يؤدي إلى حالات اختناق, بل انه من حق الجهات المسئولة أن ترفض قيام المظاهرة إذا كانت درجات الحرارة شديدة البرودة أو شديدة السخونة أو لو كانت هناك رياح شديدة خوفا علي حياة المتظاهرين.[12]
وقد نص القانون الأمريكي في المادة (106) على أن لرئيس شرطة العاصمة (MPD) أو من ينوب عنه الحق في إدخال تعديلات على برنامج التجمع (Procession Plan) أو رفضه أو إلغائه، ولكن قبل 30 يوم من تاريخ انعقاد التجمع.
وأجاز لرئيس الشرطة بعد التفاوض مع منظم/منظمي التجمع المتقدمين بإشعار إدخال بعض التعديلات المعقولة على موقع التجمع، ومسيرته إذا ما ارتأى أنها من الأهمية للحفاظ على الأمن العام وذلك قبل 10 أيام من تاريخ انعقاد التجمع.
معطيًا في مقابل ذلك لمنظم/منظمي التجمع الذي يرى تعسفاً من قبل شرطة العاصمة في إلغاء خطة التجمع الذي سينظمه، أو رفضها أو تقييدها من خلال إدخال تعديلات عليها؛ الحق في الاستئناف، والطعن على هذا القرار أمام عمدة المقاطعة (mayor of district) أو من ينوب عنه والذي يكون مخولاً باتخاذ إجراء من ثلاثة إجراءات هي أما الموافقة على قرار رئيس الشرطة سواء بالتعديل أو الإلغاء أو الرفض، أو تعديله، أو رفضه، على أن يقوم بتقديم قراره كتابةً ومشفوعاً بالسبب، وعلى وجه السرعة وذلك قبل وذلك قبل الموعد المحدد لانعقاد التجمع.[13]
وأعطى القانون الأمريكي في المادة (107) للشرطة بعد توجيه التحذيرات الشفوية، الحق في إلقاء القبض على المشاغبين وإصدار أمر عام بتفريق المتظاهرين من مواقع عدة شريطةً أن يتم ذلك على نحو مسموع بوضوح، ويفهمه المتظاهرين عن طريق استخدام أجهزة تكبير الصوت، وبعد إعطاء فترة زمنية معقولة وكافية لتفرق المتظاهرين، وبعد أن يقوم رجال الشرطة بتسجيل الأمر بتفريق المتظاهرين بالصوت أو الفيديو كلما كان ذلك ممكنا وذلك في حالة فشل نسبة كبيرة من المشاركين في التجمع بالالتزام بالقيود المفروضة، أو انخراط عدد كبير منهم في الأعمال العدوانية أو ظهور بوادر تشير إلى أنهم يوشكون على الانخراط في سلوك غير منضبط وغير قانوني أو ينطوي على استخدام العنف تجاه الآخرين أو ممتلكاتهم، أو عند إعلان حالة الطوارئ الأمنية من قبل رئيس البلدية خشية أن تؤدي التظاهرات إلى الإضرار بالسلامة العامة، كما أعطي للشرطة الحق في استخدام police lines أي تكتيك تطويق المظاهرات باستخدام خطوط محددة لها في حالة قيام المشاركين في التظاهرات بأعمال غير قانونية تخرق القانون، واستخدام أسلحة غير مميتة (non- lethal weapons) إذا كان لا مفر من استخدام أسلحة لتفريق التجمعات.
ومع الكثير من الحريات والقيود المرتبطة بالحركات الاحتجاجية في الولايات المتحدة, الجدل الصاخب المصاحب لها, إلا أن ذلك لم يمنع من تواصل المظاهرات الاحتجاجية الكبرى أمام شتي القضايا الأمريكية, حتى أنها أصبحت واحدة من ابرز سمات المجتمع الأمريكي المعاصر, وجزءا لا يتجزأ من تاريخها, وقد كان لها تأثيرها الكبير علي السياسات الأمريكية, وربما كانت أبرزها موجات احتجاجات حركة الحقوق المدنية في الستينيات التي انتهت بمنح الأمريكيين من أصل إفريقي الكثير من حقوقهم التي يتمتعون بها اليوم والتي توجت بأن أصبح منهم رئيس للولايات المتحدة لفترتين, هو باراك اوباما.
