مناقشة قانونية حول نظرية الاجرام في علم الاجتماع
– نظرية ادوين سوترلاند:
أقترح سوتر لاند , و هو عالم اجتماعي من مدرسة شيكاغو ,هذه النظرية سنة1939, و هي أول نظرية ترجع الانحراف إلى ” التعلم ” (2) إن الرغبة في مخالفة القانون لا هي فطرية و لا هي ناتجة عن استعدادات نفسية مكتسبة, إن فهم ظاهرة الانحراف يتطلب التخلي في أن واحد عن التأويلات التي ترى أن الفرد تحركه النزوات و هي التي تأخذه إلى الشر و الخطأ، و عن العادة التي يتشربها من ثقافته .
لقد لاحظ سوترلاند أن جزء فقط من قاطني الأحياء المعروفة بالعنف الإجرامي يمارسون نشاطات لا قانونية و مخالفة , و أمام هذه الملاحظة حاول إيضاح هذا الإشكالية : ما هي الميكانيزمات التي تدفع أفراد يعيشون نفس الظروف الاجتماعية إلى الانخراط في عالم الإجرام أو رفضه ؟
و تقوم نظرية سوترلاند على 09 مبادئ هي :
-السلوك الإجرامي هو سلوك متعلم
-يتعلم الفرد السلوك الإجرامي من خلال التفاعل مع الآخرين بواسطة سيرورة ” الاتصال ” .
-جزء أساسي من تعلم السلوك الإجرامي يتم داخل جماعة صغرى في العلاقات الشخصية .
-عندما يتعلم الفرد السلوك الإجرامي فهذا يعني اكتساب تقنيات اقتراف المخالفة (قد تكون تقليدية أو أكثر تعقيدا). و تبني بعض الأنماط من المبررات، والأسباب، والعقلنة و المواقف .
-تتجه المبررات و الأسباب التي يتعلمها الفرد وفق التعريف الملائم أو غير الملائم للقوانين.
-يصبح الفرد مجرما لما تتغلب تفسيراته السالبة لمعنى “احترام القانون”عن تفسيراته الموجبة.
-قد تتغاير الارتباطات الفارقية في تواترها , مدتها , و شدتها و أقدميتها.
-إن سيرورات تعلم السلوك الإجرامي بالارتباط مع النماذج و الأنماط الإجرامية هي نفس السيرورات الني تستغل في أي تعلم.
-إن السلوك الإجرامي هو تعبير عن مجموعة من الحاجات و القيم لكن لا يمكن تفسيره بهما لان السلوك الإجرامي هو أيضا تعبير عن نفس هذه الحاجات و القيم.
إن الانخراط في الإجرام (الارتباط) مرتبط فقط بقرب الفرد أو بعده (الفارقي)عن التفسيرات الشائعة عن القانون والشرعية والمتمثلة نوعا ما لتوصيات معيارية يقوم عليها النظام الاجتماعي .
تختلف نظرية سوترلاند عن نظرية التقليد التي جاء بها طارد، فالإجرام عند سوترلاند لا يفسر بالمخالطة السيئة التي تؤدي إلى الخطأ ثم الانحراف. و إنما تندرج ضمن منظور تحليل التفاعل. السلوكات الفردية مرتبطة بردود أفعال الآخرين و بالتالي لفهم ما يجعل الفرد منحرفا لا بد من معرفة الظروف العملية التي تجعله أكثر عرضة للتصورات غير الملائمة للقانون (شرعية) أكثر من التصورات الملائمة له .
و لقد انتقد جيفري ( Jeffery ) سنة 1959 نظرية الارتباط الفارقي و أورد النقاط النقدية الآتية :
-لا تفسر نظرية الارتباط الفارقي لماذا يجرم المجرم الأول ؟ فإذا كان الإجرام تعلم و لا يتعلم الفرد إلا ما هو موجود سلفا فكيف تعلم أول مجرم إذا أنتفى الإجرام قبله؟
-هذه النظرية لا تفسر الجرائم العاطفية و التي تتم بالخطأ غير المقصود.
-لا تفسر الجرائم التي يكون أصحابها لا علاقة لهم بالمجرمين أو بنماذج إجرامية.
