بحث قانوني و دراسة واسعة في مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود 

مفهوم مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود

دراسة تحليلة مقارنة

مفهوم مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود في القانون الاردني والقانون المصري

The principle of good faith is one of the basic principles in civil law, until it can implemented automatically with out referring to other legal systems its manifestations such as observing the limits of the law and not to execute the contract against the law or by swindle and collusion which is a manifestation of bad faith. And has become accepted as an integral part of the legal systems, whether in Jordan or Egypt, where it is hard to deny its existence. But the difficulty lies in the definition of this principle definition exhaustive, and in determining its nature and the difference concept between good faith and the other moral principles like impartiality and faithfulness, where good faith in the legal texts an expression of a status of mind somewhat vague, especially that the legislature in Jordan and Egypt did not put a definition with this principle, but pointed out its explicitly or implicitly applications and consider it as a observer on the contract in all its stages, especially the implementation phase of the contract, to ensure implementation of the contract in a way that ensures each of the contractors access to their legal rights and legitimate way.
And that’s where the concept of the principle of good faith is not clear, and jurisprudence use it as synonymous for the good treatment, trust and honesty which does not carry same sense, the purpose of this research was to demystify the concept of good faith in the performing cotract in Jordanian civil law Jordanian and Egyptian civil law.

ملخص

إن مبدأ حسن النية من المبادئ الأساسية في القوانين المدنية، حتى انه بلغ حدا من الرسوخ انه في حال عدم النص عليه, يمكن الاستدلال عليه من خلال مظاهره كالالتزام بحدود القانون وعدم الالتجاء في تنفيذ العقود إلى ما يخالف القانون كالغش والتواطؤ باعتبارها من مظاهر سوء النية. وأصبح مقبولا كجزء لا يتجزأ من النظم القانونية سواء في الأردن أو في مصر، حيث من الصعب إنكار وجوده. ولكن الصعوبة تكمن في تعريف هذا المبدأ تعريفا جامعا مانعا، وفي تحديد طبيعته واختلاف مفهومه عما يختلط به من مزايا أخلاقية كالنزاهة والأمانة، حيث يكون حسن النية في النصوص القانونية تعبيرا عن حالة ذهنية إلى حد ما غامضة، خاصة أن المشرع في الأردن ومصر لم يضع تعريفا لهذا المبدأ، وإنما أشار إلى تطبيقاته صراحة أو ضمنا وفرضه كرقيب على العقد في كل مراحله خاصة مرحلة تنفيذ العقد، لضمان تنفيذ العقد بطريقة تضمن لكل من المتعاقدين الوصول لحقه بطريقة قانونية وشرعية.
وحيث ان مفهوم مبدأ حسن النية غير واضح المعالم، والفقة القضاء يستخدمانه كرديف لنزاهة التعامل والثقة والامانة وهو لا يحمل هذا المعنى، فان الغرض من هذا البحث كان ازالة الغموض الذي يشوب مفهوم حسن النية في مرحلة تنفيذ العقد في القانون المدني الاردني والقانون المدني المصري.

مقدمة

لقد نصت الكثير من القوانين الوضعية بما فيها القانون الأردني والقانون المصري على مبدأ حسن النية، فحرمت كل فعل أو ترك يتعارض مع حسن النية ومقتضياته، وإن كانت لم تضع له تعريفا قانونيا محددا بل تركت أمر تعريفه للفقه والقضاء، فقد الزم المشرع المتعاقدين بمراعاته والالتزام بمقتضياته، والزم القاضي بحل خلافات المتعاقدين في ضوء ما تمليه القوة الملزمة للعقد وحسن النية، فهو من الشمول والفاعلية بحيث انه لا حاجة للنص عليه صراحة، إنما يطبقه القضاء من خلال مظاهره ومن خلال النظم القانونية التي تلتقي معه كفكرة عدم التعسف في استعمال الحق وانتفاء الغش. وهذا ما يدلل على أهميته وضرورته كمبدأ قانوني عام استقر في الحياة القانونية.
وقد تناول المشرع الاردني والمشرع المصري مبدأ حسن النية في العديد من النصوص، منها ما اكد على ضرورة التقيد بمبدأ حسن النية صراحة، ومنها ما اشار ضمنا اليه وذلك من خلال الزام المتعاقد بمقتضياته ومظاهره. فهناك مجموعة من النصوص في القانون المدني الاردني تناولت مبدأ حسن النية صراحة كالمادة(202) والتي اوجبت تنفيذ العقود وفق ما يستوجبه مبدأ حسن النية وهي تتطابق مع المادة(148) من القانون المدني المصري. وهناك نصوص اشارت الى مبدأ حسن النية ضمنا من خلال استلزامها مقتضى من مقتضيات حسن النية كالنصوص التي تحرم الغش والتعسف والاضرار بالغير. وهذا ما يتفق عليه القانونان الاردني والمصري، حيث ان الكثير من النصوص المدنية المصرية تتطابق حرفيا مع النصوص الاردنية او بالحد الادنى تتفق معها من حيث النتيجة، وهذا ان دل على شئ فانه يدل على وحدة الموقف من مبدأ حسن النية.

مشكلة البحث:

تتمثل مشكلة البحث بعدم وضوح مفهوم مبدأ حسن النية في مرحلة تنفيذ العقود فلا نجد له تعريفا فنيا قابل للتطبيق، حيث انه يختلط بالمفاهيم الأخلاقية من صدق وأمانة ونزاهة واستقامة، وهذه المفاهيم تتصف بالغموض من الناحية القانونية وهي لا تكفي لتحديد معناه القانوني حيث ان هذه المفاهيم في ذاتها تحتاج الى تحديد. وعلى ذلك ستركز هذه الدراسة على وضع مفهوم قانوني لمبدا حسن النية في تنفيذ العقود.

اهداف الدراسة:

تتلخص اهداف الدراسة بما يلي:
بيان مفهوم مبدأ حسن النية القانوني بشكل منفصل عن باقي المفاهيم الاخلاقية التي قد تختلط به، وموقف المشرع الاردني والمشرع المصري منه.
بيان ارتباطه بالقوة الملزمة للعقد.
بيان الاتجاهات التي حاولت تعريف مبدأ حسن النية وبيان ايجابياتها وسلبياتها.
بيان المعيار المعتمد في قياس حسن النية عند المتعاقد.
الدراسات السابقة:
بدوي ،السيد(1989) حول نظرية عامة لمبدأ حسن النية في المعاملات المدنية، اطروحة دكتوراه، جامعة القاهرة.
قاضي، محمد مصباح(2000) مبدأ حسن النية في قانون العقوبات، دار النهضة، القاهرة، مصر.
القوني، عبدالحليم (2004) حسن النية واثره في التصرفات في الفقة الاسلامي والقانون المدني، دار المطبوعات الجامعية، الاسكندرية.
ملا صالح، عبد الجبار(1973) مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود، رسالة ماجستير، جامعة بغداد، مطبعة اليرموك، بغداد.
حداد، رومان (2000) حسن النية في تكوين العقود، رسالة ماجستير، جامعة ال البيت، المفرق، الاردن.
منهج الدراسة:
تعتمد هذه الدراسة المنهج الاستنباطي وذلك بالرجوع الى الكتب الفقهية الاردنية والمصرية، ومقارنتها بأحكام القانون المدني الاردني والقانون المدني المصري وصولا الى النتائج المرجوة. كما تعتمد المنهج التطبيقي من خلال الرجوع الى القرارات القضائية في الاردن ومصر. وقد قسمت هذه الدارسة الى مبحثين: بينت في المبحث الاول الاتجاهات الفقهية التي حاولت تعريف مبدأ حسن النية، كما وضحت مفهومه وفق ما يراه الباحث وموقف القوانين المقارنة من ذلك، وفي المبحث الثاني تم بيان خصائص هذا المبدأ ومعيار الاخذ به في ظل القانون الاردني والقانون المصري.

