مناقشة موضوعة للقيم الأخلاقية من حيث دلالاتها اللغوية والإصطلاحية
القيم الأخلاقية و حقوق الإنسان
هذه الدراسة بين مبتغيات أخرى تستهدف مناقشة موضوعة القيم الأخلاقية من حيث دلالاتها اللغوية والإصطلاحية ، مصادر إنبثاقها الطبيعية ، الفلسفية والدينية ، وطبيعة المعايير القياسية المميزة بين ماهية الصواب واللا صواب من مشمولات أنساق منظومة القيم الأخلاقية من جهة ، وتستعرض الدراسة بإيجاز الضمانات القانونية المعززة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية من جهة أخرى. وتناقش الدراسة أيضا الكيفيات العملية التي بمقتضاها يمكن تلافي إنتهاكات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية على الصعيدين الوطني في آحاد الدول والدولي عالميا من جهة وتأمين مستقبلا وضّاءاً للإنسانية جمعاء من جهة أخرى. وتختتم الدراسة مناقشتها لموضوعات البحث في محصلة أجملتها في نقاط سبع .هذا ، وستتعاطى الدراسة مع الموضوعات المنوّه عنها أعلاه وفقا للنسق الترّاتيبي التالي.
الماهية اللغوية و الإصطلاحية للقيم و الأخلاق.
إنّ القيمة كإسم معنى لغة تعني الثمن، فيقال شيء ثمين أي ليس بالرخيص الوضيع.(1) أمّا إصطلاحا فإنّ معطى قيمة يفيد المعيار أو المقياس المادي أو العقلي الذي بمقتضاه ُيثمّن المُقييّم ماديّا كان أم معنويا. عليه ، يمكن القول أنّ القيم كمعايير تثمينية تتمايز ماهياتها ماديّا ومعنويا وفقا لوظائفها القياسية تلائما مع طبيعة الُممَعْيّر أو المُقاس. فالقيم المعنوية قد توظف لتثمين المعقولات لا الحسّيات . أمّا القيم المادية قد توظّف كمقاييس لتثمين المحسوسات .
أمّا الخُلقُ لغة يعني السّجيةُ والشّيمةُ .(2) أمّا إصطلاحا فالأخلاق معطيات ذات دلالات معانية ترمز إلى أنساق نواميس مجتمعية تضبط وتحكم السلوكيات الإرادية لأعضاء المجتمع التي تطال آثارها المجتمع في كُليّته إيجابا أو سلبا. (3)
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المفهوم الإصطلاحي للقيم الأخلاقية المُتقدّم ذكره قد أثار تساؤلات تتمحور حول ماهية طبيعة القيم الأخلاقية وإليك بيانها :
هل ما هو قيمة أخلاقية شيء موضوعي قائم بذاته في منعزل عن الطبيعة ؟ أم هو معطى ذاتي مرتبط بذوات المعقولات والمحسوسات على حد سواء .؟
فالقائلون بذاتية القيم الأخلاقية بإعتبارها حالات ذهنية أو وجدانية تنبثق ومن ثم ترتبط بوعي الفرد والجماعة يعتبرونها معطيات متحولة لا يحكمها ناموس الثبات لذلك يرون عدم صلاحيتها كمعيار لتثمين الأشياء من حيث صلاحها أو طلاحها . ذلك لواقع أنّ المجتمعات البشرية ما هي إلاّ كائنات حيّة دائمة التطور ، فهي في تغيّر مستمر ويكتنفها إستقرار نسبي. لذلك يرون أنّ كُلّ القيم الأخلاقية معطيات ذاتية لا تُأصّل ذاتها بذاتها وإنمّا هي مخرجات العقل أو الوجدان المجتمعي لذلك هي مرتبطة بة وجودا وعدما . لذا يُنْكِرُون القول الزاعم بموضوعية القيم الأخلاقية وذلك لإعتقادهم بأنّ كُلّ مُحْدَثٍ مرتبط بِمُحْدِثهِ ( فالفعل الخيّر مرتبط بالإرادة الخيّرة والفعل الشّر مرتبط بالإرادة السّيئة. (4 )
أمّا القائلون بموضوعية القيم الأخلاقية يزعمون بصلاحيتها كأداة ضابطة للسلوك الإجتماعي لكونها في ذاتها تمثل ناموس منسجم مع القانون الطبيعي ومن ثم لا تتعارض مع مخرجات العقل الجمعي في أي مجتمع رشيد كان عتيقا تحققت صيرورته في غابر العصور أو معاصرا وليد زماننا الآني ، لأن أنساق القيم الأخلاقية الفاضلة صالحة بكيفية سرمدية مطلقة لا تتبدل لتغير الأزمنة أو لتبدل الأمكنة. فعل سبيل النمذجة أنّ قيمة صون وتقديس حياة الآدمي وتحريم سفك دمه، التسامح ، حب الخير، نبذ الشر ، تمجيد العدل ، بغض الظلم وتبجيل الحكمة كل هذه السجايا قيم سامية أبدية قائمة بذواتها في معزل عن غيرها ومقبولة في كل المجتمعات البشرية رغم إختلاف بيئاتها الحضارية وتباين مشاربها الثقافية . لذلك يعتقد القائلون بموضوعية القيم الأخلاقية بصلاحيتها كمعايير يُميّيز وفقا لها بين صواب وخطل السلوك الإجتماعي في كل مكان وفي كل زمان .(5)
إنّ الجدل حول ذاتية وموضوعية القيم الأخلاقية يدفع بالضرورة إلى التساؤل عن مصدر الناموس المحدد لماهية صواب وخطأ سلوك أفراد المجتمع ، هل هذا الناموس منبثق عن وعي الوجدان الإنساني (ناموس ناسوتي) ؟ أم عن قوى الطبيعة (القانون الطبيعي) ؟ أم عن قوى ماوراء الطبيعة (ناموس لاهوتي) ؟ سأحاول إيراد إجابات عن هذه التساؤلات في الفقرات التالية .
1- معيار وعي الوجدان الإنساني (الناموس الناسوتي).
نسبة لغموض مصطلح “وعي الوجدان الإنساني” تتباين المفاهيم المعانية الدالة عليه ، لذا أرى من المفيد إيراد التعريف التالي على سبيل النمذجة .
