المحاكم الجنائية الدولية _المحطات التاريخية الكبرى التي ساهمت في نشوئها _اختصاصها القانونية

المحتويات:

المقدمة
الفصل الاول: مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى.
المبحث الاول: معاهدة فرساي والمحكمة الجنائية الدولية.
المبحث الثاني: عصبة الامم ومحاولات انشاء محكمة جنائية دولية.

الفصل الثاني:مرحلة مكا بعد الحرب العالمية الثانية.
المبحث الاول: المقدمات لأنشاء محكمة دولية مؤقته.
المبحث الثاني: محكمة نورمبيرغ.
المطلب الاول: اجهزة المحكمة وتشكيلاتها.
المطلب الثاني: اختصاص المحكمة.
البند الاول: الاختصاص النوعي.
البند الثاني: الاختصاص الشكلي.
المطلب الثالث: تقييم محكمة نورمبيرغ.
المبحث الثالث: جهود الامم المتحدة في فترة ما بعد الحرب.

الفصل الثالث: القضاء الجنائي الدولي المؤقت بعد الحرب الباردة.
المبحث الاول: المحكمة الجنائية الدولية للانتهاكات في يوغسلافيا السابقة.
المطلب الاول: اجهزة المحكمة.
المطلب الثاني اختصاص المحكمة.
المبحث الثاني المحكمة الجنائية الدولية لرواندا.

الفصل الرابع: المحكمة الجنائية الدولية الدائمة.
المبحث الاول: اجهزة المحكمة وتشكيلاتها.
المبحث الثاني: اختصاص المحكمة.
المبحث الثالث: تقييم المحكمة الجنائية الدولية الدائمة.

التوصيات
المصادر

المقدمة

يُرجع بعض الباحثين فكرة انشاء محكمة جنائية دولية الى حقب تاريخية بعيدة. وقالوا ان تطبيقات لها حدثت في التاريخ المصري القديم عام 1286 قبل الميلاد، فيما اشار آخرون الى محاكمة ملك يودا المهزوم من قبل الملك البابلي نبوخذ نصر في الدولة البابلية. ويستدل البعض على قدم الفكرة من خلال المحاكمة التي جرت لأرشيدوق النمسا في اقليم الراين حيث حكم عليه بالاعدام والى المحاكمة التي تمت في نابولي عام 1268 ( 1 ).

ولما كان القضاء الجنائي الدولي يوجد حيث يوجد قانون جنائي دولي ليكون وسيلة لتطبيقه، ولعدم وجود قانون دولي عام في التاريخ القديم، فضلا عن عدم وجود قانون جنائي دولي الذي هو فرع الاول فلا يمكن والحالة هذه تصور وجود قضاء جنائي دولي. فما الفائدة من وجود القضاء مع عدم وجود القانون الذي يختص بتطبيقه. واذا وجد مثل هذا القضاء وسعى لتطبيق القانون المحلي فلا يمكن اعتباره قضاء دوليا وانما هو قضاء وطني يطبق قانون محلي. اما ما اشير اليه من محاكمات في العصور القديمة فانها تمت بناء على ارادة المنتصر وبموجب قانونه الوطني حيث يجوز للمنتصر ما لايجوز لغيره. الامر الذي دعى بعض الباحثين الى تناول فكرة القضاء الجنائي الدولي من فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى وهو توجه اكثر دقة.

يمكن اعتبار فكرة القضاء الدولي تعود الى الدعوات الصريحة التي تضمنها مشروع الاتفاقية الذي اعده غوستاف موانييه عام 1872 لضمان تنفيذ اتفاقية جنيف لعام 1864 حيث اقترح انشاء محكمة ترفع اليها الشكاوى الخاصة بالاعمال التي تعتبر انتهاكات للاتفاقية المذكورة في حالة نشوب حرب بين دولتين او اكثر ويتم تشكيلها من خمسة قضاة، يعين ثلاثة منهم عن طريق الاقتراع من الدول الاعضاء في الاتفاقية ويتميزون بالحياد في مواقفهم من الحرب، اضافة الى قاضيين يتم تعينهم بمعرفة الدولتين المتحاربتين. وينحصر اختصاصها بالمخالفات لاتفاقية عام 1964 والتي ترفع اليها من قبل الحكومات المعنية. الا ان هذا المقترح لم ير التطبيق وكان مصيره مصير الكثير من المقترحات التي تبنتها العديد من الهيئات والمؤتمرات الدولية التالية له.

لذلك سيتم بحث القضاء الجنائي الدولي في ثلاث مراحل، وفي كل مرحلة يختلف مصدر انشائها . فما بعد الحرب العالمية الاولى كانت معاهدة فرساي لعام 1919 مصدرا للقضاء الذي تم لمحاكمة امبراطور المانيا وبعض مرتكبي الجرائم، وقد اخفقت في اداء دورها وان اعتبرها البعض خطوة مهمة على الطريق الصحيح. اما المرحلة الثانية فهي ما بعد الحرب العالمية الثانية وتم خلالها انشاء محكمتي نورمبيرغ وطوكيو. اما المرحلة الثالثة فهي ما بعد الحرب الباردة وانشأ خلالها نوعين من المحاكم :
1 – محاكم انشأها مجلس الامن مثالها محكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا وهما محكمتان مؤقتتان .
2 – المحكمة الجنائية الدولية الدائمة التي تم انشائها بموجب اتفاقية روما عام 1998 .
لذلك سنخصص فصلا مستقلا لكل مرحلة من هذه المراحل الثلاث .

الفصل الاول: مرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى

ما ان وضعت الحرب العالمية الاولى اوزارها وتكشَفت مساوئها لما ارتكب فيها من جرائم وما خلفته من ويلات وكوارث. ومن اسوء مبادئها ان ينتصر فيه المنتصر للعدل ويدعي انه يريد اقامة القسط على المنهزم لما خلفه من مآسي ولما اقدم عليه من افعال يندى لها جبين الانسانية نائيا بنفسه عن كل الجرائم التي ارتكبها محاولا غسل يديه منها وألقائها على الطرف الاخر. وما قام بما قام به الا ليقيم العدل وينتصر للانسانية مما تسبب به هؤلاء المنهزمون، فأن لهم من يحاكمهم ولكن من يحاكم المنتصرين. ولو كانت نتيجة الحرب عكس ما انتهت اليه لكانت العدالة عكس ما تم تصويرها ولانقلبت النتائج تبعا لانقلاب نهايات الحرب وتبقى الانتقادات التي توجه اليها هي ذاتها التي وجهت والتي ستوجه لها في المستقبل.

خلفت الحرب العالمية الاولى ما يقارب من عشرين مليون ضحية فضلا عن الاضرار المادية الاخرى، ووقف العالم مذهولا لما حصل وشعر بانه بحاجة ماسة الى قواعد قانونية تتخذ بموجبها الاجراءات القضائية لملاخقة المتسببين في هذه الجرائم وتضع حدا لتصرفات الدول والاشخاص التي تهدد السلم والامن الدولي. تمخضت هذه الدعوات عن انشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة الامبراطور الالماني.

المبحث الاول: معاهدة فرساي والمحكمة الجنائية الدولية

لما تسببه الحروب من انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان بُذلت جهود كبيرة كان الهدف منها تجنب النزاعات المسلحة بين الدول والمحافظة على السلام. واذا تعذر تحقيق الهدف الاسمى وهو تجنب الحرب، وكان لا بد من وقوعها فقد اثمرت هذه الجهود عن تهذيبها بوجوب مراعاة القوانين والاعراف. فكانت معاهدتي لا هاي 1899, 1907 ومن اهدافهما تقليص استخدام القوة. وان كان من وقَع المعاهدتين تسبب في الحرب العالمية الثانية.

بدأت الحرب العالمية الاولى عام 1914 وانتهت عام 1918 بهزيمة المانيا. فما كان من الرأي العام العالمي الا المطالبة بمحاكمة المتسببين فيها وانزال العقاب عليهم عن طريق محكمة جنائية دولية كي يعود الامن والسلم الى المجتمع الدولي .

انعقد في فرنسا المؤتمر التمهيدي للسلام بتاريخ 1919 واوصى المؤتمرون بتشكيل لجنة اطلق عليها ( لجنة المسؤوليات ) لتقصي الحقائق. انتهت اللجنة الى توصية مفادها انزال العقاب على كل من يخالف قواعد الحرب المعروفة في المعاهدات الدولية ودونما تمييز بين المسؤوليين عن هذه المخالفات، وبغض النظر عن الصفة الرسمية التي يحملها المسؤول عن هذه الجرائم بمن فيهم رؤوساء الدول والحكومات اذا ما تم التأكد من مخالفتهم لقواعد الحرب واعرافها. واقترحوا لتطبيق ذلك انشاء محكمة دولية تتشكل من 22 قاضيا. خمسة عشرة منهم يعينون من قبل الدول الكبرى وهي الولايات المتحدة الامريكية، بريطانيا، فرنسا، ايطاليا، اليابان بنسبة ثلاث قضاة من كل دولة. اما الباقي يتم تعيينهم من قبل كل من بلجيكا، اليونان، البرتغال، رومانيا، صربيا، تشيكوسلوفاكيا.

الا ان مندوبي الولايات المتحدة الامريكية واليابان تحفظا على هذا الاقتراح، محتجيين بعدم وجود سابقة قضائية دولية لاقامة قضاء دولي، وعدم وجود قانون جنائي دولي تكون المحكطمة وسيلة لتطبيقه، ونظرا لتمتع رؤساء الدول بالحصانة البلوماسية فلا يجوز محاكمتهم، اضافة الى ان القضاء المخول بأجراء مثل هذه المحاكمات هو قضاء الدولة التي وقعت على اقليمها الجرائم (2 ).

تم خلال المؤتمر مناقشة استسلام المانيا والتوصل الى اتفاقية تتضمن محاكمة قيصر المانيا غليوم الثاني وغيره من مجرمي الحرب الالمان والمسؤوليين الاتراك عن جرائمهم ضد الانسانية آخذين في الاعتبار تحفظات كل من الولايات المتحدة واليابان. توصل المؤتمرون الى معاهدة فرساي للسلام التي تم ابرامها بتاريخ 28 / يونيو / 1919.

تناولت المعاهدة مسألة محاكمة المتسببين للحرب والمرتكبين للجرائم ضد الانسانية في المواد ( 227 – 229 ) . فقد قضت المادة 227 بأنشاء محكمة جنائية تتكون من حمسة قضاة تعينهم الدول الكبرى ( المنتصرة ) لمحاكمة الامبراطور الذي كان قد هرب الى هولندا وطلب اللجوء السياسي فيها، وضمنت له حقه في الدفاع نفسه. الا ان هولندا رفضت تسليمه رغم النداءات التي وجهت اليها متذرعة بحجة عدم وجود محكمة جنائية دولية محايدة تتولى محاكمة القيصر.

كما رفضت المانيا تسليم رعاياها لمحاكمتهم امام محاكم دول التحالف او امام المحاكم الدولية، على الرغم من ان المادة 228 تضمنت اقرار الحكومة الالمانية بحق القوى الحليفة والشريكة ان يعرضوا امام المحاكم العسكرية الاشخاص المتهمين بانتهاكات للقوانين واعراف الحرب. ولأسباب سياسية اكثر منها قضائية توصلت الحكومة الالمانية مع الحلفاء الى اتفاق يقضي بمثول المتهمين امام المحاكم العليا الالمانية في (لايبزيغ ). وفرضت عليهم عقوبات لم تكن رادعة. كما كانت هناك محاولات لمحاكمة عدد من المسؤولين الاتراك لأنتهاكهم القوانين الانسانية نتيجة تحالفهم مع المانيا (3)

المبحث الثاني: عصبة الامم ومحاولات انشاء محكمة دولية

من اهم النتائج التي تمخضت عنها الحرب العالمية الاولى انشاء عصبة الامم لتكون وسيلة لتجنب الحروب، وصيانة السلم العالمي، واعتماد الدول الطرق السلمية في حل خلافاتها وادانة الدولة المعتدية، واحترام قواعد القانون الدولي ووجوب مراعاتها في العلاقات الدولية، واحترام الدول لالتزاماتها الناشئة عن المعاهدات التي تكون طرفا فيها، ومراعاة تسوية النزاعات بالطرق السلمية وعدم اللجوء الى الحرب بالشكل الذي يتنافى والزاماتها بموجب عهد عصبة الامم الذي اصبح ساري المفعول بتاريخ 10 / 12 / 1920.

نصت المادة ( 4) من عهد العصبة على ان يتولى مجلس العصبة مشروع انشاء محكمة العدل الدولية الدائمة وعرضه على الاعضاء. وتنفيذا لذلك تم تشكيل لجنة استشارية من قبل مجلس العصبة للقيام بهذه المهمة. وفي الوقت ذاته تم تقديم مشروع آخر بانشاء محكمة دولية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم دولية او اعمال تهدد السلم والامن الدولي. حصل جدل حول المشروع واختلفوا بشأنه بين معارض لفكرة انشاء المحكمة واقترح بدلا عنها انشاء شعبة جنائية تلحق بمحكمة العدل الدولية الدائمة. بينما رأى الفريق الاخر ضرورة انشاء محكمة مستقلة تختص بمحاكمة الاشخاص المتهمين بارتكاب جرائم دولية. لم يكتب النجاح للمشروع حيث انتهت دراسة اللجنة الى عدم امكانية تأسيس محكمة جنائية دولية لعدم وجود قانون جنائي دولي ولذلك وافقت الجمعية العمومية على المشروع الاول الخاص بانشاء محكمة العدل الدولية الدائمة (4).

كما عقدت الجمعية العامة للقانون الدولي مؤتمرا عام 1922 قدم خلاله Bellot اقتراحا
يتضمن الحاجة الملحة لانشاء محكمة جنائية دولية دائمة قدم المشروع الى الجمعية في مؤتمرها الذي عقد في السويد مدينة استوكهولم عام 1924 مبنيا على نفس مبادئ محكمة العدل الدولية الدائمة والتي وافقت عليه بعد اجراء بعض التعديلات عليه (5).

في نفس الوقت تناول الاتحاد البرلماني الدولي مسألة القضاء الجنائي الدولي عام 1924 وفي السنة التالية تم اعتماد التوصية التي تضمنت الحرب العدوانية بناء على مبادرة من Pella وما يترتب عليها من عقاب، وان المسؤولية الجنائية الدولية لا تقع على الدول المعتدية فحسب وانما تشمل الافراد الذين يعملون بوحي منها، وضرورة وجود قضاء مختص للتعامل مع الجرائم الدولية. تم عرض مشروعه في مؤتمر واشنطن الذي انعقد بتاريخ 1925، تكلم بيللا اثناء المؤتمر وأكد ضرورة انشاء قضاء جنائي دولي (6).

كما ضمَنت الجمعية الدولية للقانون الجنائي عام 1926 وفي نفس سنة انشائها جدول اعمالها مسألة القضاء الجنائي الدولي فكلفت بيللا لاعداد المشروع باعتباره مقرر اللجنة المشكلة من قبل الجمعية لهذا الغرض. انتهى بيللا من اعداد مشروعه عام 1928 وقدمه الى الجمعية التي اقرته بعد اجراء تعديلات عليه وتم ارساله الى عصبة الامم المتحدة والى جميع الحكومات (7).

من جهته دعى Kelsen الى انشاء منظمة دولية تحل محل عصبة الامم على ان تكون احد اجهزتها محكمة دولية مختصة بمحاكمة الافراد المتهمين بالاستخدام غير المشروع للقوة، او المرتكبين لجرائم الحرب، ومن اختصاصها النظر في الطعن المقدم ضد المحاكم الوطنية في الحالات التي تصدر فيه احكام يعتقد انها مخالفة للقانون الدولي ( 8).