المبحث الاول: مفهوم مبدأ حسن النية وارتباطه بالقوة الملزمة للعقد

ان العقد هو اتفاق بين شخص أو أكثر مع شخص أو أكثر, يلتزم بموجبه طرف يسمى المدين تجاه آخر يسمى الدائن, بإعطاء شيء أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل. والعقد ينعقد بمجرد تطابق الإيجاب والقبول, إلا إذا قرر القانون أوضاعا معينة لانعقاده.() كاشتراط المشرع استيفاء شكل معين في بعض الأحيان. وبانعقاد العقد بتلاقي الإيجاب والقبول, يصبح شريعة للمتعاقدين يجب على المتعاقدين تنفيذه(2).
والعقد كغيره من التصرفات يحتاج إلى نية، أي اتجاه إرادي نحو أمر معين، فكل فعل يسبق بعزم وتصميم على القيام به أو الامتناع عنه. فالنية أو القصد لغة هو اعتقاد العقل بفعل شيء وعزمه عليه دون تردد. والنية وإرادة الفعل مترادفان، فلم يفرق فقهاء القانون المدني بين النية والإرادة، حيث يقال عادة أن الرضا يتكون من إرادتين تندمج أحدهما في الأخرى، ويتكون منهما إرادة عليا تشتمل على هاتين الإرادتين، ومن ثم تكون هذه الإرادة العليا هي إرادة كل من الطرفين. فعند تمام الرضا يعتبران أنهما أي المتعاقدان يريدان الشيء نفسه، وتسمى هذه الإرادة بالتعاقدية أو المشتركة أو النية المشتركة. فالإرادة في جوهرها حقيقة باطنة، مقدمتها اتجاه الإنسان بتفكيره إلى أمر معين، ثم تدبر هذا الأمر، والاستقرار على إنجازه بعقد العزم وجزمه في هذا الاتجاه.()
إن النية اتجاه فكري وميل نفسي إلى الفعل،() يوحي أن المتعامل كان بين خيارات فضل منها ما وجده الأمثل عنده واطمأن إليه، وفي ذلك إشارة إلى معنى الحرية في الاختيار. كما أن الإدراك عنصر لازم لتحقق معنى الاتجاه، إذ إن الاتجاه لا يكون إلا عن علم بحقيقة الشيء موضوع الاتجاه، وجوهر المعرفة هو الإدراك فلا علم ولا معرفة بغير إدراك. كما أن وصف النية بأنها فكرية ينبئ عن الطبيعة الذاتية أو النفسية أو الداخلية للنية، كما يشير من ناحية أخرى إلى أن ما يجول في الذهن ذو طبيعة تصورية تبعد عن الطبيعة المادية للأشياء محل التصور، ويستتبع ذلك أن ارتباط النية بغاية أو بموضوع ما هو إلا ارتباط تصوري وليس ماديا.()
والنية إلى هذا ليست إلا يقيناً بلغ العزم ولكنها لم تكتسبه، فالإرادة هنا انعقدت باتة على ما استقرت عليه، ولكنها إرادة ساكنة أو داخلية أو باطنية إذ افتقدت القدرة المحركة لها من عالم النفس الذي لا يحفل به القانون، لتخرجها إلى عالم الوجود الخارجي أو القانوني المعتبر لها. بمعنى آخر أنها افتقدت المظهر الخارجي الدال على وجودها في عالم المحسوسات، حتى إذا وجد ذلك المظهر كانت إرادة معلنة أو ظاهرة، فكانت النية مع العزم إرادة باطنة، وكانت النية مع العزم مع القدرة المتحركة أي المظهر الخارجي، إرادة ظاهرة.() فطالما بقيت النية كامنة في النفس ولم تخرج إلى العالم الخارجي بالإفصاح عنها فإنها لا ترتب أي اثر قانوني.()
أما مصطلح حسن النية في تنفيذ العقود فهو يختلف كما هو معلوم عن النية وعن الحسن إذا ما جُزّء هذا المصطلح. وأحيل فيما يتعلق بالنية إلى ما سبق، أما الحسن فهي كلمة تدل على ما هو أخلاقي ومحمود وغير قبيح أو غير مذموم ومرتبط بالخير. والحسن بعكس السوء، فالسوء هو كل ما يعتبر مذموم أو قبيح أو غير أخلاقي ومرتبط بالشر. وبجمع الحسن والنية في مصطلح حسن النية كمبدأ قانوني يتغير معناه ومدلوله. وعليه وفي المطلبين التاليين ساعمل على بيان الاتجاهات التي جاءت لتعريف حسن النية في المطلب الاول، اما المطلب الثاني فقد اختص بمفهوم حسن النية وفق ما يراه الباحث.

المطلب الأول : اتجاهات تعريف مبدأ حسن النية :

يُعتقد “أن محاولة وضع تعريف محدد لمبدأ حسن النية ليست من السهولة التي قد يتصورها البعض، وذلك لاختلاط فكرة حسن النية بالأخلاق في القانون، فهي فكرة غير محددة يشوبها الغموض وعدم التحديد، ذلك إن وحدة القياس في القانون تختلف عنها في الأخلاق. كما أن مفهوم حسن النية يختلف من حالة إلى أخرى، ففي نطاق التنفيذ يعني الاستقامة والأمانة، وفي كسب الحقوق يعني عدم العلم بالعيب الذي يشوب التصرف. ومن ناحية أخرى فإن فكرة حسن النية تختلط بمعاني أخرى تنبع من منبع واحد، إذ يتحدث الفقهاء بمناسبة الحديث عن حسن النية عن فكرة الجهل والغلط والخطأ، وجميع هذه الأفكار تنبع من داخل الإنسان أي أنها ذاتية، قياسها وتحديدها ليس هيناً لارتباطها بعواطف وأفكار ومشاعر الإنسان، والتي تتفاعل وتتحرك من أجل تحقيق غاية معينة، تنتهي إلى قرار بعقد العزم عليه، ثم يترجم هذا القرار إلى واقع ملموس في العالم الخارجي، وهذا القرار المترجم قد يكون مشروعاً وقد يكون غير مشروع، فأين حسن النية من كل ذلك”(1).
لم ترق محاولات تعريف مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود إلى الحد الذي يجعل معنى مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود واضحاً ومحدداً، فلم تكن دقيقة ومحددة في وضع تعريف قانوني لحسن النية، حيث استخدمت تعابير عامة وأخلاقية كالصدق والأمانة، وهي مصطلحات أصلاً تحتاج إلى تحديد قانوني. فهناك من يرى بأن حسن النية هو” التعامل بصدق واستقامة وشرف مع الغير، بصورة تبقي ممارسة الحق ضمن الغاية المفيدة والعادلة التي أنشئ من أجلها، والتزام كل من طرفيّ العقد بها، بحيث لا تؤدي هذه الممارسة إلى الإضرار بالغير دون مسوغ مشروع، بل توصل كل ذي حق إلى حقه بأمانة”.() أو أن يُعرف حسن النية أنه ” التزام اليقظة والإخلاص والنقاء من كل غش أو إيذاء للغير”. أو أنه ” الاستقامة والنزاهة، ومراعاة ما يجب أن يكون من إخلاص في تنفيذ ما التزم به المتعاقد”.() كما أن هناك من يُعرف حسن النية على أنه” تصوير لتلك النوايا المتئدة الخالية من الصرامة والعنف، وذلك الاتجاه الرصين المقترن بالاعتدال والعطف، كل أولئك فيما يتوخاه المتعاقد مما يهدف إليه من تنفيذه عقده “.()
والواقع أن مثل هذه التعاريف يُعاب عليها كما أشرت إنها تستخدم عبارات عامة براقة، تتسم بعدم الوضوح والدقة، ولا تعطي معنى محدداً لمبدأ حسن النية. كما تشير إلى الآثار التي تترتب على التزام المتعاقد بمبدأ حسن النية، دون تحديد معنى أو ماهية هذا المبدأ ذاته. مع وجود هذه التعريفات، فقد ظهرت تعريفات أدق ومحددة أكثر، سأحاول حصر هذه الاتجاهات فيما يأتي :

الاتجاه الأول :
ميز بين ثلاثة أنماط لمبدأ حسن النية، وميز على أساسها بين معيار كل نوع، وقال بوجود حسن أو سوء النية الشخصي والموضوعي والقانوني.()
أولا : حسن النية الشخصي :
وقد عنى بحسن النية الشخصي الجهل بواقعه معينة أو بظرف محدد من الظروف، التي تكون مناط ترتب الأثر القانوني. بحيث يختلف الحكم التشريعي المترتب اختلافاً متعارضا تبعاً لتحقق الجهل أو العلم بتلك الواقعة أو ذاك الظرف.
وبهذا يكون معنى سوء النية هو تحقق يقين العلم بهذا الظرف أو تلك الواقعة على وجه الحقيقة، أو تحقق امكان العلم أو استطاعته، حيث يقوم ذلك على سبيل الافتراض مقام تحققه حتى يثبت نقيضه، أي يقوم على افتراض تشريعي، وبهذا يكون أقرب لسوء النية القانوني.
ومدخل حسن النية أو سوء النية الشخصي هو ذات الشخص المطلوب الحكم على تصرفه بالحسن أو السوء، إذ يجب أن نبحث في تلك الذات عن حقيقة الاتجاه الإرادي، وتحديد تحقق أحد الوصفين تبعاً لما تشير إليه قرائنه الدالة عليه.
ويبدو أن الطبيعة الذاتية لوصف الحسن أو السوء تكون متحققة، حين يكون مناط الوصف متمثلاً في تحقق العلم أو الجهل الفعلي بالواقعة أو التصرف محل التعويل التشريعي في ترتيب الحكم. أما حيث يكون مناطه هو إمكان العلم فليس من شك في أنها لا تتحقق في تلك الحالة، حيث لا يقوم إمكان العلم على طابع ذاتي.()

ثانيا : حسن النية الموضوعي :
أما حسن أو سوء النية الموضوعي بحسب هذا الرأي، فإنه يرتبط بمدى مراعاة مقتضيات حسن النية أو عدم مراعاتها، حتى إذا أتى المتصرف بتصرفه على وفق تلك المقتضيات كان حسن النية، وإذا ما أتى بتصرفه على خلافها كان سيئ النية. وتقوم مقتضيات حسن النية على دعائم أخلاقية ثابتة ومبادئ دينية تؤمن بها الجماعة، وتمثل بالنسبة لها مجموعة القيم والمثل التي تهيمن على تعاملاتها، ولهذا تنظر إلى مقتضياتها كمبادئ سامية تتصف بالعموم والتجريد، فترفعها في عرفها إلى مقام القواعد القانونية، حتى لو لم يتضمنها نص تشريعي كالوفاء بالعهد والامانة والثقة المشروعة وشرف التعامل ونحوها.
ومدخل سوء أو حسن النية هنا ليس مدخلاً شخصياً، وإنما المدخل هنا مدخل موضوعي بحت، ينظر فيه إلى مدى اتفاق التصرف ومخالفته لمقتضيات حسن النية، وينبني على ذلك أن مخالفة مقتضيات حسن النية تتحقق لمجرد صدور التصرف على خلاف ما تقضي به تلك المقتضيات، دون نظر لما إذا كان المخالف يعلم بالمقتضى الذي خالفه أو لا يعلم.
وقد انزل المشرع المصري في المادة (150 مدني) الخاصة بالتفسير معيار حسن النية الموضوعي منزل التطبيق.() وأيضاً في نظرية الغلط في بيان جوهرية الصفة، إذ قضى في المادة (121/2 مدني مصري) بأن” الغلط يعتبر جوهرياً بالأخص إذا وقع في صفة للشيء تكون جوهرية في اعتبار المتعاقدين، أو يجب اعتبارها كذلك لما يلابس العقد من ظروف ولما ينبغي في التعامل من حسن النية”. وفي بيان نطاق التمسك بالغلط، نصت المادة (124) من القانون المدني المصري على انه : ” 1) ليس لمن وقع في غلط أن يتمسك به على وجه يتعارض مع ما يقضي به حسن النية. 2) ويبقى بالأخص ملزماً بالعقد الذي قصد إبرامه، إذا أظهر الطرف الآخر استعداده لتنفيذ هذا العقد”.()

