بحث قانوني هام في قانون العمل الجزائري
الأستاذ ساسان الفصل التمهيدي:
مقدمة عامة
المبحث الأول: نشأة قانون العمل و تطوره
يعتبر قانون العمل من القوانين الحديثة، بحيث تأخر ظهوره إلى منتصف القرن التاسع عشر، و كان لهذا التأخر أسباب حالت دون ظهوره في العصرين القديم و الوسيط، و على هذا الأساس نتناول بالدراسة بيان أسباب تأخر نشوء قانون العمل في العصرين القديم و الوسيط، ثم إلى عوامل ظهوره في العصر الحديث.
المطلب الأول: أسباب تأخر نشوء قانون العمل
اقترن ظهور العمل باعتباره المجهود المبذول بظهور الإنسان، إلا أن العمل باعتباره علاقة قانونية تربط بين العامل و رب العمل قد تأخر ظهوره إلى منتصف القرن التاسع عشر، و مرد هذا التأخر العديد من الأسباب يمكن حصرها في:
الفرع الأول:
انتشار ظاهرة الرق في العصور القديمة:
حال انتشار ظاهرة الرق في العصور القديمة في ظهور قانون العمل، حيث لم يعترف للعبيد بالشخصية القانونية التي تمكنهم من اكتساب الحقوق و تحمل الالتزامات، و اعتبروا من قبيل الأشياء التي تعتمد عليها الاقتصاديات القديمة، و بالتالي لم يظهر قانون يضمن لهذه الفئة حقوقها، عديمة الإرادة المعتد بها قانونا، لمصلحة إرادة الأسياد المطلقة في مواجهة هؤلاء العبيد.
الفرع الثاني: سيادة نظام الإقطاع في القرون الوسطى:
حال ظهور نظام الإقطاع في القرون الوسطى بأوروبا دون ظهر قانون للعمل، حيث اعتبر عمال صاحب الأرض الإقطاعي جزء من الأرض التي يملكها، فلم تكن متاحة لهم حرية العمل أو حرية تركه، و كان الأقنان أو عبيد الأرض ملزمون بعدم مغادرة أرض سيدهم إلا بموافقته تحت طائلة إقامتهم فيها مدى الحياة، و كانوا ملزمين بدفع ضرائب و إتاوات، بعضها إلى الدولة، و البعض الآخر إلى سيدهم مقابل استغلالهم لجزء من هذه الأرض لصالحهم.
الفرع الثالث: نظام الطوائف الحرفية في القرون الوسطى:
ينصرف معنى الطوائف الحرفية إلى تكوين الصناعيين أو الحرفيين طائفة فيما بينهم، تشكل نوعا من النظام على أساس من التدرج الطبقي، الذي يوجد على قمته المعلم، ثم العامل، ثم العامل المتمرن، و يقوم العاملون بانتخاب شيخ الطائفة الذي يملك وحده الحق في قبول احتراف أي شخص مهنة معينة، أو أن يصبح فيها معلما، و قد كانت كل طائفة تستقل بوضع نظام يحكم شؤون الصناعة التي تمثلها، و قواعد الارتقاء في درجات الطائفة، و كل ما يتعلق بالأجور، و أوقات العمل و العطل و الإجازات، و على هذا فإن علاقات العمل كانت منظمة تنظيما داخليا، و ليس قانونيا، إذ تستأثر كل طائفة بوضع نظام قانون خاص بالمهنة التي تمثلها. إن ما يعتبر بمثابة القاعدة في عدم ظهور أي تنظيم قانوني لعلاقات العمل قبل القرن التاسع عشر، يرد عليه بعض من الاستثناءات التي عرفتها البشرية خلا تطورها، إذ أن التاريخ يحتفظ لحمورابي في الدولة البابلية تضمن قوانينه بعض الأحكام التي يمكن اعتبارها قواعد قانونية عمالية، من ذلك تحديده أجور مختلف الفئات الحرفية مثل البنائين، و النجارين.
المطلب الثاني: بداية ظهور قانون العمل و تطوره:
ارتبط ظهور تشريعات العمل في العالم بدء من أواسط القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين بجملة من الأسباب تهيأت لتنشئ هذا الفرع من القانون، و يمكن رد هذه الأسباب إلى ما يلي:
الفرع الأول: مبادئ الثورة الفرنسية:
من بين أهم المبادئ التي دعت إليها الثورة الفرنسية و التي انتشرت منها إلى كامل الدول الأوروبية بالخصوص مبادئ الحرية و المساواة و الحقوق الطبيعية، و قد وجدت هذه المبادئ تطبيقاتها في مجال قانون العمل على غرار فروع القانون الأخرى، فتم على هذا الأساس مبدأ “حرية العمل” المرتكز أساسا مبدأ سلطان الإرادة و حرية التصرفات القانونية و التعاقدية، و على هذا فقد نص ما يعرف بمرسوم آلارد Décret d’Allard الصادر في مارس 1791 على أن: “يكون كل شخص حرا في أن يمارس المهنة أو الصنعة أو الوظيفة التي يراها مناسبة له.”، كما قضى قانون شابوليي Loi Chapelierلشهر جوا ن1791 بأن هلا يجوز للعمال أن يسنوا لوائح بشأن مصالحهم المشتركة المزعومة…و إذا أبرم مواطنون فيما بينهم اتفاقات تقتضي دفع الغير لثمن لقاء التحاقهم بصنعتهم كانت هذه الاتفاقات غير دستورية.”، أما فيما يتعلق بنظام الإقطاع فقد قضت الجمعية الوطنية بمقتضى قانون 4 أوت 1789 بتخليص ملكية الأرض من جميع الامتيازات التي كانت ثابتة للإقطاعيين، و جعلها ملكية خالصة للتابع الذي يحوز الأرض، مع التزامه بدفع مبالغ محددة لصاحب الملكية الأصلية.
غير أن مبدأ سلطان الإرادة و حرية التعاقد قد أظهر محدودية آثاره الإيجابية بالنسبة للعامل الذي غالبا ما يكون الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية تحت ضغط الحاجة للأجر، مما يدفعه للقبول بالاشتراطات التعاقدية التي تكون على الأغلب في مصلحة رب العمل لاسيما من حيث تحديد الأجر، و ساعات العمل، و العطل، و شروط الأمن و السلامة داخل مقرات العمل، مما أدى بالدول إلى أن تعمد إلى التخلي عن دورها الحمائي في سبيل تبني دور المتدخل في الاقتصاد.