-لا تفسر حالة من يعيش في محيط إجرامي لكنه لا يتحول إلى الإجرام.
-لا تميز بين السلوك المنحرف و السلوك غير المنحرف فكلاهم أكتسب بالتعلم.
-لا تأخذ بعين الاعتبار العامل النفسي للدافعية.
-لا تعطي تفسير مقنع للنسبة الفارقية للانحراف حسب متغيرات العمر, الجنس, التمدن والانتماء على جماعة أقلية.
و حاول العالم شورط ( SHORT )سنة 1958 إثبات نظرية سوترلاند فصادفه مشكل كبير يتمثل في وجود عدد كبير من المنحرفين ليس لهم أي اتصال سابق بمجرمين أو بنماذج إجرامية(1).
2- نظرية جيفري:
لقد وضع جيفري هذه النظرية سنة 1959 وحاول فيها التركيب بين علم النفس و علم الاجتماع لتفسير الظاهرة الإجرامية و لقد أعتمد, على مفهوم “الشخص القابل للتنشئة الاجتماعية”،و تصور “الاغتراب الاجتماعي”. يرى جيفري أن المنحرف يعاني من لا شخصانية اجتماعية لاختلال في تكوين “الأنا”و”الأنا الأعلى” بسبب تقمص ناقص للصور الوالدية (الأب والأم). كما أن اندماجه في المجتمع ليس جيدا لأنه لم يتمكن من أخذ المكانة التي كان يأملها ويتمناها , كما أنه لم يستدخل إلا جزء من القيم الثقافية العامة لمجتمعه و هذا ما جعله يعاني من تهميش عقلي. لقد أشار جيفري بالخصوص إلى لا شخصانية العلاقات الاجتماعية أي أن هذه العلاقات تفقد صدقها.
يجمع مصطلح”اغتراب” كل النظريات المفسرة للإجرام سواء في مجال الطب العقلي أوعلم النفس أو علم الاجتماع, وهذا المصطلح قد يخص أسباب الانحراف و الاضطرابات الانفعالية و الاضطرابات التي يكون مصدرها اجتماعي و هو يمس تكيف الشخصية مع ذاتها ومع المجتمع. إن هذه الاضطرابات هي التي تؤدي إلى الانتحار و إدمان الكحول و المخدرات و الفصام و العصاب و السلوك الإجرامي.
حاول جيفري انطلاقا من مفهوم ” الاغتراب الاجتماعي ” أن يثبت توافق كل الدراسات الإجرامية مع نظريته.فتأكيدها يعني أن يكون الإجرام مرتفعا في المناطق التي تعرف تهميشا اجتماعيا و تعتيما (مجهولة) و لقد بينت الإحصائيات الإجرامية ارتفاع حالات الإجرام عند فئة الشباب الذكور الذين يعيشون في أكواخ داخل المدن و ينتمون إلى فئة الأقليات و الفئة الفقيرة .
و يميز جيفري ثلاث أنواع من الاغتراب الاجتماعي و هي :
أ – الاغتراب الفردي : و يقصد به ذلك الفرد المستلب, و المعزول عن العلاقات والتفاعلات مع الآخرين و يوصف بالمريض اجتماعيا و هو لا يقبل بقيم المجتمعsociopathe).
ب – اغتراب الجماعة :
تكون الجماعة التي ينتمي إليها الفرد مستلبة و معزولة عن المجتمع, والفرد الذي يتقمص هذه الجماعة يوصف على أنه ” منحرف ثقافيا” أو “سيئ اجتماعيا”(Dyssociale).
ج – الاغتراب القانوني :
هنا توجد نظرة فارقية (مختلفة) للقانون من طرف مختلف الجماعات الموجودة في المجتمع , المعاملة المختلفة للبيض و السود, أو للفقراء والأغنياء.
لقد أدمج جيفري العوامل النفسية و العوامل الاجتماعية في ظهور الإجرام و يرى أن المجرمين يتصفون في آن واحد بالانطوائية و اللامعيارية (الأنوميا) في تفاعلهم الاجتماعي فالمنحرف منطو على نفسه ولا ينتمي لجماعة وهو يشعر بالنبذ و انعدام الأمن و يعاني من عدوانية شديدة , و كما ينعزل الفرد عن الجماعة تنعزل الجماعة عن المجتمع .