لدى البعض يعني مصطلح ” وعي الوجدان الإنساني” كل قوة ذاتية روحية أو فكرية كامنة في كيان الذات البشرية تحرك وتوجه السلوك الخيّر المنسجم مع أنساق قيم مجتمعه. ” إن الفعل أو اللاّ فعل يكون صواب إذا أفضى إلى خير الفرد و الجماعة ، ويكون خطأ إذا أفضى إلى ضرر الفرد والجماعة ” (6). يقول في هذا السياق هارولد ه.تيتس :إن السلوك الإنساني ليس محصلة المؤثرات البيئة الجغرافية فقط ، وإنمّا نتاج تفاعل الإرادة الإنسانية مع مخرجات البيئة المجتمعية و الجغرافية أيضا.” ويؤكد كانط هذا الإفتراض بقوله ” إن الإنسان الفطين يحكم نفسه ، إنه هو القانون ذاته ، إن الناموس الأخلاقي الذي يخضع له الإنسان قد فرضه هو على نفسه .الإنسان العاقل لا يحكم من الخارج بل من داخل ذاته… )(7) نقلا بتصرف عن الإنجليزية . عليه، إرتكازا إلى تخريجات هذا الفريق ، فإن وعي الذّات الإنسانية (الناموس الناسوتي) هو قوة باطنية تُفعّل إرادة التقرير لدى الفرد ليتعاطى إيجابا أو سلباً مع معطيات بيئته المجتمعية لأنهّ من منظور هذا الفريق إنّ السلوكيات الإجتماعية للفرد ليست مخرجات لا إرادية تقرّرها إعتباطا مكوّنات الحول المجتمعي بل هي أفعال إرادية مستقصدة لذاتها قدّرها وقضى بإنتاجها وعي وجدان الفرد . وتجدر الإشارة هنا إلى موقف القديس توما الإكويني الحاط من قدر رشاد الإرادة والوعي الإنساني ورميهما بالقصور والعجز بل نعتهما بالشر واللاّ فضيلة يقول توما ” عجز الآثم في أن يفعل خيرا بإرادته الذاتية مبعثه أن خطيئة آدم وسقوطه قد أفسدتا الطبيعة البشرية ، لذلك كُلّ إنسان يولد خطّيء وشرير. طبيعة الإنسان فساد وشّر لتلّوث أصلها .”(8)
– نقلا بتصرف عن الإنجليزية- وفي ذات السياق يُؤكّد آخرون نقيصة الإرادة الإنسانية لتضمنّها غرائز بهيمية “الإنسان حيوان كغيره من الحيوانات الأخرى تهيمن عليه غريزة حُبّ البقاء …لذا منظور أنْ يبدي شراسة ووحشية عندما تقتضي الضرورة حماية ذاته.إنّ مدنيّة الإنسان قناع زائف يواري طبيعته الحيوانية .” (9) – نقلا بتصرف عن الإنجليزية- إنّ هذا التكييف المستوضع للذات الآدمية لا مراء قد حطّ من قدْر إرادة الإنسان وسلبه نورانيته وفطنته ومن ثم قدرته على التقرير الرشيد بين ما هو فضيلة وخير وما هو رذيلة وشر. هذا ، ويجادل القائلون بنورانية الوجدان الإنساني من جهة أخرى مؤكدين رشاد وفطنة الآدمي لكونه عرّاب ناموس الطبيعة الخير”… ولمّا أنّ ناموس الطبيعة خير فإن عقله الناطق خير أيضا …”(10) نقلا بتصرف عن الإنجليزية-.
2- معيار العرف المجتمعي (ناموس المجتمع)
إنّ العقل الجمعي يمثل ضمير كل مجتمع كان مجتمعا عتيقا أم معاصرا. فالمجتمع الإنساني في كليته كائن حي لا يكتنفه الجمود أو يلفه الركود بل هو جسم فاعل دائم النمؤ يعيش في حراك دائب وتطور مستمر . إنّ تحول المجتمعات الإنسانية في سياق نموأها المطرد من طور العتاقة إلى طور الحداثة لا يلغي حقيقة كينونتها المجتمعية الجماعية التي تسودها حكمة العقل الجمعي ، لذلك فإن ناموس المجتمع (العرف) كشريعة حاكمة تعتبر المقياس الأكثر ملائمة لتقرير ماهية القيم الأخلاقية الفاضلة التي تحقق الخير العام تمييّزا لها عن الخصال الرذيلة التي تجلب الأضرار والشرور .(11)
3- معيار الناموس الطبيعي:
يزعم الطبيعيون بأنّ ملكوت قوى الطبيعة قد حوى في إطار ذاته كل حي ولاشيء متواجد خارجه. والإنسان كغيره من الموجودات يعد محلا لأحكام الناموس الطبيعي . ولمّا أنّه وفقا لأحكام الناموس الطبيعي قد تمّ خلق الإنسان توجّب عليه حُكما أن يحيا وفق مقتضيات أحكام المبدأ الطبيعي القائل ” لا تغترف ما حظر الناموس الطبيعي فعله لأنّه العقل السوي السائد والمدبر لنظام الكون… قبس البصيرة صار ناموسا لا بفعل إستنساخه وتقْعّيدهِ أحكاما و إنّما لإتساقه المطلق و حكمة الطبيعة.”(12)
نقلا بتصرف عن الإنجليزية. هذا ، إتساقا مع رؤية الطبيعيين فإنّ قبس البصيرة (العقل المستنير) أو الناموس الطبيعي هو المعيار الّذى بمقتضى أحكامه ُتميّيُز القيم الأخلاقية الصالحة عن غيرها من فاسد القيم.
4- معيار قوي ما وراء الطبيعة ( الناموس اللاّهوتي )
يعتبر أنصار هذا المنهج الشّرائع الدينية أي الناموس اللآهوتي المُحَددِّ المطلق لماهية القيم الأخلاقية لسامية وتلك العاطلة .فوفقا لمنظور اللآهوتيين أنّ الطبيعة ليست ُموجدة لذاتها بذاتها وإنّما هي ذات منفعله تتجلى فيها قدرة الفاعل . فملكوت الطبيعة ُيجسّد إبداع الإرادة الفاعلة في عالم الشهادة لذلك يرى اللآهوتيون إن قدرات كل الموجودات محدودة لعلة كونها مؤطّرة ومستحوزة في دائرة النسبي . لمّا أنّ مِكْنة الإرادة الفاعلة بطبيعتها مطلقة فإنّ الناموس الإلهي (لا وعي وجدان الإنسان ولا الناموس الطبيعي) هي المقرر الأوحد لماهية القيم الأخلاقية الصالحة تميّيزا لها عن تلك الطالحة . ” كل ما قدرته مشيئة الرّب فهو خير مطلق، وكل ما يناقض ناموس الرّب فهو شر مطلق . إنّ محارز الخير مكنوزة في ملكوت الرّب ” وإنّ الإذعان المطلق لإرادة القدوس فضيلة وعبادة وتسليما لمقتضيات ناموسه القاضي في كل الأحاييّن خيرا لأحبائه، فالحياة الفاضلة تُعاش وفق مُراد كلمة الرّب العادلة .” (13) نقلا بتصرف عن الإنجليزية .
