تصورات حول نجاعة العدالة الجنائية
رغم أن العدالة هي قيمة إنسانية تختلف عن كل التصورات الاقتصادية التي تعتمد وسائل العمل والإنتاج والكلفة والجودة، فإن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجية التي عرفها العالم، وحاجة المواطن إلى عدالة ناجعة وجيدة،كلها وغيرها أسباب دفعت إلى تفكير الفقه والمسؤولين
الحكوميين والقضائيين، بالمغرب وخارجه في إعمال تلك التصورات على العدالة الجنائية. في البداية لابد من التساؤل هل أن إصلاح منظومة العدالة يجب أن ينصب على المسائل الشمولية دون الدخول في الجزئيات ؟ أم أن الإصلاح العميق والشامل يقتضي ما هو شمولي ثم ما هو جزئي في الوقت نفسه ؟
في الجواب ينبغي القول إن أوراش الإصلاح لن تنتهي بحلول شهر مارس من سنة 2013، وكل ما قد يمكن القيام به هو محاولة إنهاء المسائل الشمولية كلها، ثم البدء، بعد ذلك، في الجزئيات عن طريق التفعيل الصحيح لنتائج تلك الأوراش.
وفي إطار جرد بعض الشموليات، والتمهيد لتحديد بعض الجزئيات، في ما هو مرتبط بالنجاعة من تصورات، تأتي هذه الورقة، التي اعتمدت، بصفة خاصة، كمنهجية لها ما تضمنه الخطاب الملكي ليوم 20/8/2009، في مقتطفاته المتعلقة برفع النجاعة القضائية، وكمرجعيات لها ما تم استخلاصه من بعض العروض التي قدمت خلال ندوات الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة، وكذا المناظرة الوطنية التي انعقدت بمكناس أيام 9،10 و11 دجنبر 2004 حول «السياسة الجنائية بالمغرب، واقع وآفاق «، وغيرها.
ورغم أن العدالة هي قيمة إنسانية تختلف عن كل التصورات الاقتصادية التي تعتمد وسائل العمل والإنتاج والكلفة والجودة، فإن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجية التي عرفها العالم، وحاجة المواطن إلى عدالة ناجعة وجيدة،كلها وغيرها أسباب دفعت إلى تفكير الفقه والمسؤولين الحكوميين والقضائيين، بالمغرب وخارجه في إعمال تلك التصورات على العدالة الجنائية.
بل إن هناك من السادة المتدخلين في ندوات الحوار الوطني من فكر في «الاقتصاد الجنائي» و»اقتصاد السجون «وعاب على ميزانيات أجهزة العدالة عدم انسجامها، وغياب الرؤية الاستراتيجية في التدبير الاقتصادي للعدالة الجنائية وضعف آليات استرداد الأموال».
ويمكن إعطاء مدلول للنجاعة في العدالة الجنائية بأنها استعمال أفضل الوسائل الممكنة، للوصول، بأقل التكاليف وفي أسرع الأوقات، إلى خدمة قضائية جيدة، وإلى تحقيق المحاكمة العادلة.
وقد تضمن الخطاب الملكي المشار إليه ضرورة رفع النجاعة القضائية، للتصدي لما يعانيه المتقاضون، من هشاشة وتعقيد وبطء العدالة، وهو ما يقتضي، حسب الخطاب الملكي ذاته :
.تبسيط وشفافية المساطر
.رفع جودة الأحكام والخدمات القضائية
.تسهيل ولوج المتقاضين إلى المحاكم
.وتسريع وتيرة معالجة الملفات وتنفيذ الأحكام
وهذه المعاينة الملكية، إن كانت قد وردت، منذ سنة2002، في ديباجة القانون رقم22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية بما نصه « إن نظام العدالة الجنائية لم يعد مبعث ارتياح لدى مختلف الفعاليات المهتمة على كافة الأصعدة،وأصبح محل انتقاد من المهتمين والمتتبعين نتيجة بطء الإجراءات وعدم فعاليتها بسبب عدم جدوى الأساليب الإجرائية المقررة أو عدم كفايتها، أولأن الآجال المسطرية طويلة أو غير محددة بالمرة «،فقد أكدها، بعد أن بقي الأمر على حاله، كل المتدخلين خلال ندوات الإصلاح إياه، ومن ذلك « أن المحاكم المغربيةترزح تحت وطأة التضخم، والاكتظاظ، وهو ما يترتب عنه الكثير من أعطاب العدالة كالبطء، نقص الفعالية وعدم احترام معايير الجودة، تأخر البت في القضايا، غياب التعمق في النزاعات المهمة، عدم تخصيص الوقت الكافي لبحث وتحقيق القضايا وتدني جودة الأحكام القضائية… «.
