هل تطبيق الحكومات البرلمانية في الأردن بحاجة إلى تعديل الدستور ؟

*د.ليث نصراوين

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تشكيل حكومة برلمانية بعد الانتخابات التشريعية المقبلة المنوي إجراؤها مطلع العام القادم، حيث تسابق السياسيون في تقديم تعريفات مختلفة للحكومة البرلمانية، إذ عرفها بعضهم بأنها تلك الحكومة التي تحصل على ثقة مجلس النواب على بيانها الوزاري، في حين عرفها بعضهم الآخر بأنها الحكومة التي تتشكل من الكتلة البرلمانية الأكبر في مجلس النواب أو تلك التي تتشكل بعد التشاور مع أعضاء مجلس النواب.

إن تعريف الفقه الدستوري للحكومة البرلمانية يتضمن ثلاثة عناصر مجتمعة أولها وجود برلمان منتخب انتخابا حرا ونزيها يمثل أطياف المجتمع كافة، وثانيها أن يفوز حزب سياسي بالأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب وبالتالي تشكيل حكومة بمفرده، أو أن يشترك مع أحزاب سياسية أخرى لتشكيل حكومة ائتلاف في حال عدم فوزه بأغلبية مقاعد مجلس النواب، وثالثها أن يشكل الحزب الخاسر في الانتخابات حكومة موازية للحكومة البرلمانية تسمى حكومة الظل تسعى لمراقبة أداء الحكومة البرلمانية ومعارضتها بهدف الانقضاض عليها والوصول إلى الحكم، فيتحقق بذلك التداول السلمي للسطة بين الأحزاب السياسية.

إن الدستور الأردني قد أجاز تشكيل حكومات برلمانية في المادة (52) منه التي تعطي لرئيس الوزراء أو للوزير الذي يكون عضوا في أحد مجلسي الأعيان والنواب حق التصويت في مجلسه وحق الكلام في كلا المجلسين. فالحكومة البرلمانية قائمة على أساس أن العضوية في السلطة التشريعية شرط أساسي للعضوية في السلطة التنفيذية، ذلك أن الوزير ينتخب ابتداء إلى مجلس النواب ومن ثم يتم اختياره للعضوية في السلطة التنفيذية، بحيث يترتب على زوال الصفة التشريعية عنه فقدانه الوظيفة التنفيذية حكما.

ومن خلال الأحكام السابقة يمكن القول إن الأردن لم يشهد أي تشكيل حكومة برلمانية بالمعنى الدستوري الكامل، فالتجربة السياسية عام 1956 التي يتغنى بها بعضهم لم تكن حكومة برلمانية، بل كانت مجرد حكومة حزبية وذلك لعدم توافر شروط الحكومة البرلمانية التي سبق الإشارة إليها. فالوزراء في تلك الحكومة لم يكونوا كلهم من داخل مجلس النواب ولا أدل على ذلك أن رئيس الوزراء نفسه سليمان النابلسي قد فشل في الفوز في الانتخابات، كما أنه لم يقم أي من الأحزاب السياسية الخاسرة بتشكيل حكومة ظل وفقا للأصول الدستورية.

أما عن ظاهرة إشراك النواب في الحكومات التي سادت لفترة زمنية في الأردن، فهي لا تخرج عن مفهوم توزير النواب والزج بهم في السلطة التنفيذية من دون اعتبار ذلك حكومة برلمانية بالمعنى الدستوري الكامل. وقد كان لتلك الظاهرة آثار سلبية جمة على مبدأ الفصل بين السلطات واستغلال النواب لوظيفتهم الحكومية لخدمة مصالحهم الخاصة ومصالح ناخبيهم طمعا في إعادة انتخابهم. ففي ظل غياب برامج سياسية وأهداف واضحة ومحددة تسعى الحكومة إلى تحقيقها، فإن إشراك النواب فيها يكون ضربا من ضروب المهاترة الدستورية التي تنبهت لها الدولة الأردنية لاحقا وتوقفت عن تطبيقها، وإن كانت لا تزال مستمرة في توزير الأعيان واختيار رؤساء الوزراء والوزراء من مجلس الأعيان وهو ما تجيزه المادة (52) من الدستور.