لم يقتصر الامر على جهود المنظمات الدولية بل كانت هناك محاولات دولية بهذا الصدد فقد تقدمت الحكومة الرومانية باقتراح الى عصبة الامم عام 1926 – متأثرة بآراء بيللا – لعمل اتفاقية لمعاقبة من يقومون باعمال ارهابية بغض النظر عن جنسية مرتكبها باعتبارها من الجرائم المخالفة لقانون الشعوب كالقرصنة وتزييف النقود والاتجار بالرقيق والمخدرات . واسناد اختصاص جنائي الى محكمة العدل الدولية الدائمة. رأت الجمعية العمومية لعصبة الامم في دور انعقادها التاسع ان المسألتين جديرتان بالدراسة (9).

اضافة الى ذلك فهناك جهود الفقهاء المبذولة لأرساء فكرة القضاء الجنائي الدولي من خلال مؤلفاتهم التي اشاروا فيها الى وجوب المعاقبة على الجرائم الدولية وما يتطلبه الامر من انشاء محكمة جنائية دولية كأمثال الفقيه H.Donnedieu de vabres الذي اصبح عضوا
في محكمة نورمبيرغ. او عن طريق المحاضرات التي القيت من بعض الفقهاء امثال الفقيه Saldana الذي القى محاضرة في كلية الحقوق جامعة باريس واشار فيها الى ان اختصاص
محكمة العدل الدولية الدائمة يجب ان يشمل القضايا الجنائية ايضا. او ما قام به البعض من طرح افكاره امام المؤتمرات كما فعل الفقيه بيللا اضافة الى ابحاثه ودراساته التي تدعو الى انشاء نيابة دولية عامة تمثل عصبة الامم امام المحكمة الجنائية الدولية (10) .

والمحاولة الاخيرة التي تمت عن طريق عصبة الامم ولم تفلح ايضا كانت بعد اغتيال ملك يوغسلافيا ( اسكندر الاول ) ووزير خارجية فرنسا ( لويس بارتو ) الذي كان بصحبته، وفرار الجانيين الى ايطاليا، وامتناع الاخيرة تسليمهما بحجة ان الافعال التي قاما بها تعتبر جرائم سياسية لا يجوز التسليم عليهما استنادا الى معاهدة التسليم الفرنسية الايطالية لعام 1870 السارية المفعول بينهما، حيث لم تتضمن الشرط البلجيكي الذي يعني ان الاعتداء على شخص رئيس الدولة او احد افراد اسرته لا يعتبر من قبيل الجرائم السياسية التي لا يجوز التسليم فيها. مما حدى بالحكومة الفرنسية ان تقدم مذكرة الى السكرتير العام لعصبة الامم بتاريخ 9 /12 / 1934 تتضمن الاسس لعقد اتفاقية دولية تقضي بمعاقبة المرتكبين لجرائم الارهاب السياسي، مع تأسيس محكمة جنائية دولية تختص بالنظر في هذه الجرائم .

عام 1936 صدر قرار الجمعية العمومية بالاجماع واشتمل على امور منها الامرين التاليين :
1 – اقرار الاتفاقية الخاصة بالارهاب وتحريم الاعتداءات الارهابية ضد حياة وحرية الاشخاص المرتبطة اعمالهم بتسيير عمل السلطات. وايجاد الوسائل للتعاون الدولي للكشف عنها والعقاب عليها.

2 – اما بشأن المحكمة فقد تنازع المسألة موقفان، موقف معارض لأنشائها، والاخر يرغب في محاكمة مرتكبي الاعمال الارهابية امام قضاء جنائي دولي الا انه اشترط ان يكون للدولة حق الاختيار بين تسليم المتهم او محاكمته امام قضائها الوطني. لذلك اعادت الجمعية العمومية المشروعين الى اللجنة لأعادة النظر فيهما على ضوء مقترحات وردود الحكومات لتقوم بعرضها على مؤتمر دبلوماسي يدعو اليه المجلس عام 1937 .

وقد اعيد المشروعان الى الجمعية بعد دراسة مقترحات الحكومات فأقرت مشروع الارهاب 24 دولة ولم تصدق عليها الا الهند. فيما اقرت الاتفاقية الثانية الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية 13 دولة على ان يكون اختصاصها الافعال الواردة في المادتين الاولى والثانية كالاعتداء على رؤساء الدول او من يتمتعون بأمتيازاتهم وحقوقهم او خلفائهم، والافعال المرتكبة ضد القائمين بوظائف عامة اذا كان الفعل ضدهم بسبب عملهم ، والتخريب العمد للاموال العامة. وتكون هذه المحكمة ذات صفة دائمة، تدعى الى الاجتماع كلما رفعت اليها دعوى. وعلى اية حال لم تلق اي من الاتفاقيتين مجالا للتنفيذ لعدم التصديق عليهما ولنشوب الحرب العالمية الثانية .

كل هذه الجهود التي بذلت في سبيل انشاء محكمة جنائية دولية رغم اهميتها، كونها وضعت الاسس لانشاء قضاء جنائي دولي، الا انها ولدت عقيمة ولم تنتج آثارها وان اعتبرت مرجعا للجهود التالية لها التي اثمرت عن ولادة هذه المشروع بعد عقود من الزمن. حيث تعرض فيها الانسان لابشع انواع الجرائم سواء ما وقع منها اثناء الحرب العالمية الثانية او الحرب الباردة التي كانت تدار الحروب خلالها بالواسطة .

الفصل الثاني: مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية

كانت الحرب العالمية الثانية اكثر ضررا على الانسانية من الحرب العالمية الاولى لما استخدم فيها من اسلحة متطورة. الامر الذي كانت اكثر ايلاما على المجتمع الدولي الذي رأى ان عصبة الامم لم تكن رادعا عن نشوب حرب ثانية كما كان هدفها الرئيسي. وما ان اوشكت الحرب ان تضع اوزارها حتى كان هناك تقدم في مسألة القانون الجنائي الدولي اضافة الى قضاء جنائي دولي لغرض معاقبة مرتكبي الجرائم التي حصلت اثناء الحرب .

ومما تجدر الاشارة اليه ان كل من طرفي النزاع اعد القوائم باسماء مرتكبي جرائم الحرب لغرض محاكمتهم على ما قاموا به من اعمال تعتبر مخالفة لقوانين واعراف الحرب لذلك يمكن القول وبدون تردد ان المحاكم التي انشأت بعد الحرب العالمية الثانية يمكن ان نطلق عليها محاكم المنتصرين. اذ لوتغيرت نهايات الحرب لتغيرت تبعا لذلك نتائجها، ولقامت دول المحور بمحاكمة المسؤولين في دول التحالف في محاكم مشابه للمحاكم التي شُكلت لهم ولمال القضاء حيث تميل القوة او السياسة .

المبحث الاول: المقدمات لانشاء محكمة دولية مؤقتة

صدرت خلال الحرب اعلانات مشتركة بين الحلفاء او من الحكومات المؤقته مفادها ضرورة محاكمة المتسببين في الحرب والمنتهكين لاعرافها وقوانينها والمرتكبين للجرائم الدولية خلالها. فقد صدر تصريح ( جيمس بالاس ) بتاريخ 12/1/1942 من جانب حكومة المملكة المتحدة وحكومات الدول المؤقته في المنفى والتي مزقتها الحرب مؤكدا على ضرورة محاكمة مجرمي الحرب من الالمان عما اقترفوه من جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية وجرائم ضد السلام. ولتفعيل هذا التصريح فقد اقترحت الحكومة البريطانية على الدول الموقعة على الاعلان المذكور تشكيل لجنة مكونة من 17 دولة مهمتها التحقق في جرائم الحرب. وقد اشتركت في اللجنة المذكورة كل من بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية. اُطلق على اللجنة اسم ( لجنة الامم المتحدة للتحقيق في جرائم الحرب ). و اقرها مؤتمر لندن الدبلوماسي الذي عقد بتاريخ 20/10/1943 (11).

كما صدر بتاريخ 17 / 12 / 1942 اعلان مشترك من قبل الحلفاء واعلن في وقت واحد في كل من لندن وموسكو وواشنطن. اضافة الى ذلك صدر تصريح رسمي بأسم الثلاثة الكبار بتاريخ 30 / 10 / 1943 تضمن الحاجة الى معاقبة المسؤوليين عن ارتكاب جرائم حرب امام محاكم دولية خاصة، والا يتهاون الحلفاء كما تهاونوا في الحرب العالمية الاولى .

في مؤتمر ( يالطا ) الذي عقد بتاريخ 3-11 / 2 / 1945 اكد كل من تشرشل وروزفلت وستالين عزمهم على محاكمة مجرمي الحرب. وفي مؤتمر سان فرانسيسكو 30 / 4 /1945 الذي كان اساس انشاء منظمة الامم المتحدة كانت الولايات المتحدة الامريكية من المتحمسين لفكرة انشاء محكمة عسكرية دولية (12) .

بعد هزيمة المانيا واستلام السلطة فيها من قبل الولايات المتحدة الامريكية وانكلترا وفرنسا جاء دور القانونيين للقيام بما تقتضية مسألة محاكمة مجرمي الحرب من الدول المهزومة. وبناء على توصية من Rosenman عيَن الرئيس الامريكي ترومان القاضي جاكسون بتاريخ 2/5/1945 ليكون كبير مستشاريه في القضايا القانونية المتعلقة بالجرائم النازية. اوكلت له مهمة اعداد محكمة لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم الحرب من الموظفين الرئيسيين في اوربا.

دخل جاكسون في مفاوضات مع البريطانيين والفرنسيين والروس لهذا الغرض وخلالها وضعت المبادرة المتعددة الاطراف. وُضعت خلالها الاسس لمحكمة نورمبيرغ العسكرية الدولية. ورسم فيها الخطوط العريضة لثلاث فئات من الجرائم التي يشملها اختصاص المحكمة المنوي انشائها وهي:
الفئة الاولى: جريمة الحرب العدوانية ( الجرائم المرتكبة ضد السلام ) واعتبرها من ابشع الجرائم الدولية.
الفئة الثانية: جرائم الحرب ( جرائم ضد قوانين واعراف الحرب ). وهي من الجرائم التقليدية باعتبارها جرائم تضمنتها اتفاقيات لاهاي وجنيف وموضوعها المدنيين واسرى الحرب اثناء الصراعات الدولية.
الفئة الثالثة: الجرائم ضد الانسانية التي ترتكب ضد الافراد لاسباب سياسية او دينية او عرقية وتندرج ضمنها جريمة الابادة الجماعية (13).

وافق الرئيس الامريكي على ماجاء في تقرير القاضي جاكسون. الا ان مندوبي الدول الثلاث اختلفوا حول محاكمة الكبار من مجرمي الحرب وانقسموا في ذلك الى فريقين. فريق يرى وجوب محاكمة هؤلاء باعتبار ان الصفة الرسمية للمتهم لاتعفيه من المسؤولية عن اعماله. فيما رأى الفريق الثاني الاكتفاء بأصدار قرار مشترك ينص على انهم خارجون على القانون كما حصل لنابليون في مؤتمر فينا في 13/3/1815.

بعد مناقشات طويلة ادت الى التقارب في وجهات النظر ثم الى الاتفاق على انشاء المحكمة الجنائية الدولية وعقدت اتفاقية لندن بتاريخ 8/8/1945 وفعلا نصت المادة الاولى على انشاء محكمة عسكرية دولية . واُلحقت بالمعاهدة لائحة تتضمن النظام الاساسي للمحكمة اعتبرت جزءا من المعاهدة.

وبذلك كانت اتفاقية لندن او اتفاقية نورمبيرغ كما يطلق عيها المحطة الاخيرة لانشاء اول محكمة دولية لمعاقبة مرتكبي الجرائم الدولية بغض النظر عن صفتهم الرسمية. لذلك سنقوم بدراسة هذه المحكمة بشئ من التفصيل في المبحث الثاني.

المبحث الثاني: محكمة نورمبيرغ

اُنشأت محكمة نورمبيرغ بموجب المادة الاولى من معاهدة لندن عام 1945. وقد تضمنت الاتفاقية لائحة نورمبيرغ او نظام محكمة نورمبيرغ واعتبرتها المادة الثانية جزء لا يتجزئ من الاتفاقية.

يتكون نظام المحكمة المرفق في اتفاقية لندن لعام 1945 من ثلاثين مادة مقسمة الى سبعة فصول. يتناول الفصل الاول تشكيل المحكمة فيما يتناول الفصل الثاني اختصاصها ونخصص مطلبا لكل من الفصلين.

المطلب الاول: اجهزة المحكمة وتشكيلاتها

يتضمن الفصل الاول تشكيل المحكمة ويشتمل على المواد ( 1 – 5 ). اشارت المادة الاولى الى الاساس القانوني لانشاء المحكمة وهو الاتفاق الموقع بين حكومات الدول الاربعة وهي الولايات المتحدة الامريكية، الاتحاد السوفياتي، بريطانيا العظمى وحكومة فرنسا المؤقته. وما يؤخذ على المحكمة هو اساسها القانوني، صحيح انها استندت في تأسيسها على اتفاق لندن 1945 الا ان هذا الاتفاق شأنه كباقي الاتفاقات الاخرى غير ملزم للدول الاخرى رغما عنها. سواء من حيث ارتباطها به او من حيث تنفيذ بنوده وهذا ما اشارت اليه بعد ذلك اتفاقية فينا لقانون المعاهدات الدولية لعامي 1969- 1986.

اولا- هيئة المحكمة:

تتكون المحكمة كما اشارت المادة الثانية من النظام الاساسي لها من اربعة قضاة اصليين لكل واحد منهم عضو مناوب. يتم اختيار قاضي واحد ونائبه من قبل كل دولة من الدول الموقعة الاربعة الموقعة على اتفاقية لندن. ولم تشترط المادة الثانية ان يكون القضاة او مناوبيهم من رعايا تلك الدول وانما سكتت عن المسألة. الا ان التطبيق العملي لها هو ان كل دولة اختارت مرشحيها من مواطنيها وهذا ما يعزز القول بان المحكمة جاءت استكمالا للانتصارات العسكرية التي حققتها دول التحالف ولكنها هذه المرة تم تحقيقها بالطرق القانونية. ولو اريد للمحكمة ان تكون اكثر عدلا لتم اختيار القضاة من دول اخرى ليست طرفا في الحرب، او على الاقل اشراك قضاة محايدين الى جانب القضاة الذين يتم تعينهم من قبل دول التحالف.

اوجبت المادة ان يحضر نواب القضاة جميع جلسات المحاكمة والاطلاع على ما يدور فيها بحيث لا يتسبب عدم حضور القاضي الاصيل لسبب ما كالعجز او المرض او الوفاة في تأخير الدعوى وانما تستمر بحضور نائبه.

اما المادة الثالثة فقد منعت كل من النيابة العامة او المتهمين او محاميهم من رد المحكمة والسبب الظاهر لهذا الاجراء هو بغية الاسراع في الاجراءات. وبذلك تكون هذه المادة قد اسقطت حقا من حقوق المتهم او من النيابة العامة اذا كان هدفها تمثيل المجتمع الدولي حقا. ولكل دولة موقعة ولاسباب وجيهة ان تستبدل بالقاضي الاصيل او نائبه غيرهما، على ان لا يكون الاستبدال اثناء سير الدعوى الا اذا حلَ النائب محل الاصيل فيحق لها في هذه الحالة الاستبدال اكمالا للنقص وتحاشيا لتأخير السير في الدعوى.