الفرع الثاني: تطور وظيفة الدولة:
انعكس تطبيق مبدأ سلطان الإرادة بالسلب على واقع العمال الاجتماعي، مما أدى إلى تصاعد الدعوات إلى ضرورة تخلي الدولة عن دورها الحارس للاقتصاد المكتفي بحماية الحريات العامة، بما فيها حرية العمل و المقاولة، و تبني دور أكثر إيجابية من خلا التدخل لضبط النظام الاجتماعي، و توفير أدنى حد من مستوى المعيشة و الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية، و هذا ما نادت به مدرسة التضامن الاجتماعي في فرنسا، من حيث تأمين العمال ضد الأخطار المهنية، و ضرورة تدخل الدولة لمساعدة العاجزين و العاطلين، و وضع تشريع خاص للتعويض عن حوادث العمل و التأمينات الاجتماعية، كما انضم إلى هذه الدعوات رجال الاقتصاد الذين بدؤوا يطالبون الدولة بالتدخل لأجل ضمان الرخاء المادي، و ألا تكتفي بالاهتمام بخلق الثروة، و ذلك بفرض ضمان أجر أدنى مناسب، و الخفض من سعر الفائدة الذي يمكن من الرفع من وتيرة الاستثمار، الذي يمكن بالتبعية من توفير فرص الشغل. أدت الانعكاسات السلبية لتطبيق مبدأ سلطان الإرادة، و دعوات المفكرين إلى ظهور حركة تشريعية متسارعة في مجال قانون العمل خلال القرن العشرين، و تأكد تحول دور الدولة من حماية الحرية التعاقدية و حرية المقاولة، إلى دور يهدف لتوجيه الاقتصاد نحو دعم المراكز القانونية للعمال، و بسط حماية القانون عليهم، و قد ظهرت بوادر هذا التدخل في فرنسا من خلال قانون 21 مارس 1884 الذي يقر حرية العمال و أصحاب العمل في تشكيل التجمعات المهنية و النقابات، كما صدر قانون 13 جويلية 1906 الذي حدد فترة الراحة الأسبوعية، كما سن قانون 9 أفريل 1898 الذي يلزم أصحاب العمل بضمان و حماية العمال ضد حوادث العمل، و قانون التقاعد الصادر سنة 1910.
المبحث الثاني: نشأة و تطور قانون العمل في الجزائر:
اقترن تطور تشريع العمل في الجزائر بتغير الخيارات السياسية و الاقتصادية التي اعتمدتها البلاد منذ الاستقلال، و تبعا لتغير الوضع العام فيها، و على العموم فإن الدراسة الاستقرائية لتطور الأحكام التشريعية المتضمنة علاقات العمل تمكن من التمييز بين ثلاثة مراحل:
المطلب الأول: مرحلة ما بين 1962 إلى 1975:
تمتد هذه المرحلة من تاريخ إصدار قانون 31/12/1962 المتضمن تمديد العمل بالتشريع الفرنسي المطبق في الجزائر قبل الاستقلال إلى غاية تاريخ 5 جويلية 1975، و هو تاريخ بدء سريان أمر 73/29 المتضمن إلغاء قانون 31 ديسمبر 1962، و يرجع تمديد سريان التشريع الفرنسي المطبق في الجزائر قبل الاستقلال إلى الفراغ التشريعي الذي شهدته الجزائر عقب الاستقلال، رغم ما قد يولده هذا التمديد من تناقض بين الاتجاه الاشتراكي الذي أرادت الجزائر التزامه بعد الاستقلال، و الاتجاه الحر للتشريع الفرنسي الذي يغلب على علاقة العمل الطابع التعاقدي، بتفعيل دور الإرادة فيها وفق مبدأ سلطان الإرادة، على حساب التدخل التشريعي من قبل الإرادة، غير أنه و خلال هذه المرحلة، بدأت تظهر بوادر استقلال الدولة الجزائرية الفتية بتقنين بعض مجالات الشغل كما هو الشأن بالنسبة لقانون الوظيفة العمومية الصادر في 2 جوان 1966، و كذلك الأمر رقم 71/74 المتعلق بالتسيير الاشتراكي للمؤسسات.
المطلب الثاني: مرحلة ما بين 1975 و 1990:
و هي المرحلة الممتدة من تاريخ سريان الأمر 73/29 إلى تاريخ إصدار قوانين 1990، لاسيما قانون 90/11 المتعلق بعلاقات العمل الفردية، و تتميز هذه المرحلة بإصدار نصوص قانونية تتلاءم و الاتجاه الاشتراكي للجزائر في تلك المرحلة، و الذي تجلى من خلال تدعيم علاقات العمل بأحكام تشريعية آمرة، و استبعاد لدور الإرادة فيها، محاولة من المشرع المحافظة قدر الممكن على مناصب العمل. شهدت هذه المرحلة إصدار العديد من النصوص القانونية الاجتماعية، بدء من الأمر 75/31 المتضمن الشروط العامة للعمل في القطاع الخاص، و الأمر 75/32 المتضمن العدالة في العمل، و الأمر 75/30 المتضمن المدة القانونية للعمل، و كذلك الأمر 75/33 المتضمن تحديد اختصاصات مفتشية العمل، و خلال هذه المرحلة سن القانون 78/12 المتضمن القانون الأساسي للعامل، و الذي يعتبر بمثابة الدستور الذي يحكم كافة جوانب علاقات العمل، و في كافة المجالات.
المطلب الثالث: مرحلة ما بعد 1990:
يترجم تشريع العمل الوضعي في الجزائر تراجع المشرع عن الخيار الاشتراكي الذي تم تبنيه في المرحلة السابقة، و يعود هذا التراجع إلى الخيارات الاقتصادية و السياسية التي اعتمدتها الجزائر مع نهاية الثمانينات، في إطار الإصلاحات التي بادرت بها، و التي كانت لها انعكاسات على واقع العلاقات القانونية بين العمال و المستخدمين، حيث تم تغليب الطابع التعاقدي. الفصل الأول: مفهوم قانون العمل
المبحث الأول: التعريف بقانون العمل و بيان خصائصه:
المطلب الأول: التعريف بقانون العمل:
اختلف الفقه في التعريف بقانون العمل، و مرد هذا الاختلاف هو حداثة القانون، و اختلاف الآراء حول نطاق تطبيقه، و أول ما يظهر من هذا الاختلاف هو التباين في الاصطلاح، حيث عرف عددا من التسميات نوجزها في ما يلي:
1- القانون الصناعي:
و هو الاصطلاح الأول من حيث الظهور، حيث اقترن بالثورة الصناعية بأوروبا، غير أنه يفهم من هذا الاصطلاح أن المقصود بمجموع النصوص القانونية التي تنظم العلاقات القانونية بين التابع و المتبوع هي تلك التي يتحدد نطاقها في عمال الصناعة وحدهم، و بالتالي يخضعون وحدهم لقانون العمل، و عليه يكون هذا الاصطلاح قاصرا على الإلمام بكل فئات العمال، حيث يستثني فئة المأجورين الذين يؤدون عملا مأجورا في قطاع التجارة و الخدمات.
2- القانون الاجتماعي:
ترتكز هذه التسمية إلى اعتبار مجمل النصوص المنظمة لعلاقات العمل تهدف في الأساس إلى دعم الأمن الاجتماعي، غير أنه ما يعاب على هذه التسمية أن القانون الذي ينظم علاقات العمل ليس وحده الذي يضمن الأمن الاجتماعي، و إن كان جوهريا لتحقيق هذه الغاية، بل أن ضمان الأمن الاجتماعي تكفله مجمل القوانين متكاملة فيما بينها، حيث أن الهدف النهائي لوجود أي قانون هو تحقيق هدف السلم الاجتماعي.
