التكييف القانوني لوثائق ويكيليس في القانون الدولي

في 22 من شهر اكتوبر عام 2010م نشر موقع ويكيليكس وثائق تخص حرب الخليج الثالثة لعام 2003م بلغت أربعمائة ألف وثيقة وعن حرب أفغانستان حوالي سبعين ألف وثيقة، ويتردد حاليا عن قرب نشر حوالي ثلاثة ملايين وثيقة أخري عن حرب العراق الأخيرة، تحتوي هذه الوثائق علي جرائم أرتكبت في حق العراقيين، خلال الفترة التي حددتها الوائق وهي الفترة الممتدة من يناير عام 2004م حتي ديسمبر عام 2009م، وذكرت هذه الوثائق أن عدد القتلي من العراقيين بلغ (109032 ) منهم (66081) مدنيا منهم (15 ألف) مفقود، وقتل من الأعداء المقاتين (2398) و(15196) من العراقيين و(3771) من قوات التحالف الدولي.

علما بأن جريدة الشرق الأوسط في عددها رقم(10657) الصادر في الأول من فبراير عام 2007م، ذكرت أن عدد القتلي العراقيين بين مارس 2003م وأغسطس 2007م حوالي مليون وثلاثة وثلاثين ألف قتيل) وذكرت إحصائيات صادرة عن مؤسسات بريطانية محايدة تؤكد أن عدد القتلى العراقيين منذ بداية الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 حتي 2008م تجاوز مليون شخص، وأن العراق فقد حوالي 3% من نسبة سكانه منذ الاحتلال الأميركي.
ففي استطلاع أجراه مركز (ORB) استند على مقابلات ميدانية تبين أن حصيلة القتلى العراقيين بلغت 1.033مليون قتيل منذ الاحتلال عام 2003. وتغطي نتائج الاستطلاع فترة تمتد من مارس/ آذار 2003 حتى أغسطس/ آب 2007، ويقدر هامش الخطأ فيه بنسبة 1.7%. ولأسباب أمنية لم يشمل الاستطلاع الأنبار وكربلاء كما منعت السلطات الكردية فرق الاستطلاع من إجراء عملها في أربيل. وفي بغداد وحدها فقدت 40% من الأسر أحد ذويها، كما أن نسبة 40% من القتلى أصيبوا بالرصاص الأميركي ونسبة 21% ماتوا بسبب سيارات مفخخة و8% قتلوا في غارات جوية ونسبة 4% أودوا بسبب صدامات طائفية بينما أودت نسبة 4% بسبب حوادث.وتقوم القوات الأميركية بـ5000 دورية يوميا ويقدر من يقتل من العراقيين بحدود 300 يوميا أي ما يناهز 10 آلاف قتيل شهريا.

(ومن أشهر الدراسات التي تناولت أعداد القتلى العراقيين وظروف قتلهم والمسؤول عن موتهم تلك التي أجرتها مجلة لانسيت. وقد اعتمدت المجلة على دراسة قام بها أطباء عراقيون تحت الإشراف المزدوج لمدرسة “بلومبيرغ” للصحة العامة وجامعة جونز هوبكينز بولاية ميرلاند ونشرتها في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2006وقد أدى الغزو الأميركي للعراق حسب إحصائيات 2006 إلى مقتل 655 ألف شخص، ومن بين هذا العدد مات 55 ألف ميتة طبيعية (بسبب الأمراض وكبر السن وموت الأطفال).وتقدر دراسة مجلة لانسيت أن عدد القتلى العراقيين يفوق 12 مرة ما تذكره الإحصاءات الأميركية التي تجعل عددهم سنة 2006 يتراوح بين 25 و30 ألف قتيل. وتبلغ نسبة القتلى العراقيين 2.5% من عدد السكان.
ويقدر معدل القتلى في الـ39 شهرا الأولى من الاحتلال الأميركي للعراق بـ15 ألف قتيل شهريا.وتذهب دراسة مجلة لانسيت إلى أن 56% من الضحايا قتلوا نتيجة الرصاص الأميركي، و13% بسبب سيارات مفخخة و13% بالقصف الجوي و14% نتيجة القصف بالمدافع الثقيلة وبالدبابات، وقد نتج عن هذا القتل 4 إلى 5 ملايين يتيم تعيلهم 1.5 مليون أرملة حسب إحصاءات اليونيسيف. أخيرا، تجاوز عدد من قتل من العراقيين منذ الغزو الأميركي في بعض الإحصاءات المذابح التي جرت برواندا سنة 1994 بين مجموعتي التوتسي والهوتو التي بلغت 800 ألف قتيل من الجانبين.) والتي شكل مجلس الأمن محكمة لمحاكمة المتهمين عام 2004م، لماذا لم يشكل مجلس الأمن محكمة للقتلي العراقيين!؟.

