موقف القانون المقارن من إستخدام البصمة الوراثية في الإثبات

1 ) من ناحية شرعية :-

حسبما ما أقره مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشر التي أنعقدت في مكة المكرمة في الفترة المنصرمة من 21 – 26 شوال 1421 هــ الموافقة للفترة من 5 – 10 يناير 2002 م ، حسبما أقره من قرارات و توصيات بشأن البصمة الوراثية و مجالات الإستفادة منها ، فإن المجلس بعد النظر إلى التعريف الذي سبق للمجمع إعتماده في الدورة الخامسة عشر ، و نصه : ( البصمة الوراثية هي البينة الجينية : نسبةً إلى الجينات أي المورثات ، التي تدل على هوية كل إنسان بعينه ، و أفادت البحوث والدراسات العلمية أنها من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة لتسهيل مهمة الطب الشرعي ، و يمكن أخذها من أي خلية بشرية من الدم ، أو اللعاب ، أو المني ، أو البول أو غيره ) ، و بعد الإطلاع على ما أشتمل عليه تقرير اللجنة التي كلفها المجمع في الدورة الخامسة عشر بإعداده من خلال إجراء دراسة ميدانية مستفيضة للبصمة الوراثية ، و الإطلاع على البحوث التي قدمت في الموضوع من الفقهاء و الأطباء و الخبراء ، و الإستماع إلى المناقشات التي دارت حوله ، تبين من ذلك كله أن نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية في إثبات نسب الأولاد إلى الوالدين أو نفيهم عنهما ، و في إسناد العينة من الدم أو المني أو اللعاب ، التي توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها ، فهي أقوى بكثير من القيافة العادية ( التي هي إثبات النسب بوجود الشبه الجسماني بين الأصل و الفرع ) ، و أن الخطأ في البصمة الوراثية ليس وارداً من حيثها هي و إنما الخطأ في الجهد البشري أو عوامل التلوث و نحو ذلك.

و بناءً على ما سبق قرر ما يأتي :-

أولاً :

لا مانع شرعاً من الإعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي و إعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي و لا قصاص لخبر القاعدة الفقهية الشهيرة ( أدرأوا الحدود بالشبهات ) ، و ذلك يحقق العدالة و الأمن للمجتمع ، و يؤدي إلى نيل المجرم عقابه و تبرئة المتهم ، و هذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة.

ثانياً :

إن إستعمال البصمة الوراثية في مجال النسب لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر و الحيطة و السرية ، و لذلك لا بد أن تقدم النصوص و القواعد الشرعية على البصمة الوراثية.

ثالثاً :

لا يجوز شرعاً الإعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب و لا يجوز تقديمها على اللعان.

رابعاً :

لا يجوز إستخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعاً ، و يجب على الجهات المختصة منعه و فرض العقوبات الزاجرة ، لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس و صوناً لأنسابهم.

خامساً يجوز الإعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في الحالات الآتية :

(أ) إثبات التنازع على مجهول النسب بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء ، سواءً أكانت تنازع على مجهول النسب لسبب إنتفاء الأدلة أو تساويها ، أم كان بسبب الإشتراك في وطء الشبهة و نحوه.
(ب) حالات الإشتباه في الميلاد في المستشفيات و مراكز رعاية الأطفال و نحوها ، و كذا الإشتباه في أطفال الأنابيب.
(ج) حالات ضياع الأطفال و إختلاطهم بسبب الحوادث أو الكوراث أو الحروب ، و تعذر معرفة أهلهم ، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها ، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب و المفقودين.

سادساً :

لا يجوز بيع الجينوم .. البشري لجنس ، أو لشعب ، أو لفرد ، لأي غرض ، كما لا تجوز هبتها لأي جهة لما يترتب على بيعها أو هبتها من المفاسد.

سابعاً يوصي المجمع بما يأتي :

(أ) أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء ، و أن يكون في مختبرات للجهات المختصة ، و أن تمنع القطاع الخاص الهادف للربح من مزوالة هذا الفحص ، لما يترتب على ذلك من المخاطر الكبرى.
(ب) تكوين لجنة خاصة بالبصمة الوراثية في كل دولة ، يشترك فيها المتخصصون الشرعيون و الأطباء و الإداريون ، و تكون مهمتها الإشراف على نتائج البصمة الوراثية ، و إعتماد نتائجها.
(ج) أن توضع آلية دقيقة لمنع الإنتحال و الغش و منع التلوث و كل ما يتعلق بالجهد البشري في حقل مختبرات البصمة الوراثية ، حتى تكون النتائج مطابقة للواقع ، و أن يتم التأكد من دقة المختبرات ، و أن يكون عدد المورثات ( الجينات المستعملة للفحص ) بالقدر الذي يراه المختصون ضرورياً دفعاً للشك.