تبقي دوما القضية المثيرة للجدل في الولايات المتحدة هي حدود تعامل الشرطة مع المتظاهرين, وهي القضية المتجددة كلما لاحظ المجتمع المدني وجود تماد من جانب الشرطة في مواجهة المحتجين, وكان آخرها ما لوحظ من قبل المنظمات الحقوقية من انتهاكات من قوات الشرطة في مواجهة المتظاهرين في حركة’ احتلوا وول ستريت’.[14]
الواقع أن استراتيجيات الشرطة الأمريكية في التعامل مع المحتجين والمظاهرات, مرت بعدة تحولات جذرية علي مدي العقود الماضية, فكما هو معروف تاريخيا, فقد رصدت الكثير من تجاوزات الجهاز الأمني أثناء التعامل مع حركة الحقوق المدنية في الستينيات, والحركات المطالبة بحقوق المهاجرين في السبعينيات وما يعرف بمأساة جامعة كينيت التي استخدمت فيها القوة المفرطة ضد المتظاهرين, وهي الأساليب التي منعت فيما بعد, في التسعينيات استخدمت الشرطة الأمريكية بشكل عام تقنية ما سمته’ إدارة التفاوض’, التي كانت تعمد إلى نزع فتيل اشتعال الأزمات بين المتظاهرين والشرطة خلال الاحتجاجات, خاصة بعد أن أظهرت الدراسات والأبحاث أن الجمهور القابع في بيته, ينظر بالكثير من التعاطف نحو المتظاهرين أمام استخدام القوة من قبل الشرطة مع يوجد ضغطا شعبيا كبيرا, ومع هذا فقد عادت واستخدمت أساليب أكثر حدة في أثناء مظاهرات منظمة التجارة العالمية في سياتل عام1999 ثم في أثناء موجات الاحتجاجات الكبرى التي انفجرت ضد قرار الحرب علي العراق2003, مع استخدام الشرطة لدروع أشبه بغطاء السلحفاة وإطلاق الرصاص المطاطي وقنابل غاز الفلفل الحار, ولكن هذا تزامن مع تطور أساليب التفاوض, حيث استخدام قوات فض الشغب أفراد شرطة اعلي قدرة علي التحكم في النفس وقدرة علي إقامة تفاوض مع المحتج الذي يتحول إلى العنف تجعله في النهاية ينصاع لأوامر قوات فض الشغب حتى انه يسمح بتكبيل يديه دون مقاومة تذكر, هذا النهج الجديد الذي أطلقت عليه الشرطة,’ القيادة والسيطرة’ يمزج ما بين استراتيجيات فض الشغب الصارمة واستعراض القوة الذي يثير الخوف لدي المحتجين الذين يتحولون إلى العنف, والكثير من القدرة علي ضبط النفس من قبل قوات الأمن بالإضافة إلى عمل أجهزة المراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية, الذي تتمكن من خلاله القوات من تحديد هوية المندسين من مثيري الشغب بين المتظاهرين السلميين. إن نجاح الجهاز الأمني في تحديد إلى أي مدى يمكن أن تتحول المظاهرة إلى العنف, وبالتالي منع الأزمات قبل انفجارها, قد نجح في عدم إراقة نقطة دم في تلك المظاهرات وقلل أيضا من حجم اعتراض الجماعات الحقوقية ضد العنف المستخدم من قبل الشرطة, ناهيك عن تطور تكتيكات التفاوض الذي تجعله الشرطة الملاذ الأول, من ناحية أخرى تري بعض المنظمات الحقوقية أن نجاح المحامين في جعل الجهاز الشرطي الذي يتعدي حدوده ضد المتظاهرين, يدفع ثمن انتهاكاته, كان يدفع القوات إلى المزيد من التحكم في النفس, حيث نجحت علي سبيل المثال نقابة المحامين الوطنية التي تدافع عن حقوق التعديل الاول في الدستور, من خلال التقاضي, ان تلزم الجهات الامنية بدفع اكثر من مليون دولار للمتظاهر الذي يتم انتهاك حقوقه من قبل الشرطة أو يعتقل علي سبيل الخطأ, ليصبح التقاضي قوة موازية قادرة علي كبح جماح كل من تعسف الشرطة أو تحول المتظاهر السلمي .[15]
رابعا: المظاهرات والاعتصامات في دول الربيع العربي
أعادت الثورة العربية الحياة لخيار المظاهرات السلمية كوسيلة فعالة لتحقيق المطالبة بالديمقراطية.