ما تقدّم إستعراضه يمثل مقتطفات موجزة عن الآراء التي تناولت طبيعة المُحَددِّات التي بمقتضاها يمكن التميّيز بين فاضل القيم الأخلاقية وفاسدها . هذا ، وعلى الرغم من تباين ما تقدّم بيانه من آراء فإنّ السيرورات التاريخية للمجتمعات البشرية قد أكّدت على وجود عديد من القيم الأخلاقية التي قد أجمع علي تبجيلها بنو الإنسان رغم توزّع وجداناتهم وأفئدتهم بين أحكام نواميس متباينة المصادر لاهوتية وناسوتية . ولعموم الفائدة سأستعرض بكيفية موجزة أمثلة لتلك القيم الأخلاقية وذلك على سبيل النمذجة فقط .
فقد حدد الإمام أبو حامد الغزالي جوامع الأخلاق فيما يأتي بقوله إعلم” فإنّ أُمّهات الأخلاق وأصولها أربعة الحكمة والشّجاعة والعفّة والعدل . ونعني بالحكمة حالة النفس وقوة بها تسوس الغضب والشّهوة وتحملهما على مقتضى الحكمة و تضبطهما في الإسترسال والإنقباض على حسب مقتضاها . ونعني بالشّجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها . ونعني بالعفّة تأدب قوة الشّهوة بتأديب العقل والشرع”.(14) وقبل الشروع في سرد نماذج القيم الأخلاقية أوّد هنا الإيماء تلميحا إلى أنّ بعضا من هذه القيم يُعْنىَ بتهذيب أنفس الآحاد وتطبيبها من أسقام الأنا ، وبعضها يتغايا تشذيب ومدْيَنةِ المجتمعات المغلقة وتحريرها من أسقام عصبية القبيلة وتحريضها على الإنفتاح على الآخر، وبعض منها يستهدف أنّسَنةِ المجتمع البشري في كليته. وإليك فيما يأتي بعضا من فضائل القيم الأخلاقية على سبيل النمذجة .
1 – العدل:
فضيلة تخيّرها االرّبُ وعزاها لنفسه و خصّ بها ذاته فقد جاء في العهد القديم “…الرّب عادل ويحب العدل ، المستقتم يبصر وجهه.”(15) وورد أيضا في العهد القديم ” أحكام الرّب عادلة كلها.” (16) وجاء في العهد الجديد ” أفتح فمك لأجل الأخرس، في دعوى كل يتيم أفتح فمك، أقض بالعدل وحام عن الفقير والمسكين .” (17)
وقد وصف الحق عزّ وجل ذاته بالعدل بقوله ” الله لا إله إلا هو الحي القيوم …الحكم العدل…” (18) وقد حدّث رسول الله (ص) أنّ الله قد حرّم على نفسه الظلم ، فقد روى أبو ذر عن النبي (ص) أنّ الحق سبحانه وتعالى قد خاطب عباده قائلا ” يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا …” (19) وقد نهت النواميس السماويات عن البغي والحكم جوراً على الغير لأنّ المكر السّييء لا يحيق إلا بأهله ففي هذا السياق قد جاء في العهد الجديد ” لا تدينوا لكي لا تدانوا،لأنّكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم.”(20) فالعدل كفضيلة أخلاقية سامية قد حرّمت كل أنماط البغي، لذلك أُسْتُشْرِعتْ أحكام القصاص . فقد وردت في بعض الشرائع السماوية أحكاما تُمجّد العدل وتحضّ عليه. فقد جاء في العهد القديم ” إن ْ حصلت أذيّة تُعطى نفس بنفس، عين بعين، سن بسن، يد بيد، رجل برجل ، كي بكي، جرح بجرح ورضّ برضّ .”(21) وجاء في محكم التنزيل “وكتبنا عليهم فيها أنّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسِّنُ بالسِّنِ والجروح قصاص…”(22) وقد حُضّ على مراعاة العدل في المكايلة والموازنة فقد جاء في العهد القديم ” موازين غشّ َمكْرَهةُ الرّب والوزن الصحيح رضاه”(23) وفي ذات السياق قال الله تعالى في محكم تنزيله “.ويل للمطففين*الذين إذا أكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وّزنوهم يُخْسِرون .”(24) وقال الحق عز وجل أيضا” وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا.”(25)
2-الحكمة :
الحكمة من أُمّهات قيم الأخلاق فقد قيل على قبس نورها قد خلق الله الكون وقَعَّد أحكام نواميسه. فقد جاء في العهد القديم أنّ “الرّب بالحكمة أسس الأرض، وأثبت السماوات بالفهم ،بعلمه أنشقت اللّجج وتقطر السحاب ندى.”(26) وجاء في العهد القديم -أمثال-الإصحاح الأول أنّ ” مخافة الرّب رأس المعرفة “(27) وفي ذات السياق ذكر أبو حامد الغزالي أنّ “…الحكمة رأس الأخلاق الحسنة.”(28) وقد حضّ الحكماءُ على تعلمها كفضيلة لأنّها أغلى من النضار وأثمن المكتنزات قاطبة قال الرّب “طوبى للإنسان الذي يَجِّدُ في الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم لأنّ تجارتها خير من تجارة الفضّة وربحها خير من الذهب الخالص.هي أثمن من اللآليء ، وكلّ جواهرك لا تساويها…طرقها طرق نِعم وكل مسالكها سلام.”(29) وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الحكمة بغية كل حي إنسان كان أو حيوان. والإنسان قد حُضّ على التعلُّمِ من حكمة الحشرات فقد جاء في العهد القديم ” إذهب إلى النملة أيها الكسلان ، تأمل طرقها وكن حكيما، التي ليس لها قائد أو عريف أو متسلط . تعد في الصيف طعامها وتجمع في الحصاد أكلها. إلى متى تنام أيها الكسلان . متى تنهض من نومك فيأتي فقرك كساع وعوزك كغاز” (30)
3- صون الحياة وتحريم زهقها :
إنّ النهي عن زهق روح الآدمي مرجعها إلى إعزاز قدسيتها لكونها بعضا من روح الله فقد جاء في سورة الحجر “وإذ قال ربّك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.” (31) لذا نهت الذت العَِليَّةُ عن قتل الإنسان قال تعالى ” …أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فسادا في الأرض فكأنَّما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنَّما أحيا الناس جميعا…”(32) وفي ذات السياق جاء في العهد القديم ” من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا.”(33) وقد أكد على تحريم قتل النفس البشرية في العهد الجديد أيضا ” قد سمعتم انّه قيل للقدماء لا تقتل ، ومن قتل يكون مستوجب الحكم…”(34) وورد النهي عن أخذ النفس البشرية في صدر الأفعال المُحرّمة التي تعد من عظائم الآثام وأبغض الخطايا لدى الرّب ” لا تقتل ، لا تزن، لا تشهد الزور…” (35)
