اصلاح قانون المحاماة لدعم مؤسسة القضاء
منذ عدة عقود تعيش شعوب الأرض مشاكل وإكراهات متشابهة بفعل ثورة المعلوميات وانتشار الإعلام الفضائي وكذا بسبب انتشار الشركات العالمية الكبرى العابرة للقارات حيث اصبح مصطلح العولمة متداولا بين الشعوب.
ويمكن فهم “العولمة” من الناحية الاصطلاحية – ودون الدخول في التفاصيل- بأنها حركة تهدف إلى تعميم تطبيق أمر ما على العالم كله لتكون هذه الحركة في النهاية هي الاطار الذي تتحرك فيه وتتأثر به كل الظواهر المجتمعية ( سواء منها الاقتصادية اوالسياسية اوالثقافية اوغيرها ) على المستوى الدولي.
ومنذ بداية التسعينات ادرك المغرب بانه لا يستطيع بمفرده التملص من ظاهرة العولمة والابقاء على نظامه الحمائي بل هو مجبر على مواكبة الحركية الاقتصادية التي يفرضها النظام الرأسمالي العالمي.
ومن اجل بناء اقتصاد وطني قادر على الانتاج والمنافسة ومواجهة تحديات العولمة قرر المغرب التوقيع على اتفاقية الكاط التي اصبحث تعرف فيما بعد بالمنظمة العالمية للتجارة وصار عضوا كامل العضوية في هذه المنظمة منذ فاتح يناير 1995.
ومنذ ذلك التاريخ اصبح المغرب يجند كل قواه من اجل رفع تحديات التنافسية لتعزيز موقعه في السوق العالمية. وباعتبار ان الهدف الاول للعولمة هو الاقتصاد فان لهذه العولمة تجليات وآليات ذات ابعاد اجتماعية وسياسية وثقافية بل وحتى عسكرية.
فإلى جانب الاوراش الكبرى التي انخرط فيها المغرب كالخوصصة وبناء الطرق السيارة والموانئ والسكك الحديدية وتأهيل السياحة وانشاء المناطق الحرة والاهتمام بالتعمير وبالطاقة وغير ذلك من المنجزات وصولا الى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية فان المغرب انكب على الصعيد القضائي باحداث عدة محاكم جديدة كالمحاكم الادارية والمحاكم التجارية والمحاكم الاستئنافية التجارية والمحاكم المالية ومحاكم الاسرة ومحاكم الاستئناف الادارية مع الاهتمام بالبنية التحتية لعدد هائل من المحاكم وبتكوين القضاة وتأهيلهم. كما وقع المغرب على الصعيد الدولي على اتفاقيات للتبادل الحر مع الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الوروبي وتركيا ودولة الامارات العربية المتحدة وغيرها من الدول العربية كتونس ومصر والاردن وغيرها. وانكب المغرب على الصعيد القانوني من اجل ملائمة التشريعات الوطنية لتواكب وتساير متطلبات العصر وتكون حافزا على الاستثمار وآلية من آليات التنمية البشرية. وهكذا تم سن عدة قوانين حديثة يصعب حصرها في هذا العرض الموجز انطلاقا من مدونة التجارة وقوانين الشركات الى مدونة الاسرة مرورا بمدونة الشغل وبقوانين اخرى لا تقل اهمية جاءت لتعزز مناخ الثقة وتعطي للمستثمر بصفة خاصة الشعور بالامان على امواله وتعطي للمواطن بصفة عامة نفسا جديدا للانخراط في مسلسل التنمية البشرية والاقتصادية.
الا ان القوانين التي تشكل النظام الذي يضبط سلوك الأفراد و يحدد حقوقهم وواجباتهم، انطلاقا من قبل مهدهم إلى لحدهم، بل و حتى إلى ما بعد وفاتهم، تستدعي وجود قضاء للبث فيما سنه المشرع وتعارف عليه الناس بانه “الحق” لأن القضاء هو الروح التي تضمن للقانون الحياة.
والقضاء هو وليد المجتمعات المنظمة أو شبه المنظمة وهو ملجأ المجتمع لحمايته من الفوضى و من انعدام الأمن وهو الساهر على إقرار السلام بين أفراده و لا يمكن بناء دولة ديموقراطية ومستقرة بدون قضاء و لا يمكن لأي مجتمع أن ينمو و أن يزدهر بدون قضاء.