ولعل الإضافة الأبرز للثورات العربية أنها أعادت الحياة لمفهوم المقاومة السلمية Non-Violence Resistance والتي أرساها المهاتما غاندى خلال نضاله لاستقلال الهند من أعتى إمبراطورية علي وجه الأرض آنذاك. عادت الثورات العربية لتؤكد علي فاعلية خيار المظاهرات السلمية والعصيان المدني، حيث تحظى هذه الآلية بالعديد من المزايا:
أنها وسائل مشروعة تكلفها الدساتير ومواثيق حقوق الإنسان من الحق في التظاهر والتعبير عن الرأي وفي اختيار الشعب من يمثله. مما يدفع المنظمات الدولية وخاصة المدافعة عن حقوق الإنسان بالضغط علي حكوماتها للتدخل.
تنزع غطاء الشرعية من النظام حال التعامل معها بالقوة حيث تساهم في تعرية النظام أمام العالم. وتكسب تعاطف العالم للمتظاهرين.
تؤدي في الكثير من الأحيان إلي تحييد قوات النظام وانضمام عناصرها في صفوف المتظاهرين العزل.
اللجوء للسلاح والعنف من طرف المتظاهرين يؤدي لشلال من الدماء وطول أمد الصراع وتأخر الحسم. وغالبا ما تنتهي لصالح النظام إذا ما أخذنا في الاعتبار افتقار المتظاهرين للخبرة القتالية وضعف التسليح.
وهذا هو سر تأخر الحسم في ليبيا، حين حمل المتظاهرين السلاح ضد كتائب القذافي، ليتحول المشهد إلي حرب طويلة، ويفشل المتظاهرين في إحراز نصر حاسم نظراً لافتقارهم للتدريب ولضعف التسليح لديهم، مما أسفر عن التدخل الدولي الذي لجأ إلي سياسية “الاحتواء المزدوج” بحيث يستنزف الطرفين قوتهم في الصراع، وليعتمد الحسم علي إرادة التحالف الدولي والذي يفرض شروطه علي الطرف الأخر لتحقيق أكبر قدر من المكاسب قبل حسمه لصالح المعارضة.
يمكن القول أنه من المهم تحديد المسئول الرئيسي عن الجرائم التي وقعت أثناء فض اعتصامات النهضة ورابعة العدوية إذ أن وجود ضرر قد أصاب فئات من المجتمع من قبل الدولة جراء تقصيرها في أداء المهام الموكولة إليها أو الإضرار بمواطنين المتظاهرين والاعتداء عليهم، وبما لا يتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، هذا فضلاً عن إخلال الدولة بالالتزام القانوني العام الذي يفرض عدم الأضرار بالمواطنين في حال تظاهراتهم السلمية، وما يستتبع كل ذلك بالضرورة من مسئولية تقصيرية أو جنائية – أو كليهما – تقع على عاتق الدولة… كل ذلك من شأنه أن يمثل أمر غاية في الأهمية ولا سيما عند وضع حد لظاهرة الإفلات من العقاب، خاصة لكبار مسئوولي الدولة والضباط الذين شاركوا فى ارتكاب هذه الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.