ثالثا : حسن النية القانوني :
والنوع الثالث بحسب هذا الرأي هو حسن أو سوء النية القانوني، ويقوم هذا على فرضية تشريعية يتعين على المتعامل مراعاتها، حتى إذا أصاب حكم القانون كان حسن النية، وإذا لم يصبه كان سيئ النية، بصرف النظر عن حقيقة الواقع، وما إذا كان المتعامل يجهل وجود القاعدة القانونية التي تخاطب تصرفه أو كان يعلمها، وبصرف النظر عما إذا كان يقصد حقيقة مخالفة القانون أم لم يقصده، ذلك أن حقيقة الاتجاه الإرادي ذاته فيما إذا كان المتعامل يقصد الالتزام بحكم القانون، لا يعول عليه، طالما تحققت مخالفة القاعدة القانونية فعلاً. وبهذا المعنى ينفك ارتباط مبدأ حسن النية بقواعد الاخلاق.
ويعني هذا أن المشرع كلما رسم طريقاً للعلم بتصرف معين، فلا يجوز استظهار العلم إلا بهذا الطريق. فالتسجيل مثلاً طريق لشهر انتقال الحقوق العينية العقارية الأصلية، فلا يكون انتقال هذه الحقوق نافذاً في حق الغير إلا عن طريق التسجيل.
ففي مثل هذه الأحوال فإن مجرد القصد لا يكفي لتحديد معنى حسن النية القانوني، فلا يعبأ المشرع في تقرير الحسن أو السوء بالجهل أو العلم، كما لا يعبأ في تقريرهما بموافقة أو مخالفة مقتضيات حسن النية، إذا ما هو يربط الوصف بثبوت تلك الظروف التي يراها قاطعة في الدلالة عليه أو بعدم ثبوتها. ومن ذلك ما قضى به المشرع المصري في المادة (104/2 مدني) من اعتبار الموكل سيء النية إذا ما أدعى جهله لظروف كان من المفروض أن يعلمها، فقد حظر عليه المشرع أن يتمسك بجهل وكيله لظروف كان من المفروض حتماً أنه يعلمها.(1)

يلاحظ على هذا الاتجاه في تحديد معنى حسن النية أنه لم يتعرض لنية الأضرار كمؤشر حقيقي على سوء النية من خلال تفصيله لأنواع حسن النية. “وأعتبر أن نية الأضرار ليست عنصراً متطلباً للقول بسوء النية، إذ يتحقق سوء النية ولو لم يكن ثمة اتجاه للإضرار بالمتعاقد الآخر أو الغير، وإنما يلزم ويكفي لتحقق سوء النية أن يكون هناك اتجاه إرادي مقصود لإحداث الفعل أو الترك غير المشروع فحسب، دون أن يمتد هذا الاتجاه المقصود إلى النتيجة”(2). كما أن هذا الاتجاه حصر معيار حسن النية التنفيذي بالموضوعي دون الشخصي، فكان هذا بحسب رأي الباحث مما يعيب هذا الاتجاه في تحديد معنى حسن النية فالمتعاقد الذي يتجه قصده إلى الفعل أو الترك غير المشروع، يفترض بأنه قصد الفعل والنتيجة، وقصد الإضرار بالمتعاقد الأخر حتى لو كان بطريق الإهمال، إذ ان المتعاقد البالغ الراشد يعي حقيقة ما يفعله ويقدر نتيجته، خاصة أن المشرع فرض على المتعاقد توخي اليقظة والتبصر وفقاً لسلوك الرجل المعتاد. وهذا ما يؤكد أن معيار قياس حسن النية من سوءها شخصي، إذا ما أفترض أن نية الأضرار من سوء النية دون الاستغناء عن المعيار الموضوعي.

الاتجاه الثاني :
كما ظهر اتجاه آخر لتحديد مضمون حسن النية في التصرفات القانونية، يرى ” أن حسن النية في التصرفات القانونية هو الجهل المبرر بواقعة معينة، يرتب عليها الشارع أثراً قانونياً كالجهل بالعيب الذي يجعل التصرف غير فعال، مثل من يشتري قطعة أرض، وهو يجهل أنه يشتريها من غير ذي صفة فهو اعتقاد مغلوط. وبناء على ذلك يكون سوء النية هو العلم بواقعة معينة يرتب الشارع على العلم بها أثراً قانونياً، كمن يتلقى حقاً وهو يعلم أنه يتلقاه من غير ذي صفه، سواء أكان العلم بسيطاً أو في صورة تواطؤ. وسوء النية وفقاً لهذا الاتجاه يطابق الخطأ العمد وفقاً لقواعد الأخلاق، لأنه قد ينطوي على الغش والأضرار، وقواعد الأخلاق تأبى ذلك. ويفترض هذا الاتجاه لاعتبار المتعاقد حسن النية أن ينتفي في جانبه أي خطأ عمدي أو غير عمدي، إذ الخطأ بجميع صوره يتعارض مع حسن النية. ولما كان الوهم أو الجهل الذي وقع فيه الغير يعتبر حالة ذاتية ونفسية خاصة به يصعب إقامة الدليل عليها أو على عكسها، لذلك وجب الالتجاء إلى معيار موضوعي أي معيار رب الأسرة الحريص. وبهذا فإن حسن النية يقاس بمعيار موضوعي واحد، ورائده في ذلك استقرار المعاملات، والبعد عن مشقة البحث في العوامل النفسية الداخلية “.()
ويجد حسن النية بهذا المعنى سنداً له في بعض النصوص والأحكام القانونية، كنص المادة (1176) من القانون المدني الأردني يعد حسن النية من يحوز الشيء، وهو يجهل أنه يعتدي على حق الغير، ويفترض حسن النية ما لم يقم الدليل على غيره. ولا تزول صفة حسن النية لدى الحائز إلا من الوقت الذي يصبح فيه عالماً أن حيازته اعتداء على حق الغير، ويزول حسن النية من وقت إعلان الحائز بعيوب حيازته في صحيفة الدعوى.()

الاتجاه الثالث :
يرى أن حسن النية هو” الغلط المبرر والمشروع، وحسن النية لا تتوافر هنا إلا بانتفاء أي خطأ من جانب الغير، وهو بهذا يختلف عن الجهل الذي يكون فيه الشخص غير عالم بواقعة معينة، بينما الغلط هو وهم واعتقاد مخالف للحقيقة، فهو يفترض غياب الحقيقة، وحلول فكرة غير صحيحة محلها في ذهن الموهوم. ويعني بذلك الخطأ القانوني الذي تقوم به المسؤولية المدنية، وهو يشمل إضافة إلى الخطأ العمدي الخطأ غير العمدي، فيكون سيئ النية من كان قاصداً الإضرار وتحقق في تصرفه معنى الغش، وكذلك من يتسبب في إصابة الغير بضرر بإهماله أو عدم احتياطه. ويأخذ هذا الرأي بمعيار موضوعي “معيار رب الأسرة الحريص”، باعتباره معياراً موضوعياً، يتحدد به معنى حسن وسوء النية في حالة الجهل المبني على الإهمال أو عدم الحيطة “.()

الاتجاه الرابع :
يعتمد هذا الاتجاه في بيان حسن النية على تحليل مصطلح حسن النية، قائلاً: أن النية هي القصد وعزم القلب على شيء معين، ومن ثم فهي إرادة باطنة طالما أن صاحبها لم يعبر عنها بقصد إنتاج أثر قانوني. ويتم الاستدلال عليها بطريق غير مباشر، عندما يلابسها تصرف خارجي للشخص، وإلا فإن القانون لا يعتد بها ولا يرتب عليها أثراً. هذا عن النية أما الحسن والسوء فهما عبارة عن أحكام اجتماعية ترتبط بالقيم السائدة في مجتمع معين. ويمكن تحديد الحسن في الأمانة والاستقامة والنزاهة، والسوء في الخيانة والغش والكذب والغدر والرياء والظلم. وعلى ذلك يكون الشخص حسن النية إذا هو سلك الطريق السوية في تصرفاته والتي تتمثل في الأمانة وبابها، ويكون سيئ النية إذا سلك الطريق غير السوية التي تتمثل في الخيانة وبابها.()
يضع هذا الاتجاه تعريفاً لمبدأ حسن النية، وإن اختلف بعض الشيء عن معناه الأخلاقي، وهذا التعريف هو “قصد الالتزام بالحدود التي يفرضها القانون”. ونقول قصد الالتزام وليس الالتزام ذاته، إذ قد يقصد المرء الالتزام بحدود القانون، ورغم ذلك تقع منه المخالفة لعدم إدراكه لكل حقائق الموضوع أو لجهله بالقانون، وإما لأنه لم يتخذ كل ما يلزم من احتياطات. فقصد الالتزام شيء مستقل عن التحقيق الفعلي لهذا الالتزام.()

لما سبق فإن هذا الاتجاه يخرج من إطار حسن النية حدوث الضرر للآخرين نتيجة الإهمال وعدم الاحتياط، إذ أن سوء النية يتحدد بأنه عدم قصد الالتزام بحدود القانون فهو موقف عمدي، ويدخل فيه الغش وقصد الإضرار. ويؤخذ على هذا الاتجاه أنه يترتب عليه إغفال ما يستوجبه القانون من التزام بالسعي نحو التحري والاستعلام والاستقصاء، وهو التزام قانوني ينزل الإخلال به منزل سوء النية.() كما أن الإهمال أو عدم الاحتياط وإن كان يشكل موقفاً سلبيا، إلا أنه كأي فعل أو ترك يتحرك بنية قد تكون حسنة وقد تكون سيئة، رغم أن هذه النية لم تتجه إلى الإضرار بالغير بشكل عمدي، إلا أنها قصرت وأهملت حين كان يجب أن تتخذ موقفاً إيجابياً لذلك تتخذ صفة السوء.