4-التراحم و التواد وإقراء الجائع :
الرحمة من صفات الرحمن فقد أُكّد على ذلك في آي الذكر الحكيم “… كتب ربُّكم على نفسه الرحمة…” (36) وقد عرَّف الحقُّ ذاته العلية بقوله “الرحمن *علّم القرآن *خلق الإنسان” (37) وجاء في العهد القديم “الرّب صالح مستقيم لذلك يُعلِّم الخطاة الطريق … ويُعلِّم الودعاء طرقه.كل سبل الرّب رحمة وحقّ…” (38) وفي سياق الحضّ على برِّ الفقير والجار جاء في العهد القديم ” من يرحم الفقير يَقْرُضُ الرّب عن معرفةٍ…”(39) وجاء أيضا في العهد القديم “لا تسلب الفقير لكونه فقيرا ، ولا تسحق المسكين في الباب ، لأنّ الرّب يقيم دعواهم ويسلب سالبي أنفسهم.”(40) وروي عن رسول الله (ص) إنّه قال “الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.”(41) وروي عنه أيضا قوله “والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره (في رواية أخرى لأخيه) ما يحب لنفسه.”(42) فالرحمة والبرّ كخصال مجيدة حُضّ على فعلها حتى للعدو فقد ورد في العهد القديم “إنْ جاع عدوك فأطعمه خبزا ، وإنْ عطش فأسقه ماءا.”(43) وقد أوصى الحق تعالى شأنه بالرّحمة بقوله “ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.” (44) .
5- العفّة والحصافة:
إنّ االعفّة من مكارم الأخلاق التي دعت إليها كل النواميس ، فقد جاء في تبجيل عفة اللًسان في العهد القديم ما نصّه ” يا بني البشر …حتى متى تحبون الباطل وتبتغون الكذب.” (45) وفي ذمّ سلاطة اللسان ورد في المزمور السابع والخمسين أنّ ” … بني آدم أسنانهم أسنّة وسهام ، ولسانهم سيف ماضي.” (46) وفي الدعوة إلى مجانبة الكذب والكفّ عن الخداع ورد في المزمور الثالث والأربعين ” صُنْ لسانك عن الشرِّ وشفتيك عن التكلُّم بالغش ، حدْ عن الشرِّ وأصنع الخير وأطلب السلامة وأسع ورائها…” (47) وفي أخبث الخطايا وأكثر الآثام إستهجانا عند الرّب ما أتي ذكره في العهد القديم ” هذه الستة يبغضها الرّب وسبعة هي مَكْرهةُ نفسه : عيون متعالية ، لسان كاذب ، أيدٍ سافكة دما برئيا، قلب ينشيء أفكارا رديئة ، أرجل سريعة إلى الجريان إلى السوء، شاهد زور َيفَْوَّه بالأكاذيب وزارع خصومات بين أخوة.” (48) . وفي الحضِّ على قول الحق والكفِّ عن الأذى روي عن رسول الله (ص) أنه قال ” من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقلْ خيرا أو يصمت…” (49) وفي مدح الصدق وعِفَّةِ اللِّسان قال (ص) ” إنّ الصدق يهدي إلى البرِّ، وأنّ البر يهدي إلى الجَنّة ، والرجل ليصدق حتى يكتب صديقا. وإنّ الكذب يهدي إلى الفجور ، وأنّ الفجور يهدي إلى النَّار. وإنّ الرجل يكذب حتى يكتب كذَّابا.” (50) وفي عفة اليد ورد في العهد القديم “لا تأخذ رشوة ، لأنّ الرشوة تعمي البصيرة وتُعوِّجُ كلام الأبرار.”(51) وفي النهي عن الهمز والغمز قد جاء في العهد القديم “الرجل الَّلئيمُ ، الرجل الأثيم يسعى بإعوجاج الفم ،يغمز بعينيه ، يقول برجليه ، يشير بأصَّبعه . في قلبه أكاذيب ، يخترع الشرَّ ، في كل حين يزرع خصومات.”(52)
6- التسامح و الصفح عن المسيء:
إنّ الصفح عن الظَّلمة والتجاوز عن البغاة كفضيلة دعت إليه كُّل النواميس والشرائع الحاضُّة على التحلي والتخلّق بمكارم الأخلاق . فقد بشّر السيد المسيح عليه السلام ودعا إلى المحبّة والتسامح بقوله ” سمعتم أنّه قِيل عين بعينٍ وسنّ بسّن . أمّا أنا أقول لكم لا تقاوموا الشرّ ، بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر ، أيضا.” (53) وقال أيضا في ذات السياق “…كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون.” (54) وفي الحضِّ على الصفح والعفو عن المسيء قال السيد المسيح عليه السلام ” فإنْ غفرتم للناس زلاّتهم يغفر لكم أيضا أبوكم السماوي.” (55) وفي ذات السياق قال أيضا ” سمعتم أنّه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، أمّا أنا فأقول لكم أحبوا أعدائكم ،باركوا لاعنييكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا من أجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم…” (56) وفي الحثِّ على الرفق والمخالقة الحسنة قال (ص) ” من يحرم الرفق يحرم الخير.” (57) وفي ذات السياق روت عائشة (ر) أنّ النبي (ص) قال ” يا عائشة إنّ الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطى على ما سواه.” (58) وفي العفو قال الحق تبارك وتعالى” خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين.”(59) وقال أيضا “والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس.”(60) وفي ذات الشأن قال رسول الله (ص) “لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا و كونوا عباد الله إخوانا.” (61)
7- برُّ الوالدين و الإحسان إليهما:
المخالقة الكيّسة ، وخفض الجناح والطاعة في غير معصية الذات العليَّة من أنبل الخصال التي دعت إليها الشرائع السماوية في معاملة الوالدين فقد جاء في الأمثال نصيحة للأبناء ” إسمع يا بني تأديب أبيك ولا ترفض شريعة أّمك لأنها إكليل نعمة لرأسك وقلائد عنقك.” (62) وورد أيضا في الأمثال ” أكرم أباك وأمّك…” (63) وقد وصى الرحمن عباده بطاعة والديهم والإحسان إليهم قال تعالى ” وو صينا الإنسان بوالديه …. (64). قيل أنّ رجلا جاء إلى رسول الله (ص) يستأذنه في الجهاد ، فقال (ص) أحي والداك ؟ قال : نعم. قال (ص) ففيهما جاهد.”(65)
وقد نُهي شرعا عن الإساءة للوالدين فقد جاء في العهد القديم أنّ ” مَنْ شتم أباه أو أمه يقتل قتلا.” (66)