لا تنعقد المحكمة الا بحضور اربعة قضاة سواء اكانوا من القضاة الاصلاء او النواب كما اشارت الى ذلك الفقرة ( a) من المادة الرابعة. ومن هنا يتبين ان كل دولة تكون قادرة على تعطيل المحاكمة اذا ارادت سحب مرشحيها من المحكمة(14).

يتفق قضاة المحكمة فيما بينهم على اختيار احدهم ليكون رئيسا قبل ان تبدأ المحاكمة ويتولى المهمة طيلة فترة الدعوى الا اذا ارتأى ثلاثة اعضاء غير ذلك. وقد اوردت المادة الرابعة استثناء من ذلك وهو في حالة ما اذا عقدت المحكمة جلساتها في احدى الدول الموقعة فان مرشح تلك الدولة هو الذي يتولى رئاسة المحكمة.

على ان لائحة نورمبيرغ لم تغفل امكانية انشاء محكمة اخرى في حالة كثرة عدد القضايا على ان تكون مماثلة في اجراءاتها واختصاصها وتخضع للائحة المرفقة في اتفاقية لندن ( م 5).

سلطات المحكمة وواجباتها:

وهي سلطات وواجبات مألوفة للقضاء ولم تنفرد باي منها المحكمة موضوع البحث وقد اشارت اليهما المادتين 17و18 من اللائحة. فبينت المادة 17 بفقراتها الخمس سلطات المحكمة التي تتمثل في استدعاء الشهود وتوجيه اليمين اليهم وسماع شهاداتهم وتوجيه الاسئلة اليهم. ولها ان تستجوب المتهمين، وتطلب عرض الوثائق، كما يحق لها ان تعين مندوبين عنها يقومون بالمهام التي تحددها المحكمة وخاصة مهمة جمع الادلة عن طريق الانابة.

اما المادة 18 وما بعدها فبينت واجبات المحكمة ومنها، حصر الدعوى، اتخاذ التدابير اللازمة لسرعة اداء المحكمة وتجنب الاعمال التي تتسبب في تاخير عملها، الابتعاد عن الاعلانات والتصريحات التي لا تمت الى موضوع الدعوى بصلة، وعلى رئيس المحكمة ضبط الجلسة وفرض العقوبات على مثيري الشغب والضوضاء اثنائها وفرض عقوبات عليهم تصل الى حد ابعاد المتهمين ومحاميهم عن الجلسة دون ان يؤثر ذلك على تحديد التهم، وعليها قبول اية وسيلة لها قيمة في الاثبات (م19). ولا يتطلب الحال اقامة الدليل على القضايا المعلومة للكافة وانما تعتبر ثابته من غير دليل ويكفي الاحاطة علما بها، تعتبر كل الوثائق الصادرة من حكومات الامم المتحدة ومن اللجان المشكلة من قبلها للتحري والتحقيق عن جرائم ادلة صحيحة (م21).

ثانيا – هيئة الادعاء العام والتحقيق:

ارادت الدول الكبرى ان يكون اعضاء المحكمة وموظفي اجهزتها الاخرى من رعاياها مع ان نصوص اللا ئحة لا تشير الى ذلك فقد نصت المادة 14 على كل دولة من الدول الاربعة الموقعة ان تعين ممثلا للنيابة العامة مع نائب له ووفد يساعده على جمع الادلة. يتفقون على خطة عمل لهم توزع بموجبها الاعمال على رئيس وباقي اعضاء النيابة وموظفي الوفود العاملين معهم.

توكل الى هيئة الادعاء مهمة تعيين كبار مجرمي الحرب تمهيدا لاحالتهم الى المحكمة العسكرية، وبعد اعداد لوائح الاتهام والتصديق عليها تحيلها مع كل مرفقاتها الى المحكمة مع الطلب من المحكمة اتخاذ اجراءات المحاكمة بشأن ما ورد فيها.

كما اشارت المادة 15 الى اختصاصات اخرى لهذه الهيئة منها، البحث والتحري عن الادلة، استجواب المتهمين استجوابا تمهيديا الى غيرها من الاعمال التي تعتبر ضرورية لتهيئة واعداد الدعوى. وتولى مهمة الاتهام احد ممثلي النيابة العامة او اكثر (م23).

ولا يقتصر اختصاص هيئة الادعاء العام على الاعمال التي تسبق الدعوى او التي تكون اثنائها بل يمتد الى ما بعد الدعوى. فقد نصت المادة (29) على حالتين منها، اذا قدم مجلس الرقابة على المانيا من الادلة مايكفي لتخفيض العقوبة فيأتي دور الادعاء العام، ولا يشمل ذلك تشديد العقوبة. والحالة الثانية ما اذا حصل مجلس الرقابة على المانيا على ادلة جديدة تدين متهما ادين من قبل المحكمة والادلة الجديد تشكل تهمة اخرى وهنا ايضا ياتي دور الادعاء العام لكي يتخذ الاجراءات اللازمة بشأنها.

ثالثا – الهيئة الادارية:

تتكون من السكرتير العام يتم تعيينه من قبل المحكمة تكون مهمته الاشراف على الجهاز الاداري فيها، يساعده اربعة كل منهم يحمل صفة سكرتير ولكل منهم مساعدون. اضافة الى امناء سر القضاة، ومراقب عام المحكمة، كتاب المحاضر، حجاب، المترجمون، المختصون بتسجيل المرافعات، اضافة الى موظفي مكتبي الاعلام والصحافة.

المطلب الثاني: اختصاص المحكمة

يعرف الاختصاص القضائي بانه الولاية او السلطة التي يمنحها القانون للمحكمة حتى تستطيع النظر والفصل في قضايا معينة. وللمحكمة اكثر من اختصاص فلها اختصاص مكاني وهو ولايتها او سلطتها على الافعال التي تقع في اقليم او اقاليم معينة بموجب قواعد قانونية . واختصاص زماني وهي الافعال المخالفة للقوانين التي تقع في فترة زمنية معينة يحددها القانون وتكون للمحكمة ولاية عليها. وبهذا يكون اختصاص محكمة نورمبيرغ المكاني هوالافعال غير المحددة بأقليم معين, ومن حيث الزمان فالافعال المرتكبة اثناء الحرب العالمية الثانية. وسنفصل القول في الاختصاصين النوعي والشخصي ونتناولهما في بندين:

البند الاول: الاختصاص النوعي

ومعياره في القضاء الوطني هو تقسيم الجرائم الى جنايات وجنح ومخالفات. اما بالنسبة للمحكمة مدار البحث فهو القواعد القانونية التي تحدد الجرائم الدولية الداخلة في اختصاصها وبذلك لا تدخل في الولاية القضائية للمحكمة كل الجرائم وانما التي وردت على سبيل الحصر في المادة السادسة من ميثاق نورمبيرغ — وهي نفس الجرائم التي ذكرها القاضي جاكسون في مشروعه – وهي:

1 – الجرائم ضد السلام: CRIMES AGAINST PEACE

وهي كل تدبير او تحضير او مباشرة لحرب عدوانية او لحرب تُرتكب بالمخالفة لأحكام المعاهدات والمواثيق والاتفاقات الدولية. وكذلك كل مساهمة في خطة عامة او مؤامرة لارتكاب احد الافعال السابقة.

على ان لجنة القانون الدولي في 28/ يوليو/1645 تبنت مشروع تقنين الجرائم ضد سلام وامن البشرية اضافة فيه الى الطوائف السابقة جرائم اخرى منها : تنظيم الدولة عصابات مسلحة للاغارة على اقليم دولة اخرى او السماح بذلك التنظيم او تشجيعه، ومباشرة الدولة اعمالا ارهابية منظمة في دولة اخرى او التشجيع عليها ومخالفة الدولة لتعهداتها التي ترتبت عليها بموجب معاهدة تهدف الى ضمان السلام والامن الدوليين.

تعتبر جريمة حرب الاعتداء او العدوان اهم الجرائم ضد السلام ولتحديد الجريمة لابد من تعريفها. فقد بذلت محاولات كثيرة لتعريف العدوان امتدت حتى عام 1974 حيث صدر قرار الجمعية العامة للامم المتحدة متضمنا تعريفا للعدوان وهو ( استخدام القوة المسلحة من جانب دولة، ضد سيادة ووحدة الاراضي الاقليمية او الاستقلال السياسي لدولة اخرى او بأي طريقة لا تتماشى مع ميثاق الامم المتحدة ).

ما يؤخذ على هذا التعريف حصرة عناصر جريمة العدوان باستخدام القوات المسلحة من جانب دولة ضد دولة اخرى. واهماله جوانب القوة الاخرى كالضغوط الاقتصادية او السياسية او الاجتماعية التي قد تتسبب في نتائج سلبية تكون اكثر قساوة على الشعوب من استخدام القوة العسكرية. كما استخدم الحصار على الشعب العراقي والذي خلَف عشرات الالاف من الضحايا.

ان جريمة حرب الاعتداء من الجرائم القصدية التي ينبغي توافر القصد الجنائي لدى مرتكب الفعل حتى تكون جريمة معاقب عليها. ويكفي لهذا القصد ان يكون عاما ولا يشترط فيه ان يكون خاصا. ويكفي لتحقق القصد العام توافر عنصري العلم والارادة، بمعنى ان الفاعل يوجه ارادته لسلوك معين مع علمه انه يرتكب فعلا محظورا قانونا.

ويكفي لتحقق جريمة العدوان توفر القصد العام بغض النظر عن البواعث على ارتكاب الجريمة، فلا اثر للباعث على تحقق الجريمة سواء تعلقت به مصلحة المعتدي او يكون لمجرد الانتقام. وعلى هذا تعتبر الحرب الامريكية على العراق حربا عدوانية مهما كانت الذرائع التي توسلت بها الادارة الامريكية بعد ان اثبتت الوقائع زيف كل الادعاءات.

2 – جرائم الحرب WAR CRIMES

وهي الافعال المخالفة للمواثيق والعهود الدولية مثل اتفاقيات جنيف، واوردت الفقرة (ب) من المادة السادسة من اللائحة على سبيل المثال بعض الافعال باعتبارها جرائم حرب وهي القتل العمد، سوء المعاملة، ترحيل المدنيين، قتل او سوء معاملة اسرى الحرب، نهب الممتلكات العامة، التدمير المتعمد للمدن، او التدمير الذي لا تقتضيه الضرورات العسكرية.

ان جرائم الحرب تختلف عن الجرائم ضد السلام اذ لا يمكن تصور وقوعها الا في حالة نشوب حرب وارتكاب افعال غير انسانية خلالها. وبذلت جهود مضنية في سبيل تفادي الحرب او تهذيبها في حالة تعذر منع وقوعها بحيث تقل فيها انتهاكات حقوق الانسان. وتوالت الجهود الرسمية والفقهية في هذا المجال لكنها لم تفلح في هذا السبيل رغم الاتفاقات التي وقعت. على ان كل هذه الجهود لم تمنع الدول من ممارسة حقها الطبيعي في استخدام القوة للدفاع عن نفسها.

3- الجرائم ضد الانسانية CRIMES AGAINST HUMANITY

تعتبر الجرائم ضد الانسانية من اخطر الجرائم الدولية لانها تستهدف الانسان لأنسانيته فتشمل القتل العمد سواء وقع بسلوك ايجابي او بسلوك سلبي. الاسترقاق كأن تمارس السلطات المترتبة على حق الملكية على شخص معين. الابعاد او النقل القسري للسكان من المنطقة التي يقيمون فيها بصفة مشروعة دون مبرر. والتعذيب وهو الحاق الاذى ببدن او بعقل شخص موجود تحت اشراف شخص. الاغتصاب او الاستعباد الجنسي وغيرها من الجرائم التي ترتكب ضد السكان المدنيين. سواء ارتكبت هذه الافعال قبل الحرب او خلالها، والاضطهاد لأسباب سياسية او عرقية او دينية، وتعتبر الافعال المذكورة جرائم ضد الانسانية سواء شكلت انتهاكا للقانون الداخلي للبلد الذي وقعت فيه ام لا.

البند الثاني: الاختصاص الشخصي

تناولت المادة السادسة الاختصاص الشخصي فذكرت الاشخاص الطبيعيين فقط كالقادة والمنظمين المحرضين والمشتركين في خطة او مؤامرة لارتكاب الجرائم الوارد ذكرها اعلاه على اساس ان جرائمهم غير محددة بأقليم معين، وان يكونوا من دول المحور الاوربية. اما غير هؤلاء فينقسمون الى قسمين، الاول يحاكم اما امام محاكم الدول التي وقعت الجرائم فيها او امام محاكم الاحتلال او امام المحاكم الالمانية . والقسم الثاني الذي يخرج من الاختصاص الشخصي للمحكمة هم مجرمو الحرب اليابانيون او من دول الشرق الاقصى فهؤلاء تتم محاكمتهم امام محكمة طوكيو.

نصت المادة السابعة على مبدأ يعتبر غاية في الاهمية وهو ان الصفة الرسمية للمتهمين لا تعفيهم من المسؤولية ولا تخفف العقوبة عنهم. وبذلك يتحمل المسؤولية مرتكبي الافعال المذكورة سواء كانوا رؤساء دول او من كبار القادة العسكريين او المدنيين، وبذلك لا يستطيع المسؤول ان يتخذ من الدولة حصنا يلوذ خلفه ويعفيه عن المسؤولية بحجة انه موظف في الدولة وانه نفذ سياساتها فان اصاب فنعم المطلب وان اخطأ فلا عدوان عليه. وليس للمتهم التمسك بتنفيذ الاوامر لرؤسائه لدرء المسؤولية عنه، الا انه يمكن ان يكون سببا لتخفيف العقوبة اذا رأت المحكمة في ذلك تحقيقا للعدالة (م8).

واذا كان الاختصاص الشخصي لا يشمل الا الاشخاص الطبيعية فان ذلك لا يعني افلات المنظمات او الهيئات التي ينتمي اليها المتهمون من كل التبعات القانونية، فقد اجازت المادة التاسعة للمحكمة وهي تنظر دعوى ضد شخص ينتمي الى منظمة او هيئة وانتهت بادانته ان تقرر اعتبار المنظمة اجرامية.

بعد الوقوف على الاختصاصين النوعي والشخصي لابد من اكمال الفصول الاخرى التي يتضمنها نظام نورمبيرغ بشكل سريع وموجز. فقد تناول الفصل الثالث ضمان المحاكمة العادلة للمتهمين، كاطلاعهم على لوائح الاتهام وما تحتويه من تهم منسوبة اليهم وباللغة التي يفهمونها حتى يستطيعوا اعداد دفاعهم على ضوئها. وان يتم استجواب المتهم ومحاكمته باللغة التي يفهما او تترجم الى لغته.

وخصص الفصل الخامس الى سلطات المحكمة وواجباتها في المواد (17 – 21 ) وقد تمت الاشارة اليها سابقا. فيما اشتمل الفصل السادس على المواد (26-29) التي عالجت مسألة الحكم والعقوبة، كأن يكون قرار الحكم مسببا سواء كان بالادانة او البراءة وان يكون نهائي. وبالنسبة للعقوبات فقد كان من صلاحية المحكمة الحكم بأشد العقوبات وهي عقوبة الاعدام اذا كانت هذه تقتضيها العدالة. واضافة الى العقوبات الاصلية للمحكمة ان تحكم بالعقوبات التبعية، كأن تأمر بمصادرة جميع الاموال المسروقة وتسليمها الى مجلس الرقابة. اما الفصل الاخير وهو الفصل السابع فقد اقتصر على المادة (30) التي تضمنت نفقات المحكمة ومصاريف الدعاوى المرفوعة واوكلت بها الى الدول الموقعة على اتفاق لندن.