الاتجاه الخامس :
وهو الاتجاه الأخير في محاولة وضع تعريف قانوني لمبدأ حسن النية, ” فهو الذي يحدد حسن النية لدى المتعاقد على أساس انتفاء العنصر المعنوي للخطأ، بنوعيه العمدي وغير العمدي. واعتبر هذا الرأي أن حسن النية في مرحلة تنفيذ العقد، ما هو إلا انعدام الركن المعنوي للخطأ على اعتبار أن الخطأ لا يقوم إلا بتوافر عنصرين: مادي يتمثل بالواقعة المادية أي الفعل أو الترك، والعنصر المعنوي هو النية التي دفعت المتعاقد للقيام بذلك الفعل أو الترك. فإذا كانت هذه النية حسنة ولا تتضمن نية الإضرار بالمتعاقد الأخر، ينتفي بذلك الخطأ العمدي في جانبه، وبالتالي يكون المتعاقد حسن النية لانتفاء العنصر المعنوي للخطأ المتمثل بنية الإضرار. وبحسب هذا الرأي فان المتعاقد حتى يتصف بحسن النية، لا يكفي منه أن تنتفي نية الإضرار لديه، بل عليه أن لا يهمل وأن يتيقظ ويتبصر بحيث لا يلحق ضررا بالمتعاقد الأخر دون قصد، بمعنى أن ينتفي الخطأ غير العمدي من جانب ذلك المتعاقد. ويرى هذا الاتجاه أن حسن النية يقاس بمعيارين شخصي وأخر موضوعي. يلجا إلى المعيار الذاتي أو الشخصي للكشف عن نية المتعاقد أي عن العنصر المعنوي للخطأ العمد, فإذا توافر الخطأ العمد عد المتعاقد سئ النية. ويرجع بحسب هذا المعيار إلى شخص المتعاقد وظروفه الخاصة لمعرفة حقيقة نيته. أما فيما يتعلق بسوء النية القائم على الإهمال وقلة الاحتراز فانه يقاس بمعيار موضوعي، لا يرجع فيه إلى ظروف المتعاقد الشخصية، بل يقاس سلوكه بحسب المألوف وبحسب سلوك الرجل المعتاد “.()
وبالنظر إلى ما قيل في الآراء سابقة الذكر فان الباحث يرجح الرأي الأخير، ويرى انه الأقرب لتحديد مفهوم حسن النية في مرحلة تنفيذ العقد، إذ إن الخطأ في تنفيذ العقد هو اكثر ما يبحث في هذه المرحلة، لانه يمثل حالة إخلال المتعاقد بالتزاماته وبالتالي عدم الالتزام بحسن النية. ومما يؤيد ترجيح هذا الرأي انه اعتمد في تقدير حسن النية على معيارين المعيار الذاتي والمعيار الموضوعي، فلم يعتمد على معيار دون آخر كما فعلت الاتجاهات الأخرى، حيث فرق بين تعمد عدم التنفيذ والإهمال في التنفيذ. إلا أن القول بانعدام العنصر المعنوي للخطأ كتعريف لحسن النية، يقصر من شمولية مبدأ حسن النية، ويحدد نطاق عمله، ولا يربطه بالقوة الملزمة بشكل واضح، رغم وجوب ذلك. فالخطأ وإن كان يشكل إخلالا بمبدأ حسن النية ويلتقي معه، فهو لا يعبر عن مفهوم كامل ومتكامل لمبدأ حسن النية في تنفيذ العقود، بينما ربط مفهوم حسن النية بقاعدة العقد شريعة المتعاقدين والقوة الملزمة للعقد، قد يعطيه مفهوما أدق وأوضح واشمل من مجرد ربطه بفكرة الخطأ، وما تحرر المتعاقد من بعض التزاماته في ظروف خاصة كحالة الضرورة والقوة القاهرة، إلا رخص وحالات قدرها المشرع، لا تشكل بنظره خروجا على حدود القوة الملزمة للعقد، على عكس الحال إذا ما كان الخروج عن هذه الحدود عمديا أو اهماليا.

المطلب الثاني: حسن النية التنفيذي وعلاقته بالقوة الملزمة للعقد

يخلص الباحث إلى أن التعريفات سابقة الذكر قد لا تكفي لتحديد معنى حسن النية في مرحلة تنفيذ العقد, إذ إن ما يطلب من المتعاقد في مرحلة الإبرام أو التفاوض يختلف عنه في مرحلة التنفيذ، وإن كان المشرع ألزم المتعاقدين مراعاة ما يوجبه حسن النية في كل المراحل العقدية. هناك من قصر معناه في مرحلة التنفيذ على الغش ونية الإضرار، وعلى التدليس في مرحلة الإبرام. وإن كان من المتفق عليه وجوب الالتزام بمقتضيات حسن النية من أمانة وصدق واستقامة وشرف، إلا أن معناه الدقيق والمحدد مختلف فيما بين المرحلتين الإبرامية والتنفيذية. على ذلك فانني أرى صعوبة تحديد مفهوم حسن النية التنفيذي بشكل كامل ومحدد وفق أحد الاتجاهات السابقة.حيث ان حسن النية في مرحلة تنفيذ العقود يتخذ مضموناً قد يكون أدق وأوسع عند توضيح ارتباطه بفكرة القوة الملزمة للعقد والإخلال بتنفيذ الالتزام، وعليه فان الباحث يعتقد أن الوقوف على حقيقة هذا الارتباط قد يقودنا إلى تحقيق الهدف المنشود وتحديد المقصود بمبدأ حسن النية في تنفيذ العقد، فهناك ارتباط وثيق بين القوة الملزمة للعقد وحسن النية، فما هي طبيعة هذا الارتباط ؟

هناك علاقة وثيقة بين مبدأ حسن النية وقاعدة القوة الملزمة للعقد، التي تفرض على المتعاقد تنفيذ التزاماته الناشئة عن العقد بحسن نية. وقد ظهر هذا الربط بين القوة الملزمة للعقد ومبدأ حسن النية من خلال النص عليه في القانونين المدنيين الأردني والمصري صراحة. فقد نصت المادة (199/2) من القانون المدني الأردني على انه ” يجب على كل من الطرفين الوفاء بما أوجبه العقد عليهما”. ونصت المادة (202) من القانون المدني الأردني على انه ” يجب تنفيذ العقد طبقا لما اشتمل عليه، وبطريقة تتفق مع ما يوجبه مبدأ حسن النية “، وفي الفقرة الثانية قرر المشرع الأردني انه ” لا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد فيه، ولكن يتناول ما هو من مستلزماته وفقا للقانون والعرف وطبيعة التصرف”.() والمشرع الأردني بهذا قرر قاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين، وانه يكتسب قوته الملزمة بتوافق إرادتي طرفي العقد، ويصبح قانونا خاصا بهما، يجب تنفيذه بحسن نية، وبين حدود هذه القوة من حيث الموضوع والأشخاص. وأن الالتزام بحسن النية في التنفيذ يجد أساسه وحدوده في القوة الملزمة للعقد، وهذه القوة لا تفرض على المتعاقد أداء الالتزام كواقعة مادية فقط كفعل تسليم المبيع، بل أن هناك أصولا فنية، قانونية وأخلاقية، تتفرع عن القوه الملزمة يجب على المتعاقد أن يلتزم بها، إذا أراد أن يكون تنفيذه للعقد قانونيا يتفق وحسن النية، وبالتزامه بهذه الأصول يكون قد نفذ التزامه بحسن نية. وقد أكدت محكمة التمييز الأردنية هذا المعنى حين قضت ” أن سلوك المدعي الذي ينطوي على سوء نية خلافا لأحكام المادة(202) من القانون المدني، التي توجب الالتزام بحسن النية عند التنفيذ سلوكا تأباه الأخلاق والعدالة فضلا عن القانون.() فمحكمة التمييز بذلك تكون قد ألزمت المتعاقد بما تفرضه الأخلاق السائدة في المجتمع حتى لو لم تكن مقننة بنص.