لذلك، وفي إطار التفكير في إيجاد بعض السبل المؤدية إلى رفع نجاعة العدالة الجنائية، على هدي الخطاب الملكي المشار إليه،ينبغيمناقشة بعض مواضيع الهشاشة والتعقيد والبطءوضرورة تبسيط وشفافية المساطر وتسهيل ولوج المتقاضين إلى العدالة الجنائية والرفع من جودة أحكام وخدمات هذه العدالة وتسريع وتيرة معالجة ملفاتها وتنفيذ أحكامها.
أثر السياستين الجنائية والعقابية على التبسيط والشفافية
يلاحظ الدكتور محمد الإدريسي العلمي المشيشي « أن تعريف السياسة الجنائية قد تطور بين محاربة الإجرام، بمعنى المجرمين، وحماية المجتمع في صورة مواجهة بينهما، ثم تدرج نحو إعادة التأهيل والإدماج بالنسبة للمجرمين والدفاع الاجتماعي، خاصة مدرسته الجديدة، وفي جميع الأحوال يلاحظ انزلاق السياسة الجنائية نحو التضييق أو الحصر في السياسة العقابية في رد الفعل الاجتماعي ضد الجريمة.»
«ويمكن القول، في محاولة تركيبية، إن السياسة الجنائية هي مجموعة المبادىء والتصورات والمناهج والوسائل القانونية وغير القانونية التي تعتمدها الدولة لمعالجة الظاهرة الإجرامية والتعامل معها، ضمن سياستها العامة، وفي ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية خاصة بفترة محددة من الزمن «.
وفي إطار تأثير السياستين الجنائية والعقابية على نجاعة العدالة الجنائية، في شقها الذي يلامس محاربة الهشاشة والبطء وعدم الجودة وتسريع وتيرة البت في الملفات، أكتفي بإشارة إلى موضوع الوقاية، ثم تأثير التشريع العقابي الحالي على النجاعة، فتضخم ظاهرة الاعتقال الاحتياطي وإكتظاظ السجون، ثم تأثير التشريع المسطري الحالي عليها.
أما «الوقاية من الجريمة»، فقد تم إهمالها سواء على المستوى المركزي أو المحلي أو من طرف فعاليات المجتمع المدني، فتفشت ظاهرة الإجرام وواجهتها المحاكم بعقوبات حبسية لم تحد منها، وساعدت على ذلك وضعية المؤسسات السجنية بسبب الاكتظاظ وعدم وجود الشروط التي تمكن من تحقيق برامج التأهيل وإعادة الإدماج، الأمر الذي أضحى معه موضوع انحراف الشباب قنبلة موقوتة لا يدري أحد كيف ومتى وأين ستنفجر.
وينبغي تأكيد على أن الوقاية من الجريمة، باعتبارها عمادا لتأسيس عدالة جنائية صلبة وناجعة، تكون سابقة لها(الجريمة)، من جهة، بالحماية والحيطة من الوقوع فيها، عن طريق المحاربة الفعلية للهشاشة والفقر والتهميش، ومراقبة ورصد الظروف التربوية والمعيشية والبيئية والاجتماعية المحيطة خاصة بالحدث، والتي قد تزحزحه نحو الإنحراف أو الخلاف مع القانون، مع التأكيد، منذ الآن، على أنه «ينبغي تجنيب الحدث، ضحية كان أو ظنينا، اللجوء إلى المساطر القضائية، والاكتفاء بكل الوسائل البديلة « وإن كان لا بد من المتابعة «فينبغي ضمان المؤازرة الإلزامية للمحامي، وضمان السرية وحماية الخصوصية بالنسبة إلى كل الإجراءات والملفات والسجلات وبطائق السجل العدلي».
والوقاية لاحقة لارتكاب الجريمة، من جهة أخرى، لأن في تلافي الاعتقال، إلا للضرورة، وقاية من الجريمة، شأنه شأن التأهيل القويم وتسهيل الإندماج وتيسير سبله، ان كانت الضرورة تقتضي العقوبة السالبة للحرية.
لذلك ، فلا بد من إعادة النظر في المقاربة الأمنية للسياسات الجنائية بالمغرب ووضع مخطط استراتيجي تشاركي مندمج، يعتمد دراسات معمقة وأبحاثا علمية وإحصائيات مضبوطة على الأصعدة المركزية والجهوية والمحلية لمعرفة أسباب الجريمة وموجبات تصاعدها وطرق الوقاية منها وطرق معالجتها، وخلق المؤسسات المؤهلة لذلك.
تصورات قانونية حول نجاعة العدالة الجنائية