واذا كان القضاء يعتبرأحد أعمدة الديمقراطية فانه يعتبر كذلك أداة للنهوض بالاستثمار و النماء الاقتصادي إذا ما عزز مناخ الثقة التي تعد حجر الزاوية للإقتصاد الليبرالي. فالتوجه الذي يسير عليه العالم نحو العولمة والإنفتاح على الآخر و القدرة على المنافسة الشرسة التي تقوم عليها اليوم النظم الاقتصادية العصرية في الاسواق الداخلية والخارجية يجعل من القضاء أداة لضمان الإستقرار الضروري للرقي الاقتصادي و أداة لتوفير مناخ تسوده الثقة لجلب الإستثمار الأجنبي وحافزا حقيقيا للمبادرة و الإستثمار الوطني.
واذا كان المغرب قد انكب منذ ان اصبح عضوا في المظمة العالمية للتجارة على ملائمة تشريعاته لتواكب وتساير متطلبات العصر وتكون حافزا على الاستثمار وآلية من آليات التنمية البشرية فانه لن يستثنى القضاء لا محالة من حملة الاصلاح حتى يتبوء المكانة التي تسمح له بان يكون قضاء فعالا، معززا لروح الثقة ومنبعا للاطمئنان.
والقضاء من خصائص الدولة التي تتوفر وحدها على القوة العمومية وهو من أخطر السلط و أوسعها لأن المجتمع ككل يسلم لمجرد شخص فان سلطة التحكم في أموال و حرية وشرف و حياة أمثاله. ويمكن القول بان جل المجتمعات في تركبتها المؤسساتية ارتأت ومنذ القدم خلق قوة مضادة للسلطة المطلقة للدولة،المجسدة في القضاء، والمفوض لها حق المتابعة و العقاب و الفصل في المنازعات. وهذه القوة المضادة هي الدفاع الهدف منها خلق نوع من التوازن للوصول الى الحقيقة والانصاف و تفادي الخطأ والظلم. والمحامي الى جانب مهامه الاخرى بطبيعة الحال هو الذي يمثل مؤسسة الدفاع ويدافع عنها ويساعد القاضي في البحث وتجهيز العناصر المتعلقة بالدعوى سواء تعلق الامر بالوقائع او بالقانون والكل بهدف اقرار العدل الى حد اعتبارالبعض بان المحامين “جزء من اسرة القضاء” . ولا يمكن بالتالي تصور قضاء بدون محاماة ولا تصور محاماة بدون قضاء اذ لا غنى لاحدهما عن الاخر.
واذا كانت الدولة المغربية منكبة الآن على تهيىء قوانين لاصلاح الادارة ولاصلاح القضاء – مشروع تعديل النظام الاساسي لرجال القضاء هو الآن لدى الامانة العامة للحكومة – فانها انكبت كذلك مع جمعية هيئات المحامين بالمغرب على تهيىء مشروع قانون لاصلاح مهنة المحاماة، هو الآن معروض كذلك على الامانة العامة للحكومة، من اجل دعم مؤسسة الدفاع ومن اجل دعم مؤسسة القضاء نظرا لمتطلبات العصر من جهة ونظرا للضغوط الداخلية والخارجية من جهة اخرى.
واعتقد انه قبل اصلاح القانون المنظم لمهنة المحاماة فانه لابد من الوقوف على القطاع المراد تنظيمه وما ينتظره المجتمع من هذا القطاع حتى يتم الاصلاح على اسس لا لبس فيها مع عدم الاقتصار على تعديل بعض الفصول التي لن يكون لها اي وقع على مستقبل القطاع. بل اكثر من ذلك وباعتبار ان المحاماة جزء من كل فان التساءل المشروع هو هل يكفي تعديل بعض فصول القانون المنظم لمهنة المحاماة لوحده ام ان الامر يتطلب اعادة النظر في تنظيم المهنة ككل واعادة النظر كذلك في الكثير من القطاعات التي لها اتصال مباشر مع المهنة كقطاع التعليم مثلا وقطاع العدل ومن يدور في فلكه من خبراء وكتاب الضبط واعوان قضائيين وغيرهم للمرور الى قطاعات اخرى لا تقل اهمية عن الاولى كضباط الشرطة القضائية وموظفي الادارات العمومية والمؤسسات والوكالات العمومية وغيرهم.
اصلاح قانون المحاماة لدعم مؤسسة القضاء – مقال قانوني فريد