إنّ الفضائل والقيم الإنسانية السامية نسبة لإرتباطها المباشر بذات الكائن البشري تواضع بنو آدم على نعتها بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية تمييزا لها عن ما عاداها من الحقوق والحريات. وتعزيزا وحماية لها فقد أستنّتْ بعض الشعوب على الصعيدين الوطني والدولي ( إقليمي -عالمي) تشريعات وتبنّتْ مواثيق وإعلانات وأنشأت آليات لغرض مراقبة وحماية هذه الحقوق من أنّ تنتهك. فعلى الصعيد الوطني قد أسْتَشْرعَتْ بعض الشعوب مواثيق وطنية أفردت أحكامها لتعزيز حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وكمحصلة لذلك فقد شهد العالم ميلاد الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن في عام 1789، ووثيقة الولايات المتحدة للحقوق في عام 1791 والوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان في عام 1988.هذا بينما ضَمّنَتْ بعض آحاد الدول متون دساتيرها أحكاما أفردتها لحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية . فقد أنتهج هذا السبيل كثير من الدول المنعوتة بالديموقراطية وكذلك أعتى الدكتاتوريات قمعا وتعسفا وسدورا في إنتهاكات حقوق الإنسان . أمّا على الصعيد الدولي الإقليمي فقد برز إلى حيز الوجود الميثاق الأوروبي لحماية حقوق الإنسان في عام 1953 والميثاق الأمريكي لحقوق الإنسان في عام 1969 والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب في عام 1986 ، بينما على الصعيد الدولي الكوني شهد العالم ميلاد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948 وقد أعقبه صدور عدد من المواثيق والإعلانات العالمية التي تعنى بحماية وتعزيز حقوق الإنسان وحرياته الأساسية كانت مستصدرة من قبل دول أو عن منظمات دولية متخصصة إقليمية كانت (كمنظمة المؤتمر الإسلامي) أو عالمية (كمنظمة العمل الدولية) وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ عدد هذه آليات والوثائق ذات الصلة بحقوق الإنسان قد بلغ زهاء ثلاثمائة (103) وثيقة وفقا لتقرير المفوض العالي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان (67)
هذا ، وقد غطّتْ أحكام المواثيق والإعلانات المعززة لحقوق الإنسان جُلّ إنْ لم يكن كافة الموضوعات الوثيقة الصلة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية. فإستنادا إلى هذه المُسلَّمة لا بد من الإعتراف بأنّه يبدو من الصعوبة بمكان أنْ لم يكن من المستحيل فحص ( في هذه العجالة وفي حيز هذه الورقة) جميع نصوص المواثيق والإعلانات الوطنية والدولية الإقليمية والدولية العالمية المتعلقة بحماية وتعزيز حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، عليه سأعمد إلى تقديم أمثلة لتلك النصوص والحقوق التي تمتْ معالجتها على سبيل النمذجة فقط وإليك بيان ذلك وفقا للنسق التالي.
1- صون حياة الكائن البشري وتعزيز حريته و أمنه.
لقد عالجتْ نصوص مواثيق و إعلانات دولية عديدة موضوع صون و حماية حق الكائن البشري في الحياة فعلي سبيل النمذجة نصت المادة -3- من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 على أنّ ” لكل فرد حق الحياة ، الحرية والأمن الشخصي. ” (68)- نقلا عن الإنجليزية بتصرف – و قد عُزِزَتْ هذه الحقوق في نص الفقرة -1- من المادة -4 – من الميثاق الأمريكي لحقوق الإنسان لعام 1969 و ذلك بالنص على أنّ “حياة الشخص يجب أنْ تُصان و تُحترم.” (69) – نقلا عن الإنجليزية بتصرف-
وقد أُكد على صون حق الآدمي في الحياة في متن المادة -6- في الجزء الثالث من الميثاق العالمي للحقوق المدنية و السياسية لعام 1976 و ذلك بالنص على أنّ ” حق كل كائن بشري في الحياة يجب أنْ يصونه القانون ، ولا أحد يُحرم إعتباطا حقه في الحياة.”
(70) .- نقلا عن الإنجليزية بتصرف -.
2- إحترام كينونة الفرد إعزازا لآدَمِيَتِهِ
نصت الفقرة -1- من المادة -3- من إتفاقية فينا لحماية الأفراد المدنيين إبّان الحرب لعام 1949 و المعمول بها منذ 21 من أكتوبر من عام 1950 على أنّ ” الأشخاص الذين لم يشاركوا في القتال بما فيهم الجنود النظاميين الذين ألقوا أسلحتهم …تجب معاملتهم بإنسانية…” (71). و في ذات السياق ينص الجزء -أ- من الفقرة -1-من المادة -3-من الإتفاقية المذكورة على ” يُحظر الإعتداء على حياة الفرد أو شخصه بالقتل أو ببتر أوصاله أو بالمعاملة القاسية أو التعذيب.” (72) – نقلا عن الإنجليزية بتصرف-.
3- إحترام كرامة الفرد والإعتراف بكيانه المادي وشخصيته القانونية
عززت أحكام القانون الدولي الإنساني كرامة الفرد وأعترفت بحرمة كيانه و ذلك بالنص في متن المادة -6- من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 على “لكل فرد حق في الإعتراف به كشخص أمام القانون.”(73) – نقلا عن الإنجليزية بتصرف-.
إنّ الحط من قدر الإنسان وإذلال كرامته وتعذيبه كأفعال مهينة قد حُرِّمَتْ قانونا و ذلك بالنص في متن المادة -7- من الميثاق العالمي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1976 ” لا أحد يكون محلا للتعذيب ، للعنف،الحُقرة أو معاملة لا إنسانية.” (74) – نقلا عن الإنجليزية بتصرف-. وقد أكدت المادة -5- من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لعام 1986 على إحترام كرامة الآدمي وذلك بالنص على ” لكل فرد الحق في أنْ تُحترم كرامته… ويُحمى شخصه من كل أشكال الإستغلال ، الحُقرة خاصة الإستعباد ، تجارة الرق ، التعذيب ، القسوة والعقوبات المُهِيِِنَةُ والمعاملات اللا إنسانية.” (75) – نقلا عن الإنجليزية بتصرف-.