3- قانون العمل:
يمكن لهذا الاصطلاح أن يشكل بديلا للاصطلاحات السابقة، من حيث كونه أكثر قدرة على التعبير عن النصوص التي تنظم العلاقات الناشئة عن العقود التي يتم بمقتضاها تبادل الجهد و الأجر فيما بين أطرافها. وردت عديد التعاريف بصدد قانون العمل، إلا أن الاتجاه الغالب في الفقه يعرفه بأنه مجموعة القواعد القانونية و التنظيمية و الاتفاقية التي تنظم العلاقات القائمة بين كل من العمال و المؤسسات المستخدمة، و ما يترتب عنها من حقوق و التزامات و مراكز قانونية للطرفين، و على هذا الأساس، فإن قانون العمل يتشكل كالآتي:
1- من حيث النصوص: لا يكتفي قانون العمل فقط بالتشريعات، و إنما يتعداها إلى الاتفاقيات الجماعية و الأنظمة الداخلية
2- من حيث مجال التطبيق: ينصرف تطبيق قانون العمل الحديث إلى جميع الفئات العمالية، و في مختلف المجالات: الصناعة، التجارة، و الخدمات، فيما عدا الفئات المستثناة صراحة من الخضوع لقانون العمل لاسيما الموظفين، القضاة، و كذا المنتسبين لقطاع الدفاع الوطني.
3- من حيث الجوانب التي ينظمها: لا يقتصر قانون العمل على تنظيم الحياة المهنية للعمال، أثناء سريان علاقة العمل، و غنما يتعداها إلى كل الجوانب التي لها علاقة بالعمل، حتى أثناء انقطاعه أو توقفه، مثل وضعية التقاعد، و المرض.
المطلب الثاني: خصائص و مميزات قانون العمل:
شكلت قواعد قانون العمل فيما بينها مجموعة ذات استقلالية جعلتها متميزة عن غيرها من القواعد، و تتلخص هذه الخصائص فيما يلي:
الفرع الأول: الصيغة الآمرة:
أخذ القول بسلطان الإرادة في التراجع، و ذلك أمام نمو الاتجاهات الاجتماعية على حساب المذاهب الفردية، مما ضيق من مجال هذا المبدأ لصالح القانون، الذي بدأ يتدخل في مجال قانون العمل بقواعد آمرة، مما ترتب عنه ظهور نظام عام حمائي تدعم معه مركز العمال في علاقة العمل على حساب سيطرة أصحاب العمل التي كانت تستند إلى قانون العرض و الطلب، و إلى مبدأ سلطان الإرادة، و يبرز هذا التدخل في التشريع الجزائري من خلال الكثير من الأحكام القانونية، مثل نص المادة 53 من قانون 90/14 المتعلق بكيفيات ممارسة الحق النقابي: “لا يجوز للمستخدم أن يسلط على أي مندوب نقابي بسبب نشاطاته النقابية عقوبة العزل أو التحويل، أو أي عقوبة تأديبية كيفما كان نوعها.”، و لا يكتفي المشرع بإقرار المسؤولية المدنية للمستخدم لإخلاله بأحكام قانون العمل، بل يتشدد في المسؤولية ليجعل منها مسؤولية جزائية في بعض الحالات، كما هو الشأن في حالة إبرام عقد عمل لمدة محدودة في غير الحالات المنصوص عليها قانونا وفقا لما ورد في المادة 146 مكرر من قانون 90/11 المتضمن علاقات العمل المعدل و المتمم: “يعاقب على كل مخالفة لأحكام هذا القانون المتعلقة باللجوء إلى عقد العمل ذي المدة المحدودة خارج الحالات و الشروط المنصوص عليها صراحة في المادتين 12 و 12 مكرر من هذا القانون بغرامة مالية من 1000 دج إلى 2000 دج مطبقة حسب عدد المخالفات.”
الفرع الثاني: ذاتية المصدر:
يعتبر قانون العمل في شكله المعاصر محصلة لجهود طبقة العمال من أجل وضع قواعد هذا القانون، مما جعله متميزا عن غيره من فروع القانون من حيث مصادره، التي يعتمد فيها بالخصوص إضافة إلى النصوص القانونية، أحكاما ذات طابع اتفاقي، تتمثل على الخصوص في الاتفاقيات و الاتفاقات الجماعية، التي تترتب عن الأخذ بمبدأ التفاوض بين أرباب العمل و العمال، و التي لا يكون القانون إزاءها إلا مجرد كاشف عن إرادة المخاطبين بأحكامه، عمالا أو مستخدمين.
الفرع الثالث: الاتجاه نحو التدويل:
عملت الآراء الفقهية و البحوث العلمية على التقارب بين أحكام قانون العمل في مختلف الأنظمة القانونية في العالم، مما يجعل بالإمكان الحديث عن عولمة قانون العمل، أو القانون الدولي للعمل، و يبرر اتجاه هذا القانون للتدويل بوجود منظمات دولية متخصصة تعنى بمسائل قانون العمل، مثل المنظمة الدولية للعمل، و منظمة العمل العربية، و التي تساهم في التقريب بين النصوص القانونية المتعلقة بالعمل بفضل الاتفاقيات الدولية، و التوصيات و الأعمال الاستشارية التي تقدمها للدول.
المبحث الثاني: مصادر قانون العمل:
تنقسم مصادر العمل إلى فئتين: مصادر وطنية، و مصادر دولية:
المطلب الأول: المصادر الوطنية:
إن المصادر الوطنية أو الداخلية إما أن تكون مصادر رسمية، أو مصادر تفسيرية. الفرع الأول: المصادر الرسمية: تشمل مصادر القانون مرتبة وفق مبدأ تدرج القوانين، و هي:
1- المبادئ الدستورية: عرفت الجزائر بدء من دستور 1989 ما يعرف بالدستور القانون، بعد أن تبنت الدستور البرنامج الذي تميز بخصائصه دستور 1976، حيث اكتفى كل من دستور 1989 و 1996 بوضع المبادئ الدستورية التي تحكم عالم الشغل، دون التوسع في مكانة العمل في المجتمع، مثلما كان الوضع بالنسبة لدستور 1976، في مقابل إقرار المبادئ الأساسية للعمل ، و التي وردت في الفصل الخاص بالحقوق و الحريات العامة، لاسيما المواد من 55 إلى 57 من دستور 1996، و التي تضمنت الحق في العمل، و الحق في الإضراب، الحق النقابي، و غيرها من الحقوق المرتبطة بعالم الشغل كالحق في الحماية و الأمن، و الحق في الراحة.
2- النصوص التشريعية: لا تكفي المبادئ الدستورية وحدها كي تحكم عالم الشغل، بحكم أنها مجموعة مبادئ عامة، ينبغي أن تفصل بمقتضى نصوص تشريعية، حيث أحال دستور 1996 على البرلمان صلاحية التشريع في مجال قانون العمل، و ذلك بمقتضى المادة 122 الفقرة 18 من الدستور، التي خصت البرلمان بصلاحية التشريع في المسائل المتعلقة بقانون العمل و الضمان الاجتماعي، و ممارسة الحق النقابي، و هي الصلاحية التي كان المشرع التأسيسي قد أكدها بمقتضى المادة 155 من دستور 1989، مما انجر عنه إصدار العديد من النصوص التشريعية المتعلقة بعالم الشغل، لاسيما قانون 90/11 المتعلق بعلاقات العمل.