فإذا انعقد العقد مستوفيا لشروطه وأركانه وكان نافذا ولازما، ترتب عليه حكمه ووجب على طرفيه الوفاء بما يلزمهما من حقوق. “وسبب هذا الإلزام هو الرابطة العقدية التي يحميها مبدأ القوة الملزمة للعقد، والقائم على فكرة أن العقد شريعة المتعاقدين، والتي تعني أن الالتزام الذي ينشا من العقد له قوة الالتزام الناشئ من القانون. ومبدأ القوة الملزمة للعقد يعني وجوب تنفيذه وعدم قدرة المتعاقد أن يرجع عن هذا التنفيذ”.() وكما أن القانون له قوته الملزمة، فان للعقد قوته الملزمة، التي يجب أن تتم بحسن نية. بمعنى أن العقد إنما يكون شريعة للمتعاقدين، طالما انه قد نفذ في الحدود التي يبيحها القانون من ناحية عدم مخالفته للنظام العام والآداب. حيث إن للأفراد أن يتفقوا على تنظيم ما يرون من العلاقات فيما بينهم، بشكل لا يتعارض والنظام العام والآداب. وبذلك يضمن المشرع للعقد القوة والاستقرار بوصفه أداة لتبادل المنافع، ليطمئن الناس على معاملاتهم،() الأمر الذي يشكل إعمالا لمبدأ حسن النية، بل إن هذا وظيفة من وظائف مبدأ حسن النية.
وحتى يكون تنفيذ المتعاقد لالتزامه مقبولا من وجهة نظر القانون والمجتمع، يجب أن يكون ذلك التنفيذ ضمن الأصول الفنية المشار إليها قانونية كانت أو أخلاقية. فالبائع في عقد البيع مثلا، لا يلتزم بمجرد تسليم المبيع فقط، بل عليه أن لا يصدر منه أي فعل أو ترك قد يلحق الضرر بالمتعاقد الأخر عمدا أو إهمالا، بان يبذل العناية اللازمة لتحقيق مهمة العقد المشروعة، وأن يسلم كل مستلزماته. فلا يقدم على فعل من شانه إتلاف المبيع بعد أن خرج من حيازته، وعليه أن يسلم المبيع وملحقاته حتى لو لم يتضمن العقد شرطا صريحا بشأنها، وقيامه بمثل هذه الأفعال يخرجه من دائرة سوء النية، فلا يغش ولا يتعسف ولا يخل بالتوازن العقدي. وهذا أمر لا يقتصر على المتعاقد فقط بل يشمل القاضي والغير أيضا، حيث إن قاعدة القوة الملزمة بما توجبه من التزام حسن النية في التنفيذ، ” تخاطب المتعاقدين والقاضي والغير، ذلك أن احترام العقد واجب عليهم جميعا طالما انه قد تم ضمن حدود القانون والمشروعية”.()

وبذلك يمكن القول إن تنفيذ الالتزام الناشئ عن أي عقد، لا يقتصر على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل أو إعطاء شئ، بل يجب أن يتم ضمن الأصول الفنية للتنفيذ التي تقتضيها القوة الملزمة للعقد، قانونية كانت كوجوب تنفيذ الالتزام بكامل ملحقاته ومستلزماته، أو أخلاقية بالامتناع عن مخالفة أي قواعد أو نواميس أخلاقية اقرها المجتمع والقانون، أي مقتضيات حسن النية كالأمانة والصدق والنزاهة. فعلاوة على الفعل المادي في تنفيذ الالتزام، يلتزم المتعاقد بمراعاة تلك الأصول، بان تنتفي لدية أية نية سيئة للإضرار بالمتعاقد الأخر سواء تعمد ذلك الإضرار، أم أهمل وقل احترازه فاوقع الضرر بالمتعاقد الأخر، وهو في الحالتين لم يلتزم بما توجبه عليه القوة الملزمة للعقد, وبذلك يكون سئ النية.

ويقصد بالأصول الواجب مراعاتها في التنفيذ، تلك الأصول التي تحكم وتكمل قيام المتعاقد بالتزامه، بطريقة تحقق حسن التنفيذ. فعندما تخلص للعقد قوته الملزمة، يكون على المتعاقد القيام بالواقعة المادية التي تشكل الجانب المادي من الالتزام, ويكون عليه أيضا مراعاة الأصول التي تجعل التنفيذ كاملا وصحيحا ويتفق وحسن النية. فحتى يكون المتعاقد حسن النية، يجب أن يلتزم بالحدود التي تستوجبها القوة الملزمة للعقد، بان ينفذ التزامه الأصلي أي الواقعة المادية، ووفقا للأصول القانونية والأخلاقية، وان يبذل العناية المطلوبة في ذلك، وألا عد سئ النية. وهذا يجد أساسا له في القانون المدني الأردني الذي أوجب على المتعاقد، أن يقوم بكل ما يلزم لتكون عنايته في التنفيذ متحققة، وهذا ما يعبر عن حسن نيته. فقد تضمنت المادة (358) أن المتعاقد لا يكون قد وفى التزامه، إلا إذا بذل في تنفيذه ما يبذله الشخص العادي، ولو لم يتحقق الغرض المقصود، أي أن مسؤوليته لا تقوم إذا بذل العناية المطلوبة. أما إذا كان المتعاقد سئ النية، وقد تعدى على ما تمليه القوة الملزمة عليه في التنفيذ بغشه أو خطئه الجسيم، فان مسؤوليته تقوم حتى وإن ظهر أنه قد بذل العناية المطلوبة.(1) فالناقل الذي يقوم بالتزامه الأصلي والذي يتمثل بفعل النقل، يجب أن يراعي في أثناء قيامه بذلك الأصول الفنية التي تقتضي منه أن يكون أمينا بان يسلك الطريق الأقصر بحيث لا تزيد كلفة النقل، وأن لا يتجاوز السرعة المسموح فيها، وأن لا يسلك طريقا وعرة قد تلحق الضرر بمحل العقد وبالتالي مصلحة المتعاقد الأخر، وإذا فعل فإنه يخرج بتصرفه عن حدود القوة الملزمة ومقتضيات حسن النية، فيفهم من تصرفه أو طريقة تنفيذه انه سئ النية، قصد الإضرار بالمتعاقد الأخر، وهو يتصف بسوء النية سواء الحق الضرر بالمتعاقد الأخر متعمدا، أم إنه قصر في اتخاذ الاحتياطات اللازمة لضمان حسن التنفيذ وعدم الإضرار بالمتعاقد الأخر. وهذا ما أيدته اجتهادات محكمة التمييز الأردنية حيث قضت انه ” إن الأخطاء الفنية التي ترتب المسؤولية على المهندس _ شانه في ذلك شأن باقي المهنيين _ لا تنحصر في الأخطاء التي تصدر عن نية سيئة فقط، بل تتعدى إلى كل سلوك يعتبر خروجا عن المألوف من أهل الصنعة في بذل العناية الفنية التي تقتضيها أصول المهنة وقواعد الفن”.()

إذ إن قاعدة القوة الملزمة والعقد شريعة المتعاقدين، “تتواءم مع متطلبات قواعد الأخلاق بالشكل الذي يجعله متوافقا مع العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ولهذا نصت القوانين المقارنة على المبدأ الذي مفاده أن الاتفاقات يجب أن تنفذ بحسن نية. حتى أن هناك من ينادي بإضفاء الطابع الأخلاقي على القاعدة القانونية, وفي هذا الإطار ظهر ما يسمى بالالتزام بالإعلام في تنفيذ العقد والالتزام بالتعاون، وذلك بهدف تحقيق الأمانة العقدية وعقاب التصرفات غير الأمينة، باستلزام وجود علاقات عقدية تتسم بالثقة المشروعة من خلال مفاهيم التسامح والتعاون. ويقصد بالالتزام بالإعلام التزام المتعاقد بان يقدم للطرف الأخر المتعاقد معه كل بيان أو إشارة أو واقعة تتعلق بمحل العقد، يهم المتعاقد الأخر معرفتها. أما الالتزام بالتعاون فيلزم المتعاقد بالإسهام أو بالتدخل بفعالية في العقد بهدف تسهيل مهمة الطرف الأخر. بينما الالتزام بالتسامح يقتضي أن يمتنع الدائن عن تحميل المدين فوق طاقته، بان يبذل الدائن قصارى جهده لعدم تحميل المدين فوق طاقته، وأن لا يزيد في كلفة تنفيذه التزامه، بإيجاد حد أدنى من التضامن بين طرفي العقد، وان يراعي كل منهما ظروف الأخر”.()

وهذه الالتزامات تجد أساسها في مبدأ حسن النية “وهي تعتبر متفرعة عنه وملازمة له”,() كالتزام المتعاقد بإتباع أصول المهنة وفنها،() والالتزام بالإعلام والإدلاء والإخبار والتعاون والتسامح، علاوة على الالتزام بعدم الإضرار والالتزام بالحيطة والاعتماد على أسباب معقولة، والالتزام بالتحري والبحث الجديين, وإبداء الانتباه في الظروف العادية والطارئة غير العادية, والالتزام باتخاذ الاحتياطات التي يتخذها المتعاقد العادي أثناء التنفيذ، ليست إلا نتيجة لتوائم وجوب تنفيذ العقد مع قواعد الأخلاق السائدة،() وهذه الالتزامات سواء تناولها المشرع صراحة أم ضمنا، تشكل أصولا وقواعد تنفيذية يجب مراعاتها واحترامها، حتى يكون المتعاقد حسن النية. حيث إن التقيد بهذه الالتزامات والأصول، يؤكد نية المتعاقد الحسنة وينفي عنه سوء النية، ويدل على نية حقيقية تعمل على تحقيق الغاية المشروعة للعقد، والحفاظ على الثقة المشروعة.

