التدابير الوقائية في العصر الحديث

تعددت النظريات التي خاضت في القانوني الجنائي وكيفية مكافحة الظاهرة الإجرامية، فهناك من النظريات من دعت إلى تطبيق العقوبة وحدها مثل المدرسة التقليدية وذلك من أجل التصدي للجريمة، وهناك من المدارس من أخذت إلى جانب العقوبة ما يسمى بالتدابير الوقائية، الشيء الذي نتج عنه ازدهار القانون الجنائي الحديث وذلك بسبب هذه الدراسات الفلسفية والتي بدأت منذ القرن الثامن عشر، الشيء الذي أدى إلى إرساء قواعد علمية وحديثة للقانون الجنائي مثل نظرية التدابير الوقائية. فما هي هذه المدارس التي كان لها الفضل في إظهار التدابير إلى الوجود كنظرية قائمة بذاتها. وإصباغ الطابع الجنائي عليها ؟ هذا ما سنلاحظه لاحقا من خلال المدرسة الوضعية (أولا) ومدرسة الدفاع الاجتماعي (ثانيا).

أولا : المدرسة الوضعيـة
ظهرت هذه المدرسة في إيطاليا من طرف كل من سيزار لومبروزو (1909 ـ 1836) وقد كان أستاذا للطب الشرعي وصاحب كتاب “الإنسان المجرم” الذي ألف سنة 1876، وأنريكوفيري (1929 ـ 1856) وقد كان أستاذا للقانون الجنائي وعرف بكتابه “الآفاق الجديدة للعدالة الاجتماعية” الذي صدر سنة 1881 نشر فيما بعد تحت عنوان “علم الاجتماع الجنائي” وأخيرا جارو فالو الذي كان قاضيا ومؤلفا لكتاب “علم الإجرام” سنة 1885. ويرجع الفصل في بروز المدرسة الوضعية إلى وجود عاملين اثنين أثرا كثيرا على روادها : فالعامل الأول يتعلق بالنتائج التي توصلت إليها الفلسفة الوضعية التي تقوم على أساس دراسة الواقع الملموس والتجربة والمشاهدة والتي نادى بها الفيلسوف أوغست كونط، أما العامل الثاني فيتجلى في استفحال ظاهرة الإجرام في المجتمع الغربي( ).

فالمدرسة الوضعية ترفض القانون الجنائي بقواعده ومبادئه المتعلقة بالجريمة كواقعة قانونية وتنكر المسؤولية الأخلاقية إذ لا وجود للخطأ أو الذنب والإنسان فاقد الإرادة مجبر على ارتكاب الجريمة التي تنجم عن عوامل متعددة فردية واجتماعية. فهي نتيجة محتومة ينساق إليها الجاني طواعية تحت تأثير هذه العوامل.
على أن أنصار هذه المدرسة اختلفوا بشأن العوامل التي تتحكم بالجاني فتدفعه إلى ارتكاب الجريمة. فقد وجدها لمبروزو في شخص المجرم وفي تركيبه الخلقي والعقلي والعصبي على وجه الخصوص فقرر بأن هناك صلة بين المجرم وبين وجود خلل عضوي وعيب نفساني فيه لذا فقد حدد لمبروزو سمات فئات من المجرمين( ). في حين يرى أنريكو فيرى أن الجاني تدفعه إلى ارتكاب الجريمة عوامل الوسط الاجتماعي والعوامل الشخصية العضوية، فالجريمة ترجع إلى عوامل ثلاثة : طبيعة وشخصية عضوية واجتماعية، حيث أن الجريمة وليدة تجاوب بين عوامل شخصية داخلية في المجرم وبين عوامل مادية خارجية كالبيئة الطبيعية والجغرافية وعوامل روحية اجتماعية. وبالتالي فهي تفاعل تختلف نسبة العوامل الثلاثة فيه باختلاف الجرائم والمجرمين. وقد وصل في دراسته إلى ما يدعى بقانون الكثافة الجنائي وفيه يرى فيري بأنه إذا تكاثفت ظروف طبيعية معينة وظروف اجتماعية معينة، فلابد من ظهور نسبة معينة من الجرائم لا تقبل زيادة أو نقصانا( ).
وإذا كانت المدرسة الوضعية تجد أن قيام المسؤولية الأخلاقية وما تفترضه من الخطأ أو الذنب يكذبه الواقع العضوي والنفسي للمجرم وما يؤدي إليه ذلك من انعدام حرية الاختيار لديه، فإنها لا تنفي عن الجاني مسؤوليته القانونية أو الاجتماعية عن جريمته التي تنال المجتمع في أمنه واستقراره. مما يعطي الجماعة الحق في اتخاذ التدابير التي من شأنها القضاء على مسببات الجريمة لمنع تكرار وقوعها، سواء كان مصدرها شخصا عاقلا أو مجنونا، لأن المجنون الذي يخشى أن يحدث مرضه العقلي جريمة تنال المجتمع هو بذات الخطر الذي يهدده به غير المجنون من المجرمين. تتصف هذه التدابير المتخذة ضد المجرم بالطابع الوقائي، ولا صلة لها بالعقوبة أو الجزاء بالمفهوم الانتقامي أو الأخلاقي ما دام الغرض منها حماية أمن الجماعة، لذا يتعين أن يتحدد مداها تبعا لدرجة الخطورة التي تنطوي عليها شخصية الجاني بالنسبة للجماعة وإذا كان التدبير يتخذ في مواجهة الخطورة ذاتها فلا بد إذا من تطبيق الأساليب العلمية في دراسة المجرم سعيا وراء تحديد نوع خطورته ومقدارها. كما أنه من أجل أن يتناسب نوع التدبير مع هذه الخطورة، يتعين تصنيف المجرمين على أساس نوع خطورتهم وتحديد التدابير الملائمة لكل صنف( ).
وقد سارت العديد من التشريعات على النهج الذي أرسته المدرسة الوضعية، ونذكر من بين التشريعات التي تأثرت بهذه المدرسة القانون الجنائي الفرنسي الصادر سنة 1892 والإيطالي الصادر سنة 1889، والبرتغالي الصادر سنة 1892، والمصري الصادر سنة 1868 كما أن المشرع المغربي تأثر بالمدرسة الوضعية وأدمج التدابير الوقائية إلى جانب العقوبة كسبيل من سبل مكافحة الظاهرة الإجرامية( )، وذلك من خلال القانون الجنائي المغربي الصادر سنة 1962.