ولابد من توافر أركان أساسية للجرائم ضد الإنسانية وهي تحديداً أن يتم ارتكابها بطريقة منهجية (systematic) أو في إطار هجوم واسع النطاق (widespread) ضد مجموعة من السكان المدنيين[16]، سواء تم ذلك الهجوم من قِبل رجال السلطة من جنود وضباط أم من غيرهم من الميليشيات والجماعات المسلحة[17]، أو أن يتم تنظيمها من خلال سياسة عامة – حكومية أو غير حكومية (public policy) – ويجب أن يكون الفاعل على علم بذلك الهجوم. وتكون الجريمة منهجية إذا تم ارتكابها بأفعال متعددة ومتلاحقة بدرجة عالية من التخطيط المنظم، ويعني تعبير على نطاق واسع أنها ترتكب على نطاق واسع ضد مجموعة من الأشخاص المدنيين، وهم في الحالة الراهنة المشاركون في التظاهرات السلمية، بغض النظر عن الحيز الجغرافي المتواجدين به، أو هويتهم أو أشخاصهم، وسواء كانوا محددين من قِبَل الجناة أم لا، وتتم الجريمة في ظل سياسة منظمة إذا تم ارتكابها في إطار سياسة عامة مدروسة عملاً بسياسة الدولة أو سياسة منظمة أخرى. ويعني هذا إمكانية ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية عن طريق رجال السلطة في الدولة أو أجهزة الدولة ذاتها أو بالوكالة عنها[18]. ومن المفهوم أيضاً أن عبارة “سياسة لارتكاب الهجوم” تتطلب أن تروج أو تشجع الدولة أو المنظمة، ارتكاب مثل ذلك الهجوم ضد مجموعة من السكان المدنيين[19].
خامسا:جرائم قتل المتظاهرين ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية
يرى الدكتور فؤاد عبد المنعم رياض وهو قاض سابق بالمحكمة الدولية لجرائم الحرب وأستاذ القانون
الدولي بجامعة القاهرة. وهو أول من أصدر حكما بالسجن 45 عاما ضد قائد الجيش الصربي بيوغوسلافيا لارتكابه جرائم إبادة جماعية وحقق مع الرئيس الصربي كارديتش لمدة 4 أشهر متواصلة في عام 2001. أن سلطات الدولة يجب أن تلتزم بالمواثيق الدولية التي تنظم أسلوب التصدي للمتظاهرين خصوصا في الاتفاقية المعروفة باتفاقية هافانا لسنة 1955 التي صدقت عليها مصر، وهى تقضى بعدم ضرب المتظاهرين مادامت هذه المظاهرات سلمية. فإذا قام المتظاهرون بمهاجمة رجال الأمن فمن حقهم صد هذا الهجوم بإطلاق الأعيرة المطاطية، أو النارية عند اللزوم ولكن في المنطقة السفلى من الجسد «القدمين والساقين» لمنعهم فقط وليس لقتلهم.
أما الضرب العشوائي للمتظاهرين والذي يؤدى إلى الإصابة في مقتل فيعد جرائم ضد الإنسانية خاصة إذا تم بشكل جماعي وهو أمر تجرمه المواثيق الدولية المعروفة التي انضمت إليها مصر.
سادسا:هل تمتد المسؤولية الجنائية الدولية للمدنيين من رجال السلطة؟
إن قواعد المسؤولية الجنائية لا تقف فقط عند القادة العسكريين والمدنيين، بل يمكن أن تمتد لتشمل المدنيين من رجال السلطة، طالما ثبت أنهم قد حرضوا أو اتفقوا أو ساعدوا على ارتكاب تلك الجرائم. وإثبات المسؤولية هنا يتضمن أموراً تتصل بمسألة الإثبات الجنائي التي تضطلع بها سلطات التحقيق. وبالتالي يجب ألا يقتصر دورها على التحقيق مع مرتكبي الأفعال المادية من رجال شرطة أو خلافه، بل يجب أن يتم التوسع في التحقيقات للتوصل إلى بيان من أمر أو أوعز لهؤلاء بارتكاب تلك الجرائم، أو يسر ارتكابها، أو من أمدهم بالمال والسلاح والعتاد أو أي شيء آخر مما استعمل في ارتكابها، مع تحديد مصدر الأسلحة والعتاد وكيفية الحصول عليها والقصد من ذلك، إلى غير ذلك من العناصر التي يجب أن تنصب عليها التحقيقات الجنائية في تلك الحالة، وصولاً إلى تحديد المسئولين ولو كانوا من رجال السلطة المدنيين من الأحزاب السياسية أو المجالس النيابية الذين يمكن تطبيق قواعد المسؤولية المتعلقة بالاشتراك والمساهمة الجنائية بشأنهم.