المطلب الثالث: تقييم محكمة نورمبيرغ

عقدت محكمة نورمبيرغ سلسلة من المحاكمات في الفترة من 20/11/1945 الى 1/10/1946 وتم خلالها محاكمة اربعة وعشرين من القادة النازيين لارتكابهم او لتآمرهم على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية خلال الحرب. ووجهت لوائح اتهام لست منظمات لمساعدتها النازيين، وفي 1/10/1946 نطقت المحكمة بالاحكام وهي التالي: ثلاثة احكام بالبراءة، اربعة احكام بالسجن لمدد تتراوح بين عشر سنوات وعشرين سنة، ثلاثة احكام بالسجن مدى الحياة واثنى عشر حكما بالاعدام شنقا (15). واذا كان قد انهت عملها فقد بدأ تقييمها من قبل رجال القانون وغيرهم.

1 – حسنات محكمة نورمبيرغ:

ان محاكمات نورمبيرغ ساهمت وبشكل فعال في القانون الدولي وذلك بارسائها ثلاثة مبادئ مهمة هي:
– لاتعتبر الصفة الرسمية للفرد عذرا يمكنه التمسك به للتخلص من المسؤولية والافلات من العقاب وذلك بالقاء المسؤولية على الدولة او الحكومة. وبهذا المبدء تكون المحكمة قد ادخلت الفرد كموضوع للقانون الدولي بعد ان تجاذبت هذه الفكرة نظريات متعددة.
– لايمكن للفرد درء المسؤولية عن نفسه بحجة تنفيذ الاوامر الصادرة اليه من رئيسه الاعلى، لأن تنفيذ التزاماته التي يفرضها عليه القانون الدولي – بعد ان اصبح موضوعا له – تسمو على واجبه في اطاعة الاوامر.
– اسست محاكمات نورمبيرغ لثلاث انواع من الجرائم يعاقب عليه القانون الدولي، جرائم ضد السلام، جرائم ضد الانسانية والجرائم العابرة للحدود الوطنية والتي تُنتهك بها الالتزامات الواردة في المعاهدات والاتفاقيات الدولية.
– من نتائج محاكمات نورمبيرغ انها كانت اساسا لأتفاقيات وصكوك دولية متعددة منها اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية لعام 1948 والاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948 واتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الاضافية لعام 1977.

2- على ان حسنات المحكمة المذكرة وبالرغم من اهميتها لاتمحي سيئاتها وهي:

– ان محاكمات نورمبيرغ لم تطبق العدالة بمفهومها العام وانما سعت الى تطبيق (عدالة المنتصر)، لأن المسؤوليين في دول التحالف وهم يحاكمون النازيين باعتبارهم مجرمي حرب لم تكن اياديهم نظيفة من الجرائم. فمثلا الاتحاد السوفيتي والمانيا شاركتا في احتلال بولندا وتورطا في مذبحة ذهب ضحيتها آلاف البولنديين. كذلك الغارات العسكرية التي قامت بها كل من الولايات المتحد وبريطانيا خلال الحرب وراح ضحيتها عشرات الالاف من القتلى في مدن دريسدن والمانيا وناكزاكي وهوروشيما وغيرها مما يندى لهاجبين الانسانية. اضافة لما قام به الرئيس الامريكي روزفلت من نقل اكثر من 100000 من الامريكيين ومن اصول يابانية الى معسكرات الاعتقال في جميع انحاء الولايات المتحدة، كل هذه الافعال وغيرها مما ارتكبته دول التحالف انما هي جرائم دولية نص عليها ميثاق نورمبيرغ. وتخضع لولاية المحكمة الا ان ما يجوز لهم حرام على غيرهم. وبهذا تكون المحكمة قد طبقت نصف العدالة واهملت النصف الاخر.

– محاكمات نورمبيرغ لم تكن نموذجية لانها استثنت الكثير ممن ارتكبوا الجرائم المنصوص عليها في الميثاق واوكلت امر محاكمتهم الى محاكم اخرى. فيما اقتصرت على محاكمة القادة النازيين الكبار مما يؤشر وبشكل واضح الى ان الدول الكبرى ارادت بذلك استكمال النصر العسكري ولكن بطريق قانوني.
– ان المحكمة اُنشأت وكذلك نظامها بموجب اتفاقية لندن لعام 1945 ومن قبل الدول الاربعة الكبار. ومن المعلوم ان الاتفاقات الدولية ايا كانت تسميتها ليست ملزمة الا لاطرافها، ولا تُلزم الدول الاخرى لا من حيث الارتباط بها ولا الالتزام بنتائجها وهذا خلاف ماحدث في اتفاقية لندن.
– عدم وجود استئناف للاحكام التي تصدرها المحكمة مما جعلها موضع انتقاد حتى من قبل القضاة الذين عملوا فيها وفي محكمة طوكيو.
– ان قواعد القانون الجنائي سواء اكان محليا او دوليا بالغة الخطورة، لذلك ليس لها سلطان مطلق، انما يكون لسلطانها حدود زمنية معينة. وعلى هذا فان الفعل الاجرامي يتحدد بحدود ذلك السلطان فذا ما خرج عن حدود ذلك السلطان فلا يمكن وصفه بانه غير مشروع.
واستنادا الى ذلك فاذا ما اريد تطبيق القواعد القانونية الجزائية على فعل فينبغي ان تكون سارية المفعول وقت وقوع الفعل، بمعنى انها لا تسري على الماضي ( مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي على الماضي ). والمعيار الذي يستند اليه في تحديد سلطان القانون هو تاريخ نفاذه. وهذا ما اغفلته المحكمة في احكامها.
– فضلا عن عدم تمتع المحكمة بالحيادية كون جميع اعضائها من الحكام والمدعين العامين تم تعينهم من الدول الكبرى المنتصرة. وكان ينبغي ان يكونوا او على الاقل بعضهم من دول محايدة.
علما ان الكثير من هذه الانتقادات قد ورد في الدفاع المقدم من قبل مجلس المحامين.

نكتفي بمحكمة نوربيرغ ونستغني بها عن البحث في محكمة طوكيو لان الاخيرة تشابه الاولى الا من بعض الاختلافات البسيطة والا فلهما نظام داخلي واحد.

المبحث الثالث: جهود الامم المتحدة في فترة ما بعد الحرب

بعد انتهاء جلسات محكمة نورمبيرغ واصدار قراراتها في 1/10/1946 اعتمدت الجمعية العامة للامم المتحدة قرارها المرقم 95 في 11/12/1946 مؤكدا على مبادئ القانون الدولي المعترف بها في ميثاق المحكمة واوعز الى اللجنة المشكلة لتدوين الجرائم ضد سلام وامن البشرية او مدونة جرائم دولية.

تقدمت وفود كل من بنما وكوبا والهند بأقتراح الى الامم المتحدة عام 1946 يتضمن مكافحة جريمة ابادة الجنس وامكانية اعتبارها جريمة دولية. احالت الجمعية العامة الاقتراح الى اللجنة القانونية لدراسته واعداد اتفاقية بذلك. اثيرت مسألة انشاء محكمة جنائية دولية اثناء صياغة اتفاقية مناهضة الابادة الجماعية. دار النقاش حول ما اذا كانت المحاكمة على هذه الجرائم تندرج تحت الولاية القضائية الوطنية للدولة التي ترتكب على ارضها الجريمة او تدخل في اختصاص محكمة جنائية دولية. حسم النزاع وتم التوصل الى ما نصت عليه المادة السادسة من اتفاقية مكافحة ابادة الجنس البشري لعام 1948 حيث اشارت الى ان محاكمات المتهمين بارتكاب الجرائم الواردة في المادة الثالثة من هذه الاتفاقية يكون من اختصاص القضاء الوطني للدولة التي ارتكبت على اراضيها الجريمة او (امام محكمة جزائية دولية تكون ذات اختصاص ازاء من يكون من الاطراف المتعاقدة قد اعترف بولايتها ).

انقسم المجتمع الدولي بين مؤيد لفكرة القضاء الجنائي الدولي ومعارض لها وازاء ذلك وادراكا من الجمعية العامة للامم المتحدة من ان تطور المجتمع الدولي يحتم وجود مثل هذا الجهاز دعت لجنة القانون الدولي الى دراسة امكانية انشائه لمحاكمة الاشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الابادة الجماعية وغيرها من الجرائم الدولية.

تبنت اللجنة الموضوع وعينت في اول اجتماع لها مقررين لدراسته. انتهى المقرر الاول ألفارو RJ.Alfaro الى نتيجة مؤداها ان انشاء قضاء جنائي امر ممكن ومرغوب فيه. بينما خلص الثاني ساندستروم AEF.Sandstrom الى ان الظروف الدولية لانشاء مثل هذا الجهاز غير مواتية. وبعد مناقشات مستفيضة من اللجنة ايدت راي المقرر الاول وتوصلت الى ان انشاء محكمة جنائية دولية امر ممكن ومرغوب فيه ((17).

في ذات الوقت قدم سبيروبوليس J.Spiropoulos تقريرا بشأن الجرائم ضد سلام وامن البشرية وتوصل الى احتمالين اما انشاء محكمة جنائية دولية او محاكمة المتهمين امام المحاكم الوطنية، الا انه اوصى اخيرا بان تكون المحاكمة من واجبات الدولة التي وقعت الجريمة على ارضها وعلى الدول الاخرى تسليم المتهمين، وفي حالة حصول نزاع يعرض الموضوع على محكمة العدل الدولية للبت فيه (18).

وفي عام 1951 قدم بيللا الذي كان رئيسا للجمعية الدولية للقانون الجنائي تقريره لاعداد مشروع اتفاق لانشاء محكمة جنائية دولية. وفي عام 1952 تم تشكيل لجنة جديدة من قبل الجمعية العامة للامم المتحدة لدراسة العقبات التي تحول دون اتمام هذا المشروع ودراسة نظام المحكمة الذي تم اعداده من قبل لجنة جنيف عام 1951. تقدمت اللجنة بتقريرها الى الجمعية العامة عام 1953، وفي دورة انعقادها التاسعة 1954 رأت ان علاقة وثيقة تربط بين موضوعات ثلاثة وهي تعريف العدوان، ووضع مشروع تقنين للجرائم ضد سلم وامن البشرية وانشاء قضاء جنائي دولي. لهذا السبب قررت الجمعية العامة تاجيل النظر في موضوع محكمة جنائية لحين البت في الموضوعين الاخرين. وبذلك وصل العمل لانشاء محكمة الى طريق مسدود.

وبصدور القرار 3314 لسنة 1974 من الجمعية العامة للامم المتحدة الذي يتضمن تعريفا للعدوان استؤنفت الجهود مرة اخرى . ومن بينها جهود للمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية. الا ان العمل في اطار الامم المتحدة قد اخفق مرة اخرى.

على ان الجدل الذي امتد هذه الفترة الطويلة كان سببه ان انشاء محكمة جنائية دولية يمس بالسيادة للدول، باعتبار ان انشائها سيفرض قيودا على الاختصاص القضائي الوطني الذي يعتبر من مظاهر السيادة للدولة. بالرغم من ان السيادة لم تعد كما كانت مطلقة حيث كُبلت بقيود كثيرة فرضتها التزامات الدول نفسها امام المجتمع الدولي كعدم استخدام القوة والالتزام بالتعاون السلمي الدولي كذلك الاعتماد المتبادل بين الدول، اضافة الى الاعتراف المتزايد على وجوب المعاقبة على الجرائم ضد سلام البشرية وامنها حتى في الحالات التي لا يعاقب عليها القانون الوطني. ومع ذلك انقسمت الدول من فكرة انشاء محكمة جنائية دولية الى اربع اقسام (19):

– موقف الدول الغربية الكبرى: عارضت هذه الدول وبشدة فكرة انشاء قضاء جنائي دولي خشية منها لفقدان الحماية لمواطنيها وحتى لا تضطر الى الاعتراف بالاحكام الجزائية التي تصدر بموجب انظمة بعض الدول، لأن مثل هذه الانظمة لا تعادل الانظمة المطبقة في الدول الكبرى.

– موقف الدول الاشتراكية: على الرغم من ان الاتحاد السوفيتي ودول اشراكية اخرى قد دعمت التعاون الدولي لتنسيق الاجراءات الجنائية للجرائم ضد الانسانية وضد السلم، الا انها رفضت انشاء قضاء جنائي دولي على غرار محكمة نورمبيرغ التي كان لها السيادة على القضاء الوطني، كما رفضت الفكرة اذا اريد منها ان تحل المحكمة محل المحاكم الوطنية. وحجتها في ذلك ان الدول لايمكن ان تسلم رعاياها الى محكمة دولية لمحاكمتهم.

– موقف دول الشمال الاوربي: فضل اصحاب هذا الاتجاه الاختصاص الشامل للقضاء الوطني للجرائم الواردة في مشروع مدونة جرائم ضد سلم وامن البشرية على فكرة محكمة جنائية دولية مستندين الى ان النظام القانوني الدولي لم يستحق انشاء محكمة دولية. بل ذهبوا الى ان هذه الفكرة لا تمتلك نصيبا من النجاح.

– موقف استراليا: اعتبرت ان انشاء مثل هذا الجهاز ينطوي على مخاطر كبيرة اذا ما استخدم في غير المجالات المخصصة له، اضافة الى ما تؤدي اليه من تعقيدات في النظام الدولي وربما تصرف الانتباه عن الاختصاص القضائي الوطني.

الفصل الثالث: القضاء الجنائي الدولي المؤقت بعد الحرب الباردة

كانت الحرب الباردة من اهم الاسباب التي حالت دون انشاء قضاء جنائي دولي. واذا كانت الحروب اثناء هذه الفترة تُدار بالوكالة بين القطبين المتناحرين، فان انتهاء الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة الامريكية بالقطبية ادى الى نتائج اكثر مرارة. فنشبت حروب محلية بين شعب الدولة الواحدة التي فرقتها الايديولوجيات بعد ان جمعتها ايديولوجية واحدة مما ادى الى تقسيمها، اُرتكبت خلالها ابشع الجرائم الدولية. كما حدث في جمهورية يوغسلافيا السابقة. مما حدى بمجلس الامن الدولي ولاهداف سياسية تغلفها اهداف انسانية لتقسيم المقسم، فانفصلت بعض الاقاليم عن الدولة الام. وكعادة الدول الكبرى المنتصرة – ايا كانت وسيلة الانتصار – تحاول ان تظهر نفسها على انها المنادية بالسلام وانها ضد الحروب وصاحبة اليد البيضاء لضمان حقوق الانسان. وبما انها صاحبة الكلمة العليا في مجلس الامن لذلك اصدر قراره بانشاء محكمة عسكرية خاصة بالجرائم الدولية المرتكبة في يوغسلافيا السابقة. في الوقت الذي كان يُفرض حصار اقتصادي على العراق راح ضحيته عشرات الالاف من الضحايا.

ولم يقتصر استبداد الحكومات على قهرها لشعوبها ومنعها من تقرير مصيرها، بل تعداه لارتكاب جرائم الابادة بحقها. كما حدث في رواندا الامر الذي اضطر معه مجلس الامن لاصدار قرار بانشاء محكمة تختص في الجرائم التي ارتكبت في هذا البلد. لذلك سنخصص مبحثين. الاول الى المحكمة في يوغسلافيا السابقة، فيما نتناول في المبحث الثاني المحكمة الخاصة برواندا.

