أبحاث قانونية هامة حول النزاعات الناشئة بين الدائنين و حلها بالأسبقية

نظرا لوضعية فئة من الدائنين المتميزة بفعل مساهمتهم في تمويل المقاولة بعد فتح مسطرة التسوية القضائية، فقد مكنهم المشرع من استفاء ديونهم بالأسبقية عن غيرهم مننن الدائنين. إلا أنه قد تنشأ العديد من النزاعات الداخلية بينهم، و بعودتنا للتشريع المغربي نجده اعتمد على صياغة عامة في المادة 575 من مدونة التجارة، دون أن يراعي وضع ترتيب بين الدائنين لحماية هذا المبدأ، بخلاف نظيره الفرنسي الذي وضع ترتيبا دقيقا بين الدائنين لحل الإشكالات المثارة بهذا الخصوص مما جعل المشرع يلتجئ إلى آليات لتسوية النزاعات الناشئة بين الدائنين، في ظل غياب وضع ترتيب بينهم، الأمر الذي يجعل موضوعنا يكتسي أهمية بالغة خاصة على مستوى النزاعات التي قد تثار بين الدائنين على صعيد المستوى العملي، و كيفية الحسم فيها، مما يدفعنا للتساؤل عن وضعية هذه النزاعات )المبحث الاول( و آليات تسويتها )المبحث الثاني (.

المبحث الأول: النزاعات الداخلية بين الدائنين المستفيدين من أحكام المادة 575

رغم فعالية حق الأسبقية في حماية الدائنين، فإنه تثار على الصعيد العملي العديد من النزاعات بين هؤلاء، الأمر الذي يستدعي حلول لحل هذه الإشكاليات، إلا أن المشرع المغربي أحجم عن وضع ترتيب الدائنين، نظرا لصياغة المادة 575 من مدونة التجارة التي جاءت مطلقة، و ذلك بخلاف نظيره الفرنسي الذي توفق في وضع ترتيب محكم و دقيق، بين هؤلاء الدائنين، لحل كل النزاعات المطروحة بينهم. مما يستدعي منا التعرض لموقف المشرع الفرنسي) المطلب الأول( قبل أن نتعرض لغياب وضع ترتيب بين الدائنين من لدن المشرع المغربي ) المطلب الثاني (.

المطلب الاول: موقف المشرع الفرنسي من ترتيب الدائنين

نظرا للوضعية الحرجة التي تجتازها المقاولة، بعد الإعلان عن فتح مسطرة المعالجة، و من أجل ضمان تمويل المقاولة بشكل عادي خلال فترة الملاحظة عمد المشرع الفرنسي إلى تشجيع المقرضين على التعامل مع هذه المقاولة خاصة عبر حق الاسبقية المقرر لهم، لاستيفاء ديونهم عند الاستحقاق بالاولوية في مواجهة باقي الدائنين، و لقد أحسن المشرع حينما حدد الترتيب الذي يجب اتباعه عند التنازع بين أولئك الدائنين، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حينما وضع استثناءات عامة و مجردة، حتى لا يقع أي تضارب بين الديون التي كانت محل استثناء من قاعدة اولية الديون اللاحقة، ثم أوضح مرتبة هذه الأخيرة طبقا للمادة 621-32 من مدونة التجارة[1]. و ما هذا الترتيب إلا رغبة من المشرع في إنقاذ المقاولات المتعثرة، و حماية لمصالح الدائنين، من أجل حاجيات استمرار النشاط[2] لذلك متعها المشرع بحق الاسبقية طبقا للمادة 32- 621 من مدونة التجارة، نظرا لطبيعتها الخاصة، و مساهمتها في تمويل المقاولة[3].

و قد أثارت هذه المادة جدلا كبيرا، و كانت من بين الأسباب التي دفعت إلى الطعن بعدم دستورية هذا القانون، بدعوى خرقه للمبادئ الدستورية التي تقضي بعدم رجعية القوانين، و كذا المساوات أمام القانون، بحيث أصدر المجلس الدستوري الفرنسي قرار بتاريخ 1985118 رد فيه هذه الوسيلة، على أساس أن هذا الفصل أعاد فقط ترتيب الاولوية فيما بين الدائنين. كما أن هذا الامتياز ممنوح لهذه الفئة من الدائنين نظرا لمساهمتهم في تحقيق المصلحة العامة التي يقتضيها تصحيح وضعية المقاولات التي تمر بصعوبات[4].

و بالفعل هذا ما سعى له المشرع من خلال التصنيف الذي أورده بالمادة 32- 621 من مدونة التجارة و ذلك وفق النهج التالي:

1- ديون الطبقة العاملة التي لم تتم تغطيتها عبر جمعية إدارة تأمينات ديون الاجراء (AGS)[5].

ورغم أن المشرع لم يحدد أي سقف إلا أن الأولوية تتعلق بالمرتبات فقط، أما الحقوق الأخرى التي تنشأ بمناسبة عقد العمل فلا تشملها هذه الأولية كالتوابع[6].