ثانيا : مدرسة الدفاع الإجتماعي
يرجع الفضل في تأسيس مدرسة الدفاع الاجتماعي إلى الإيطالي فيليبو كراماتيكا الذي تبنى في بداية الأمر فكرة تأسيس مركز لدراسة الدفاع الاجتماعي كان مقره بمدينة جنوة الإيطالية، وبعد ذلك قام بإصدار مجلة تحت اسم “الدفاع الاجتماعي”، والتي ساهمت بشكل كبير في نشر أفكاره وبلورتها بسرعة كبيرة في القارة الأوربية. وقد أدى كل هذا إلى إنشاء الجمعية الدولية للدفاع الاجتماعي سنة 1949، والتي أصدرت بيانا هاما حدد مبادئ عملها وفلسفتها.
وتجدر الإشارة إلى أن مدرسة الدفاع الاجتماعي تعرف اتجاهين مختلفين : فالاتجاه الأول يمثله الإيطالي كراماتيكا وهو اتجاه متطرف في مبادئه، أما الاتجاه الثاني فيمثله الفرنسي مارك أنسل وهو اتجاه معتدل يدافع بقوة كبيرة عن القانون الجنائي وعن الشرعية الجنائية( ).

1. مدرسة الدفاع الإجتماعي لكراماتيكا
تنكر مدرسة الدفاع الاجتماعي المسؤولية الجنائية بإنكارها لفكرة الخطأ أو الذنب فالمجرم ينساق إلى تصرفه المضاد للمجتمع بسبب مرضه الاجتماعي الناتج عن سوء التكيف، والجريمة مظهر من مظاهر الاضطراب والخلل الاجتماعي. كما ترفض مدرسة الدفاع الاجتماعي فكرة العقوبة التي يرتبط مفهومها بالمسؤولية الأخلاقية القائمة على فكرة الخطأ، كما ترفض فكرة الخطورة الإجرامية وما تستوجبه من اتخاذ تدابير الأمن والوقاية القائمة على تجريد الإنسان من آدميته ومعاملته على هذا النحو باستئصاله وإقصائه أو عزله، لذا دعت مدرسة الدفاع الاجتماعي إلى إلغاء قانون العقوبات وما يتضمنه من مصطلحات الجريمة والمجرم والعقاب لأنها مصطلحات قد قضى عليها علم الإجرام.
ولئن كانت الجريمة تمثل أحد مظاهر الاضطراب الاجتماعي، وإن محدثها لا يعدو أن يكون شخصا (مناهضا للمجتمع) أو (ضد المجتمع)، لذا يتعين نبذ فكرة الجريمة والمجرم والاتجاه نحوز سياسة جنائية قوامها إصلاح المجتمع والدفاع عنه بالوسائل الإنسانية الفعالة، وهذه الوسائل إما أن تكون وقائية تسبق الجريمة وذلك بالقضاء على الخلل الاجتماعي ذاته، أو لاحقة لها وذلك بإعادة التكييف الاجتماعي لمحدثها عن طريق إصلاحه والعودة به مرة أخرى إلى حظيرة المجتمع. ولهذا فإنه لكي تتحقق الصورة التي رسمتها مدرسة الدفاع الاجتماعي لكراماتيكا بالنسبة للسياسة الجنائية التي خطتها لنفسها فإنه يجب أن يتم تطبيق تدابير الدفاع الاجتماعي وفقا للحالة النفسية والطبيعية للفاعل، وضمن حدود الشرعية التي يحددها قانون الدفاع الاجتماعي الذي يحل محل القانون الجنائي الذي تطالب مدرسة الدفاع الاجتماعي بهدمه والذي تقوم على تطبيقه هيئات اجتماعية مجردة من الصفة القضائية.