بينما ذكر مكتب المساءلة الحكومية وهو فرع التحقيقات غير الحزبي في الكونجرس الأمريكي يعلن في تقريره عام 2006م أن الحرب علي العراق 2003م أعادت العراق للقرون الوسطي، وقد ذكر جورج تينت مدير المخابرات الأمريكية في مذكراته (في قلب العاصفة) عام 2007م، أن الحرب علي العراق 2003م جاءت لإعادة تشكيل المجتمع العراقي، وذكرت أخر الاحصائيات أن عدد القتلي من العراقيين في الحرب بلغت مليونان قتيل وأكثر من مليونين جريح، وتم تهجير خمسة عراقي خارج العراق، ومليون أرملة وأربعة ملايين يتيم.
وذكرت وثائق ويكيليكس ( أن معظم حوادث القتل والتخريب من فعل عراقيين ضد عراقيين، أو من فعل قوي التخريب والأرهاب القادمة من دول الجوار) وهذه الجملة أهم ما ورد في هذه الوثائق، واعتقد أنها الغرض الرئيس من نشر هذه الوثائق، ومرجع ذلك لكون هذه الجملة تبرئ ساحة الولايات المجرمة الأمريكية وقوات التحالف من كافة الجرائم التي أرتكبتها في العراق كدولة مستقلة ذات سيادة وفي حق العراقيين أنفسهم، علما بأن الجرائم التي أرتكبتها الولايات المجرمة الأمريكية موثقة بالصوت والصورة في كافة وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقرؤه، منذ بداية الحرب في مارس 2003م حتي الآن.

ويؤكد ذلك أن هذه الوثائق لم تتحدث لا من قريب أو بعيد عن الشركات العسكرية والأمنية الدولية الخاصة، ولم تذكر أي شيئ عن الجرائم التي ارتكبتها تلك الشركات وخاصة بلاك ووتر وأهم هذه الجرائم أحداث الفالوجة التي أدانها المجتمع الدولي ومؤسسات المجتمع المدني، لماذا لم توضح هذه الواثائق دور هذه الشركات وما هو وما حدوده ونطاقه وما هي المسئوليات والمهمات العسكرية واللوجستية التي أوكلت إليها أو التي قامت بها، وهل لها نصيب من القتلي أم لا، ولم تكشف هذه الوثائق عن حقيقة دور هذه الشركات، وما مدي مسئوليتها في الجرائم التي ارتكب في العراق كدولة مستقلة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والجرائم التي ارتكبت ضد الشعب العراقي جرائم الحرب وجرائم الابادة والجرائم ضد الانسانية.

اعتقد أن نشر هذه الوثائق يرمي إلي تحقيق هدفين هما:
الأول: التقليل من عدد القتلي العراقيين، والتهوين من عملية القتل.
الثاني: تبرئة ساحة قوات التحالف الدولي وخاصة الولايات المجرمة الأمريكية، وإخلاء مسئوليتها الجنائية والمدنية عن الجرائم الدولية التي أرتكبت ضد العراق كدولة وهي جريمة العدوان طبقا للمادة الخامسة للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الفقرة، والفقرة الأولي من قرار تعريف العدوان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (3314) لعام 1974م، وباقي الجرائم الواردة بالمادة الخامسة سالفة الذكر وهي جرائم الحرب وجريمة الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية، ولكنها لاتنفي نفيا قاطعا ارتكاب جرائم ضد العراق وخاصة جرائم حرب.
الثالث: أخفاء الدور المشبوه للشركات العسكرية والأمنية الخاصة في الجرائم المرتكبة ضد الشعب العراقي وخاصة جرائم شركة بلاك ووتر، وغيرها من الشركات التي تفننت في أرتكاب الجرائم الدولية بكافة أركانها المادية والقصد الجنائي العام والخاص، وهي جرائم الحرب وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، ولا استبعد أن هذه الشركات مولت هذه الموقع لهذا الغرض.
وهناك أهداف سياسية يرجي تحقيقها من وراء نشر هذه الوثائق هي:
الأول: لمحاربة تفوق الحزب الجمهوري علي الحزب في الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي بالولايات المجرمة الأمريكية.
الثاني: استكمال الهدف الذي لم يتحقق من تزوير الانتخابات العراقية السابقة، والتي ظهرت نتيجتها فوز قائمة المالكي بفارق بسيط جدا عن قائمة أياد علاوي، والتي كان الهدف من ورائها أشتعال فتنة طائفية بين العراقيين، وذلك باتهام الحكومات العراقية المتعاقبة بالأشتراك في عمليات القتل بين العراقيين.
الثالث: أفشال كل المحاولات التي تبذل لوحدة الصف العراقي، وبناء دولة في العراق.
الرابع: نشر هذه الوثائق يعتبر حلقة من حلقات محاصرة إيران سياسيا، حيث أرجعت الوثائق أن معظم القتلي كان بسبب تدخل دول مجاورة، والمقصود منه إيران، وتأكيدا ودعما لاستراتيجية الولايات المجرمة الأمريكية التي تتبعها ضد إيران.