في حكم صادر حديثاً عن المحكمة الجنائية الدولية، أسس قضاتها المسؤولية الجنائية عن الجرائم ضد الإنسانية قبل أحد رجال السلطة المدنيين، باعتباره فاعلاً أصلياً للجريمة، على سند من اقترافه الأفعال الآتية:
إنه أشرف على وسائل تنفيذ الخطة الإجرامية الموضوعة.
إنه ساهم في حشد جموع المهاجمين على المجني عليهم.
إنه أدار مصادر التمويل اللازمة لتنفيذ هذه الخطة الإجرامية[20].
ولم يكتف النظام الأساسي بإقرار المسؤولية الفردية، وإنما أقر مسؤولية القادة والرؤساء عن الجرائم التي ترتكب من قبل الأشخاص التابعين سواء كانوا جنودا أو موظفين، فالصفة الرسمية لا تحول دون تطبيق مبدأ المسؤولية الجنائية لمرتكبي الجرائم الدولية.وقد نصت المادة 27 على عدم الاعتداء بالصفة الرسمية والتي تضمنت:
1- يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون تمييز بسبب الصفة الرسمية، وبوجه خاص فإن الصفة الرسمية للشخص سواء كان رئيسا لدولة أو حكومة أو عضوا في حكومة أو برلمان، أو ممثلا منتخبا، أو موظفا حكوميا، لا نعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكل في حد ذاتها سببا لتخفيف العقوبة.
2 -يسأل الشخص جنائيا ويكون عرضه للعقاب عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية دون أي اعتبار للصفة الرسمية التي قد يشغلها الشخص، أو المنصب، أو المركز، أو المنصب الرسمي، ولا يعفى من المسؤولية والعقاب، حتى ولو كان رئيسا للدولة يتحمل المسؤولية الشخصية بصورة متساوية مع أي شخص آخر عادي دون أي تمييز.
3-إن الفعل غير المشروع الذي يرتكبه الجندي أو الضابط الأعلى تنفيذا لأمر حكومته أو رئيسه العسكري لا يكون معذورا إذا كان مرتكب الفعل في لحظة ارتكابه لم يعلم أو إذا كانت لديه – مع ملاحظة الظروف- من الأسباب الكافية ما يجعله يعلم بأن الأمر غير مشروع بالنسبة إلى قوانين الحرب وعاداتها أو بالنسبة إلى مبادئ القانون الجنائي التي تطبقها الأمم المتحدة أو بالنسبة إلى قوانين بلاده الخاصة”[21].
وإذا كان الاعتداد بحجة الأوامر العليا بفرض تخفيف العقاب من الأمور المسلم بها في القانون الدولي[22] فإن الاعتداد بهذه الحجة بمثابة مانع من موانع المسؤولية أمر غير متفق عليه[23].
ونصت المادة 33 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنه: ” في حالة ارتكاب أي شخص لجريمة من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، لا يعفى الشخص من المسؤولية الجنائية إذا كان ارتكابه لتلك الجريمة قد تم امتثالا لأمر حكومته أو رئيسه عسكريا أم مدنيا عدا الحالات الآتية:
إذا كان على الشخص التزام قانوني بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني.
إذا لم يكن الشخص على علم بأن الأمر غير مشروع.
ج- إذا لم تكن عدم مشروعية الأمر ظاهرة.
ح- لأغراض هذه المادة تكون عدم المشروعية ظاهرة في حالة أوامر ارتكاب جريمة الإبادة أو الجرائم ضد الإنسانية[24].
ويبدو من هذا النص أن المشرع الدولي قد سلك مسلكا مغايرا إلى ما درج عليه القضاء الدولي الجنائي في محاكم نورمبرغ ويوغسلافيا.