كما أن شرعية الجمع بين الوزارة وعضوية مجلس الأعيان تستند أيضا إلى القرار التفسيري الصادر عن المجلس العالي لتفسير الدستور رقم (2) لسنة 1956 الذي أجاز الجمع بين الوزارة وعضوية مجلس الأعيان. وإن كان القرار نفسه قد أضاف حكما دستوريا جديدا حول هذا الموضوع يتمثل في أن الجمع بين الوزارة وعضوية مجلس الأعيان لا يمتد ليشمل رئاسة مجلس الأعيان، إذ حظر القرار السابق للمجلس العالي لتفسير الدستور الجمع بين الوزارة ورئاسة مجلس الأعيان، واشترط على رئيس مجلس الأعيان أن يستقيل من منصبه عند تعيينه رئيسا للوزراء، وهو ما يعتبر حكما إضافيا على المادة (52) من الدستور ويقرأ معها.

من جهة أخرى، ومع الأخذ بعين الاعتبار واقع الأحزاب السياسية في الأردن التي لم تنضج بعد ويشتد عودها لتكون قادرة على تشكيل حكومات برلمانية، فإن هناك عقبات دستورية أخرى تقف في طريق الوصول إلى التطبيق الأمثل لمفهوم الحكومة البرلمانية التي تتمثل في بعض نصوص الدستور التي تمت إضافتها مؤخرا عام 2011. فالفقرة الثانية من المادة (74) التي تلزم الحكومة التي تنسب بحل مجلس النواب أن تستقيل خلال أسبوع من تاريخ الحل وتحظر على رئيس الوزراء تشكيل الحكومة التي تليها تتعارض كليا مع مفهوم تشكيل حكومات برلمانية في الأردن. فالمشرع الدستوري عندما ألزم رئيس الوزراء بالاستقالة عند حل البرلمان ونص على إمكانية تغييب مجلس النواب لمدة أقصاها أربعة أشهر على الأكثر بعد الحل، فإنه يكون بذلك قد سمح بتشكيل حكومة خلال تلك الفترة، ومثل هذه الحكومة بالتأكيد لن تكون حكومة برلمانية نظرا لغياب مجلس النواب.

كما أن الحظر الذي فرضه الدستور الأردني على رئيس الوزراء الذي نسب بحل البرلمان من تولي رئاسة الحكومة التي تليها يعني أن الحزب السياسي الحاكم سيضطر إلى تغيير شخص رئيسه في كل انتخابات برلمانية وذلك لعدم دستورية إعادة تكليف رئيس الوزراء نفسه بتشكيل الحكومة التالية بعد الحل. مثل هذا الحكم لا يتوافق مع مبادئ الحكومة البرلمانية، ذلك أن شخصية رئيس الحزب السياسي دائما ما تكون محل اعتبار للحزب وليس من السهل أن تتم التضحية به وتغييره كل أربع سنوات. ولنا في الديمقراطية البريطانية خير دليل على صحة كلامنا، إذ إن رؤساء الوزراء فيها يخدمون لسنين طوال من دون تغيير أشخاصهم كون رئاستهم للحزب قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من أيديولوجيته التي على أساسها سيصوت الناخبون لذلك الحزب من عدمه. فالمرأة الحديدية مارغريت تاتشر خدمت رئيسة للوزراء في الفترة بين 1979-1990، ثم أعقبها في حزب المحافظين جون ميجور حتى عام 1997، قبل أن يتولى توني بلير الرئاسة في الفترة ما بين 1997-2007 كرئيسا لحزب العمال، و من دون أن يفرض الدستور البريطاني على الحزب السياسي تغيير شخصية رئيسه بعد كل انتخابات تشريعية تجرى.

ومن التعديلات الدستورية الأخرى التي تقضي على آمال الأردنيين في تشكيل حكومة برلمانية المادة (42) من الدستور التي أضيفت عام 2011 التي تحظر على من يتولى منصب الوزارة أن يحمل جنسية دولة أخرى، والمادة (75) التي تحظر على النائب أن يحمل جنسية دولة أخرى. فبغض النظر عن الآراء المتعارضة حول حظر ازدواج جنسية النائب أو الوزير التي تتراوح بين مؤيد لها على أساس ثبوت الولاء المطلق للدولة الأردنية، وبين معارض كونها تقوم على تمييز سلبي بين الأردنيين وتحرم كفاءات أردنية من تولي المناصب السياسية لأسباب أقل ما يمكن وصفها بأنها أسرية وعائلية من جراء ولادة الفرد من أبوين أردنيين ولكن في دولة أجنبية.

