لا خلاف بين الفقهاء في ان محل الديون العينية بعد الموت هو العين التي ارتبطت بها ، فالامر هنا مشابه لما عليه الحال في محل الديون العينية حال الحياة ، وذلك لان الدين لايزال متعلقاً بالعين ، ولاتزال العين محلاً وضماناً له حتى يستوفى . ولكن الخلاف ثار حول محل الديون المطلقة وذلك تبعاً لاختلاف الفقهاء في بقاء الذمة بعد الموت من عدمه . اذ ثار خلاف بينهم بصدد هذه المسألة ، ونورد في ادناه اتجاهات الفقهاء بهذا الشأن بشئٍ من الايجاز:-
1.المالكية :
يرى فقهاء المالكية ان لا بقاء للذمة بعد الموت ذلك لان الذمة عندهم صفة تلزمها الحياة فهي بهذا الاعتبار تتنافى مع الموت . لانها عبارة عن صلاحية الانسان لان يلتزم بواجب ، فيطلب منه ، ولا يتصور من الميت التزام ولا تتوجه اليه مطالبة فاذا مات الانسان انعدمت ذمته ، وبانعدامها زال محل الدين وانعدم وانتقل الدين الى التركة ان وجدت وتعلق بها كما تتعلق الديون بالاعيان حفظاً لحق الدائنين (1). ومقتضى هذا الرأي ان الدين يتعلق بالتركة ، فاذا مات المدين ولم يترك شيئاً ، سقط دينه ، لانعدام محله . ويؤيد هذا الاتجاه بعض الفقهاء المحدثين (2).
2.الحنفية (3):
ذهب بعض فقهاء الحنفية الى انه لابد للدين من وجود مدين لان الدين نتيجة الالتزام ، وهو وصف شرعي يظهر اثره في توجه المطالبة به ، ولا يتصور وجود التزام بدون وجود ملتزم ، وهو المدين ، كما لا تتصور مطالبة بدون وجود مطالب ، تتوجه اليه المطالبة ، وهو المدين ايضاً . واذا لزم وجود المدين لزم وجود الذمة ، لانه لامعنى لوجود الدين على المدين ، الا التزامه به . ومطالبته بأدائه . فاذا زالت (4). الذمة بالموت ، فيزول الدين بزوالها لانها محله . فللمحافظة على حق الغرماء وبقاء الدين اضطروا الى ان يفترضوا بقاء ذمة المدين ووجودها بعد الموت اذا تقوت بوجود التركة او الكفيل بالدين ليترتب على وجودها بقاء الدين ووجوبه في التركة او مطالبة الكفيل به حفظاً لحق الغرماء . اما اذا لم يترك الميت شيئاً او كفيلاً بالدين ، فيسقط الدين بزوال محله ، وهو الذمة لانها خربت بالموت . ولم تتقو بالتركة او الكفيل . هذا ما ذهب اليه ابو حنيفة ، اما الصاحبان فذهبا الى ان الدين باق فتصح كفالته ويستلزم ذلك بقاء ذمة المدين بعد موته ، ودليلهما في ذلك ما رواه سلمة بن الاكوع بقوله : ( كنا عند رسول الله ( ص ) ، فأُتى بجنازة فقالوا : يا رسول الله صل عليها ، قال : هل ترك شيئاً ؟ قالوا : لا . فقال : هل عليه دين؟ قالوا ثلاثة دنانير ، قال : صلوا على صاحبكم . فقال ابو قتادة : صلِ عليه يارسول الله وعليّ دينه ، فصلى عليه ) . وحين اخبره ابو قتادة انـه قد قضى دينه قال ( ص ) عن الميت : ( الان بردت عليه جلده )(5) .
3-الشافعية (6):
لقد قال فقهاء الشافعية بمثل ما قال الصاحبان ، واستدلوا بالحديث الذي استدل به الصاحبان المار الذكر ، وبما اورده الشافعي(7). ايضاً من قول الرسول (ص) : ( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه )(8). وقالوا ان ذمة الميت تبقى مشغولة بدينه وتبرأ بالوفاء .
4.الحنابلة (9):
لقد انقسم الحنابلة بالنسبة لهذه المسألة على عدة اتجاهات ،فمنهم من ذهب الى ما ذهب اليه الصاحبان والشافعية وقالوا : ان محل الدين ذمة المتوفى الباقية بعد وفاته ،بافتراض وجودها . ومنهم من قال بمقولة المالكية ، وهو ان محل الدين بعد الوفاة هو التركة ، وبقاء الدين لا يستلزم بقاء الذمة . ومنهم من قال ان محل الدين ذمة الورثة في حدود ما يتركه الميت بمعنى ان الوارث لا يطالب منه الا بقدر قيمة ما يترك مورثه ، ومقتضى ذلك انه اذا لم يترك شيئاً لم يبق دينه بل يسقط . وهذا الرأي الاخير يكاد يقترب من المعمول به في القانون الفرنسي اذا قبل الوارث الميراث بشرط التجنيب (10). وعلى الرغم من قربه منه ، فانه ليس مبنياً على الاصل الذي بنيت عليه الشريعة الرومانية التي تفرع عنها القانون الفرنسي ، وانما هو مبني على الاصل الذي بنيت عليه الشريعة الاسلامية وهو ان الوارث خليفة المورث ، في الحقوق فقط ، ولا يلزم من الالتزامات الا بما يمكن وفاؤه من التركة ، فلا يطالب الوارث الا بما وجدت التركة قادرة على وفائه . فاذا مات المدين ولم يخلف تركة او كفيلاً ، سقط دينه وليس لدائني التركة . ان ينفذوا على اموال الوارث الشخصية (11).