المبحث الاول: المحكمة الجنائية الدولية للانتهاكات في يوغسلافيا السابقة

رغم المحاولات والجهود الدولية التي بُذلت لايقاف الحرب الطاحنة في البوسنة والهرسك بين مكونات شعبها، الصرب والكروات والمسلمين، الا ان الحرب اشتد اوارها واتخذت مسارا آخر لتكون اكثر شراسة بتحولها الى نزاع دولي. مسرح احداث الحرب في يوغسلافيا السابقة جمهورية البوسنة والهرسك. وبدأت دول مثل صربيا والجبل الاسود بدعم ومساندة الصرب ضد مكونات الشعب الاخرى، اضافة الى دول اخرى تساندهم سرا.

ادى الدعم الاقليمي الى الصرب الى اختلال التوازن في القوة العسكرية بين الاطراف المتحاربة مما سهَل عليهم ارتكاب ابشع الجرائم. ولم تفلح الجهود الدولية لايقاف الانتهاكات للقانون الدولي، الامر الذي دفع بمجلس الامن الى اصدار عدة قرارات لاسيما القرار 764لسنة 1992. نصت الفقرة العاشرة من القرار المذكور على وجوب امتثال الاطراف للالتزامات التي يقررها القانون الانساني الدولي وخصوصا اتفاقيات جنيف لعام 1949، وان مخالفة الالتزامات الدولية سواء بارتكاب الجرائم الدولية مباشرة او باصدار الاوامر بارتكابها ستتحقق مسؤولية الفرد عنها.

ولما لم يعبه الصرب بما صدر من قرارات عن مجلس الامن واستمروا في ارتكاب الجرائم الدولية اصدر المجلس قراره المرقم 808 في 22/2/1993 القاضي بانشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم دولية بناء على اقتراح من فرنسا، وتكليف الامين العام للامم المتحدة بموجب الفقرة الثانية بمتابعة الموضوع واعداد تقرير عن الحالة خلال ستين يوما.

بعد اطلاع مجلس الامن على تقرير الامين العام اصدر قراره المرقم 827 في 25/5/1993 حيث راى ان الحالة في يوغسلافيا لازالت تشكل انتهاكا للقانون الدولي وتهديدا للسلم والامن الدوليين، وبغية وضع حد لهذه الانتهاكات ومحاكمة المسؤولين عنها فقد اعتمد النظام الاساسي للمحكمة المرفق مع تقرير الامين العام.

تضمن النظام الاساسي للمحكمة (34) مادة. تناولت المواد (1- 9) اختصاص المحكمة . فيما قررت المادة العاشرة مبدأ عدم محاكمة شخص امام المحاكم الوطنية عن افعال تشكل انتهاكا للقانون الدولي اذا سبق محاكمته عنها امام المحكمة الدولية. وتعرضت المواد (11- 17) تنظيم المحكمة. اما السير في في اجراءات الدعوى اعتبارا من التحقيق واعداد لوائح الاتهام وحتى صور الاحكام وتنفيذها بما في ذلك العفو وتخفيف الاحكام فكان موضوع المواد (18- 28). فيما تناولت المواد (29- 34) مسائل متفرقة كمقر المحكمة والتعاون القضائي واللغات المستعملة في المحكمة ونفقاتها. الا اننا نقصر البحث على مطلبين. الاول يتناول تشكيل المحكمة اما الثاني فيتناول اختصاصها.

المطلب الاول: اجهزة المحكمة

تتكون المحكمة من ثلاثة اجهزة، الدوائر، مكتب الاعاء العام وقلم المحكمة:

اولا – الدوائر:

حسب النظام الداخلي للمحكمة قبل التعديل تتكون المحكمة من دائرتين وغرفة للاستئناف، تتشكل كل غرفة او دائرة من ثلاثة قضاة، اما غرفة الاستئناف فمن خمسة قضاة. الا النظام الاساسي قد تم تعديله بموجب قرار مجلس الامن المرقم 1329 لسنة 2000 المستند الى رسالة الامين العام للامم المتحدة الوؤرخة 7/9/2000 ومرفقيها رسالة رئيس المحكمة الدولية ليوغسلافيا السابقة الى الامين العام بتاريخ 12/5/200 . ورسالة رئيس المحكمة الدولية لرواندا المؤرخة 14/6/2000 فقد راى المجلس بان الحاجة تقتضي تشكيل فريق من القضاة وتوسيع عضوية دوائر الاستئناف لكل من المحكمتين.

اصبح عدد القضاة المستقليين الدائميين بعد تعديل المادة 12 من النظام الاساسي 16 قاضيا اضافة الى تسعة قضاة مخصصين على ان لايكون اثنان منهم من رعايا دولة واحدة (ف1 م12 المعدلة).

الحد الاقصى لعدد القضاة في كل دائرة ثلاث قضاة دائميين وستة قضاة مستقليين ويجوز تقسيم كل دائرة الى اقسام ينتدب لكل قسم ثلاثة من القضاة الدائميين والمخصصين. ويتمتع القسم بنفس صلاحيات ومسؤوليات دائرة المحاكمة (ف2 م12 المعدلة). اما دائرة الاستئناف فتتكون من سبعة قضاة دائميين وتنعقد دائرة الاستئناف من خمسة اعضاء (م12 المرفق الاول).

اما كيفية انتخاب القضاة فتتم حسب الخطوات التالية:

  • 1 – يدعو الامين العام للامم المتحدة الدول الاعضاء في المنظمة الدولية وكذلك الدول غير الاعضاء التي لها صفة المراقب الدائم الى تقديم مرشحيها.في غضون شهرين يحق لكل دولة ان تقدم مرشحا واحدا او مرشحين ممن تتوافر فيهم المؤهلات والصفات التي حددتها المادة 13 من النظام الاساسي كالخلق الرفيعة والحيدة والنزاهة. وفي حالة تقديم مرشحين الا يكونا من جنسية واحدة.
  • 2 – بعد ورود الترشيحات الى الامين العام يقوم بارسالها الى مجلس الامن. يقوم الاخير باعداد قائمة تتضمن 28 قاضيا على الاقل ولا يزيدون على 42 مرشحا مع الاخذ بنظر الاعتبار النظم القانونية الرئيسية في العالم.
  • 3 – يرسل رئيس مجلس الامن القائمة الى رئيس الجمعية العامة التي تنتخب منها 14 قاضيا دائما ممن حصلوا على الاغلبية المطلقة من اصوات الدول. اما اذا حصل قاضيان من جنسية واحدة على الاغلبية فيتم اختيار من حصل على اكثر عددا من الاصوات. ولم يتطرق النظام الى حالة ما اذا حصل القاضيان من نفس الجنسية على نفس الاصوات ولا الى حالة ما اذا كان المرشح يحمل جنسيتين.
  • 4- وفي حالة ماذا شغر احد المقاعد للقضاة الدائميين لأي سبب كالوفاة فللامين العام ان يجري مشاورات مع رئيس مجلس الامن ورئيس الجمعية العامة لتعيين بديله ممن توافر فيه الشروط المطلوبة في القاضي الاصيل.
  • 5- تكون مدة التعيين للقضاة الدائميين اربعة سنوات قابلة للتجديد، ويُطبق عليهم ما يطبق على قضاة محكمة العدل الدولية من شروط الخدمة.

اما بخصوص القضاة المخصصين فتتبع نفس الاجراءات السابقة. مع بعض الاختلافات في عدد القضاة الذين ترشحهم كل دولة حيث يصل عددهم الى اربعة قضاة على ان تراعى العدالة في تمثيل الاناث والذكور بين المرشحين، علما ان هذا شرط لم يُذكر في ترشيح القضاة الدائميين. وبعد ارسال القائمة من الامين العام الى مجلس الامن يتم وضع قائمة تتضمن 54 قاضيا. ثم تقوم الجمعية العامة بانتخاب 27 قاضيا مخصصا ممن حصل منهم على غالبية الاصوات، ولا يجوز اعادة انتخابهم (م13 مكررة).

يعين رئيس المحكمة من بين الاعضاء الدائميين ويتم انتخابه من قبلهم ويكون عضوا في دائرة الاستئناف ورئيسا لها لمدة اربع سنوات قابلة للتجديد.

ثانيا – المدعي العام:

ويكون عمله مستقلا عن المحكمة. ويتكون المكتب من المدعي العام الذي يتم تعينه لمدة اربع سنوات قابلة للتجديد من قبل مجلس الامن بناء على اقتراح الامين العام. اما باقي الاعضاء فيتم تعينهم بناء على طلب الادعاء الى السكرتير العام للامم المتحدة.

حددت المادة 18 من النظام الاساسي مصادر المعلومات التي يستند اليها المدعي العام في ممارسة مهامة بالمعلومات التي يجمعها بنفسه، او تلك التي ترد اليه من مصادر اخرى وخاصة المعلومات التي ترد اليه من الحكومات او من هيئات الامم المتحدة والمنظمات الحكومية وغير الحكومية.

ثالثا – قلم المحكمة:

يتكون من الكاتب الاول ويتم تعينه من قبل السكرتير العام للامم المتحدة بعد مشاورة رئيس المحكمة لمدة اربع سنوات قابلة للتجديد. وبناء على طلب الكاتب الاول يقوم السكرتير العام للامم المتحدة بتعيين الموظفيين المعاونين له.

المطلب الثاني: اختصاص المحكمة

يختلف الاساس القانوني لمحكمة يوغسلافيا السابقة عن الاساس القانوني لمحكمة نورمبيرغ . في ان الاولى اُنشأت بموجب قرار مجلس الامن الدولي المرقم 808 لسنة 1993 وبذلك فمصدر انشائها هو مجلس الامن، في حين انشأت محكمة نورمبيرغ بموجب اتفاقية لندن لسنة 1945. على ان كلا من المحكمتين مؤقتة ومختصة باحداث معينة. واذا كان الاختصاص الشخصي لمحكمة نورمبيرغ هو محاكمة كبار النازيين الذين ارتكبوا جرائم خلال الحرب العالمية الثانية، وتركت جرائم باقي المتهمين لمحاكم اخرى، فان الاختصاص الشخصي لمحكمة يوغسلافيا تناول كل المتهمين بارتكاب جرائم منذ عام 1991 في يوغسلافيا السابقة ولم تستثن احدا ولذلك استعانة باجراءات التسليم او الاسترداد والمساعدة القضائية بين الدول خاصة بالنسبة للجرائم غير الجسيمة. على ان ليس كل الجرائم المرتكبة خلال الحرب الاهلية في يوغسلافيا تدخل في اختصاص المحكمة. لهذا نبحث اختصا ص محكمة يوغسلافيا في فقرتين نخصص الاولى الى الاختصاص النوعي فيما نفرد الثانية الى الاختصاص الشخصي.

اولا – الاختصاص النوعي:

تبنت المواد 3،4،5 من النظام الاساسي تحديد الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة وهي:

  • 1- جرائم الحرب: وهي الافعال التي تشكل انتهاكا لاتفاقيات جنيف لعام 1949، كالقتل العمد، التعذيب، المعاملة اللاانسانية بما فيها التجارب البيولوجية وغيرها من الجرائم التي ذكرتها المادة الثانية. كذلك الافعال التي تشكل خرقا لقوانين الحروب واعرافها، كاستخدام الاسلحة السامة، تدمير المدن، التدمير غير المبرر بالضرورات العسكرية وغيرها من الجرائم التي اوردتها المادة الثالثة.
  • 2 – جرائم الابادة الجماعية: عرفت الفقرة الثانية من المادة الرابعة من النظام جريمة الابادة بانها ( ايا من الافعال التالية، المرتكبة بقصد التدير الكلي او الجزئي لجماعة لصفتها القومية او الاثنية او العنصرية او الدينية )، كقتل اعضاء الجماعة او التسبب في ضرر مادي او معنوي لها وغيرها من الجرائم التي ذكرتها الفقرتين ( 2-3).
  • 3 – الجرائم ضد الانسانية: وقد تناولتها المادة الخامسة من النظام كالقتل العمد ، الابعاد، الاسترقاق، السجن، التعذيب وغيرها من الافعال الموجهة ضد السكان المدنيين اذا ارتكبت اثناء النزاع المسلح سواء اكان النزاع دوليا او محليا.

ثانيا – الاختصاص الشخصي:

اشارت المادة السادسة من النظام الاختصاص الشخصي للمحكمة الذي يتناول فقط الاشخاص الطبيعين وهو بذلك لايشمل الاشخاص المعنوية. وكان المفروض ان يشمل اختصاصها المنظمات او الجمعيات التي ينتمي الىها المتهمون لتساير في ذلك محكمة نورمبيرغ . الا ان النظام الاساسي لمحكمة يوغسلافيا كان اكثر بعدا عن العدالة من النظام الاساسي لمحكمة نورمبيرغ في هذا الصدد.

واذا كان الاختصاص الشخصي يشمل الاشخاص الطبيعيين فقط فهو لايقتصر على الفاعليين الاصليين وانما يشمل من خطط او حرض ومن اصدر الاوامر لارتكاب الجرائم، ومن ساعد او شجع على الافعال التي تضمنها النظام. ويُسال الشخص بصفته الشخصية المادة(7/1). ولا تكون الصفة الرسمية سببا لاعفاء الشخص من المسؤولية او لتخفيف العقوبة (7/2)، ولا يعفى الرؤوساء من المسؤولية عن اعمال مرؤوسيهم اذا كانوا على علم بها او يمكنه ان يعلم بها ولم يتخذ الاجراءات لمنع وقوعها او معاقبة من تسبب فيها، كما لايستطيع المرؤوس ان يتذرع بتنفيذ الاوامر كسبب لاعفائه من المسؤولية (7/3،4). وهذه المبادئ اقرها النظام الاساسي لمحكمة نورمبيرغ كما راينا.
ومما تجدر الاشارة اليه هو ان اختصاص المحكمة متزامن مع اختصاص القضاء الوطني مع شرط الاسبقية الى المحكمة الدولية. ففي اية مرحلة تكون عليها الدعوى في المحاكم الوطنية يحق للمحكمة الدولية ان تطلب من الاولى التوقف عن النظر فيها واحالتها اليها (9/1،2).

كما ان للحكم الذي تصدره المحكمة الدولية حجية امام المحاكم المحلية. وبهذا تمتنع الاخيرة من النظر في دعوى سبق وان اصدرت المحكمة الدولية حكما فيها. ونفس الامر ينطبق بالنسبة للاحكام التي تصدرها المحاكم المحلية الا ان الامر ليس مطلقا حيث ترد عليه استثناءات اوردتها المادة العاشرة كأن يكون القضاء الوطني غير محايد، او ان المحاكمة اتخذت هدفا لتبرئة المتهم.

واذا كان القضاء يعتبر مظهرا من مظاهر السيادة للدولة، فان اعطاء الاولوية الى المحكمة الدولية على المحاكم المحلية فيه مساس بسيادة الدول، الامر الذي تم تلافيه في المحكمة الجنائية الدولية الدائمة كما سنرى. اضافة الى ان الجانب السياسي له تأثيره الواضح على الجانب القضائي سيما وان مصدر انشاء المحكمة هو مجلس الامن وبذلك تعتبر جهازا تابعا له.

على ان انشاء هذه المحكمة من قبل مجلس الامن بدلا من الجمعية العامة للامم المتحدة كان سببا لتوجيه النقد اليها كونها لا تقوم على اساس دولي واسع النطاق. كما انها انشأت بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة والذي يبيح لمجلس الامن اتخاذ التدابير اللازمة لصيانة او اعادة السلم والامن الدولي، ومن غير المتفق عليه ان تكون المحكمة مقياسا لذلك.