إلا أن اللافت للنظر أن المشرع الأردني لم يراع هذا القيد على العضوية في السلطتين التشريعية والتنفيذية في قانون الأحزاب السياسية الذي يسمح لمزدوجي الجنسية من الأردنيين بتأسيس الأحزاب السياسية والانضمام إليها، وهو ما من شأنه أن يصطدم بحظر ازدواج الجنسية الأجنبية. فمن حق أي من مؤسسي الحزب السياسي أو الأعضاء فيه أن يترشح عن ذلك الحزب في الانتخابات التشريعية كنائب ومن ثم كرئيس وزراء أو وزير في الحكومة البرلمانية، ذلك أنه قد اكتسب مركزا قانونيا بمجرد انضمامه للحزب السياسي يسمح له بالعضوية في أي من السلطتين التشريعية والتنفيذية. فلا يجوز بعد أن يتقرر قبوله بالحزب السياسي أن يحرم من الترشح للانتخابات التشريعية أو أن يحظر عليه العضوية في السلطة التنفيذية بحجة حمله لجنسية أجنبية. لذا، فقد كان الأولى بالمشرع الأردني أن يمنع ذلك الشخص ابتداء من تأسيس أي حزب سياسي والانضمام إليه، لا أن يقبله في الحزب ومن ثم يحرمه من حقه في تمثيل ذلك الحزب كنائب في البرلمان ومن ثم كوزير في السلطة التنفيذية.

ومن العوائق الدستورية الأخرى التي تقف في وجه تشكيل حكومة برلمانية في الأردن ما جاء في الفقرة الثالثة من المادة (74) من الدستور التي تفرض على الوزير الذي ينوي ترشيح نفسه للانتخابات أن يستقيل قبل ستين يوما على الأقل من تاريخ الانتخاب.

إن مثل هذا الحكم الدستوري يتنافى مع فكرة الحكومة البرلمانية التي تقوم على أساس ترؤس حزب سياسي معين للحكومة طيلة فترة عمر مجلس النواب، وأن تتم محاسبة ذلك الحزب من خلال صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية، بحيث إذا ما رغب الناخب في الإبقاء عليه في سدة الحكم فإنه يقوم بالتصويت له وإلا فإنه سيختار غيره. من هنا يثور التساؤل عن جدوى الطلب من الوزير الذي يرغب في الترشح لمجلس النواب أن يستقيل قبل ستين يوما من تاريخ الانتخاب طالما أن التصويت لا يكون لشخص المرشح بنفسه بل لعضويته في حزب سياسي معين.

كما أن التساؤل الأكبر الذي يثور يتمثل فيمن سيعين وزيرا في الحكومة البرلمانية خلال فترة الستين يوما بعد أن يستقيل أحد الوزراء لخوض الانتخابات التشريعية، فهل سيبقى المنصب شاغرا أم سيعين خلفا له، وفي تلك الحالة من سيقبل التعيين في المنصب الوزاري لفترة مؤقتة، خاصة أنه سيحرم من الترشح للانتخابات المقبلة باعتباره عضوا في الحكومة ولم يلتزم بالنص الدستوري الذي يوجب عليه الاستقالة قبل ستين يوما من تاريخ الانتخاب.

إن الخلل الذي سيحدثه الإبقاء على النص الدستوري السابق يكمن في أنه سيقسم أعضاء الحزب السياسي إلى فئتين، فئة يسمح لها الترشح للانتخابات التشريعية إما لعدم وجودها أصلا في الحكومة أو لوجودها ولكنها قد قدمت استقالتها من الحكومة قبل ستين يوما من الانتخاب، وفئة من أعضاء الحزب السياسي الذين يحظر عليهم الترشح للانتخابات على اعتبار أنهم أعضاء حاليون في الحكومة ولم يتقدموا باستقالاتهم الخطية خلال مدة الستين يوما قبل تاريخ الانتخاب.

خلاصة القول إن هناك حاجة ماسة لتعديل الدستور وإزالة النصوص والأحكام التي تعيق تشكيل الحكومات البرلمانية في الأردن التي في مقدمتها المواد التي تحظر ازدواج الجنسية الأجنبية للنائب والوزير، والتي تحظر تكليف رئيس الوزراء الذي نسب بحل البرلمان بتشكيل الحكومة التالية بعد الحل، والتي تقضي باستقالة الوزير الذي ينوي الترشح لمجلس النواب قبل ستين يوما من تاريخ الانتخاب.

*أستاذ القانون الدستوري المساعد في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية

هل تطبيق الحكومات البرلمانية في الأردن بحاجة إلى تعديل الدستور؟