______________________
1- ينظر : الخرشي ، شرح الخرشي على مختصر خليل ، ج5 ، ص267 ، العدوي ، حاشية العدوي على الخرشي ، ج5 ، ص267 .
2- ومنهم الشيخ عبد الوهاب خلاف الذي يقول : ( والحق ان الموت قضى على خاصة الانسان ، فليست له ذمة ولا اهلية وجوب كاملة ولا ناقصة ، واما مطالبة مدينيه بما عليه من الديون فلانها صارت حقاً للورثة والورثة خلفوا مورثهم فيما كان له وفيما كان عليه في حدود ما تركه ) ينظر : عبدالوهاب خلاف ، علم اصول الفقه ،دار القلم ،ط8، ص137، وكذلك ينظر في هذا الاتجاه : شامل الشخيلي ، عوارض الاهلية ، ص53 .
3- ينظر : الزيلعي ، تبيين الحقائق ، ج4 ، دار الكتاب الاسلامي ، ص160 ، السرخي ، المبسوط ، ج18 ، ص26 ، دار المعرفة و ج20 ، ص 109-111 ، ابن الهمام الحنفي ، فتح القدير ، ج7 ، ص206 ، الحموي ، غمز عيون البصائر ، ج4 ، ص6 ، دار الكتب العلمية ، الموسوعة الفقهية ،ج21 ، ص278-279 ، مادة ذمة ، وزارة الاوقاف والشؤون الدينية في الكويت ، 1977 .
4- وعلى وفق اصطلاح الاحناف ( خربت الذمة ) .
5- رواه احمد والبخاري والنسائي وابن ماجه ، ونفس الحديث مروي عن جابر الأنصاري باختلاف يسير ، وقوله ( ص ) ( الان بردت عليه جلده ) انما وردت في الرواية الثانية المروية عن جابر ينظر : الشوكاني ، نيل الاوطار ، ج5 ، ص284-285 ، وورد في رواية الكافي : ( عن معاوية بن وهب قال : قلت لابي عبدالله ( عليه السلام ) ( أي الصادق ) : انه ذكر لنا ان رجلاً من الانصار مات وعليه ديناران ديناً فلم يصلي عليه النبي ( ص ) وقال : صلوا على صاحبكم ، حتى ضمنها عنه بعض قرابته : فقال ابو عبد الله ( عليه السلام ) : ذلك الحق ثم قال : ان رسول الله ( ص ) انما فعل ذلك ليتعظوا وليرد بعضهم على بعض ولئلا يستخفوا بالدين) ، ينظر الكليني ، الكافي ، ج5 ، ص 93.
6- ينظر : الامام الشافعي الام ، ج6 ، ص242 ، الشيرازي ، المهذب ، ج2 ، ص28 ، الغزالي ، المستصفى ، ج1 ، ص177 .
7- ينظر : الامام الشافعي ،الام ، ج6 ، ص242.
8- رواه احمد والترمذي وقال حديث حسن ، ينظر : الصنعاني ، سبل السلام ، ج1 ، دار الحديث ،ص506 ، ، الشوكاني ، نيل الاوطار ، ج4 ، ص31 ، وورد في رواية اخرى قوله ( ص ) : ( ليس من ميتٍ يموت الا وهو مرتهن بدينه ) ينظر : ابن قيم الجوزية ، ،اعلام الموقعين ،ج3، دار الكتب العلمية ،ص9،ومنه يستدل ابن القيم في اثبات وجود الذمة للميت بقوله ( ولا يكون مرتهناً وقد خربت ذمته ) .
9- ينظر : ابن قدامه ، المغني ، ج4 ، ص282 ، ابن القيم ، اعلام الموقعين ، ج3 ، ص9 .
10- د.السنهوري ، مصادر الحق ، ج5 ، ص84 .
11- وهذا بخلاف القانون الفرنسي اذ ان الدين ينتقل الى ذمة الوارث ولدائني التركة ان ينفذوا على امواله الشخصية الا اذا رفض الميراث او قبله بشرط التجنيب كما سيتضح فيما بعد عند بحث الحق الرابع ( حق الورثة ) .
اعادة نشر بواسطة لويرزبوك .
رأي الفقهاء في محل الديون المطلقة بعد الموت