لقد لعبت مدرسة الدفاع الاجتماعي التي تزعمها فليبو كراماتيكا دورا مهما في التأكيد على بناء سياسة جنائية إنسانية النزعة ذات طابع إصلاحي محورها دراسة شخصية كل مضاد للمجتمع دراسة شاملة على هدى معطيات العلوم التجريبية الحديثة لتحديد سلوكه الشاذ وبالتالي تقرير المعاملة الملائمة له بهدف علاجه أو تقويمه وإعداده للتألف الاجتماعي.

غير أن مدرسة الدفاع الاجتماعي التي حملت المجتمع مسؤولية الظاهرة الإجرامية باعتبارها خللا أو اضطرابا اجتماعيا، وأنكرت بالتالي المسؤولية الأخلاقية وما يرتبط بها من فكرة الخطأ أو الذنب والعقاب، قد أقامت الشرعية في بناء سياستها الجنائية لاتخاذ تدابير الدفاع الاجتماعي الإصلاحية والعلاجية على فكرة مجردة، أي كمن يدق مسمارا في الهواء ويعلق عليه أفكارها. إذ ليس من الممكن تجاهل القانون الجنائي وما ينبني عليه من وظيفة خلقية باعتباره أداة الدول القسرية المنظمة في ديمومة ودعم مجمل التركيب الاقتصادي والاجتماعي والقانون فيها، وتحويله إلى نظام علاجي تحت اسم قانون الدفاع الاجتماعي تطبقه لجان وهيئات علمية متخصصة بالبيولوجيا والطب وعلم الاجتماع. اللهم إلا إذا كانت مدرسة الدفاع الاجتماعي تعتمد قانون الدفاع الاجتماعي في مجتمع لا ينطبق عليه مفهوم الدولة في العصر الحديث( ).

2. مدرسة الدفاع الإجتماعي الجديد “لمارك أنسل”
بسبب الانتقادات التي وجهت إلى مدرسة الدفاع الاجتماعي لكراماتيكا قام مارك أنسل بإعطاء نفس جديد لهذه المدرسة التي سماها مدرسة الدفاع الاجتماعي الجديد، وقد حاول في كتابه “مدرسة الدفاع الاجتماعي الجديد” الذي صدر سنة 1954 أن يتجنب التطرف الذي سار عليه كراماتيكا لهذا السبب تمسك بمبدأ الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة ولكن على أساس احترام العديد من المبادئ التي يقوم عليها النظام الجنائي، وهي كالآتي :
• الإبقاء على مبدأ شريعة التجريم والعقاب.
• اعتبار حرية الاختيار كأساس للمسؤولية الجنائية.
• ضرورة الاحتفاظ بمؤسستي العقاب والتدابير الوقائية.
• ضرورة احترام مبدأ تناسب العقوبة مع الجريمة المرتكبة.
ويقول مارك أنسل عند شرح نظريته أن الدفاع الاجتماعي الجديد يجب أن يهدف إلى حماية المجتمع من ظاهرة الإجرام عن طريق محاربة كل الظروف الاجتماعية التي ترمي بالفرد في مغبة الجريمة، بالإضافة إلى حماية الجاني وإعادة تأهيله الاجتماعي.
وتجدر الملاحظة أن القانون الجنائي الفرنسي الجديد الصادر في سنة 1993 فد جاء متأثرا بمبادئ مدرسة الدفاع الاجتماعي الجديد( ).
هذه هي المدارس التي قامت بصياغة التدابير الوقائية في نظرية وقامت التشريعات الحديثة بإدماجها في تشريعاتها الجنائية إلى جانب العقوبة من أجل مكافحة الظاهرة الإجرامية، وإذا كان التشريع المغربي قد تأثر في صياغته للقانون الجنائي لسنة 1962 بالمدرسة الوضعية، فما التطور التاريخي التي قطعته التدابير الوقائية في المغرب وكذا في التشريعات المقارنة ؟ هذا ما سنلاحظه في المطلبين القادمين.

__________________________

( ) د. محمد بنجلون : شرح القانون الجنائي العام وتطبيقاته، مطبعة الجسور، وجدة، ط. 2004، ص. 36.
( ) محمد أحداف : علم الإجرام، مطبعة سجلماسة، مكناس، ط. 2002.
( ) د. سامي النصراوي : النظرية العامة للقانون الجنائي المغربي، ج. 1، مكتبة المعارف، الرباط، ط. 1986، ص. 27 ـ 28.
( ) د. سامي النصراوي : النظرية العامة للقانون الجنائي المغربي، المرجع السابق، ص. 27 ـ 28.
( ) الفصل الأول من القانون الجنائي المغربي.
( ) د. محمد بنجلون : شرح القانون الجنائي العام وتطبيقاته، المرجع السابق، ص. 39.
( ) د. محمد النصراوي : النظرية العامة للقانون الجنائي المغربي، المرجع السابق، ص. 31.
( ) د. محمد بنجلون : شرح القانون الجنائي وتطبيقاته، المرجع السابق، ص. 40.

تفاصيل قانونية حول التدابير الوقائية في العصر الحديث