ورغم ما وجه اليها من انتقادات فهي اول محكمة منذ الحرب العالمية الثانية بعد محكمتي نورمبيرغ وطوكيو، ونجاحها كان سببا لانشاء المحكمة الجنائية الدولية لرواندا عام 1994، وفقا لما قاله القاضي تيودور ميرون ، وقد اثمرت المحكمتان القانون الجنائي اكثر من المحكمتين السابقتين، اضافة الى انهما سرعتا في انشاء المحكمة الجنائية الدولية.

المبحث الثاني: المحكمة الجنائية الدولية لرواندا

بعد المجازر التي حدثت في رواندا اثر الصراع العرقي الذي نشب بسبب عدم اشتراك بعض القبائل في الحكم وكانت نتيجته الالاف من الضحايا. ولم تنحصر نتائج الصراع على رواندا بل امتدت لتشمل دولا افريقية اخرى. وبعد محاولات الاتحاد الافريقي للحد من الانتهاكات التي لم تفلح بايقاف الجرائم، وكذلك الجهود الدولية الامر الذي اضطر معه مجلس الامن الدولي الى اصدار قراره المرقم 935 لسنة 1994 مستندا الى تأكيد الامين العام للامم المتحدة المؤرخ 21/5/1994 باستمرار المذابح واعمال القتل المتعمد طالبا اجراء تحقيق لتحديد المسؤولية عما يجري في رواند.

طلب مجلس الامن من الامين العام انشاء لجنة خبراء لدراسة المعلومات المقدمة، اضافة الى المعلومات التي تحصل عليها اللجنة من تحقيقاتها الخاصة، وتقدم تقريرا بكل ما توصلت اليه بشأن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الانساني الى الامين العام الذي يقوم بتقديم تقريره الى مجلس الامن. وفعلا قدم الامين العام تقريره الى مجلس الامن بتاريخ 13/5/1994.

ان وتيرة الاحداث في رواندا بدأت تتصاعد رغم التحذيرات ومناشدات مجلس الامن الامر الذي دفع بمجلس الامن الى اصدار قراره المرقم 955 في 8/11/1994 المتضمن انشاء محكمة جنائية دولية بناء على طلب حكومة رواندا مهمتها محاكمة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في رواندا وغيرها من الجرائم التي ارتكبت في الدول المجاورة بعد فرار اللاجئين اليها وللفترة من 1/1/1994ولغاية 1/12/1994 واُرفق بالقرار النظام الاساسي للمحكمة. طالبا من السكرتير العام للامم المتحدة ان يقوم بتنفيذ قراره باسرع وقت ممكن.

يتضمن النظام الاساسي لمحكمة رواندا (32) مادة . نصت المادة الاولى على اختصاص المحكمة، حيث يشمل الاشخاص المتهمين بانتهاكات خطيرة للقانون الانساني الدولي في رواندا، وكذلك الروانديون ممن ارتكب نفس هذه الافعال في الدول المجاورة بعد فرار اللاجئين اليها.

ما خلا بعض الاختلافات القليلة مع محكمة يوغسلافيا السابقة فهي تتطابق معها من حيث اجهزتها التي تتكون من الدوائر والمدعي العام والقلم. اما طريقة انتخاب القضاة والمدعين العاميين وموظفي القلم فهي تماما كطريقة انتخاب اعضاء هذه الاجهزة في محكمة يوغسلافيا. وللمحكمتين دائرة استئناف واحدة مقرها في محكمة يوغسلافيا. لذلك سنضرب صفحا عن معلومات تعتبر مكررة ولا فائدة من اعادة تكرارها.

الفصل الرابع: المحكمة الجنائية الدولية الدائمة

على الرغم من ان فترتي ما بعد الحربين العالميتين والحرب الباردة قد شهدت انشاء اربع محاكم جنائية دولية، الا ان محدودية اختصاصاتها من حيث الزمان والمكان كونها محاكم مؤقتة تختص بأحداث معينة وقعت في بلدان بعينها وخلال فترات محدودة. الا ان لها الاثر الكبير على تنامي شعور المجتمع الدولي بالحاجة الى وجود آلية لملاحقة انتهاكات القانون الدولي. ومن جانب آخر ارست قواعد دولية خاصة بالمسؤولية الجنائية الدولية للفرد. الامر الذي انعكس ايجابيا على الجهود الدولية، فكانت خطوات هامة لاقامة قضاء جنائي دولي دائم. فاناطت الجمعية العامة للامم المتحدة بلجنة القانون الدولي مهمة اعداد مشروع النظام الاساسي لانشاء محكمة دولية دائمة.

قررت الجمعية العامة للامم المتحدة في 9/12/1994 انشاء لجنة لدراسة المسائل الفنية والادارية لمشروع النظام الاساسي والذي اعدته لجنة القانون الدولي، وحددت اجتماعات اللجنة في دورتين الاولى من 3-13/4/1995 والثانية من 14-25/8/1995. اصدرت الجمعية العام في دورتها الخمسين قرارها المرقم 50/46 في 18/12/1995 اشارت فيه الى ان لجنة القانون الدولي اعتمدت مشروع المحكمة واوصت بعقد مؤتمر دولي للمفوضين لغرض دراسة المشروع وعقد اتفاقية لأنشاء محكمة جنائية دولية. كما اشارت الى ان اللجنة المخصصة المشكلة لانشاء محكمة قد خطت خطوات كبيرة في دراسة القضايا الادارية والفنية في المشروع. وذكرت الخلاف الذي لازال قائم من قبل بعض الدول المشاركة حول بعض المسائل الفنية والادارية. الامر الذي استوجب تشكيل لجنة تحضيرية تشترك فيها جميع الدول الاعضاء في المنظمة او اعضاء الوكالات المتخصصة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، تكون مهمتها مناقشة المسائل المختلف حولها، وعلى ضوء النتائج التي يتم التوصل اليها تقوم اللجنة بصياغة النصوص. كما حددت اجتماعات اللجنة المذكورة في دورتين الاولى من 25/3/الى 12/4 والدورة الثانية من 12-30/8/1996 على ان تقدم تقريرها الى الجمعية العامة في الدورة (51) 1996.

بعد ذلك اصدرت الجمعية العامة بتاريخ 17/12/1996 قرارا حددت فيه ثلاث فترات تجتمع فيه اللجنة التحضيرية لانهاء المهمة الموكولة اليها
الاولى من 10-21/2/قامت اللجنة خلالها بتشكيل مجموعتي عمل. الاولى وتنحصر مهمتها في تعريف الجرائم ، بينما تختص الثانية بالمبادئ العامة للقانون الدولي.
الثانية من 4-15/8/1997 تناولت اللجنة خلالها بحث الاختصاص التكميلي وكيفية تحريك الدعوى والقواعد الاجرائية.
وتعقد اجتاماعاتها في الفترة الثالثة من 1-12/12/1997. شكلت خلالها عدة مجاميع لدراسة وضع تعريف لجرائم الحرب والمبادئ العامة للقانون الجنائي الدولي والعقوبات والتعاون مع المحكمة والمساعدة القضائية (20).

بعد ان اتمت اللجنة المهام الموكلة اليها عقد مؤتمر الامم المتحدة الدبلوماسي للمفوضين الخاص بانشاء محكمة جنائية دولية دائمة للفترة من 15/6 – 17/7 1998 في روما الايطالية وتمخضت هذه الولادة العسيرة عن انشاء قضاء جنائي دولي دائم. نبين فيما يلي تشكيلها واختصاصها في ثلاث مطالب.

المبحث الاول: اجهزة المحكمة وتشكيلاتها

من نتائج المؤتمر الدبلوماسي في روما انبثاق ميثاق المحكمة الجنائية ويطلق عليه ( نظام روما الاساسي ) بعد ان وافقت عليه 120 دولة وامتنعت 21 دولة عن التصويت فيما عارضته سبع دول. وبمرور ستين يوما من مصادقة ستين دولة علية وهو ماحصل فعلا في 10/4/2002 تم اعلان تشكيل المحكمة.

دخل النظام الاساسي حيز النفاذ في 1/7/2002 ويتألف من ديباجة بينت الاسباب الموجبة لانشاء محكمة ومن بينها ماحصل في القرن الماضي من احداث ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر وما تسببت فيه الحروب من فضائع يجب الا تمر دون معاقبة مرتكبيها حتى يتم وضع حد لافلات المجرمين من العقاب.

يشتمل الميثاق على 13 بابا وكما يلي:

  • الباب الاول : يتضمن المواد (1-4) الخاصة بأنشاء المحكمة.
  • الباب الثاني : تناول المسائل المتعلقة بالاختصاص والمقبولية والقانون الواجب التطبيق في المواد (5-21)
  • الباب الثالث: يشمل المواد (22-33) والخاصة بالمبادئ العامة للقانون الجنائي.
  • الباب الرابع : المواد (34-52) حول كيفية تكوين المحكمة وادارتها.
  • الباب الخامس : المواد (53-61) وتناول التحقيق والمقاضاة.
  • الباب السادس : فتناول المحاكمة في المواد (62-76).
  • الباب السابع : فيما اختص هذا الباب في العقوبات في المواد (77-80).
  • الباب الثامن : اما الاستئناف واعادة النظر فكان من نصيب المواد (81-85).
  • الباب التاسع : المواد (86-102) ويخص التعاون الدولي والمساعدة القضائية.
  • الباب العاشر : (103-111) الخاصة بالتنفيذ.
  • الباب الحادي عشر : تضمن مادة واحدة (112) واختص بجمعية الدول الاطراف.
  • الباب الثاني عشر :المواد (113-118) ويختص بالتمثيل.
  • الباب الثالث عشر: يتضمن الاحكام الختامية كتسوية المنازعات والتحفظات، والتعديلات التي تطرأ على الاحكام والتوقيع والتصديق وغيرها تناولتها المواد (119-128).

تتكون المحكمة من اربع دوائر، هيئة الرئاسة ، دوائر المحكمة من استئناف وابتدائية وتمهيدية، المدعي العام، قلم المحكمة. يتم تشكيل الدائرتين الاولى والثانية من القضاة الذين يتم انتخابهم. اما الدائرة الثانية فتتكون من المدعي العام ونوابه ومستشاريه. والدائرة الاخيرة تضم المسجل ونائبه(21).

اولا- تشكيل المحكمة:

عدد القضاة الذين يشكلون الدوائر الثلاث في المحكمة والرئاسة 18 قاضيا. اما كيفية اختيارهم فتتم بالشكل التالي:

تقوم كل دولة طرف في نظام روما الاساسي بتقديم مرشح واحد ولا يشترط فيه ان يكون من رعاياها، ولكن يجب ان يكون من رعايا احدى الدول الاطراف في نظام روما. على ان تكون الترشيحات مصحوبة ببيان مفصل يشتمل على توافر الشروط المطلوبة ومنها الكفاءة في مجال القانون الجنائي والكفاءة في مجال القانون الدولي وله خبرة تؤهلة لممارسة هذا العمل، اضافة الى تحليه بالاخلاق والنزاهة والحيادية الى غيرها من الصفات التي تؤهله للمناصب العليا في دولته (م36من النظام).

لجمعية الدول الاطراف – وهي جمعية تنشأ بموجب النظام الاساسي ويكون لكل دولة طرف ممثل واحد فيها يمكن ان يساعده مناوبون ومستشارون ولها مكتب يتكون من رئيس ونائبين و18 عضو يتم انتخابهم من قبل الجمعية لمدة ثلاث سنوات – ان تنشأ لجنة استشارية مهمتها النظر في الترشيحات. يتم اعداد قائمتين الاولى تتضمن اسماء القضاة الذين تتوافر فيهم الشروط المطلوبة في المادة (36). اما القائمة الثانية فتشمل اسماء القضاة الذين لهم كفاءة في مجال القانون الدولي مثل القانون الانساني الدولي وقانون حقوق الانسان.
يتم انتخاب تسعة قضاة من القائمة الاولى على الاقل وخمسة قضاة من القائمة الثانية وذلك في الانتخاب الاول للمحكمة. اما الانتخابات اللاحقة فتنظم مع الاحتفاظ بنسب القضاة الواردة بين القائمتين. ثم تنتخب جمعية الدول الاطراف وعن طريق الاقتراع السري ويم اختيار 18 قاضيا ممن حصل على اكبر عدد من الاصوات وهي اغلبية ثلثي الدول المصوته. مع مراعاة التوزيع الجغرافي والنظم القانونية الرئيسية في العالم. اما في حالة عدم اختيار العدد المطلوب من القضاة فتجري عمليات اقتراع اخرى.

يجوز لهيئة الرئاسة في المحكمة ان تقترح زيادة عدد القضاة في المحكمة مع بيان الاسباب الموجبة لهذه الزيادة. يُعمم الاقتراح على الدول الاعضاء ويتم اعتماده اذا ماتمت الموافقة عليه من قبل جمعية الدول الاطراف باغلبية ثلثي اعضائها وينتخب الاعضاء الجدد خلال الدورة التالية لجمعية الدول الاطراف. كما يجوز لهيئة الرئاسة اقتراح خفض الزيادة في عدد القضاة بعد زوال الاسباب التي بررتها، ويتم بنفس الطريقة التي اعتمدت فيها زيادة عدد الاعضاء، مع ملاحظة ان لايقل عدد اعضاء المحكمة في اي حال عن 18 قاضيا.

واذا ما شغر مكان احد القضاة لاي سبب كان فيتم اختيار قاضي بدلا عنه بنفس الطريقة السابقة وممن تتوافر فيه الشروط المطلوبة، على ان يكمل القاضي البديل المدة المتبقية لسلفه واذا كانت المدة ثلاث سنوات يجوز اعادة انتخابه لولاية اخرى(م37).

بعد ان يتم اختيار القضاة يأتي دورهم لانتخاب رئيس للمحكمة ونائبين له، لمدة تتراوح بين ثلاث سنوات او لحين انتهاء عمله كقاضي اي الفترتين اقرب، ويمكن تجديد انتخابهم لفترة اخرى. من واجبات هيئة الرئاسة ادارة المحكمة باستثناء مكتب المدعي العام الذي يعتبر جهاز مستقل عن المحكمة على ان ذلك لايمنع ان تقوم هيئة الرئاسة بالتنسيق معه. ويحل النائب الاول محل الرئيس في حال غيابه لاي سبب، كما يحل النائب الثاني محلهما حال غيابهما.

بعد ذلك يتم توزيع القضاة على الشعب، حيث تتكون المحكمة من ثلاث شعب، على ان يراعى في التوزيع مؤهلات القاضي. حيث اشرنا الى اعتماد قائمتين من القضاة ، والشروط الواجب توافرها في مرشحي القائمة الاولى تختلف عن الشروط اللازم توافرها في اسماء القائمة الثانية. فيكون خمسة قضاة لشعبة الاستئناف، اربعة اعضاء ورئيس. يستمرون في العمل بهذه الشعبة طيلة فترة ولايتهم.

فيما تتألف الشعبة الابتدائية من ستة قضاة، يراعى في اختيارهم اختلاف الخبرات كأن تكون مزيجا من القانون الجنائي والاجراءات الجنائية وغيرها. يعين ثلاث قضاة للدائرة الابتدائية من قضاة الشعبة الابتدائية. ويمكن تشكيل اكثر من دائرة ابتدائية اذا ما اقتضت ظروف العمل ذلك.

وتتألف الشعبة التمهيدية من ستة قضاة. يتولى مهام الدائرة التمهيدية اما ثلاثة قضاة او قاضي واحد.