3- نظرية دوركيم:
تطرق دوركيم الى مفهوم ” الأنوميا” في كتابيه “تقسيم العمل”و”الانتحار” ولقد طوّر مرتون فيما بعد مفهوم الأنوميا كما سيأتي في النظرية المقبلة.(1)
ففي كتابه ” تقسيم العمل ” يقرن دوركيم فكرة الأنوميا بحالة الخلل في نظام تقسيم العمل في المجتمعات التي ستسمى بعده بالصناعية. أن التخاصم بين العمل و رأس المال هو مظهر آخر للأنوميا , و في كتابه ” الانتحار ” يأخذ مفهوم الأنوميا تفسيرا أكثر دقة و معنى مختلف لأنه يوجد بين تفرعين ثنائيين , الأنانية الغيرية والأنوميا الجبرية .
تغطي فكرة الأنانية عند دوركيم إلى حد معين فكرة الفردية وتبرز الأنانية في مجتمع ما لما يظهر أفراده ميلا أكبر إلى ضبط سلوكهم باختيارهم الحر و ليس بسبب قيم و معايير الجماعة. أما الغيرية فيمكن توصيفها في حالة المجتمع الذي يكون تقسيم العمل فيه متقدما أو حيث ينجم التضامن عن التشابه أقل مما ينجم عن التكامل .
أما الأنوميا فتحدث لما لا تضبط أفعال الأفراد بضوابط ملزمة و واضحة فيخاطر الأفراد بتحديد أغراض لأنفسهم تتجاوز حدود مقدرتهم و يستسلمون إلى رغباتهم المتزايدة .
و في حالة الجبرية تحد الضوابط إلى أقصى حدّ, الاستقلال الذاتي الذي يستفيد منه الفرد في اختيار غاياته و وسائله.
يرى دوركيم أن الجريمة عبارة عن ظاهرة اجتماعية عادية و لا معنى للإجرام إلا ضمن المجتمع أو الثقافة التي نتج عنها و نشأ فيها (1).
الأنوميا هي غياب القاعدة أو المعيار أو القانون.
إن تفكك البناء المعياري و ضعف قوة الضبط يعرض الأفراد إلى الخروج عن المعايير فينحرفون .
الشخص السوي عند دوركيم هو الشخص الأخلاقي الذي يدمج العناصر المعيارية ويتقمصها , فطاعته للقواعد المعيارية نابعة في آن واحد من الرهبة و الرغبة. يحس الفرد بالسعادة وراحة الضمير لما يطيع المعايير الاجتماعية. النظام الأنومي يقابله النظام الأخلاقي, فالأول متفكك و الثاني منضبط (2).
تلعب الثقافة دور في تحديد صحة أو خطأ سلوك الفرد في هذا الصدد يقول دوركيم :”لا توجد مجتمعات بلا إجرام متطور نسبيا, و لا يوجد شعب لا تنتهك فيه الأخلاق يوميا.إن الجريمة شيء ضروري و يستحيل أن تكون غائبة. تؤدي الظروف الأساسية للتنظيم الاجتماعي منطقيا إلى الجريمة “(3) و إذا أسقطت أراء دوركيم في الانتحار على الانحراف يمكن القول أن الإنسان لا يستطيع أن يتوافق مع نفسه و الآخرين إلا إذا توافقت حاجاته مع وسائله .(4)
و فيما يلي تصنيف لدوركيم حاول الربط فيه بين الجريمة و صور الانحراف و بين طبيعة البناء الاجتماعي (خاصة تقسيم العمل ) و الحالات المرضية للمجتمع (الباحثون) (5)
جدول (1) يمثل تصنيف دوركيم لأنواع الانحرافات
المجتمع
الفرد
(1) تقسيم العمل العادي
نمط 1 : انحراف بيولوجي
(2) تقسيم العمل الباثولوجي
نمط 2 : عصيان وظيفي
نمط 3 : انحراف متمكن أو متأصل (الأنومي , الأناني )
هناك ثلاث أنواع من الانحراف : بيولوجي و متأصل (أنومي ) و عصيان .
مقال قانوني متميز حول نظرية الإجرام في علم الاجتماع