ولا ينتفي سوء نية المتعاقد إلا بالتخلص من مسؤوليته، بنفي خروجه على ما تمليه عليه القوة الملزمة للعقد،” وذلك لا يكون ألا بإثبات عدم صحة ما ادعاه الدائن من وجود ذلك التعدي على حدود القوة الملزمة، بما يتضمنه ذلك من انتفاء الخطأ بجميع أشكاله، فالخطأ ما هو إلا خروج صريح على مقتضيات حسن النية والقوة الملزمة. وذلك بإثبات أن عدم تنفيذه لالتزامه كليا أو جزئيا، يرجع إلى سبب أجنبي، بان الضرر الحاصل من عدم التنفيذ يرجع إلى القوة القاهرة أو إلى خطا الدائن أو فعل الغير”.() وقد أكدت المادة (247) من القانون المدني الأردني هذا المعنى بان نصت انه “في العقود الملزمة للجانبين إذا طرأت قوة قاهرة، تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا انقضى معه الالتزام المقابل له”. والمادة (261) من القانون نفسه قررت انه “إذا ثبت أن الضرر قد نشا عن سبب أجنبي لا يد له فيه كحادث فجائي أو قوة قاهرة أو فعل الغير أو فعل المتضرر، كان غير ملزم بالضمان، إلا إذا قضى القانون أو الاتفاق بغير ذلك”.()

وعليه فان الباحث يرى أن الإخلال بما تستوجبه القوة الملزمة من وجوب تنفيذ العقد، ووجوب مراعاة الأصول الفنية القانونية والأخلاقية في ذلك، يعني الإخلال بالتزام المتعاقد بحسن النية. وهذا يتخذ إحدى صورتين: أولا : قد يكون إخلال المتعاقد بما توجبه القوة الملزمة عمديا، بحيث يتعمد المتعاقد الإضرار بالمتعاقد الأخر. وثانيا: قد يكون هذا الإخلال دون قصد الإضرار أي غير مدفوع بنية سيئة، ولكن الإضرار الذي قد يحصل ينجم عن قلة احتراز المتعاقد وتقصيره وإهماله، والمتعاقد في الحالتين يعد سئ النية لأنه لم يلتزم بما تفرضه القوة الملزمة وما يفرضه حسن النية، من وجوب تنفيذ التزامه وفقا للأصول الواجبة.
_ والصورة العمدية للإخلال بما تفرضه القوة الملزمة للعقد، تتمثل بالفعل أو الترك الذي يقصد المتعاقد من ورائه إلحاق الضرر بالمتعاقد الأخر، وبارتكابه هذا الفعل أو امتناعه عنه يكون قد خرج على حدود القوة الملزمة للعقد، ودخل في دائرة سوء النية. فالمتعاقد الذي يرفض أو يمتنع عن تنفيذ التزامه أو ينفذه جزئيا، فانه بذلك يمتنع عن الاستجابة لما تفرضه القوة الملزمة من وجوب تنفيذ الالتزام العقدي، كما لو امتنع المؤجر عن تسليم العين المؤجرة للمستأجر. والحال نفسه يكون عندما لا يتقيد المتعاقد في تنفيذه لالتزامه بالأصول واجبة المراعاة كقيامه بتنفيذ التزامه بصورة معيبة أو تأخره في التنفيذ، كما لو قام المؤجر بتسليم العين المؤجرة على غير ما اتفق عليه, كما لو كانت غير جاهزة للاستعمال أو تأخر في تسليمها، فبهذا يتحقق سوء النية لدى ذلك المتعاقد، وتقوم مسؤوليته عن إخلاله بتنفيذ التزاماته العقدية.

فالمتعاقد الذي يتجاهل قاعدة وجوب تنفيذ الالتزام العقدي، بجزئيها أي الواقعة المادية والأصول الواجب مراعاتها في ذلك, متعمدا بذلك الإضرار بالمتعاقد الأخر, يعد سئ النية سواء لجا في ذلك إلى الغش أم التعسف في استعمال حقه أم أخل بالتوازن العقدي. وهذا التعمد في مخالفة ما تقتضيه القوة الملزمة, يرتب أثارا اشد من تلك التي تترتب على مجرد إهمال المتعاقد في التنفيذ, وان كان كلا المتعاقدين يعدان سيئي النية, إلا أن المتعاقد الذي يلجا إلى الغش مثلا, لديه نية خبيثة واضحة لإحداث الضرر, بينما في حال الإهمال فان الضرر غير مقصود بذاته, أي أن الإضرار ليس هو الباعث على سوء التنفيذ, لذلك فان الأثر المترتب على سوء النية هنا أخف من ذلك المترتب على سوء النية العمدي, حيث إن الأخير يحرم المتعاقد من كل ميزة أو تخفيف.

“كما يتوفر هذا التجاهل لقاعدة القوة الملزمة للعقد, كلما ارتكب العمل وكان الضرر الناشئ عنه أمراً لازماً لا يمكن تصور عدم حدوثه عن هذا العمل, كما لو تعرض البائع للمشتري أو ناقل الملكية لمن انتقلت إليه الملكية, وكما في تمثيل المحامي لمصالح متعارضة”.() أو إهمال المحامي في أداء واجباته بحيث يتسبب بالضرر ويسوء مركز من يدافع عنه.() ومع هذا فإن وجود الباعث المشروع على إيقاع الضرر ينفي سوء النية عن المتعاقد. وقد اخذ المشرع الأردني بهذا حين قرر في المواد ( 262 و263 ) أن محدث الضرر لا يسال عن ما تسبب به من ضرر, إذا ما اقدم على الفعل بباعث مشروع, كما في تنفيذ المتعاقد لأمر صدر إليه من رئيسه، بشرط أن يقيم الدليل على اعتقاده بمشروعية الفعل الذي وقع منه, وكان اعتقاده مبنيا على أسباب معقولة, وانه راعى في عمله جانب الحيطة والحذر.() كما لو خالف المؤتمن على السر لالتزامه التعاقدي بعدم إفشاء السر, يحدوه باعث الامتثال للقانون وللصالح العام ومقتضيات الإنسانية. ويقدر هذا تقديراً موضوعياً وليس تقديراً شخصياً, فلا يجوز للمؤتمن على السر إفشاءه إلا إذا كان امتناعه أو اعتقاده قائماً على أساس جدي, وأن الرجل المعتاد في ظروفه يعتقد بما اعتقد.()

وينظر إلى الغش في هذا المجال على انه يشكل خرقا اشد للأخلاق من مجرد الخطأ العمد, بالنظر إلى أن الخطأ بأنواعه خروج صريح على قاعدة القوة الملزمة للعقد, فهو يعبر عن الصفة الإرادية لعدم تنفيذ الالتزام.() لذلك فان الغش يمثل مرتبة عليا من الخطأ العمد, وهو ينضوي تحت اصطلاح الخطأ العمد. إذ إن كل غش هو خطا عمد, ولكن الخطأ العمد ليس غشا دائما, ففي حالة الخطأ العمد يجابه أحد المتعاقدين وهو مرتكب الخطأ, المتعاقد الأخر بمخالفته مجابهة صريحة, فتتاح الفرصة للدائن لتلافي ما قد يلحقه من أضرار. كما في رفض البائع تسليم الصفقة من البضائع التي تم بيعها, وكما في تعمد الوكيل عدم تنفيذ الوكالة مع علم الموكل بذلك, أو تعمد العامل عدم القيام بالعمل. أما في حالة الغش فان مرتكب الغش يغلف مخالفته بالخديعة والمكر, فيحمل الدائن على قبول التنفيذ بالشكل المعيب الذي تم فيه, دون أن تتاح له فرصة الكشف عن تلك المخالفة, فيقبل الضرر طائعا, بينما يجني مرتكب الغش ثمار غشه ولو إلى حين.() أما من حيث الآثار القانونية فلا فرق بين الغش والخطأ العمد, فكلاهما له الحكم القانوني نفسه, بالرغم من اختلافهما من حيث الطبيعة.() وأخيرا فان الخطأ العمد قد يتجسم في صورة إكراه, يستعمله المدين لإرغام الدائن على قبول التنفيذ المعيب. وهذه الصورة تتضمن أعلى درجات سوء النية, ذلك أن جوهر الإكراه هو انتزاع الرضا بالقوة أو التهديد.()

أما النوع الثاني من الإخلال بمبدأ حسن النية, فيتمثل بالخروج عن ما تقتضيه القوة الملزمة من أطراف العقد, من حيث وجوب تنفيذ الالتزامات ووفقا للأصول التنفيذية, ولكن دون أن تتوافر لديه نية خبيثة للإضرار بالمتعاقد الأخر, وأن ما يقع من إخلال في هذه الأحوال سببه الإهمال وقلة الاحتراز, وليس نية الإضرار. ومع هذا فان المتعاقد الذي يهمل في أداء التزاماته, يعد سئ النية لأنه لم ينفذ التزاماته وفقا للأصول التنفيذية, ولم يلتزم بالالتزامات التي تتفرع عن هذه الأصول كالتزام الصدق والتعاون وبذل العناية اللازمة. لذلك فان الإهمال في تنفيذ الالتزام يعد سوء نية إهمالي أو تقصيري, فالمطلوب من المتعاقد ليس فقط انتفاء نية الإضرار لديه بعدم خروجه عن ما تقضي به القوة الملزمة, بل يجب أن ينتفي في جانبه أي إهمال أو تقصير. أي أن تجاهله لقاعدة العقد شريعة المتعاقدين هنا غير متعمد صدر عن إهمال وعدم حيطة وتبصر. فالمتعاقد يكون بهذا قد قصر ببذل العناية المطلوبة منه, وأهمل في تنفيذ التزامه, وهذا الإهمال قد يكون سلبيا بأنه لم ينفذ ما التزم به كليا أو جزيئا, أو كان تقصيره إيجابيا بان نفذ التزامه بصورة معيبة, فهو في الحالتين يكون خالف مقتضيات القوة الملزمة للعقد. وفي الحالتين تقوم مسؤوليته لأنه سيئ النية رغم عدم تعمده الإضرار, وتقوم مسؤوليته انه لم يتخذ الاحتياطات اللازمة لحسن التنفيذ. فكان مهملا في تنفيذ ما التزم به, ولم يحتط لما قد يلحق بالمتعاقد الأخر من أضرار إذا لم ينفذ ما تعهد به, لأنه لم يكن في سلوكه متبصرا أو يقظا.
فكما أتضح فإن عدم اتخاذ المتعاقد لمثل هذه الاحتياطات والإجراءات والإهمال في اتخاذها ينزله منزلة سئ النية.” كما هو الحال عندما يقوم حسن النية على فرض تشريعي وجب على الكافة إتباعه عند شراء العقارات, وهو قيامهم بتسجيلها بحيث إذا أهملوا فلا يلوموا ألا أنفسهم لان القانون أعلمهم مسبقاً. وقد أقام القضاء المصري سوء النية على عدم إتباع ما فرضه القانون بشأن تصرف معين, ولذلك اعتبر أن المشتري الذي سجل عقده حسن النية حتى وإن كان يعلم أن البائع قد باعه لمشتر لم يسجل عقده، إذ أن القانون اعتبر المشتري الأول الذي لم يسجل عقده مقصراً أو مهملاً وهذا ينزله منزلة المشتري
سيئ النية” ().
“وعند النظر إلى المشتري الثاني الذي سجل عقده وهو يعلم أن العقار مباع لغير لم يسجل عقده يعتبر مداناً من الناحية الأخلاقية, لان قواعد الأخلاق لا تقر هذا العمل سواء في صورة علم بسيط أم في صورة تواطؤ. لكن عندما ينظر إليه من زاوية قانونية نجده غير مدان. لأنه اشترى العقار من مالك حقيقي وقام بإتباع ما فرضه القانون بشأن نقل ملكية العقارات، ومن ثم فإن موقفه سليم قانوناً, حيث إنه لم يقصد الخروج على أحكام القانون, ولم يقصر في أتباع ما فرضه القانون من إجراءات لذلك اعتبر حسن النية في نظر القانون, وإن كان غير ذلك في نظر قواعد الأخلاق, وهذا نتيجة لانفصال الأخلاق عن القانون”.()
وبعد هذا التوضيح فانه يمكن تعريف حسن النية في مرحلة تنفيذ العقد بأنه : نية الالتزام بما تمليه القوة الملزمة من وجوب تنفيذ العقد، ووفقا للأصول القانونية والأخلاقية المفترضة. وهذا التعريف يمنح مبدأ حسن النية الشمولية، والتحديد القانوني الذي يمكنه من أداء وظائفه، لضمان حسن التنفيذ، ويرى الباحث أن هذا المفهوم لمبدأ حسن النية ينطبق في ظل القانون الأردني والقانون المصري.