وقد وضعت الفقرة الرابعة من المادة (39) من النظام الاساسي ضوابط لانتقال القضاة بين الدوائر داخل المحكمة. فالقضاة الاعضاء في شعبة الاستئناف لا يعملون الا في هذه الشعبة ولا يحق لهم العمل في الشعب الادنى. ولكن يجوز لقاضي الشعبة الابتدائية ان يلتحق مؤقتا بشعبة ما قبل المحكمة ( الشعبة التمهيدية )، كما يجوز لقاضي الشعبة الاخيرة الالتحاق بالشعبة التمهيدية، ولكن يشترط في حالة الانتقال من الشعبة التمهيدية الى الشعبة الابتدائية ان لا ينظر القاضي دعوى في هذه الشعبة سبق له النظر فيها في الشعبة التمهيدية.

ثانيا – مكتب المدعي العام:

يعتبر مكتب المدعي العام جهازا منفصلا عن اجهزة المحكمة تحقيقا لاستقلاليته. ويتكون من رئيس المكتب الذي هو المدعي العام، ويتولى ادارة المكتب يساعده نائب مدعي عام واحد او اكثر يقومون باعمال هي من صلاحية المدعي العام. ويشترط ان يكون المدعي العام ونوابه من جنسيات مختلفة. كما يشترط فيهم التحلي بالاخلاق الحميدة ولهم خبرة في مجال عملهم او في مجال القضاء الجنائي.

يتم انتخاب المدعي العام من قبل جمعية الدول الاطراف. كما يتم انتخاب نوابه بنفس الطريقة من قائمة المرشحين المقدمة من قبل المدعي العام. حيث يقوم بترشيح ثلاثة اسماء لشغل كل منصب من مناصب نوابه. تكون فترة انتخاب المدعي العام ونوابه لمدة تسع سنوات غير قابلة للتجديد.

ثالثا- قلم المحكمة:

يتولى رئاسة قلم المحكمة المسجل، ويكون مسؤولا اداريا للمحكمة يمارس اعماله تحت سلطة رئيس المحكمة، ويكون له نائبا. ويشترط فيهما تمتعهما بالاخلاق الرفيعة والكفاءة العالية في مجال عملهما.

ينتخب المسجل من قبل القضاة عن طريق الاقتراع السري ويختار من يحصل على الاغلبية المطلقة. وعلى القضاة الاخذ بنظر الاعتبار توصية جمعية الدول الاطراف في هذا المجال. اما بالنسبة الى نائب المسجل فيتم انتخابه من قبل القضاة ايضا وبنفس الطريقة التي تم فيها انتخاب المسجل. وتكون فترة انتخاب المسجل خمس سنوات قابلة للتجديد.

اما باقي موظفي القلم فيتم تعينهم من قبل المدعي العام والمسجل، وبالتنسيق بينهما يتم اقتراح النظام الاساسي للموظفين على ان توافق عليه جمعية الدول الاطراف.

المبحث الثاني: اختصاص المحكمة

يعتبر موضوع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية من اكثر الموضوعات التي دار حولها جدل كثير. فاذا كان مجلس الامن قد حلَ هذا الاشكال بمنح محكمتي يوغسلافيا ورواندا الاختصاص المتزامن مع القضاء الوطني بالاضافة الى شرط الاسبقية للمحكمتين. الا ان شرط الاسبقية اثار مخاوف الكثير من الدول حيث شعرت ان اعطاء شرط الاسبقية الى المحكمة الجنائية الدولية الدائمية على القضاء المحلي ينتقص من سيادتها. فكان لابد من ايجاد علاقة جديدة بين القضاء الوطني والمحكمة المزمع انشائها توفق بين مسألتين، الاولى الحفاظ على سيادة الدولة، والثانية عدم افلات المجرمين من الملاحقة والمسائلة (22).

تولدت فكرة التكاملية بين المحاكم المحلية والمحكمة الدولية. بان يكون الاصل في الاختصاص للنظر في دعوى معينة للقضاء الوطني. اما في حالة وقوع فعل مما تنطبق علية جريمة دولية تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ولم تدع دولة ان الفعل المذكور يدخل في اختصاص قضائها الوطني، او ان الدولة التي يدخل الفعل في اختصاص قضائها قد قد اخفقت في اجراء المحاكمة او انها لم تكترث او كان لديها سوء نية، ففي هذه الحالة يأتي دور المحكمة الجنائية الدولية لتحقيق العدالة (23).

وهذا ما اكدته ديباجة نظام روما الاساسي بقولها ( واذ تؤكد ان المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام الاساسي ستكون مكملة للاختصاصات القضائية الجنائية الوطنية ). وما اكدته المادة الاولى من النظام الاساسي ايضا.

وبذلك فان مبدأ الاختصاص التكاملي المنصوص عليه في النظام الاساسي يرسم الحدود الفاصلة بين اختصاصات القضاء الوطني واختصاص القضاء الدولي ويعتبر من اهم المبادئ الاساسية التي تقوم عليها المحكمة الدولية. وباتباع مبدأ التكامل في الاختصاص فسوف لن يكون القضاء الدولي بديلا عن القضاء الوطني ولا يحل محله. وعليه فان الصفة الدولية للجريمة لاتكفي وحدها لتكون مشمولة بالولاية المحكمة الدولية. كما لا تزاحم المحكمة الدولية القضاء المحلي ولا يكون له شرط الاسبقية الا في الاحوال التي بينتها المادة (17،ف1) من النظام الاساسي (24).

الاختصاص النوعي:

يستند هذا الاختصاص على نوع الجرائم التي نص عليها النظام الاساسي فقد اوردت المادة الخامسة منه الجرائم الاشد خطرا والتي اشارت اليها الفقرة الاولى وهي:

1- جرائم الابادة الجماعية:

وهي اشد الجرائم الدولية ضررا وجسامة لانها تستهدف الانسان لانسانيته. ولم ينفرد نظام روما بذكر الابادة الجماعية بل سبقه الى ذلك النظام الاساسي لكل من محكمة يوغسلافيا السابقة ورواندا. وقد جاء تعريف جريمة الابادة في الانظمة الثلاثة مطابقا لما ورد في اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، لذلك فهو تعريف مستقر منذ اكثر من خمسة عقود.

واوردت المادة السادسة تعريفا لجريمة الابادة وتحديدا للافعال التي تشكل الركن المادي لها، وقد وردت في الصكوك الدولية ولم تشترط لقيام الجريمة ان يؤدي الفعل المرتكب الى التدمير الكلي او الجزئي للجماعة بل يكفي توافر النية الاجرامية. كما لايشترط لتحقق الركن المادي القيام بفعل ايجابي من الافعال التي اوردتها المادة اعلاه، انما يتحقق السلوك الاجرامي في حالة الامتناع عن القيام بفعل يحول دون ارتكاب الجريمة، كالواجب الذي يفرضه القانون على الشخص. وهذا ما اخذت به محكمة رواندا بحق رئيس وزراء رواندا اذ وجدته المحكمة مسؤولا عن جريمة الابادة الجماعية لعدة اسباب منها امتناعه عن القيام بواجبه بصفته هذه والتي تفرض عليه القيام بما يلزم لوقف المذابح. ومن هنا يتبين ان الامتناع يجب ان يكون مخالفا لواجب يفرضه القانون على الممتنع. ولنفس السبب تتحقق مسؤولية الرئيس عن اعمال مرؤوسيه.

اضافة الى ان محكمة رواندا ادخلت الاغتصاب كفعل يتسبب في ضرر جسيم في احد افراد الجماعة رغم ان صور الافعال الواردة في تعريف الابادة الجماعية لاتشتمل عليه. الا ان المحكمة رأت ان فعل الاغتصاب جريمة ابادة لما يسببه من تدمير جسدي ونفسي، اذا تم اختيار النساء اللواتي اصبحن ضحايا هذا الاعتداء لكونهن ينتسبن الى جماعة معينة.

اما بخصوص الركن المعنوي لهذه الجريمة. فلا يكفي لقيامها القصد العام بل لابد من القصد الخاص. اي لايكفي حتى نكون امام فعل يشكل جريمة الابادة الجماعية ان يكون الفاعل عالما بالصفة الجرمية للفعل ومع ذلك اتجهت ارادته الى ارتكابه، وانما لابد من ان تتجه ارادته لتحقيق قصد معين وهوهنا التدمير الكلي او الجزئي لجماعة معينة بسبب دينها او اثنيتها او عرقها. علما ان القصدين العام والخاص يتفقان من حيث عنصري العلم والارادة، ولكن القصد الخاص اكثر اتساعا من القصد العام في انه يشترط لتحققه الغاية او الهدف من وراء اتجاه الارادة لسلوك معين.

2- الجرائم ضد الانسانية:

اوردتها المادة السابعة من النظام وهي الافعال التي ترتكب اثناء هجوم واسع النطاق او ممنهج على مجموعة من السكان المدنيين، كالقتل، الابادة، الابعاد القسري، الحرمان الشديد من الحرية البدنية والتعذيب وغيرها من الافعال. وتشكل الافعال المذكورة والتي تمس مصالح الفرد او المجموعة التي تشترك بالدين او بالعقيدة او العرق جرائم ضد الانسانية.

ولا يشترط فيها ان تقع اثناء الحرب، بل تتحقق صفتها باعتبارها جرائم ضد الانسانية سواء وقعت قبل او اثناء او بعد الحرب. كما لا يشترط ان تكون مرتبطة بغيرها من الجرائم الدولية، كما كانت تشترط لائحة نورمبيرغ حيث اشترطت ارتباطها بالجرائم ضد السلام او جرائم الحرب. وهو اتجاه انتقد من قبل الفقه لعدم وجود ما يبرر هذه العلاقة.

واذا كانت المادة السابعة قد حددت الافعال التي تشكل الركن المادي للجريمة فان الركن المعنوي لا يتحقق بتوفر القصد العام بل لابد من تحقق القصد الخاص. حيث لايكفي العلم والارادة ولكن يشترط الهدف والغاية من سلوك الارادة للقيام بهذا الفعل. وبتخلف الهدف او الغاية من الفعل يتخلف الركن المعنوي للجريمة باعتبارها جريمة ضد الانسانية وان انطبق عليه وصف جريمة اخرى (25).

3- جرائم الحرب:

اوردت المادة الثامنة من النظام الاساسي تعريفا لها وحددتها في الافعال التالية:
– الافعال التي تشكل خرقا جسيما لاتفاقيات جنيف 1949 كالقتل العمد، التعذيب، المعاملة اللاانسانية، الحاق اذى خطير بالجسم او بالصحة …الخ.
– اي انتهاك لقوانين واعراف الحرب كالهجمات على السكان المدنيين، وتوجيه هجمات ضد مواقع مدنية …الخ.
– الافعال التي تقع اثناء نزاع لا يحمل الصفة الدولية، وهي الانتهاكات التي اوردتها المادة الثالثة المشتركة لاتفاقيات جنيف 1949 كالافعال المرتكبة ضد اشخاص غير المشتركين بالافعال الحربية، بمن فيهم افراد القوات المسلحة الذين القوا السلاح او الذين اصبحوا عاجزين عن مواصلة القتال.
يتحقق الركن المادي لهذه الافعال بوقوع احد الافعال التي ذكرتها المادة الثامنة، وعلى هذا لا تعتبر الافعال التي تقع قبل الحرب او بعدها من قبيل جرائم الحرب اذ ان اهم عنصر في تحققها وقوعها اثناء الحرب.

ويكفي القصد العام لتحقق الركن المعنوي لهذه الجرائم. فيكفي العلم وان تتجه الارادة للقيم بهذا الفعل اوذاك. ولا نكون امام جريمة اذا كان الفاعل يعتقد ان ماقام به لايشكل جريمة بموجب القانون، وانما ما قام به هو دفاعا عن النفس اباحه ميثاق الامم المتحدة المادة (51) مثلا.

4 – جرائم العدوان :

وقد اُجل النظر فيها من قبل المحكمة لحين وضع تعريف لهذه الجريمة. مع العلم ان الامم المتحدة قد توصلت الى تعريف للعدوان بموجب قرار لها صدر عام 1974 . وقد احسنت الدول صنعا بعدم الاخذ بالتعريف المذكور للعدوان لانه تعريف ناقص لايشتمل الا على عنصر واحد لتحقق الجريمة وهو عنصر استخدام القوات المسلحة وكان من الاولى ان يتضمن التعريف اضافة الى الاعمال العسكرية العدوان الاقتصادي والسياسي .

الاختصاص الشخصي:

ينحصر الاختصاص الشخصي للمحكمة الدولية بالاشخاص الطبيعيين كما اشارت الى ذلك المادة (25) من النظام سواء ارتكب الشخص الطبيعي الفعل الذي يشكل جريمة بمفرده او اشترك مع آخر في ارتكابه، او ارتكب الفعل مباشرة او بواسطة شخص آخر سواء كان الشخص الوسيط غير مسؤول جنائيا او انه على علم بما قام به وبالتالي فهو مسؤول كمن حرضه على ارتكاب الجريمة، او انه اصدر امرا او اغرى شخصا، على انه يجب ان يكون الفعل قد وقع فعلا. او الشروع فيه على ان تكون النتيجة الجرمية قد تخلفت لاسباب خارجة عن ارادة الفاعل.

ويستثنى من ذلك العدول الاختياري كما لو اختار الجاني بنفسه وبمحض ارادته ان لا يتم الجريمة بعد ان بدأ بتنفيذها، وهو اتجاه سليم لافساح المجال امام الجناة للعدول عما تورطوا فيه، اضافة الى ان عدولة عن اتمام الجريمة دليل على عدم خطورته. يشترط في العدول حتى يكون غير معاقب عليه ان يكون بمحض ارادة الجاني، ولا يهم بعد ذلك الباعث على العدول كالندم او التوبة او الخوف من العقاب.

اما العدول الاضطراري والذي يكون لسبب خارجي لا علاقة له بارادة الجاني فان الشروع يتحقق وينطبق عليه الشطر الاول من الفقرة (و) المادة (25). كما لا عبرة بالعدول الاختياري الذي يحصل بعد اتمام الشروع في الجريمة. اما بالنسبة الى التوبة الايجابية فهي غير مشمولة بهذه الحالة مما يعني ان مسؤولية الجاني عن الجريمة قد تحققت كاملة، الا انها يمكن ان تأخذ بها المحكمة كسبب لتخفيف العقوبة.

اخذ نظام روما بما اخذت به دساتير المحاكم المؤقته السابقة من عدم الاعتداد بالصفة الرسمية للمتهم.، فهي لا تعفي المتهم من المسؤولية لصفته كما لا تعتبر هذه الصفة سببا مخففا للعقوبة، ولا تعتبر الحصانات التي يتمتع بها الشخص مانعا من مثوله امام المحكمة او انها تمنع المحكمة من ممارسة ولايتها على ذلك الشخص.

المبحث الثالث: تقييم المحكمة الجنائية الدولية الدائمة

بعد مخاض عسير استمر عقودا جاءت ولادة المحكمة الدولية استجابة لمطالب المجتمع الدولي لتعقب مرتكبي الجرائم الدولية ومحاكمتهم. تضمن النظام الاساسي للمحكمة تحديد الاختصاص النوعي لها بتحديده وتعريفه الجرائم التي يكون لها النظر فيها. فهي الجهة المختصة في محاكمة الاشخاص المتهمين بارتكاب جرائم ضد الانسانية وجرائم حرب وجرائم الابادة الجماعية، كما يحق لها النظر في جرائم العدوان بعد وضع تعريف لها.