3- النصوص التنظيمية: ورد في المادة 125 من الدستور أن “يمارس رئيس الجمهورية السلطة التنظيمية في المسائل غير المخصصة للقانون.” و هي المسائل التي حددتها المادة 122 من الدستور، كما أن لرئيس الحكومة (الوزير الأول حاليا) صلاحية اتخاذ الوسائل التنظيمية و الإجرائية لتنفيذ النصوص القانونية، مثلما هو وارد في الفقرة 2 من المادة 125 من الدستور: “يندرج تطبيق القانون في المجال التنظيمي الذي يعود لرئيس الحكومة.”، و على هذا الأساس فإن المقصود بالنصوص التنظيمية فئتان:
- – المراسيم الرئاسية: الصادرة عن رئيس الجمهورية.
- – المراسيم التنفيذية: الصادرة عن الوزير الأول.
4- الأحكام القضائية: اختلف الفقه في الأخذ بالأحكام القضائية ضمن زمرة المصادر الرسمية، و إن كان الإجماع قد وقع باعتبارها مصدرا ماديا للكثير من الأحكام التشريعية، أو التنظيمية، أو الاتفاقية، من خلال المبادئ القضائية التي يستقر عليها القضاء بمناسبة الفصل في مختلف الدعاوى المرفوعة إليه، مما يدفع بالسلطات التشريعية و التنظيمية، إضافة أرباب العمل و العمال من خلال الاتفاقيات الجماعية إلى تبني المبادئ القضائية، حرصا على استقرار المعاملات فيما بين أطراف علاقة العمل، كما أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعزف القضاء عن الفصل في النزاع المطروح أمامه، حتى في الوضع الذي يتعذر فيه وجود نص قانوني أو تنظيمي أو اتفاقي، و ذلك تحت طائلة اعتبار القاضي مقترفا لجريمة إنكار العدالة.
الفرع الثاني: المصادر التفسيرية:
تتميز قواعد قانون العمل بذاتية مصدرها، و واقعية أحكامها، و مرد هذه الميزة أن هذه القواعد تعود في غالبيتها إلى إرادة أطراف علاقة العمل، مما ترتب عنه ظهور فئة من المصادر غير الرسمية، أي غير التي ينشؤها القانون أو السلطات الرسمية في الدولة، و تتمثل هذه المصادر في ما يلي:
1-العرف و العادات المهنية: لم تزل للعرف في مجال قانون العمل أهمية بالغة، بل أن الكثير من الأحكام القانونية في هذا المجال يعود مصدرها المادي إلى العرف و العادات المهنية، و من هذه الأحكام ممارسة الحق النقابي، حق العامل في التعويض عن الإنهاء التعسفي، الحق في مهلة الإخطار، و الحق في الإجازة المدفوعة الأجر.
2-الاتفاقيات الجماعية: و تدعى عقد العمل الجماعي، و هي اتفاق تنظم بمقتضاه شروط العمل و ظروفه، بين العمال من جهة ممثلين بمنظمة نقابية، أو مندوبي المستخدمين، و بين صاحب العمل أو منظمات أصحاب العمل من جهة ثانية، و يشترط في هذا الاتفاق أن يضمن ظروف و مزايا عمل أفضل من تلك المقررة في التشريع، تحت طائلة بطلان الاتفاقية، و هذا ما يفهم من نص المادة 114 من قانون علاقات العمل المعدل و المتمم، و تمكن استقلالية الاتفاقية الجماعية عن الهيئات الرسمية في الدولة، و إقرارها بالتفاوض بين العمال و أرباب العمل من اكتساب أهمية كبيرة من حيث تقبل أطراف علاقة العمل لأحكامها، كونها مستقاة من إرادتهم، كما أن الاتفاقيات الجماعية غالبا ما تمنح العمال مزايا أكثر من تلك التي يمنحها القانون، و بالتالي نشأت للاتفاقية الجماعية مصداقية كبيرة في عالم الشغل، لهذا فغن القانون كثيرا ما يحيل على الاتفاقيات الجماعية، للبث في الكثير من المسائل، مثلما ورد في نص المادة 6 من أمر رقم 96/21: “يمنح العامل في ولايات الجنوب عطلة إضافية لا تقل عن عشرة أيام عن سنة العمل الواحدة.
تحدد الاتفاقيات أو الاتفاقات الجماعية كيفيات منح هذه العطلة.” أدخل المشرع الجزائري بمقتضى الأمر 96/21 المعدل و المتمم لقانون علاقات العمل اصطلاح الاتفاق الجماعي و الذي يتميز عن الاتفاقية الجماعية بكونه: “اتفاق مدون يعالج عنصرا معينا، أو عدة عناصر محددة من مجموع شروط التشغيل و العمل بالنسبة لفئة أو عدة فئات اجتماعية و مهنية، و يمكن أن يشكل ملحقا للاتفاقية الجماعية.” حسبما ورد في الأمر 96/21 المعدل و المتمم للمادة 114 من القانون 90/11.
الفرع الثالث: النظام الداخلي:
يلعب الفقه في مجال قانون العمل الدور ذاته الذي يلعبه في غيره من فروع القانون، إذ أنه يمد المشرع في الكثير من الحالات بالأفكار و الدراسات و التحاليل التي قد تمكنه من وضع الحلول القانونية لمختلف الإشكالات التي قد تطرأ على عالم الشغل، و قد كان للفقه هذا الدور عند دعوته إلى استبدال فكرة عقد العمل باصطلاح علاقة العمل، تحت مبرر الأثر المتعاظم للتدخل التشريعي في مجال الشغل، و الابتعاد تدريجيا من المفهوم التعاقدي المستند على سلطان الإرادة.
المطلب الثاني: المصادر الدولية:
تتشابه ظروف الطبقة العاملة في مختلف دول العالم، الأمر الذي نجم عنه تقارب أحكام قانون العمل في مختلف الأنظمة التشريعية في العالم، و مما زاد في هذا التقارب هو ظهور مجهودات المنظمات ذات الطابع الدولي، تركزت حول محاولة توحيد أحكام قانون العمل على المستوى الدولي، من خلال صياغة اتفاقيات دولية متعددة الأطراف. إن أهم المنظمات التي يمكن التطرق إليها في هذا المجال هما:
– المنظمة الدولية للعمل.
– المنظمة العربية للعمل.