المبحث الثاني: المعيار الواجب اعتماده في قياس حسن النية :

على الرغم من الاختلاف في تحديد معنى ومضمون حسن النية, إلا أنه يمكن القول إن لحسن النية عدة خصائص، يفيد بيانها في معرفة المعيار واجب التطبيق. وهذه الخصائص تلمح في جميع الاتجاهات سابقة الذكر، وهي” ان حسن النية يُعتبر ذو طبيعة ذاتية في أصله”,() ذلك انه ينبع من ذات الشخص المطلوب الحكم على تصرفه بالحسن أو بالسوء, فهو عنصر نفسي داخلي يستدل عليه بطريقتين أحدهما : ملابسته لتصرف معين فيتم معرفته من متن التصرف وصورته الظاهرة. وثانيهما: القرائن والإمارات الموضوعية الظاهرة, التي تحيط بالتصرف نشأة وتنفيذاً. كما أن حسن النية يعد موقفاً عمدياً لأنه نابع من النية التي هي قصد وعزم وقرار، والقرار من المواقف العمدية الإيجابية، وعليه فلا يمكن إعطاء وصف الحسن أو السوء لمجنون أو طفل غير مميز مثلاً. ولا يمكن تقديره إلا بالرجوع إلى ذات الشخص وبصدد واقعة معينة، ويفترض أن الإنسان حسن النية إلى أن يثبت العكس فلا يفترض سوء النية”.() على ما سبق تجب التفرقة بين النية بمعنى القصد أو الاتجاه الإرادي أو الإرادة الباطنة، وبين الإرادة بمعنى المظهر الخارجي الدال على النية، من ناحية أن الأولى نية منعقدة على تحقيق هدف معين وهي بهذا الوصف ذاتية أو داخلية أشبه ما تكون بالسكون لا يعتبرها القانون، أما الأخرى فهي نية منعقدة متحركة نحو هدفها تحركاً إيجابياً، يدل عليه ذلك المظهر الخارجي الذي يعلن عنها مستعينة في إعلانه بوسائل خارجية من قول أو فعل….()
فيما سبق اتضح موقف كل اتجاه من معيار حسن النية واجب التطبيق، فمنها ما اعتد بالمعيار الذاتي دون الموضوعي في حالة, أو بالموضوعي دون الذاتي, ومنها ما اعتد بالمعيار الموضوعي والذاتي معاً باعتبارهما متكاملين. لذلك لا بد من توضيح وبيان المقصود بكل منهما في المطلبين التاليين، حيث كان السعي بيان المقصود بالمعيار الذاتي والموضوعي عموما ومن ثم اعماله وتطبيقه على مبدأ حسن النية:

المطلب الاول: المعيار الذاتي :

ويقصد بالمعيار الذاتي بشكل عام” أنه المعيار الذي ينظر فيه إلى شخص المتعاقد, فنحكم على ما صدر منه في ضوء سلوكه هو, فإذا كان فعله انحرافاً عن السلوك عد مخطئاً وإذا لم يكن كذلك فلا يعد مخطئاً. ومفهوم ذلك أن هذا الشخص إذا كان على درجة كبيرة من اليقظة والتبصر فان اقل انحراف منه يعتبر خطئاً، وإن كان في مستوى اقل أو عادي تم تقدير انحرافه على ضوء المألوف بين الناس, وإذا كانت ملكاته دون ذلك فلا يعتبر مخطئاً إلا إذا كان الانحراف كبيراً ” ().

ويقصد بالمعيار الذاتي لمبدأ حسن النية “اتجاه نية المتعاقد إلى التقيد بأحكام القانون، والقيم الأخلاقية والاجتماعية وإلى أن يسلك سلوكا جمعيا متفقا وتلك القيم ومقتضيات حسن النية”,() وعدم التحايل سواء بإبرام العقد أم تنفيذه، فلا يكون بنية المتعاقد الإضرار بالغير أو تحقيق مصلحة غير مشروعة. كما يندرج تحته حالة العلم أو الجهل بواقعة معينة، التي يرتب عليها القانون أثراً من الآثار ذلك أن العلم بالشيء كالقصد إليه. إذ يجب في هذا المعيار البحث والتحري عن قصد المتصرف، والتأكد من حقيقة الاتجاه الإرادي, لتنتهي إلى وجود حسن النية أو سوئها. وهذا ليس بالأمر العسير إذ كما تقوم قرائن على وجود النية أو عدم وجودها، تقوم كذلك على الوصف بالحسن أو السوء وغالباً ما تكون القرائن التي تدل على الوصف أسهل من التي تدل على وجود النية، لأن النية موجودة ولم يبق سوى أن يوجد قدر من الفطنة والذكاء في إدراك وصفها. ولما كان المعيار الذاتي لحسن النية يكمن في نية الإضرار أو نية التحايل، وكانت النية من الأمور الخفية المستترة، ويصعب على القاضي أن يغوص في خلجات النفس وبواعثها الحقيقية، لذا لجأ الفقه والقضاء إلى قرائن, يمكن من خلالها معرفة نية المتعاقد وقصده، كالتصرف مع انعدام المصلحة الجدية المشروعة، أو التصرف مع العلم بالضرر الذي يصيب الغير طالما كان مبنياً على أسباب قوية تدل على نية الإضرار، فالعلم الظني بالضرر الذي يصيب الغير لا يعتبر قرينة على نية الإضرار.()

وحتى يكون المتعاقد حسن النية يفترض أنه لا ينوي الإضرار بالمتعاقد الأخر _ بخرقه للقوة الملزمة للعقد _ , ” ولا ينوي كسب منفعة غير مشروعة على حسابه، ويرجع في هذا إلى شخص المتعاقد. وهو أمر مفترض وهو قرينة قانونية عامة، رغم أن المشرع لم يفترضه إلا في مواضع معينة، ولا يمكن نفيه إلا بإثبات سوء النية، وهذا يمكن بجميع طرق الإثبات. وتعرف النية من مظهر أو تعبير، هذا المظهر أو التعبير من قبيل الوقائع القانونية التي يمكن إثباتها بالبينة، كما يمكن إثباتها بالقرائن تفريعاً على ذلك، وحسن النية هو المفترض إذ لا يمكن افتراض سوء النية. ولا بد أن تنصب البينات والقرائن على استطلاع الحالة النفسية للمتعاقد، والنفاذ إلى ضميره لمعرفة حقيقة النية أو الباعث الذي لابس عمله. وإذا كان التحقق من نية المدين بطريقة ذاتية فإنه ليس من السهل دائماً، لذلك فإن القضاء يسمح لنفسه باستخلاص سوء النية من الخطأ الجسيم, ” فالمدين لا يتعمد فيه عدم تنفيذ الالتزام، بل هو عبارة عن إهمال أو عدم احتياط فلم يرد المدين إحداث الضرر”,() مع هذا فان الخطأ الجسيم قرينة موضوعية على الخطأ العمد. وسوء النية الذي يبرر وصف تصرف المدين انه خروج على حدود القوة الملزمة للعقد، هو نية الإضرار التي تنم عن تدن خلقي، بأن يكون الإضرار هو الهدف الأول من فعل الفاعل دون أن توجد مبررات مشروعه لنيته بإيقاع الضرر. صحيح أن الجندي الذي يقتل أحد أفراد العدو ينوي الإضرار بالذات، ولكن الباعث الذي يدفعه إلى ذلك ليس الإضرار بالدرجة الأولى، بل الاستجابة لواجب وطني يمليه عليه القانون. وقد وجد رأي يذهب إلى أن الخطأ العمد يقاس بمعيار موضوعي شأنه شأن الإهمال. ومع هذا فإن هذا القول لا ينفي ضرورة الاعتماد على المعيار الذاتي في نهاية الأمر، صحيح أن الإضرار القصدي لا يدان إلا إذا كان لا يصدر من رجل معتاد، لكن هذا لا ينفي لزوم كشف النية الباطنة أولاً ثم مقارنة سلوك من نوى الإضرار بسلوك رجل معتاد، فلا يمكن بحال الاستغناء عن التأكد من اتجاه النية نحو الأضرار. بخلاف الإضرار غير القصدي فإن سلوك الفاعل الضار يؤثم، إذا كان منحرفاً عن سلوك الرجل المعتاد” ().