وقواعد المسؤولية المتقدمة تقودنا لا محالة لمعالجة مشكلة قانونية هامة أثارتها أحداث الثورات الجارية في المنطقة العربية، وهي مدى مسؤولية رئيس الدولة عما يُرتكب من جرائم في حق المتظاهرين، وعما إذا كانت تتوافر لديه أو لغيره من رجال السلطة حصانة تمنع من اتخاذ الإجراءات الجنائية ضده.
تشمل واجبات قوات هيئات الشرطة المكلفة بفرض احترام القانون على الحماية والمحافظة على الأمن الداخلي للدولة. ولهذه القوات طبيعة شبه عسكرية ولها علاقة تنظيمية بالقوات المسلحة وبذلك يمكن تصور مركزها القانوني في ثلاثة أنواع من الدول هي :
– دول تكون قوات الشرطة جزءاً من قواتها المسلحة بصفة عامة وقت السلم والحرب مثل بلجيكا. وأنها أعلنت أثناء مصادقتها على البروتوكول الأول لعام 1977 على أن قوات الشرطة في بلادها هي جزء من القوات المسلحة إضافة إلى مهمتها وفقاً لمفهوم القوات المسلحة لطرف النـزاع المذكور في المادة (43) من البروتوكول الأول وتتمتع بمركز المقاتلين. ويتفق هذا مع مضمون الفقرة (3) من المادة (43) من البروتوكول الأول التي تؤكد على حق أطراف النـزاع في دمج هذه الهيئات في قواتها المسلحة شريطة إخطار أطراف النـزاع الأخرى بمثل هذا الإجراء.
– دول تدمج قوات الشرطة في قواتها المسلحة في حالة النـزاع المسلح مثل ألمانيا الاتحادية التي تمتلك قوة من الشرطة تعمل في وقت السلم لحراسة الحدود ويمكن لها المشاركة في العمليات العدائية في وقت النـزاع المسلح.
وكذلك في دولة السويد لديها قوات الحرس الوطني للصناعة يتم إعدادهم من وقت السلم للدفاع عن مواقع عملهم ضد أي عدوان على الصناعة، وبهذه الصفة هم مقاتلون في هذه الحالة فقط. حيث يمنح لهم بطاقات هوية.
– معظم الدول تفصل قوات الشرطة عن القوات المسلحة. وبهذه الحالة تعد قوات الشرطة المكلفة بفرض احترام القانون محميين كمدنيين بموجب أحكام الاتفاقية الرابعة والقسم الرابع من الملحق (البروتوكول) الأول.
سابعا:تفعيل قاعدة الاختصاص الجنائي العالمي
عالمية الاختصاص القضائي هي قاعدة قانونية تكفل عدم تمتع الجناة بملجأ آمن و عدم إفلاتهم من العقاب . يقصد بعالمية الاختصاص القضائي، أو العدالة خارج الاختصاص الترابي، تلك القاعدة التي تتأسس على القانون الدولي و بموجبها يمكن لسلطة قضائية في بلد ما ( دولة الادعاء ) أن تأمر باعتقال شخص معين بسبب مسؤوليته في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية و أن تحيله على العدالة، وذلك بغض النظر عن الدولة التي ينتمي إليها هذا الشخص أو يتواجد فيها و كذا بغض النظر عن مكان ارتكابه للجريمة و بغض النظر عن جنسية الضحايا. وبعبارة أخرى، إن الأمر يتعلق بقاعدة قانونية تكفل عدم تمتع المسؤولين الجنائيين عن انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة بأي ملجأ آمن و تضمن عدم تمتعهم بالإفلات من العقاب.[25]
يتوخى الاختصاص العالمي أن تكون المحاكم الوطنية مهيأة لتطبيق قواعد التأثيم الدولية المقررة ، وهو ما يتطلب سن تشريعات وطنية تحدد الجهة المختصة بنظر هذه الجرائم ، وترسم مدى الالتزامات التي تقع على عاتق جهات الملاحقة الجنائية والحكـم . وتفصيـل ذلك كما يلـى :
من المقرر أن تفعيل الاختصاص العالمي المنصوص عليه في الاتفاقيات يستند بالكامل إلى القواعد التي تضعها الدولة الطرف في هذه الاتفاقيات لتنظيم العدالة الجنائية لديها ، وسير العمل فيها ، وأن يعمل جهاز العدالة الوطني وفق القواعد الوطنية للتأثيم والردع .