الفرع الأول: المنظمة الدولية للعمل:
أنشئت المنظمة الدولية للعمل بمقتضى معاهدة فرساي لسنة 1919، التي أبرمت بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى، حيث اتفق الموقعون على الاتفاقية بمقتضى ما ورد في مقدمتها على إنشاء منظمة دولية دائمة لتحقيق العدل الاجتماعي بما يدعم الأمن و السلام العالميين، و ذلك من خلال تحسين الظروف الاجتماعية للعمال، و تنظيم ساعات العمل، و وضع حد أقصى لساعات العمل اليومية و الأسبوعية، و حماية العمال من الأمراض المهنية، و حوادث العمل. لقد وضعت منظمة العمل الدولية العديد من الاتفاقيات، شملت مختلف جوانب علاقة العمل، منها على الخصوص:
- – الاتفاقية رقم 10 لسنة 1948 الخاصة بتحديد الحد الأدنى لساعات العمل.
- – الاتفاقية رقم 87 لسنة 1948 الخاصة بالحرية النقابية.
- – الاتفاقية رقم 14 لسنة 1924 الخاصة بالراحة الأسبوعية.
الفرع الثاني: المنظمة العربية للعمل:
أنشئت المنظمة العربية للعمل سنة 1971 كهيئة تابعة لجامعة الدول العربية، قصد النهوض بقضايا العمل العربية على اختلاف أشكالها و مواضيعها، مما يخدم قطاع العمل في البلاد العربية، و من بين إنجازاتها إقرار الاتفاقية العربية للحريات النقابية لسنة 1977. تكتسي الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من قبل رئيس الجمهورية أهمية بالغة، باعتبارها تلي الدستور من حيث سموها بصريح نص المادة 132 من الدستور الجزائري، و التي جاء فيها: “الاتفاقيات التي صادق عليها رئيس الجمهورية حسب الشروط المنصوص عليها في القانون تسمو على القانون” و هذا ما يكسبها أهمية بالغة، لاسيما و أن الدولة الجزائرية قد اعتمدت غالبية الاتفاقيات الدولية المبرمة في هذا المجال.
الفصل الأول: علاقة العمل الفردية
العقد هو الإطار القانوني الذي يتم ضمنه تبادل الطرفين في علاقة العمل لالتزاماتهما، استنادا إلى مبدأ حرية التعاقد، و هذا ما يجعل عقد العمل خاضعا لأحكام العقد عموما، حتى و إن ظهرت بعض الخصوصيات استدعت أحكاما يتميز بها عقد العمل عن غيره من العقود، لاسيما و أن مجال الحرية التعاقدية فيه غير مطلق بالنظر لتدخل المشرع لأجل تنظيم و توجيه إرادة الأطراف متى كان هذا التدخل مبررا بحماية العامل باعتباره الطرف الضعيف في العقد.
المبحث الأول: ماهية عقد العمل:
يقتضي التطرق لماهية عقد العمل بيان تعريفه، ثم عناصره، و أخيرا شروط صحته.
المطلب الأول: التعريف بعقد العمل:
لم يهتم المشرع الجزائري بتعريف عقد العمل على اعتبار عدم اختصاص القانون بصياغتها بل الفقه، الذي اتجه في هذا الصدد على الغالب إلى تبني تعاريف تأخذ بعين الاعتبار العناصر المشكلة لعقد العمل، فعرف على هذا الأساس بأنه العقد الذي يلتزم العامل ببذل جهده لمصلحة رب العمل، و تحت إشرافه و توجيهه، مقابل التزام هذا الأخير على تمكينه من الأجر.
يتشكل عقد العمل وفقا للتعريف السابق باجتماع جملة من العناصر تجعله متميزا عن غيره من العقود المشابهة لاسيما عقد المقاولة، باعتباره واحد من العقود الواردة على العمل، إلى أن ما يتميز به عقد العمل عن عقد المقاولة هو استقلالية المدين بالعمل –المقاول- في أداء العمل عن صاحب المشروع، بحيث لا يكون خاضعا عند تنفيذ العقد لأوامره و توجيهاته، كما يتميز عقد العمل عن عقد المقاولة في كون مقتضى هذا الأخير الالتزام تحقيق النتيجة التي يتضمنها العقد، مثل إقامة منشأة، أما بالنسبة للعامل فلا يعدو أن يكون التزاما ببذل عناية مقتضاها بذل الجهد دون أن يكون مسؤولا عن تحقيق نتائج بعينها، على اعتبار أن هذه النتائج مرتبطة بالأساس بتوجيهات و أوامر رب العمل.
المطلب الثاني: عناصر عقد العمل:
نستخلص من التعريف السابق لعقد العمل أنه يتشكل من اجتماع ثلاث عناصر تمثل جوهر العقد، و يمكن حصر هذه العناصر في ما يلي:
الفرع الأول: عنصر العمل
يتمثل في الجهد الذي يكون العامل ملزما ببذله لمصلحة رب العمل، بما يستجيب لتوجيهات هذا الأخير و أهدافه، و يستوي في ذلك أن يكون هذا المجهود بدنيا أو فكريا، كما أن هذا العنصر يختلف عن عنصر العمل الذي قد تتضمنه بعض العقود المشابهة بالنظر لما يميزه بالنسبة لعقد العمل، و نخص في ذلك بالذكر:
1- شخصية عنصر العمل: إن قوام العلاقة القائمة بين رب العمل و العامل هو الاعتبار الشخصي الذي يكون دافعا لتحديد مدى إبداء الطرفين رغبتهما في إبرام العقد، على الأخص بالنسبة لرب العمل، حيث تكون شخصية العامل و صفاته و مؤهلاته جوهرية في العقد، و هذا ما يجعل من تنفيذ العمل مقتصرا على العامل دون غيره، بحيث لا يمكنه تكليف الغير بأدائه سواء أداء كليا أو جزئيا، على خلاف الوضع بالنسبة لعقد المقاولة، حيث يكون الغرض من التعاقد تحقيق نتيجة يمكن للمقاول أن يعهد لغيره في تحقيقها، و تأكيدا لذلك ألزم المشرع الجزائري بمقتضى نص المادة 7 من قانون 90/11 العمال بأن “يؤدوا و بأقصى ما لديهم من قدرات، الواجبات المرتبطة بمنصب عملهم، و يعملون بعناية و مواظبة في إطار تنظيم العمل الذي يضعه المستخدم” كما يتأكد هذا الاتجاه في ما ذهب إليه المشرع المدني الجزائري من أنه: “في الالتزام بعمل إذا نص الاتفاق أو استوجب طبيعة الدين أن ينفذ المدين الالتزام بنفسه، جاز للدائن أن يرفض الوفاء من غير المدين.”
2- الخضوع لتوجيهات و أوامر رب العمل: يبرر اقتصار مسؤولية العامل في بذل العناية دون أن يتعداه إلى تحقيق النتائج الذي يحددها رب العمل في أن هذا الأخير هو من يحوز سلطة توجيه العامل إلى كيفيات تنفيذ العمل من خلال سلطة الإشراف و الرقابة المقررة لمصلحته، و هي السلطة التي تظهر من خلال تمكينه من إصدار النظام الداخلي بما يتضمنه من أحكام تأديبية و فنية.
3- توفير ظروف العمل اللازمة: بما يحمله هذا العنصر من دلالة على انحصار التزام العامل ببذل الجهد، على خلاف الأمر بالنسبة لعقد المقاولة، حيث يقع التزام المقاول بتوفير وسائل العمل التي تتلاءم و طبيعة التزامه بمقتضى عقد المقاولة.