من اهم ماتمتاز به المحكمة هو ان تشكيلها يعتبر عامل ردع لمن تسول له نفسه انتهاك حقوق الانسان، وفعلا قامت المحكمة بواجبها ففي كانون ثاني 2004 كان الرئيس الاوغندي Yoweri Museveni اول رئيس دولة يُحال بقضية تخص بلاده الى المحكمة الجنائية الدولية. وفي تشرين اول 2005 اصدرت المحكمة لوائح اتهام الى خمسة من كبار ضباط جيش الرب. كما اصدرت اول مذكرة اعتقال رسمية ضد جوزيف كوني زعيم جيش الرب، حيث اتهمه المدعي العام بارتكاب 33 جريمة ضد الانسانية وجرائم اخرى ارتكبها منذ تموز 2002 تاريخ سريان قانون روما.

وفي مارس 2005 اتخذ مجلس الامن خطوة غير مسبوقة باحالته قضية دارفور في السودان الى المحكمة الجنائية الدولية، وفي نيسان من نفس العام قدمت الامم المتحدة قائمة تشتمل على 51 مواطن سوداني متهم الى المحكمة، الا ان الحكومة السودانية وعلى لسان الرئيس السوداني اوعد الا يسلم احدا الى المحكمة.

ولذلك قد يتفائل البعض في ان هذه المحكمة تضع حدا لمثل هذه الجرائم، الا ان الناظر الى الواقع يرى تدخل السياسة في عملها. والسبب في ذلك ان نظامها الداخلي لم يبعدها تماما من مناورات الدول الكبرى، ومن جهة اخرى تبقى ارادة الدول متحكمة في عمل المحكمة. فكثيرة الجرائم الدولية التي ارتكبت في فلسطين ومنها مجزرة جنين والتدمير لجماعة الفلسطينيين وجدار الفصل العنصري الملتف حول الاراضي الفلسطينية الى غيرها من الجرائم التي لاتزال تُرتكب الى اليوم والمحكمة مكبلة بقيود ارادة الدول الكبرى.

وعندما ارتكبت الجرائم في دارفور احال مجلس الامن القضية الى المدعي العام واصدرت الامم المتحدة قائمة تتضمن 51 سوداني تحركت الولاية القضائية للمحكمة. وبما ان مجلس الامن يكيل بمكيالين في القضايا السياسية ولعلاقة التبعية التي تربط المحكمة بمجلس الامن ومدى تدخل الجانب السياسي بالجانب القانوني وتأثيره عليه، فتكون قراراتها مبنية على معيارين، قانوني ويهدف الى تحقيق العدالة، ومعيار سياسي ويهدف الى خدمة الارادة الساسية لبعض الدول.

ومن هنا يتبين ان ما يعرقل عمل المحكمة ويعطل سير العدالة فيها هو نفوذ الدول الكبرى وخاصة الدول الدائمة في مجلس الامن وما له من صلاحيات في احالة بعض القضايا حسب النظام الاساسي.

وما فعلته الولايات المتحدة مع قرار محكمة العدل الدولية القاضي باعتبار جميع الاجراءات التي قامت بها امريكا لمساعدة الكونترا غير قانونية. وبدلا من ان توقف الولايات المتحدة مساعداتها صوَت مجلس الشيوخ الامريكي لصالح صفقة ريغان بتخصيص 100مليون دولار كعون عسكري للكونترا. فقد فعلته مع المحكمة الجنائية الدولية حيث ترى ان النظام الاساسي كسر سابقة قانونية بتأكيده اختصاص المحكمة على رعايا والعسكريين لدول غير الاطراف في المعاهدة، لذلك رجعت الى مجلس الامن حيث تستطيع ان تفرض ارادتها وتمكنت من اصدار القرار 1422 لسنة 2002 واستطاعت تجديده سنة 2003 الا انها فشلت في جمع ما يلزم من دعم عام 2004.

وحتى لوفرضنا ان المحكمة اصدرت قراراتها بشفافية فما هي السلطة التنفيذية التي تأخذ على عاتقها تنفيذ تلك القارارات في حالة امتناع الدولة المختصة عن التنفيذ هل يقوم مجلس الامن بهذه المهمة. وهنا ايضا خضعت قرارات المحكمة للارادة السياسية. سيما اذا ما علمنا ان مجلس الامن يفشل في تنفيذ قراراته هو، وكم هي قرارات مجلس الامن التي اودعت الارشيف ولم تنفذ وخاصة تلك التي تعارض مصالح البعض. فكيف لنا ان نتصور ان يقوم مجلس الامن بتنفيذ قرارات المحكمة الجنائية الدولية اذا عارضت مصلحة احدى الدول الدائمة. وفي هذه الحالة تعطلت قرارات المحكمة وتعطل تبعا لذلك تطبيق العدالة.

لم يقف دور مجلس الامن على احالة بعض القضايا الى المدعي العام مستندا في ذلك على الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة كما اقرت ذلك الفقرة (ب) من المادة (139) بل تعداه ليشمل صلاحيته تعطيل اجراءات المحاكمة التي نصت عليها المادة (16) من النظام حيث لا يجوز للمحكمة اجراء التحقيق او المقاضاة لمدة اثنى عشر شهرا بناء على طلب من مجلس الامن حسب قرار يصدره استنادا الى الفصل السابع ويجوز للمجلس تجديد الطلب، وهي اكثر خطورة من الصلاحية الاولى، لسببين الاول تستطيع الدول دائمة العضوية تنفيذ مصالحها عن هذا الطريق، والسبب الثاني انها تزيد من تبعية المحكمة الى مجلس الامن وبذلك تفتقر الى الضمانات ضد التلاعب السياسي.

ولما كان مجلس الامن في علاقته اعلاه مع المحكمة يستند الى الفصل السابع من الميثاق فانه في ذلك يمثل الشرعية في النظام الدولي. مما يؤثر سلبا على قوة النظام الاساسي للمحكمة اذا ماعرفنا انه في اية قضية تكون الاسبقية للميثاق اكثر من الاتفاقات الدولية، وهذا ما اشارت اليه المادة (103) من ميثاق الامم المتحدة. حيث في حالة تعارض الالتزامات التي يرتبها هذا الميثاق مع الالتزامات الدولية الاخرى ( فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق). اضافة الى ما اشارت اليه المادة (25) من الميثاق حيث تتعهد الدول الاعضاء بقبول قرارات مجلس الامن ( وتنفيذها وفق هذا الميثاق). ويترتب على ذلك ان الدول ملتزمة باتباع قرارات مجلس الامن اكثر من اتباعهم قرار المحكمة وهذا خلل كبير في النظام الاساسي.

ولا يقتصر الامر على مجلس الامن حيث ان المادة 124 والتي اجازت للدولة عندما تصبح عضوا ان تعلن عدم قبولها اختصاص المحكمة فيما يتعلق بجرائم الحرب لمدة سبع سنوات سواء فيما يتعلق باتهام احد مواطنيها بارتكاب جريمة حرب او ان مثل هذه الجريمة قد وقعت على اراضيها. وهو حكم خطير ترتبه المادة المذكورة مما يقتضي تعديله او الغائه كما سمحت بذلك المادة نفسها كونها اشارت الى انه حكم انتقالي (26).

كما ان هذه المحاكم لم تُغلق الباب امام المحاكم المؤقتة التي ينشأها مجلس الامن كما اُريد منها ذلك. فقد عمد مجلس الامن الى فتح الباب امام محاكم مختلطة كما هو الحال بالنسبة للمحكمة الخاصة باغتيال رئيس وزراء لبنان السابق. وما في ذلك من سلب لصلاحيات المحكمة الجنائية الدولية وامعانا في تعطيل دورها طالما انها تخرج قليلا عن ارادة مجلس الامن

على ان هذا لايعني خلو المحكمة من الحسنات واولها ان اساس انشائها معاهدة دولية وبذلك تستند الى مجال اوسع من المشروعية الدولية. وتبعدها قليلا من ارادة بعض الدول الكبرى لذلك وقفت دول لمعارضتها بحجة اواخرى.

حسب الاهداف المتوخاة من المحكمة الجنائية الدولية يمكن اعتبارها مكملة للامم التحدة. حيث ان النظام القضائي الذي يرسمه نظامها الاساسي يهدف ايضا الى تعزيز الامن الجماعي الذي يعتبر هدفا رئيسيا نص عليه ميثاق الامم المتحدة. يتضح ذلك مما ورد في ديباجة نظام روما الذي اكد انها تختص في الجرائم الخطيرة التي تهم المجتمع الدولي.

اضافة الى انها محكمة دائمة ليس لها زمن محدد فاختصاصها يشمل الجرائم التي تقع بعد نفاذ قانونها الاساسي. الا ان ميزتها هذه لاتخلو من النقد ايضا فتبدو وكأن المحكمة تحمل التناقض في نظامها الداخلي. فقد ورد في الديباجة ان الملايين من النساء والرجال والاطفال كانوا ضحايا بعض الحروب، وان مثل هذه الجرائم تهدد السلم والامن الدولي، وان الدول عقدت العزم على عدم فسح المجال لمرتكبي هذه الجرائم من الافلات من العقاب. نجدها من جانب اخر تقصر ولايتها على الجرائم التي تقع بعد نفاذ نظامها وكأنها اعطت صك براءة لمرتكبي هذه الجرائم قبل نفاذها. مع العلم ان الجرائم الدولية لا تسقط بالتقادم كما نصت على ذلك اتفاقية 1968.

التوصيات:

-ان الاساس القانوني للمحكمة الجنائية الدولية هو معاهدة دولية، ينطبق عليها ما ينطبق على المعاهدات بشكل عام. ومما ينطبق عليها ان المعاهدة لا تُلزم سوى اطرافها ولم تكن ملزمة الا بما يرد فيها، اضافة الى ان هذه الدول غير ملزمة بالارتباط بها دون ارادتها. الامر الذ يؤدي الى افلات الكثير من المجرمين من رعايا الدول الغير اعضاء. والقول بأن هذا النقص يمكن سده بالصلاحية المخولة لمجلس الامن قول تعوزه الدقة لما راينا سابقا السلبيات التي تترتب على تدخل مجلس الامن. ولكن يمكن ان تكون للمحكمة الجنائية الدولية الشخصية القانونية ازاء الجميع حتى بالنسبة للدول غير الاطراف في معاهدة انشائها استنادا الى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية ( … وفقا للقانون الدولي كان لخمسين دولة تمثل الاغلبية العظمى لاعضاء المجتمع الدولي ، وفقا للقانون الدولي، الاهلية لتأسيس كيان له شخصية دولية موضوعية وليس مجرد شخصية تعترف بها تلك الدول دون غيرها …). وحيث ان الاغلبية الدولية تحققت اوقد تتحقق في المستقبل استنادا الى الفقرتين الاولى والثالثة من المادة 125 من النظام فيمكن بالتالي تطبيق هذا الرأي الاستشاري على المحكمة الجنائية.

-ان النظام الاساسي للمحكمة اعطى صلاحيات واسعة الى مجلس الامن منها احالة بعض القضايا الى المدعي العام، وكذلك تعطيل الاجراءات واعادة تجديد فترة التعطيل كل ذلك استنادا الى الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة. هذه الصلاحيات تؤدي الى تكريس تبعية المحكمة الى مجلس الامن وبالتالي تحقيق مصالح الدول الدائمة العضوية واهمال مصالح المجتمع الدولي ومنها حماية وتعزيز السلم والامن الدولي التي تشارك المحكمة فيه كما راينا. لذلك لابد ان تكون هذه الصلاحيات ممنوحة الى مجلس الامن ليس استنادا الى الفصل السابع حتى لا تكون ملزمة الى المحكمة ويكون لها الرأي الاخير في قبولها او رفضها.
-ان يسري نظامها الداخلي على الجرائم التي وقعت قبل نفاذه ماعدى الجرائم التي تدخل في اختصاص المحاكم المؤقتة. بالرغم من ان ذلك يعد مخالفة لمبدأ عدم رجعية القوانين الجزائية، لان مخالفة مبدأ اقل ضررا من افلات العديد من العقاب سيما وان معاهدة عام 1968 التي تنص على عدم تقادم الجرائم الدولية تصبح دون جدوى خاصة للفترة التي تسبق نفاذ النظام الاساسي.

-ألغاء الحكم الانتقالي الذي رتبته المادة 124 بحيث تقبل الدولة من تاريخ انضمامها الى الاتفاقية باختصاص المحكة ولجميع الجرائم لما يترتب عليه من مخاطر افلات المجرمين من العقاب، اضافة الى ذلك فان من اهداف المحكمة هو ردع الاخرين عن ارتكاب بعض الجرائم، ولا يتحقق الردع اذا استطاعت الدولة ان تعفي رعاياها من المحكمة لمدة سبع سنوات. فضلا عما يكشفه ذلك من نية الدولة بارتكاب هذه الجرائم.

-ان يتم التوصل سريعا الى تعريف للعدوان وقد احسن النظام الاساسي في عدم الاخذ بالتعريف الذي ورد في قرار الامم المتحدة عام 1974 حيث انه يقتصر على الوسائل العسكرية في حين ان العدوان الاقتصادي والسياسي اكثر ايلاما من العدوان العسكري.

لمعالجة الامور اعلاه يتعين على الجمعية العامة للامم المتحدة تشكيل لجنة لدراسة هذه المسائل وغيرها مما تنقص من قيمة النظام الاساسي وعرضها عليها لاتخاذ القرار بشأنها.

الفهرس

1-د. ضاري خليل محمودوباسيل يوسف، المحكمة الجنائية الدولية،هيمنة القانون ام قانون الهيمنة، بيت الحكمة بغداد، 2003.
2-د. علي عبد القادر القهوجي،القانون الدولي الجنائي، منشورات الحلبي الحقوقية، ط1، 2001.
3-James.E.willisprologue to nuremberg. The politics and diplomacy of punishing war criminal of first war 86 (1982) :
4-د. يونس العزاوي، حاجة المجتمع الدولي الى محكمة جنائية دولية، مجلة العلوم القانونية، العدد الاول، 1969.
5-Document A/CN.4/364. Year book of the international law comission ( )
6-المصدر السابق.
7-المصدر السابق.
8-المصدر السابق.
9-أ. د محمد محي الدين عوض، تعريف الارهاب، ضمن تشريعات مكافحة الارهاب في الوطن العربي، الندوة العلمية الخمسون، الرياض، 1999 . اكاديمية نايف العربية للعوم الامنية.
10-دعلي عبد القادر القهوجي، المصدر السابق.
11- المصدر رقم 3 اعلاه.
12- القهوجي، المصدر السابق.
13-Robert Jackson;s place in history: Nuremberg Revisited Öchautanqua: new York.
14-د. القهوجي، المصدر السابق.
15-Yale university: Nuremberg trail proceeding vol.1 .
16-المصدر السابق.
17-وثائق الامم المتحدة . un Doc.A/CN.4/15 and A/CN.4/20.
18 – The Europan Journal of international law:
19 – المصدر السابق.
20- د. بارعة القيسي، المحكمة الجنائية الدولية طبيعتها واختصاصاتها، مجلة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، مجلد 20، العدد الثاني 2004.
21- د. القهوجي، المصدر السابق.
22- اوسكار سوليرا، الاختصاص القضائي التكميلي والقضاء الجنائي الدولي، المجلة الدولية للصليب الاحمر الدولية، مختارات من اعداد 2002.
23- المصدر السابق.
24- د. بارعة، المصدر السابق.
25- د. القهوجي، المصدر السابق.
26 – المصدر السابق.

—————————————————

تمت إعادة النشر بواسطة لويرزبوك.

دراسة المحطات التاريخية الكبرى التي ساهمت في إنشاء المحاكم الجنائية الدولية