فمن الملاحظ أن قواعد التجريم الواردة في الصكوك الدولية لا تكون مكتملة العناصر مما يتطلب تدخل المشرع الوطني لتعريف الجرائم وأركانها وتحديد العقوبات المقررة لها. فالاتفاقيات تقتصر عادة على النص على توصيات عامة مثل النص على توقيع ” العقوبات المناسبة ” وتترك للمشرع الوطني تحديدها ، وهى مهمة تفرضها عليه مقتضيات مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات المقررة في المادة 15 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 .
ومن هنا ينطوي الاختصاص العالمي على التزام على المشرع الوطني بأن يضع القواعد التي تمكن المحاكم الوطنية من مزاولة هذا الاختصاص في إطار القواعد التي تتضمنها القوانين الإجرائية المحددة لاختصاص تلك المحاكم.
وتضع بعض الاتفاقيات معايير لترجيح إسناد الاختصاص العالمي إلى محاكم دولة ما مثل المادة الخامسة من اتفاقية 1984 ضد التعذيب التي تتطلب ضبط المتهم في إقليم الدولة لإسناد الاختصاص إلى محاكمها. وفى المقابل، لا تضع اتفاقيات أخرى معايير من هذا القبيل.
وعلى سبيل المثال نجد أن اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 تكتفي بالنص على أن الدولة الطرف يقع عليها التزام بالبحث عن الأشخاص المشتبه في ارتكابهم أو الأمر بارتكاب إحدى الجرائم الخطيرة وتقديمها إلى محاكمها أيا كانت جنسيتهم.
( الاتفاقية الأولى ( م 49) الاتفاقية الثانية ( م 50 ) الاتفاقية الثالثـة ( م129 ) الاتفاقـية (م146) .
ويستكمل هذا النص على الاختصاص العالمي بنص في القانون الداخلي يحدد المحكمة الوطنية المختصة نوعياً ومحلياً بنظر الدعوى.
ويلاحظ أن النصوص الواردة في اتفاقيات جنيف تتسم بطابع آمر والزامى للدول الأطراف حيث يجرى النص على أنه يقع عليها ” التزام ” بالاختصاص العالمي ، في حين أن اتفاقيات أخرى ترسى هذا الاختصاص تجعل الأمر اختياريا للدول مثل المادة 105 من اتفاقية مونتجو باى Montego Bay لعام 1982 بشأن القرصنة أو المادة 5 فقرة 2 من اتفاقية 1984 بشأن التعذيب ، حيث يجرى النص على أن الدولة الطرف تتخذ التدابير اللازمة أو يمكن أن تتخذها دون الحديث عن ” التزام ” يقع على الدولة الطرف .
وغنى عن القول، أن المشرع الوطني بما يملك من سلطة تحديد ولاية محاكمه يستطيع أن يقرر في قانونه الجنائي قواعد للاختصاص العالمي للمحاكمة بالنسبة لجرائم معينة بغض النظر عن وجود صك دولي يقرر هذا الاختصاص العالمي.
من ذلك مثلاً أن فرنسا أسندت إلى محاكمها اختصاصا عالمياً لمحاكمة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني في يوغوسلافيا السابقة ورواندا والموضحة بقرارات مجلس الأمن الصادرة بإنشاء المحكمتين الدوليتين ، في حين أن هذه القرارات لم تكن نتحدث عن اختصاص عالمي ، وإنما عن قواعد فض تنازع الاختصاص بين أحدى المحكمتين الدولتين والمحاكم الوطنية مقررة الأولوية لصالح المحكمة الدولية .
ومتى تقرر الاختصاص العالمي بصورة ملزمة ، يكون على الدول الأطراف المخاطبة بهذا الالتزام أن تتخذ الإجراءات المقررة للملاحقة ، وإلا بات من الممكن تحريك مسئوليتها الدولية . وقد تؤثر بعض الدول اللجوء إلى تسليم الأشخاص المطلوبين بدلاً من محاكمتهم لديها .