الفرع الثاني: عنصر الأجر:
و هو المقابل المالي لالتزام العامل ببذل الجهد، و الموقع على ذمة رب العمل بمقتضى العقد، و يشتمل على عنصرين، أحدهما ثابت و يسمى أجر المنصب، أو الأجر القاعدي، و الآخر متغير، و يتضمن المبالغ المدفوعة للعامل في شكل منح و تعويضات، و يحدد الأجر بالتفاوض الفردي فيما بين العامل و رب العمل، أو من خلال التفاوض الجماعي، حيث يقرر في هذه الحالة بمقتضى الاتفاقية الجماعية التي تتبعها المؤسسة المستخدمة، و في هذا ترجمة لمبدأي الحرية التعاقدية و التفاوض الجماعي الذين اعتمدهما المشرع في مجال علاقات العمل بعد التعديلات التي أحدثها في هذا الخصوص سنة 1990.
الفرع الثالث: عنصر التبعية:
يقصد بها سلطة رب العمل في الإشراف على العامل، و توجيه الأوامر باعتبارها مظهرا من مظاهر السلطة الممنوحة قانونا لرب العمل في إطار علاقة العمل، و يذهب الفقه في تبرير عنصر التبعية ثلاث مذاهب رئيسة:
1- التبرير الاقتصادي لعنصر التبعية: مؤداه أن العامل مرتبط معيشيا بالأجر، بما يجعله مجبرا على الاستجابة لأوامر رب العمل المحتكر لجهد العامل خلال المدة التي تستغرقها علاقة.
2- التبرير القانوني لعنصر التبعية: يعتمد هذا الموقف في تبرير التبعية في ما يمنحه القانون صراحة من صلاحيات إدارة المنشأة المشغلة، بما يتطلبه ذلك من سلطة توقيع الجزاءات المترتبة عن الأخطاء التي يمكن للعامل أن يقترفها أثناء سريان علاقة العمل، ضمانا للسير الحسن للعمل، و هو مل يبرر به تمكين رب العمل من إصدار وثيقة النظام الداخلي، و التقسيم العضوي و الفني للعمل داخل المنشأة المستخدمة.
3- التبرير المختلط لعنصر التبعية: يأخذ هذا الرأي موقفا متوازنا بين الموقفين السابقين، بحيث يبرر عنصر التبعية بالحاجة الاقتصادية التي تدفع العامل إلى قبوله الخضوع لتوجيهات و أوامر رب العامل، غير أن هذا الرأي ليس كافيا وحده، إذ ينبغي أن يجتمع بالتبرير القانوني على اعتبار أن القانون يدعم المركز الممتاز لرب العمل من خلال تمكينه من صلاحية الإشراف و التوجيه لأجل تحقيق الأهداف الاقتصادية للمنشاة، بل أن الغالب أن مرد هذه السلطة هو القانون و ليس الحاجة الاقتصادية، على اعتبار أن الوضعية الاجتماعية للعمال ليست متشابهة، على الرغم من ذلك فإنهم ملزمون قانونا بالخضوع لتلك الأوامر بالقدر و الكيفية ذاتها.
المطلب الثالث: شروط صحة عقد العمل:
تتمثل على الخصوص في الشروط العامة المستوجبة لصحة العقود عموما، و عليه يمكن أن نميز بصددها بين:
الفرع الأول: الأهلية:
نميز في ذلك بين أهلية العامل ثم أهلية رب العمل.
1- أهلية العامل: أثرت الاعتبارات الاجتماعية في تمييز الأهلية بالنسبة للعامل بأحكام خاصة، حيث مكن المشرع العامل القاصر من إبرام عقود العامل على شرط الترخيص له من قبل وليه الشرعي متى بلغ 16 سنة (المادة 15 ف1 قانون 90/11)، كما أن ما يميز عقد العمل بالنسبة للقواعد العامة أن الأهلية على الرغم من اعتبارها مسألة من مسائل النظام العام يفترض أن يلحق التصرف الذي لا يحترمها البطلان، إلى أنه بالنسبة لعقد العمل ما ينجم عن عدم أهلية العامل هو بطلان من نوع خاص يتقرر بالنسبة للمستقبل، و على هذا الأساس فإن الأجور التي يكون العامل غير المؤهل قد استحقها نتيجة وضعية العمل الفعلي التي ربطته برب العامل تظل تحظى بالحماية القانونية على الرغم من بطلان التصرف على خلاف القواعد العامة.
2- أهلية رب العمل: ينبغي في هذا الصدد التمييز بين رب العمل في الوضع الذي يكون شخصا طبيعيا، ثم في الوضع الذي يكون فيه شخصا معنويا.
أ- رب العمل شخص طبيعي: يشترط لرب العمل في هذه الحالة أهلية أداء كاملة على اعتبار أن عقد العمل هو من العقود الدائرة بين النفع و الضرر.
ب- رب العمل شخص معنوي: تتحقق في هذه الحالة أهلية الشخص المعنوي بالنظر للاختصاص حسبما هو مقرر في الأنظمة الداخلية و التقسيم العضوي للمهام داخل المنشأة الذي يحيل على جهة ما داخل المنشأة صلاحية إبرام عقود العمل، مثل أن يكون مدير الموظفين، أو مدير المنشأة.
الفرع الثاني: الرضاء في عقد العمل:
يعد عقد العمل في الأصل من العقود الرضائية التي تنعقد بمجرد تطابق الإيجاب و القبول، دون أن يشترط لتمامه شكلا معينا، إلى أنه بالنسبة للعقود المحددة المدة يشترط المشرع أن يتم تحديد المدة كتابة، و ذلك تحت طائلة تحول العقد من عقد محدد المدة إلى عقد غير محدد المدة، مع ما يستتبعه ذلك من آثار لاسيما المالية منها.
الفرع الثالث: المحل و السبب في عقد العمل:
تنطبق بالنسبة لعقد العمل الشروط العامة للعقود فيما يتعلق بالمحل و السبب، كما أن اعتباره من العقود التبادلية الملزمة للجانبين يجعل من محل التزام أحد الطرفين سببا لالتزام الطرف الثاني، إذ أن الأجر الذي هو محل التزام رب العمل هو من جانب آخر سبب التزام العامل، كما أن الجهد الذي يعد محل التزام العامل هو ذاته سبب التزام رب العمل بدفع الأجر.
المبحث الثاني: الطبيعة القانونية لعلاقة العمل:
يمكن التمييز بصدد الطبيعة القانونية لعلاقة العمل بين نظريتين:تقليدية و حديثة:
المطلب الأول: النظرية التقليدية:
هي في الأساس نظرية رأسمالية تنظر إلى عنصر العمل باعتباره “سلعة” يمكن أن تكون محلا للتعاقد، و بالتالي إمكانية أن تكون محل إيجار، وفق ما يعرف بعقد إيجار الخدمات، و بناء على مبدأ الحرية التعاقدية، مما يبعد هذا النوع من العقود من مجال التدخل التنظيمي التي يمكن للدولة أن تمارسه. في مجال العلاقات القانونية.