4- حماية حرية الفكر و المعتقد:
إستهدفتْ أحكام القانون الدولي الإنساني تعزيز حرية الفكر والمعتقد، فقد نصت المادة -18- من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 على أنّ ” لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والمعتقد. ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر كان ذلك سرا أو مع جماعة.”(76)- نقلا عن الإنجليزية بتصرف-. وفي ذات السياق تؤكد الفقرة -1- من المادة -12-من الميثاق الأمريكي لحقوق الإنسان لعام 1969 علي أنّ ” لكل شخص حق حرية الوجدان والعقيدة . هذا الحق يتضمن حرية الإبقاء على أو تغيير الدين أو المعتقد، إشهار وممارسة شعائر الدين أو المعتقد فرديا أو في جماعة علنا أو سرا.”(77) -نقلا عن الإنجليزية بتصرف-.
هذا ، فعلى الرغم من التأكيد على حماية وصون حقوق الإنسان وحرياته الأساسية عبر َتَقْعيِِِِّدِ الأحكام المعززة لها في نصوص متون التشريعات الدستورية لآحاد الدول كما في متون الإعلانات والمواثيق الدولية ثنائية كانت أم جماعية ظل مشكل الإنتهاكات الفعلية المتواترة لهذه الحقوق من قبل الدول أفرادا كانت أو جماعات تحت ذرائع حفظ الأمن القومي والنظام العام وتطبيق حكم القانون محلياً كان أو دولياً أو أية مُبرِّارت أخرى أمراً واقعا . وإستنادا إلى هذه الحقيقة يمكن القول بأن إنتهاكات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية تمثل مشكلا ًمعاصراً يمكن الجزم بإستمراريته على الصعيدين الوطني والعالمي طالما ظلت أنظمة العسف اللا ديمقراطية تمارس قمع مواطنيها ومواطني غيرها من الدول وتجردهم من حقوقهم اللصيقة بذواتهم كبشر وتسلبهم حرياتهم الأساسية وتقيد ممارسة حقوقهم التي كفلها لهم القانون الطبيعي وواقع المواطنة. ولمّا أنّ مشكل إنتهاكات حقوق الإنسان في ذاته مرتبط وجودا وعدما بظاهرة القمع الممارس من قبل الأنظمة الدكتاتورية (وطنياً وعالمياً) يمكن الجزم بإختفاء هذه الظاهرة بزوال أنظمة العسف نفسها على الصعيدين المحلي والعالمي وذلك بإرساء قواعد الديمقراطية كما عرّفها فلاسفة اليونان ب” حكم الشعب للشعب بالشعب.” فعلى الصعيد الوطني في آحاد الدول تتحقق الديموقراطية عبر جَمْهَرَة ِ سلطة الحاكمية وذلك بصيرورة الشعب حكومة ، يقرر من خلال مؤتمراته الشعبية وينفذ ما قرر عبر لجانه الشعبية . إنّ صيرورة كل الشعب حكومة يكون معه من الإستحالة بمكان إنتهاك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية . إذْ ليس من المنظور عقلا أنّ ينتهك الشعب حقوقه وحرياته بنفسه . إنّ قيام سلطة الشعب يعني موضوعيا
أولاً ، تحقق ( النَّحْنَُْ) الأمر الذي يعني جدليا إنتفاء (الْغَيْرُ).
وثانيا ، يعني صيرورة كلّ الشعب كيانا واحداً، وذلك لإنْدِماَجِ الحاكم والمحكوم في ذاتٍ واحدة . عليه ، لإنتفاء الثنائية المتضادة المصالح (حكومة متسلطة وشعب مقهور) من ناحيةٍ ولعدم وجود جهة خارج جهة توجه إليها العنف وتنتهك حرياتها وتستلب حقوقها عسفا من ناحيةٍ أخرى تنتهي سرمديا ظاهرة إنتهاك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية . (78)
أمّا على الصعيد العالمي يمكن القول بجزم بأنّ إنتهاكات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ستستمر تحت مظلة النظام العالمي الراهن الذي يتحكم فيه الأقوياء مباشرة عبر نفوذهم الذاتي أو بكيفيات غير مباشرة تحت مظلّة منظمة الأمم المتحدة .
فمن أجل تأمين مستقبل وضاء للإنسانية يتحتم على المجتمع الدولي التعاطي بعقلانية مع ذات الكائن البشري ككيان ذا قدسية وذلك من خلال سياقين أحدهما موضوعي وآخر إجراءي.
فموضوعيا ينبغي على المجتمع الدولي التعاطي مع أنساق منظومة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بإعتبارها قيماً لصيقة بقدسية الذات البشرية التي فيها تتجلى و تتماهى روحيا الذات العَلِيَّةُ ذلك لنفثِ البارئ شيئا من روحه فيه ” وإذْ قال ربّك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.”(79) فوفقا لهذا السياق ينبغي على المجتمع الدولي أنْ يتبنى فلسفة قانونية دولية تؤسس على مبدأ المساواة بين أعضائه ترسيخا للعدل وتجعل من إعزاز حرية الكائن البشري المحور الرئيس الذي يحكم مدار العلاقات الدولية صوناً لكرامة وتحقيقاً لسعادة الإنسان بصفته قيمة في ذاته وليس شيئا يسخر ويستغل لبلوغ مبتغيات مادية كانت أو معنوية.