الغريب في الأمر أنني لم أجد أي محاولة من العراقيين أشخاصا ومؤسسات لمحاكمة الولايات المجرمة الأمريكية ودول التحالف الدولي، علي الجرائم الدولية التي أرتكبوها في حق العراق كدولة مستقلة ذات سيادة وضد العراقيين كأشخاص، الجرائم الواردة في المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهي جريمة العدوان وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية،علي أي صعيد سواء وطني أو إقليمي أو عالمي، علما بأن القانون الدولي وفر لهم عدة آليات قانونية لذلك ولكن لم يتم استخدامها لا من الأشخاص ولا من المؤسسات الرسمية أو مؤسسات المجتمع المدني.

لماذا صمت المجتمع الدولي بأشخاصه وآلياته علي هذه الجرائم وعلي مرتكبيها، لماذا لم يتحرك مجلس الأمن لتشكيل محكمة كما فعل مع يوغسلافيا عام 1993م ورواندا عام 1994م، علما بأن عدد القتلي فاق وزاد عن الدولتين، لا يمثل الفيتو عقبة في ذلك، لأنه يمكن الرجوع إلي الجمعية العامة عن طريق الاتحاد من أجل السلم الذي نص في المادة الأولي منه علي أن اختصاص مجلس الأمن ينتقل للجمعية العامة إذا فشل المجلس في اتخاذ قرار بسبب استخدام الفيتو.

أين جامعة الدول العربية، وأين معاهدة الدفاع العربي المشترك، وأين دور الدول العربية في الأمم المتحدة لماذا صمتوا ولم يتحركوا، لماذا لم تشكل جامعة الدول العربية محكمة لمحاكمة هؤلاء القتلة، كافة الدول العربية مصدقة علي اتفاقيات جنيف الأربع التي تطالب في المادة (49) من الاتفاقية الأولي والمادة (50) من الاتفاقية الثانية والمادة (129) من الاتفاقية الثالثة والمادة (146) من الاتفاقية الرابعة والمادة (85) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977م لاتفاقيات جنيف، باتخاذ كافة الإجراءات التشريعية لملاحقة ومحاكمة ومعاقبة مرتكبي الانتهاكات الخطيرة لهذه الاتفاقيات ةالبروتوكولين الإضافيين لهم، ولماذا لم تتخذ الدول العربية هذه الخطوات التشريعية، ولماذا لم تصدق الدول العربية علي النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وأين الأردن المصدقة عليه لماذا لم تتقدم برفع الدعوي.

أين منظمة المؤتمر الإسلامي البالغ عدد الدول الأعضاء فيها أكثر من خمسين دولة، لماذا لم تتحرك علي الصعيد الدولي العالمي والإقليمي، أين الحكام العرب والمسلمين مما حدث ويحدث وسوف يحدث في العراق، لماذا وافقوا جميعا ودعموا جهارا نهارا علي محكمة لبنان لمحاكمة قتلة الحريري أو بالأصح لمحاكمة منهج المقاومة في المنطقة الممثلة في حزب الله.
ليس القانون الدولي بفروعه المختلفة وآلياته المتعددة هو السبب في عدم محاكمة الولايات المجرمة الأمريكية ودول التحالف، علي الجرائم الدولية التي ارتكبوها بحق العراق دولة وشعبا وأفغانستان دولة وشعبا وفلسطين دولة وشعبا ولبنان دولة وشعبا ولكن السبب الأول والأخير أن استخدام هذه الآليات القانونية بيد أشخاص تآمروا وخانوا وباعوا الشعوب والأوطان مقابل ليس حياتهم ولكن لشراء حياة أشد الناس عداوة لهم ولأمتهم.

* بقلم د. الدكتور: السيد مصطفي أحمد أبو الخير*

*استاذ القانون الدولي العام*

التكييف القانوني لوثائق ويكيليس في القانون الدولي – مقالة قانونية هامة