المطلب الثاني: النظرية الحديثة:
و هي نظرية اجتماعية تستجيب أكثر للطابع الاجتماعي لعلاقة العمل، و لبعدها الإنساني، مما يفترض معه تدخل الدولة قانونيا لأجل ضمان تحقيق علاقات العمل عموما لأهدافها الاجتماعية، و ضبط العلاقة الناشئة بين أرباب العمل من جهة، و العمال من جهة ثانية، و هو الأمر الذي يتجلى من خلال إقرار الكثير من النصوص التي تدعم مركز العمال في علاقة العمل، لاسيما تلك المتعلقة بالضمان الاجتماعي، شروط الصحة و الأمن داخل مقرات العمل، حظر تشغيل الأطفال و النساء في أعمال خطيرة إلى غيرها من الأحكام ذات البعد الاجتماعي. نهأنه
الفصل الثاني التنظيم القانوني لعلاقات العمل:
يتضمن هذا الفصل بالخصوص بيان مراحل انعقاد عقد العمل، ثم سريانها.
المبحث الأول: انعقاد علاقة العمل:
إن من بين ما يميز عقد العمل عن غيره من العقود المدنية الأخرى هو انعقاده على مرحلتين: التجريب ثم الترسيم.
المطلب الأول: مرحلة التجريب:
تعتبر مرحلة تمهيدية قبل تثبيت العامل في منصب عمله، إذ تسمح بأن يوضع خلالها العامل الجديد محل اختبار قصد التأكد من كفاءته و استعداده للقيام بالعمل الموكل إليه، و قد نظمت المادة من قانون 90/11 هذه المرحلة بالنص على إمكانية إخضاع العامل لفترة تجريب لا يجب أن تزيد عن ستة أشهر، إلى بالنسبة للمناصب ذات التأهيل العالي التي يمكن أن ترفع فيها هذه المدة إلى 12 شهرا، إلا أنه يمكن خفضها بمقتضى الاتفاقية الجماعية، حسب نص المادة 120 من قانون 90/11، كما تسمح فترة التجريب للعامل الاطلاع على ظروف العمل، و مدى ملاءمة المهام الموكلة له لمؤهلاته و استعداداته، و على هذا الأساس يمكن لأي من الطرفين، و خلال هذه المدة، التحلل من العقد دون أن تترتب على ذلك أية مسؤولية على عاتقه، أما إذا انقضت المدة دون أن يتمسك أحدهما بحقه في التحلل من العقد يتحول عندئذ إلى عقد بات.
المطلب الثاني: فترة الترسيم: بمجرد انقضاء فترة التجريب دونما استعمال الطرفين حقهما في التحلل من العقد يصبح العقد نهائيا، بما يمكن العامل من التمتع بكب الحقوق المرتبطة بالترسيم، كعدم إمكان فصل العامل إلى وفق إجراءات خاصة، و الحق في الترقية.
المبحث الثاني: سريان علاقة العمل:
يعرف عقد العمل من حيث سريانه وضعيتين: العمل الفعلي، و الانقطاع.
المطلب الأول: وضعية العمل الفعلي:
و هي الوضعية الأصلية المترتبة عن علاقة العمل، حيث تفترض تواجد العامل في مقرات العمل و قيامه بالوظيفة المسندة إلية فعليا، على اعتبار أن حق العامل في اقتضاء الأجر مرهون بأداء العمل المتفق عليه، و ما ينجم عن وضعية الفعلي هي مجموعة الامتيازات المرتبطة حصرا بهذه الوضعية، من ذلك الحصول على المنح و التعويضات، و الحق في الترقية.
المطلب الثاني: وضعية التوقف المؤقت عن العمل:
قد تعلق علاقة العمل مؤقتا لاعتبارات قانونية دون أن يؤدي ذلك إلى قطعها، و ذلك في الحالات التالية:
الفرع الأول: الاستيداع:
يتحقق في الوضع الذي يتعذر فيه على العامل الاستمرار مؤقتا في تبادل التزاماته مع صاحب العمل لاعتبارات مختلفة، من أمثلتها اضطرار الزوجة لمرافقة زوجها بمناسبة انتقاله للعمل في مكان بعيد عن مكان مزاولتها لعملها،، و قد ورد النص على الاستيداع في المادة 64 و 8 من قانون 90/11 دون تعداد لحالاته، حيث يترك ذلك لتقدير رب العمل.
الفرع الثاني: الانتداب:
ينتقل العامل في هذه الحالة إلى مؤسسة أو هيئة أخرى لممارسة مهام قانوني أو انتخابية بشكل دائم، و لمدة محددة، و يتحقق الانتداب في الحالات التالية:
1- ممارسة مهمة انتخابية: حيث ل ا يمكن في هذه الحالة التوفيق بين الالتزامات المهنية و الالتزامات الانتخابية، الأمر الذي يدفع إلى توقف العامل عن ممارسة مهنته مدة أداء المهمة الانتخابية، لاسيما بالنسبة للمهام الانتخابية الوطنية، مثل عضوية البرلمان، حيث يستفيد العامل من تفرغ كامل، و الأمر ذاته بالنسبة للمهام النقابية، و إن كان العامل لا يستفيد حينها إلا من عدد محدود من ساعات الانتداب (10 ساعات شهريا) إضافة إلى ساعات الاجتماعات الرسمية.
2- أداء واجب الخدمة الوطنية: و هو انتداب بقوة القانون بالنسبة للعامل المرسم، بحيث يكون رب العمل ملزما بالحفاظ على منصب العام إلى حين عودته من الخدمة الوطنية أو تجديدي التكوين العسكرية.
3- متابعة فترة تكوين أو تربص: يمكن العامل المتابع لفترة تكوين أو تربص من فترات انتداب تستغرق الساعات التي يتطلبها التكوين، و يقع التمييز بين التربص القصير و التربص الطويل المدى، فبالنسبة للتربص القصير المدى و الذي يقل عن 6 أشهر فإن العامل يستفيد من انتداب جزئي حسبما تقره الاتفاقية الاجتماعية التي تنتمي لها المؤسسة، و هي على الغالب ساعتين يومي، أما بالنسبة للتكوين الطويل المدى الذي يفوق 6 أشهر فيستفيد العامل من انتداب كلي يستغرق كل ساعات العمل، على أن يفقد العامل الحق في الأجر.
الفرع الثالث: حالة المرض الطويل و عطلة الأمومة:
كلاهما عذر يحول دون تمكن العامل أو العاملة من العمل الفعلي، لاعتبارات مرتبطة بوضعهما الجسمي، و عليه فإن علاقة العمل تنقطع طوال المدة التي يتطلبها الشفاء التام بالنسبة للعامل المريض، أما بالنسبة لعطلة الأمومة فإن المرأة العاملة في هذه الحالة تستفيد من عطلة إجبارية قدرها 14 أسبوعا، على أن يبدأ سريانها كأقصى تقدير أسبوعا قبل التاريخ المفترض للوضع.