أمّا إجرائيا فيتحتم على أعضاء الأمم المتحدة المقهورين أنْ يتعاضدوا مع غيرهم من القوى المحبة للسلام المبجلة للحرية والسعي معا من أجل تعديل ميثاق الأمم المتحدة بإلغاء أحكام نصوص المواد المقررة والداعمة لمبدأ التمييز والمفاضلة في الحقوق بين الأعضاء سيما تلك المتمثلة في الإستثناء الوارد في صلب المادة -7- الذي يمنح الأمم المتحدة ( المعني هنا مجلس الأمن) التدخل في الشؤون الداخلية للأعضاء تنفيذا لقراراتها متي ما إقتضت الضرورة ذلك ، وأحكام المادة -25- التي تشترط الإذعان وتنفيذ قرارات مجلس الأمن حتى وإنْ عارضتها أغلبية أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحكم الفقرة -3- من المادة -27- التي تشترط الموافقة الكلية للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن على صدور قرارات في مسائل لا إجرائية (موضوعية) دون إعتبار لرأي غالبية أعضاء المنتظم الأممي، وحكم المادة -39- التي تمنح مجلس الأمن منفردا سلطة التقرير في كينونة أمرٍ بعينه مهددا أو خارقا للسلام أو كونه فعلا عدوانيا، و حكم المادة -41- التي تمنح مجلس الأمن منفردا صلاحية تقرير ماهية التدابير غير العسكرية التي على أعضاء الأمم المتحدة توظيفها لتفعيل قرارات المجلس ، وحكم المادة -42- التي تمنح مجلس الأمن إمتياز التقرير منفردا بعدم ملائمة التدابير المكفول له تبنيها بمقتضى نص المادة -41- ومن ثم يمكنه توظيف قوي جوية، بحرية أو برية وفق مقتضيات الضرورة لصون أو إستعادة إستتباب السلم والأمن الدوليين، وحكم الفقرة -2- من المادة -47- التي تجعل عضوية اللجنة العسكرية المهيمنة على أية قوات توضع تحت إمرة الأمم المتحدة حكراً على رؤساء هيئات أركان قوات الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن أو من ينوب عنهم ، وحكم الفقرة الواردة في صلب المادة -108- المشترطة المصادقة الجماعية لأعضاء مجلس الأمن الدائمين على صدور أي قرار يقضي بتعديل أحكام الميثاق بالحذف أو بالإضافة أو بالإثنين معا دون إعتبار لرأي أغلبية أعضاء المنتظم الأممي .(80)
إنّ السعي من أجل ومن ثم تحقيق مبدأ المساواة في الحقوق والإلتزامات بين الأعضاء هو السبيل الأوحد إلى تحقيق غايات الأمم المتحدة المتمثلة في صيرورة عالم حرّ يعمه الرفاه ويسوده مناخ من الإخاء أرحب تعزز فيه حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ويغمره السلام والأمن الأبديين.
* خلاصة البحث :
خلاصة ما تقدم من نقاش يمكن إجمالها في المحصلات التالية :-
- – أولا:
إن القيم الأخلاقية كفضائل سامية منظور إنبثاقها عن مصدر حكيم رشيد كان عقلاً بشرياً فردياً، عرفاً مجتمعيا ً، ناموساً طبيعياً أو شرعاً دينيا ً. - – ثانيا:
إنّ صون و تعزيز حقوق الإنسان وحرياته الأساسية لا يمكن تحقيقهما على الصعيد المحلي في آحاد الدول إلاّ تحت مظلة نظام جماهيري يمارس فيه الشعب سلطان الحاكمية . - – ثالثا:
إنّ المبدأ الذي بمقتضاه تمَّ منح إمتياز النقض للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن يمثل في ذاته تقنينا لإنتهاك حق الشعوب في المساواة وتعدِّيا على حرياتها الأساسية. - – رابعا:
إنّ الحل التلفيقي الداعي إلى زيادة عدد عُصبة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن يستهدف في حقيقة الأمر الزِّيادة الكمية لعدد منتهكي حق الشعوب في المساواة والمستبيحين لحرياتها الأساسية .
- – خامسا:
إنّ التعزيز الموضوعي لحقوق الشعوب وصون الحريات الأساسية للبشرية على الصعيد العالمي يقتضيا الإلغاء الفوري لإمتياز النقض كلية أو جعله إمتيازاً تُكْفلُ ممارستة لجميع أعضاء الأمم المتحدة وبلا إستثناء. - – سادسا:
جعل سلطة التقرير في منظمة الأمم المتحدة إمتيازاً تمارسه فقط الجمعية العامة للأمم المتحدة لأنَّها المعبر الحقيقي عن إرادة أعضاء المنتظم الأممي لِماَ في ذلك من تعزيزٍ لحق الشعوب في إعمال حرياتها الأساسية التقريرية. - – سابعا:
إنشاء آليات فعل جماعي على مستوى الأصعدة الدولية الإقليمية تسند إليها مهام مراقبة ومنع إنتهاكات حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ، ذلك للحدِّ من تدخلات القوى الدولية الخارجية في شؤون الأقاليم الأخرى مهما كانت الذرائع .
* هوامش الدراسة
1- أنظر مختار الصحاح باب ثمن ص .61
2- أنظر مختار الصحاح باب سجا ص145 و باب شيم ص 172.
3-
Jacques Thiroux, Ethics: Theory and Practice, 5th Ed., New Jersey: Prentice Hall, 1995, p. 3; Harold H. Titus, Ethics for Today, 3rd Ed., New York: American Book Company, 1957, p. 28; and Marius Deshumbert, An Ethical System Based on the Law of Nature, The Open Court Publishing Co., 1919, p. 68.
4-
H. Titus, Ethics for Today, op cit p. 122 and Samuel S. Cohen “The Art of Life” in Judaism: A way of Life, Cincinnati: Union of American Hebrew Congregations, 1948, p. 3.
5-
H. Titus, Ethics for Today, op cit, p. 211, and M. Deshumbert, An Ethical System Based on the Law of Nature, op cit. pp. 160-162.
6-
J. Thiroux, Ethics: Theory and Practice, op cit, p. 16; H. Titus, Ethics for Today, op cit, p. 181; and William E. Hocking Human Nature and Its Remaking, Yale University Press, 1923, p. 47.
7-
J. Thiroux, Ethics: Theory and Practice, op cit, p. 68; H. Titus, Ethics for Today, op cit, p. 131, and Richard A. Gard, Buddism, New York: George Braziller, Inc., 1969. p. 86.
8-
M. Deshumbert, An Ethical System Based on the Law of Nature, op cit, p.70, and H.Titus, Ethics for Today, op cit pp. 70, 185.
9-
J. Thiroux, Ethics: Theory and Practice, op cit, pp. 43-44, and W. Hocking, Human Nature and Its Remaking, op cit, pp. 15,17.
10-
M. Deshumbert, An Ethical System Based on the Law of Nature, op cit p. 78, and R. Gard, Buddism, op cit pp. 214.
11- أنظر الكتاب الأخضر / شريعة المجتمع
The Green Book, part 1: “The Solution of the Problem of Democracy”, section 7: “The Law of Society”, available at URL: .
-12
J. Thiroux, Ethics: Theory and Practice, op cit, p. 15; Samuel S. Cohen, “The Art of life” in Judaism: A way of Life op cit p.17; and H. Titus, Ethics for Today, op cit pp. 237, 239.
-13
M. Deshumbert, An Ethical System Based on the Law of Nature, op cit, p. 63, and Emil Brunner, The Divine Imperative – A Study in Christian Ethics, Philadelphia: Westminster Press,1947, p. 53.