وعليه فقد متع المشرع ديون الاجراء بالامتياز الممتاز حيث جعلها تحتل الرتبة الأولى نظرا للطابع المعيشي للأجور، ولم يقف عند هذا الامتياز فحسب، بل عمل على إحداث مؤسسة خاصة تضمن الأداء الفعلي و السريع لديون العمال بمناسبة فتح المسطرة، يطلق عليها اختصارا « AGS » بموجب قانون 27 دجنبر 1973، حيث يتم تمويل هذا النظام عبر اشتراكات أرباب العمل وحدهم، بموجب التأمينات ضد البطالة، و نشير على سبيل المثال، أنه خلال السنوات الاربع الاولى، تم تسديد مبلغ 3.312.928.04.837 فرنك فرنسي من الديون الناشئة عن عقود العمل وحدها، كما استفاد سنة 1986 حوالي 91.833 عامل نم التغطية التي يؤمنها هذا النظام، و تحل هذه المؤسسة بقوة القانون محل العمال أصحاب الديون المؤداة من أجل متابعة أرباب العمل متمتعة في ذلك بنفس الامتياز من الدرجة الأولى المخول لهؤلاء العمال [7] . وقد أحال المشرع في المادة 32- 621 من المدونة السابقة على فصول مدونة الشغل[8].

و نفس المنحى سار عليه المشرع التونسي في قانون 17 أبريل 1995 المتعلق باتقاد المؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية حيث نص في المادة 37 منه: » تعطى الأولوية للديون الجديدة المترتبة على المؤسسة بداية من انطلاق فترة المراقبة، و التي لها علاقة مباشرة و ضرورية لمواصلة نشاطها، و تستخلص قبل الديون السابقة، ولو كانت ممتازة، إلا أن الديون المنصوص عليها بالفصلين 564 و 566 من المجلة التجارية، و بالفقرات 1و2و3 من الفصل 199 من مجلة الحقوق العينية تتمتع بامتياز مدعم للدفع و تستخلص قبل غيرها «

و بذلك فالقانون التونسي ينص على نفس استثناءات المشرع الفرنسي[9]، و عليه فكلا التشرعين أرادا النهوض بوضعية العمال و إقامة التوازن بين مختلف المصالح، و ذلك لأداء الأجور قبل غيرها الامر الذي كان من المفروض على المشرع المغربي السير على خطاه، خاصة بعد الوضعية المزرية التي يعيشها العمال في ظل الواقع الحالي.

2 مصاريف الخزينة، و أتعاب جهاز القضاء

أي كل المصاريف القضائية المتعلقة بمسطرة المعالجة المفتوحة في مواجهة المقاولة، و تتعلق أساسا بأتعاب السنديكة، و اعوان الجهاز القضائي، طالما هي مصاريف نافعة لصالح الدائنين و المقاولة[10]. و بالفعل هذا ما أيده قرار محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 1994/1/11، الذي جعل هذه المصاريف القضائية تحظى بالرتبة الثانية بعد ديون الاجراء[11].

2 قروض مؤسسات الائتمان و ديون المتعاقدين مع المقاولة من اجل استمرارية المقاولة استغلالها

أي ديون المنعشين الماليين بعد حكم فتح المسطرة، و يتعلق الامر بالعقود الجارية التنفيذ و التي قبل أصحابها باستمرارها من أجل مصلحة المقاولة[12]، و فيما يتعلق بالقروض البنكية، نشير بداية إلى أنهها تتعلق أساسا بالديون اللاحقة الناشئة عن القروض المقبولة عبر مؤسسات الائتمان وحدها، بخلاف القروض الصادرة عن أفراد طبيعيين، فإنها لا تتمتع بهذه الأولوية مما اثار الكثير من الجدل الفقهي في هذا المجال[13]. و يشترط في هذه القروض أن تنشأ خلال الفترة الانتقالية، و ليس قبل افتتاح المسطرة في مواجهة المقاولة، و يتعلق الامر أساسا بكل عمليات الائتمان[14].كما يشترط في هذه القروض إذن القاضي المنتدب، حتى لا تفقد هذه الرتبة ضمن تصنيف الديون الواردة في المادة 32- 621 و هذا الإذن يكون في حدود الاستمرار الضروري لنشاط المقاولة خلال الفترة الانتقالية، أ, في طور التصفية القضائية المقرونة باستمرار النشاط[15].

أما فيما يتعلق بالديون الناشئة عن استمرار العقود طبقا للمادة 37 من قانون 1985، و نقصد بها العقود الجارية التنفيذ التي تنشأ قبل افتتاح المسطرة، غير أنها تستمر بعد صدور الحكم كعقود الائتمان الايجاري، و الكراء، و التزويد بالسلع و الخدمات… الخ و التي يقبل فيها المتعاقدون آجلا للأداء، نظرا لأهميتها لاستمرار في الائتمان رغم الصادر في مواجهة المقاولة[16].

ويشترط في هذه العقود إجراء الإشهار دون ضرورة إذن القاضي المنتدب لمواصلتها، بل يجب فيها فقط قبول المتعاقد، من أجل صالح المقاولة و لحماية أولئك الدائنين[17]. و ذلك ما أيده القرار الصادر عن محكمة النقض الفرنسية بتاريخ 29/12/1997 و الذي قضى بضرورة شهر عقد الائتمان الإيجاري للمنقول، للاستفادة من حق الأسبقية لأن غياب إشهار عقد الائتمان الإيجاري من لدن المؤتمن، يعد خطأ من لدنه، و لا يخوله الحق في الاستفادة من الامتياز الممنوح للدائن اللاحق، و عليه يجب أن يكون العقد ناشئا بصفة قانونية، لحماية حقوق الدائن[18].

أبحاث قانونية هامة حول النزاعات الناشئة بين الدائنين و حلها بالأسبقية