الفرع الرابع: الإضراب:
أقر الدستور الحق في الإضراب، و اعتبرته المادة 64 من قانون 90/11 أحد أشكال التوقف القانوني عن العمل، كما أقرته المادة 32 من القانون 90/02 المتعلق بالوقاية من النزاعات الجماعية في العمل.
الفرع الخامس: التوقف التأديبي:
هو جزاء تأديبي قد يوقعه رب العمل ضد العامل، وفق سلم الأخطاء و العقوبات المقررة في النظام الداخلي، و يترتب عن التوقيف حرمان العامل من العمل، و تبعا لذلك من الأجر.
الفرع السادس: التوقيف الاحتياطي:
يتقرر في حال التحقيق مع العامل بتهمة سالبة للحرية، بحيث يوقف عن العمل إلى حين نظر الجهات القضائية في الدعوى، حيث إما بالإدانة فيكون ذلك سببا لانقضاء علاقة العمل، أو بالبراءة حيث يعاود العامل حينها الرجوع لمنصب عمله.
الفرع السابع: التوقف المؤقت للهيئة المستخدمة:
و هي الحالة الوحيدة التي يعود سبب الانقطاع فيها عن العمل مرتبط بحالة المؤسسة، حيث تتوقف عن العمل لاعتبارات مختلفة، مثل أعطاب لحقت وسائل الإنتاج، أو تعرض المؤسسة لأخطار طبيعية، أو لصعوبات مالية تمر بها المؤسسة، أو في التموين بالمادة الأولية، بحيث يضطر رب العمل إلى غلق مقرات العمل حتى زوال سبب التوقف.
المطلب الثالث: أحكام ظروف عقد العمل:
تتضمن ظروف العمل الظروف و الجوانب التنظيمية التي تحكم علاقة العمل، و التي يمكن إجمالها فيما يلي:
الفرع الأول: المدة القانونية للعمل: يقصد بها المدة اليومية أو الأسبوعية التي يكون خلالها العامل في وضعية تبعية لرب العمل، ملتزما بوضع جهده في خدمته، و قد تكفل المشرع الجزائري بتنظيمها و اعتبرها من النظام العام، و هي محددة بأربعين ساعة أسبوعيا يترك للمؤسسات المستخدمة صلاحية توزيعها على مدار الأسبوع حسب خصوصيات كل قطاع.
الفرع الثاني: فترات الراحة و العطل القانونية و الخاصة:
يمكن أن نبين في هذا الصدد:
1- الراحة الأسبوعية: حدد المشرع حدها الأدنى بأربع و عشرين ساعة متتالية أسبوعيا حسب المادة 33 من قانون 90/11 و تستحق في الأصل يوم الجمعة، مع إمكان تكييفها حسب خصوصيات كل قطاع بأن تمنح في يوم آخر.
2- العطل و الإجازات القانونية: المقصود بها إجازات العطل الوطنية و الوطنية المحددة قانونا و التي تكون مدفوعة الأجر مثل عيد الثورة و الاستقلال و عيد الثورة، و عيد الفطر و الأضحى، و كذلك بالنسبة للعطلة السنوية التي تستحق على أساسا يوم عطلة بالنسبة لكل يوم عمل.
3- العطل الخاصة: يتمكن العامل من الحصول فرديا على عطل خاصة في حالات معينة حددتها المادة 54 من قانون 90/11، إضافة إلى استحقاق عطلة خاصة بمناسبة أدائه الحج مرة واحدة خلال مساره المهني.
المبحث الثاني: آثار عقد العمل:
تتضمن آثار عقد العمل بيان حقوق و التزامات كلا الطرفين:
المطلب الأول: حقوق و واجبات العامل:
1- حقوق العامل: تتمثل على الخصوص فيما يلي:
أ- الحق في الأجر: هو المقابل المالي المحدد الذي يتفق عليه، و يدفع للعامل نقدا كلما حل أجل سداده، مقابل العمل المؤدى، فهو متلازم مع العمل وجودا و عدما مثلما يفهم من نص المادة 80 ق90/11، و هو يعنى بحماية قانونية صارمة بالنظر لطابعه الاجتماعي و المعيشي، حيث أقر له المشرع أفضلية في السداد قبل غيره من الديون، بما فيها ديون الخزينة العمومية وفق نص المادة 89.
ب- الحق في التأمين و الحماية و الضمان الاجتماعي: تتقرر هذه الحقوق في ذمة رب العمل و الدولة، كما هو الحال عند تعرض العامل لحادث عمل، أو مرض مهني، أو حتى لأسباب غير مرتبطة بعلاقة العمل كما هو الحال بالنسبة للشيخوخة و المرض وفق أحكام الضمان الاجتماعي و التي تمتد لفروع العامل و أصوله المكفولين و لزوجه.
ت- الحق في الراحة و العطل القانونية: أضحى الحق في العطل حقا مكفولا دستوريا حسب نص المادة 55/03 من الدستور.
ث- التأمين على البطالة: استحدث المشرع هذا التأمين بمقتضى المرسوم التشريعي 94/11 بالنسبة للعمال الذين يفقدون مناصب عملهم لأسباب لا إرادية اقتصادية، و يتمثل في اكتتاب تأمين على البطالة لدى الصندوق الوطني للتأمين على البطالة.
ج- الحق في التقاعد: هو حق شخصي ذو طابع مالي، يستفيد منه العامل الذي استوفى شروط استحقاقه، لاسيما دفع استحقاقات الضمان الاجتماعي خلال المدة التي تمكنه من الاستفادة من أداءات الصندوق، و هي مقدرة ب 32 سنة يستحق على إثرها العامل الحق في التقاعد على أساس نسبة 80 من المائة من متوسط الأجر المدفوع عن السنة الأخيرة من العمل، أو الثلاث سنوات الأخيرة منم العمل إذا كان ذلك أفضل للعامل،، و ينتقل الحق في التقاعد إلى من هم في كفالته من ذوي الحقوق، و هم الزوج، و الفروع، و الأصول المكفولين.
ح- الحق في التكوين و الترقية المهنية: ألزم المشرع رب العمل بمباشرة أعمال التكوين لمصلحة الأجراء و تحسين مستواهم حسب المادة 57 من قانون90/11، و ألزم العمال في ذات الوقت بمتابعة دورات التكوين التي ينظمها رب العمل.
خ- الحق في ممارسة النشاط النقابي: مكن الدستور الجزائري العمال من الحق في الممارسة النقابية من خلال السماح بتأسيسي نقابات مستقلة عن الاتحاد العام للعمال الجزائريين، بعد أن كان مفهوم الممارسة النقابية في ظل النصوص السابقة يقتصر على حق الانضمام لهذه النقابة، و أقر بالنسبة للنقابيين إجراءات حمائية خاصة، تتمثل على الخصوص في حظر الإجراءات العقابية التي تتخذ ضد النقابيين بمناسبة ممارستهم لمهامهم.
2- التزامات العمال:
يرتب عقد العمل على عاتق العامل الالتزامات التالية: أ- الالتزام بتنفيذ العمل المحدد في العقد: أقرت المادة 7 من قانون 90/11
بحث قانوني قيم في قانون العمل الجزائري