نخلص إذا إلى أن معيار حسن النية الذاتي يبدأ موضوعيا، بقياس الفعل أو الترك بمقياس الرجل العادي، للقول أولا بأنه فعل أو ترك غير مشروع، ثم يقاس بعد ذلك بمعيار ذاتي بالبحث في نية الفاعل وقصده، لمعرفة مدى تعمده الفعل والضرر. وقد تثور صعوبة في العمل، في التعرف على حقيقة نية الفاعل، وخاصة أن الدائن أو المضرور هو الذي يكلف بإثبات سوء النية أو القصد السيئ، استنادا إلى أن حسن النية يفترض حتى يثبت العكس.() إزاء ذلك لا يكون أمام القاضي إلا الاعتماد على الوقائع الثابتة أمامه لكي يستنبط منها وهو حر في اختيار أية واقعة من تلك الوقائع، وله سلطة واسعة في استنباط ما تحتمله الواقعة من دلالة.() والاستناد إلى الظواهر الخارجية للاستدلال على حقيقة نية الفاعل، وهو بذلك قد يضطر إلى أن يأخذ في الاعتبار مدى الانحراف في السلوك، أو مدى المنفعة التي تعود على الفاعل، أو عدم وجود مبرر أو عذر لهذا المسلك من جانب الفاعل. لكن كل هذه الظواهر لن تكون سوى قرائن أو وسائل إثبات للتوصل إلى سوء النية، وهي في جميع الأحوال تتوارى أمام وجود الدليل القاطع على حسن نية الفاعل وعدم تعمده الإضرار بالغير.()

المطلب الثاني: المعيار الموضوعي :

يقصد بالمعيار الموضوعي عموما معيار السلوك المألوف والمعتاد،” حيث ينظر القاضي في هذا المعيار إلى المسلك المتوقع للرجل العادي العاقل الموجود في نفس ظروف المدين”.() ” إذ يتجرد من الظروف الذاتية الملابسة لشخص المعتدي، حيث إنها ظروف داخلية ملتصقة به لا يصح النظر إليها، وإلا انقلب المعيار إلى معيار شخصي. وعلى ذلك وعند بحث توافر سوء النية الموضوعي لا ينظر إلى كون المعتدي متواضع الذكاء أو بليد الطبع أو عصبي المزاج أو غيرها من ظروفه الداخلية. فالقاضي لا يعتد بهذه الظروف هنا، بل عليه أن ينظر للظروف الخارجية العامة التي يخضع لها الناس كافة، ويقدر سلوك الشخص بحسب السلوك المألوف للشخص المعتاد”.()
أما المعيار الموضوعي لمبدأ حسن النية فيقصد به” تنفيذ الالتزام بصورة تتفق وأحكام القانون وقيم المجتمع وأخلاقياته وأن يكون السعي في ذلك جديا،() بحيث يكون تصرف المتعاقد مقبولا بنظر القانون وقيم المجتمع “.() ذلك أن القانون لا ينظر إلى صحة التصرفات أو عدم صحتها بناء على ما يعتقد المرء فيها، بل يجب أن تكون مقبولة بنظر القانون، ويجد هذا المعيار أساسه في العدالة والأخلاق كما هو الحال في المعيار الذاتي. وهذا المعيار يستلزم من المتعاقد أن يكون يقظاً حريصاً في تصرفاته حتى لا تضر بالآخرين. ذلك أن قواعد الأخلاق والعدالة كما لا تقر نية الإضرار بالغير _سوء النية الذاتي_، لا تقر كذلك الإهمال والتقصير أي سوء النية الموضوعي. ويستلزم هذا المعيار من المتصرف أن يكون أميناً ومخلصاً في إبرام تصرفاته وتنفيذها، وهذا ما نصت عليه المادة (148) من القانون المدني المصري والمادة (202) من القانون المدني الأردني “يجب تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية”.()

وكما سلف فانه بحسب رأي الباحث لا يمكن قصر تقدير حسن نية المتعاقد على المعيار الذاتي دون الموضوعي أو على الموضوعي دون الذاتي، بل يجب اعتماد كلا المعيارين. لذلك فانه يمكن التمييز بين معيار شخصي ذاتي ومعيار موضوعي مادي لحسن النية، ويتكامل هذان المعياران بحيث يبدو أحيانا انه لا يمكن الفصل بينهما، ففي جميع حالات الخروج عن ما تقتضيه القوة الملزمة بما تتضمنه من سوء نية، يختلط المعيار المادي بالذاتي، ففي كل حالة يراد فيها معرفة حقيقة نية المتعاقد, يرجع فيها إلى المعيار الذاتي.

إن الالتزام الواجب على المتعاقد بان يصطنع في سلوكه اليقظة والتبصر حتى لا يضر بالغير، التزام يجب أن يقاس بمعيار موضوعي، لان واجب عدم الإهمال وعدم التقصير في أداء حقوق المتعاقدين، أمر لا يقاس بظروف المدين الشخصية. أي أن الانحراف يقاس بسلوك شخص نجرده من ظروفه الشخصية، وهذا الشخص المجرد هو الشخص العادي الذي يمثل جمهور الناس، فلا يقاس سلوكه هنا بما اعتقده ذلك المتعاقد بل بالمألوف من سلوك الرجل المعتاد، فإذا انحرف عن هذا السلوك الواجب، كان هذا الانحراف خروجا عن حدود حسن النية، يستوجب مسؤوليته.()

فإذا ثبت أن سلوك المتعاقد في أثناء تنفيذه لالتزاماته يدل على إهماله، وقد تسبب بذلك بضرر للمتعاقد الآخر، فان ذلك الإهمال الذي اضر بمصلحة الغير يدخل في إطار سوء النية. “وما الواجبات المتعلقة بحسن النية كواجب الإعلام والاستعلام والتحذير ولفت الانتباه إلى مخاطر محل العقد والالتزام بالسرية والحفاظ على أسرار العقد,() والاعتماد في التصرف على أسباب معقولة، وواجب التحري والبحث الجديين، وواجب التحرز من الغلط الذي هو وليد الرعونة والإهمال، وواجب بذل الجهد لمعرفة الحقيقة، وإبداء الانتباه الذي تتطلبه الظروف وعدم التقصير في الانسياق وراء المظهر، وواجب اتخاذ الاحتياطات التي يتخذها الشخص العادي في الظروف التي تم فيها التعاقد، ولزوم وجود سبب صحيح في الحيازة وواجب الاتصاف باليقظة، هذه الواجبات ما هي إلا عبارات تفصح عن أمر واحد هو واجب السلوك بتبصر وتجنب الإهمال بشتى اشكاله. فيصبح من الضروري لتوفر حسن النية انتفاء نية الإضرار الذي يقدر بمعيار ذاتي وشخصي، وانتفاء الإهمال الذي يقدر بمعيار موضوعي”.() وهذا السلوك هو الذي يقدر بمعيار الرجل المعتاد بصرف النظر عن ظروف المتعاقد الخاصة، حيث أن فكرة الرجل المعتاد فكره عامة ومجردة، يرجع في تحديدها إلى الرجل العادي في طائفة الناس التي ينتمي إليها المتعاقد.()

نخلص الى أن سوء النية الذاتي يتمثل في نية الإضرار بالطرف المقابل, فالذي يرتكب أفعالا تدل على عدم التزامه بما توجبه القوة الملزمة للعقد، ينفي عنه حسن النية, وأحياناً مجرد العلم بالضرر الذي قد يصيب الغير، وسوء النية هنا سوء نية عمدي. ومع هذا فإن انتفاء التعمد في عدم التزام حدود القوة الملزمة لا يكفي للقول بتوفر حسن النية، إذ إن الإهمال وعدم الحيطة من قبل المتعاقد يثبت حالة من سوء النية الاهمالي أو الموضوعي.

الخاتمة

تناولت في بحثي هذا مفهوم مبدأ حسن النية في تنفيذ العقود في ظل القانون المدني الاردني والقانون المدني المصري، وحاولت فيه وضع تعريف قانوني لمبدأ حسن النية وبيان المعيار الوجب اعتماده لقياس توافر حسن النية لدى المتعاقد من عدمه.
النتائج :
ان مبدأ حسن النية مبدأ حاكم لتنفيذ العقود في القانون الاردني والقانون المصري.
ان موقف القانون الاردني والقانون المصري متشابهان من مبدأ حسن النية، ذلك ان النصوص التي تناولت مبدأ حسن النية متشابهة الى حد كبير واحيانا تصل الى حد التطابق الحرفي، مما يعبر عن وحدة الموقف.
ان مبدأ حسن النية يرتب التزامات على المتعاقد لم ينص عليها صراحة كواجب الالتزام بالاعلام والتحري والتسامح والتعاون.
ان تحديد حسن نية المتعاقد او سوء نيته لا يعتمد على معيار واحد في القانونين الاردني والمصري، بل قد يكون ذاتيا ينظر فيه الى شخص المتعاقد أو ماديا موضوعيا يعتمد فيه على سلوك الرجل المعتاد لا على سلوك المتعاقد.

التوصيات :

النص صراحة على مقتضيات حسن النية والالتزامات المتفرعة عنه في نظرية واحدة، والنص على جزاءات محددة للاخلال بمبدأ حسن النية ضمن هذه النظرية، مع تضمينها الاثار القانونية المترتبة على مخالفتها.
اعتماد المعيارين الموضوعي والذاتي في قياس حسن النية باعتبارهما معيارين متكاملين.