14- أنظر الغزالي إحياء علوم الدين /المجلد الثالث/كتاب رياضة النفس ص58.
15- أنظر العهد القديم /المزمور الحادي عشر/ الآيات 4-7.
16- أنظر العهد القديم /المزمور 19/الآية 9
17- أنظر العهد القديم /أمثال / الإصحاح 31 /الآيتان 8-9.
18- أنظر أسماء الله الحسني في كتيب الحصن الحصين.
19- أنظر صحيح مسلم /الجزء 16/باب تحريم الظلم ص 125
20- أنظر العهد الجديد إنجيل متى /الإصحاح السابع الآيات 1-3.
21- أنظر العهد القديم الخروج/الإصحاح 21 /الآيات 23 -25.
22- أنظر سورة المائدة الآية 45 .
23- أنظر العهد القديم /أمثال/الإصحاح 11/الآية 1.
24- أنظر سورة المطففين الآيات 1، 2، 3.
25- أنظر سورة الإسراء الآية 35.
26- أنظر العهد القديم /أمثال/الإصحاح الثالث / الآية 19.
27- أنظر العهد القديم /أمثال/الأول/الآية 7.
28- أنظر أبو حامد الغزالي إحياء علوم الدين المصدر السابق ص58.
29- أنظر العهد القديم /الإصحاح الثالث /الآيات 13-15.
30- أنظر العهد القديم/ أمثال /الإصحاح السادس/ الآيات 6-11.
31- أنظر سورة الحجر الآيتان 28-29.
32- أنظر سورة المائدة الآية 32.
33- أنظر العهد القديم /الإصحاح 21 /الآية 12.
34- أنظر العهد الجديد /متى/الإصحاح الخامس/الآية 21.
35- أنظر العهد القديم / خروج /الإصحاح العشرون / الآيات 13، 14، 15.
36- أنظر سورة الأنعام الآية 54.
37- أنظر سورة الرحمن الآيات 1، 2، 3.
38- أنظر العهد القديم /المزمور 25 /الآيات 8، 10.
39- أنظر العهد القديم /أمثال/الإصحاح 22 /الآيات 22-24.
40- أنظر العهد القديم /أمثال/الإصحاح 20 / الآية 28.
41- أنظر صحيح مسلم/الجزء 18 / كتاب الزهد و الرقائق ص92.
42- أنظر صحيح مسلم /الجزء 2/باب الدليل على أنّ من خصال الإيمان أنْ يحب المسلم لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من خير /ص14.
43- أنظر العهد القديم /أمثال/ الإصحاح 25/ الآية 21.
44- أنظر سورة فصلت الآية 34.
45- أنظر العهد القديم /المزمور 4/الآية 2.
46- أنظر العهد القديم /المزمور 57/الآية 4.
47- أنظر العهد القديم /المزمور 34/الآيتان 13، 14.
48- أنظر العهد القديم /أمثال/الإصحاح 6/ الآيات 16-19.
49- أنظر صحيح مسلم /الجزء الثاني /باب إكرام الجار و الضيف و لزوم الصمت إلا عن الخير ص 15.
50- أنظر صحيح مسلم/الجزء 16 /باب قبح الكذب ص 150.
51- أنظر العهد القديم /الخروج/الإصحاح 23/الآية 8.
52- أنظر العهد القديم/الإصحاح السادس/ الآيات 12-15.
53- أنظر العهد الجديد /متى/الإصحاح الخامس/الآيات 38، 39.
54- أنظر العهد الجديد/متى/الإصحاح 26/الآية 53.
55- أنظر العهد الجديد /متى/الإصحاح السادس /الآية 14.
56- أنظر العهد الجديد/متى/الإصحاح الخامس/الآيتان 43، 44.
57- أنظر صحيح مسلم/الجزء 16 /باب فضل الرفق ص 137.
58- أنظر صحيح مسلم/الجزء 16 /باب فضل الرفق ص 138.
59- أنظر سورة الأعراف الآية 199.
60- أنظر سورة آل عمران الآية 134.
61- أنظر صحيح مسلم /الجزء 16 / كتاب البر و الصلة و الأدب ص 110.
62- أنظر العهد القديم / أمثال/ الإصحاح الأول/ الآية 8.
63- أنظر العهد القديم /خروج/ الإصحاح العشرون / الآية 12.
64- أنظر سورة لقمان الآية 14.
65-أنظر صحيح مسلم/الجزء 16/كتاب البر و الصلة و الأدب/ باب بر الوالدين ص98
66- أنظر العهد القديم/خروج/الإصحاح 21/ الآية 17.
67- أنظر تقرير المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان
http://www.unhchr.ch/html/intlinst.htm
68- أنظر نص المادة 3 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام .1948 http://www.unhchr.ch/udhr/lang/eng.htm
69- أنظر نص الفقرة 1 من المادة 14 من الميثاق الأمريكي لحقوق الإنسان لعام 1969
70- أنظر نص المادة 6 من الميثاق العالمي للحقوق المدنية و السياسية لعام 1976. http://www.unhchr.ch/html/menu3/b/a_ccpr.htm
71- أنظر نص الفقرة 1 من المادة 3 من إتفاقية فيينا لحماية الأشخاص المدنيين وقت الحرب لعام 1949 التي دخلت حيز التنفيذ في 21 من أكتوبر من عام 1950. http://www.unhchr.ch/html/menu3/b/92.htm
72- أنظر نص الجزء -أ- في الفقرة -1- من المادة -3 – من إتفاقية فيينا لحماية الأشخاص المدنيين و قت الحرب لعام 1949 و المعمول بها منذ 21 من أكتوبر 1950
73- أنظر نص المادة 6 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948.
74- أنظر نص المادة 7 من الميثاق العالمي للحقوق المدنية و السياسية لعام 1976.
75- أنظر نص المادة 5 من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان و الشعوب لعام 1986. www.africa-union.org/Official_documents/Treaties_%20Conventions_%20Protocols/Banjul%20Charter.pdf
76- أنظر نص المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948.
77- أنظر نص الفقرة 1 من المادة 12 من الميثاق الأمريكي لحقوق الإنسان لعام 1969
78- أنظر الكتاب الأخضر/ الجزء الأول – حل مشكل الديموقراطية
The Green Book, part 1: “The Solution of the Problem of Democracy” op cit.
79- أنظر سورة الحجر الآيتين 28، 29.
80- أنظر ميثاق الأمم المتحدة.
———————————————————
تمت إعادة النشر بواسطة لويرزبوك.
مناقشة موضوعة للقيم الأخلاقية من حيث دلالاتها اللغوية و الإصطلاحية و حقوق الانسان