ولا تزال مسألة الاختصاص العالمي تثير العديد من الإشكاليات، سياسية في بعض منها مثل بلجيكا، وعملية بالنسبة للبعض الآخر نظراً لصعوبة الحصول على الأدلة المطلوبة والتكلفة المالية لمثل هذه المحاكمات… [26]
الخلاصة:
في إطار هذه النبذة القانونية عن القواعد التنظيمية لفض التجمعات بكل من بريطانيا والولايات المتحدة، وفي ضوء تطورات الأوضاع بالدول العربية، يمكن إدراج عدة ملاحظات بشأن التعامل مع الحق في التظاهر والتجمع السلمي :[27]
– أهمية التأطير القانوني المتوازن والقائم على أسس من الحوار والديمقراطية لأسلوب التعامل الأمني مع المحتجين، وبما يتوافق مع القواعد الدولية، ليس فقط على صعيد واجبات منظمي التظاهرات والاعتصامات، وإنما على صعيد حقوقهم أيضًا والضوابط الدقيقة للتعامل الشرطي مع تلك التجمعات، دون إغفال للتفاصيل المتعلقة بتكنيكات التعامل الأمني، وعقوبات المتجاوزين من رجال الشرطة، وتعويضات الضحايا، وحقوق المعتقلين، وعدم التتبع الأمني اللاحق وغيرها من الأمور.
– التحلي بقدر معقول من المرونة عند وضع قيود إجرائية على استخدام الحق في التظاهر السلمي، ووضع آليات وإجراءات مناسبة لضمان الاستمتاع العملي بممارسة الحق وعدم خضوعها للإجراءات البيروقراطية المفرطة والمرهقة التي تفرغ الحق من مضمونه،لاسيما وأن ذلك الإرث لا زالت مصر تعاني منه حتى الأن.
– الأخذ في الاعتبار التجمعات، والمظاهرات التي تحدث بشكل عفوي، وعلى نحو طارئ والتجمعات المتزامنة، وإقرار الحق في المراجعة والاستئناف والطعن على القرارات التي يترتب عليها إلغاء أو تفريق التظاهرات أو التجمعات.
– تحديد الظروف المبررة لاستعمال القوة إذا كان لامفر من استخدامها واللجوء إليها تحديداً واضحاً غير مبهماً، ودونما إغفال الحاجة إلى التحذيرات المسبقة، واستخدام مستوى مقبول من القوة دون إفراط لمواجهة التهديدات والمخاطر المحتملة عبر استخدام أسلحة غير قاتلة (non- lethal weapons) للقمع في الحالات الاستثنائية فقط.
– حظر اللجوء إلى استخدام الأسلحة القاتلة من جانب الشرطة في فض المظاهرات والتجمعات إذا ما انتهك أو أخل المشاركين فيها بقواعد الحفاظ على السلم العام أوالأمن العام، ووضع قواعد لاستخدامها في الظروف القصوى إذا كان لا مفر من استخدامها، بحيث إذا ما أخل بها أفراد الشرطة يمكن أن يكون عرضة للمسألة القانونية، مع تحمل المتجاوزين للمسؤولية المدنية / أو الجنائية على حسب نوع الجرم الذي ارتكبوه بحق المتظاهرين أو المشاركين في التجمع.
– إتاحة الفرصة أمام المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان لمراقــبة التجمعات وسلوك رجال الأمن إزائها، وهنا تجدر الإشارة إلى إن شرطة مدينة لندن سبق أن وجهت دعوة لمنظمة الحرية “Liberty” لكي تعمل عمل المراقب المستقل خلال عمليات الشرطة لحفظ أمن مسيرة نظمها مؤتمر نقابات العمال في لندن سنة 2010.
– إتاحة المعلومات بشأن قواعد تنظيم الاعتصامات وتفاصيل الإجراءات الأمنية لتنظيمها أو فضها إذا استلزم الأمر، وذلك بقدر وافر من الشفافية والوضوح للجميع، وبما يضع كل جهة أمام مسؤولياتها.
حرية التظاهرات والاعتصامات بين أحكام القانون الداخلي وقواعد القانون الدولي