2 ) من ناحية قانونية :-

أدى العمل بالبصمة الوراثية و إستخدامها إلى ظهور مشاكل كان لا بد من تداركها ، و تم عمل ذلك من خلال تولد قواعد قانونية متعلقة بتجربة العمل في إستخدام البصمة الوراثية برزت بشكل ملفت من بد كل القواعد الأخرى و أسهب صاحب كتاب بحث العلم و القانون و محقق الهوية الأخير ” البروفسور الشهير إريك لاندر ” في إيجازها و الإسهاب في الحديث عنها في رأي قانوني لفقيه شهير في مجال البصمة الوراثية بدليل شهرة كتابه الآنف الذكر على مستوى العالم ، و هذه القواعد البارزة تكون كالتالي :

القاعدة الأولى : القبول العام لأهل الاختصاص :

و تعرف هذه القاعدة بقاعدة فراي ، و هي قاعدة أصدرتها محكمة فدرالية سنة 1923 م عند محاكمة جيمس فراي ، و هو شاب أسود أتهم بقتل رجل أبيض في واشنطن دي سي ، و طالب محاميه المحكمة أن تقبل نتائج إختبار ضغط الدم الإنقباضي دليلاً على ذلك ، و هو صورة مبكرة لكشف الكذب ، و بناءً على القاعدة العامة التي تسمح للخبراء بأن يدلوا بشهادتهم في مواضيع خبرتهم أو معارفهم ، و لما كان جهاز كشف الكذب عندئذٍ تكنولوجيا جديدة فقد وضعت المحكمة قاعدة إستدلالية أكثر صرامة ، تقول : ( يصعب أن نحدد متى يعبر المبدأ العلمي الخط الفاصل بين مرحلة التجريب و بين مرحلة الثبوت و التطبيق ، في مكان ما من منطقة الغبش هذه لا بد أن تدرك القدرة الإستدلالية للمبدأ العلمي ، ستمضي المحاكم طويلاً تسمح بشهادة الخبراء المرتكزة على مبدأ علمي أو كشف حسن التحقيق ، لكن ما ترتكز عليه الشهادة لا بد أن يكون مرسخاً ليحظى بقبول عام في المجال الذي ينتمي إليه ) ، و من هذا النص يتضح أن المحكمة رفضت قبول نتائج كشف الكذب إعتقاداً أن جهاز كشف الكذب لم يكن يحظى بالقبول العام لأهل الإختصاص ، و هذه القاعدة القبول العام في المجال الذي ينتمي إليه هي التي سمحت للمحاكم الأمريكية الأخذ ببصمة الحمض النووي ، لأن تحديد الحمض النووي مقبول على نطاق واسع في التطبيقات الطبية ، و الحمض النووي ثابت تماماً لا يتغير في كل خلايا الجسم ، و هو مغاير للحمض النووي لخلايا الآخرين ، و التطابق الإيجابي مستحيل ، و في تقرير لشركة لايفكودز كتطبيق عملي لهذه القاعدة في إختبار الحمض النووي في إحدى قضايا القتل عام 1988 م ، نص على أن الدم الموجود على الساعة التي كانت في يد المتهم يتوافق مع دم الأم القتيلة ، و أن تكرار نموذج شرائط الحمض النووي هو واحد في المائة مليون في العشيرة الإسبانية في الولايات المتحدة الأمريكية.

القاعدة الثانية : اختبار الموضوعية :

و المقصود بهذه القاعدة معاودة إختبار الحمض النووي في أكثر من موضع منه للتيقن من نتائجه ، و أن تضاعف عينة إيجايبية للمقارنة ، و هذه القاعدة ربما تبدو يسيرة من الناحية النظرية إذ يتصور تحت الظروف المعملية المثلى أن العينات طازجة و نظيفة و من شخص واحد ، فإذا ظهر ثمة تشكك في النتائج أخذت عينات جديدة و أعيد الإختبار و هو أمر يرفع من معدل دقة الإختبارات ، كما أن العمل جرى في الشركات المتخصصة بوضع حرارة خاصة لعينة المقارنة ، إنما في الواقع العملي فإن بصمة الحمض النووي تكون حقاً مشكلة و تظهر مصاعبه في الطب الشرعي المختص بالجرائم ، إذا ليس أمام البيولوجي إلا العمل على ما عثر عليه من عينات في موقع الجرائم ، و ربما كانت هذه العينات قد تعرضت إلى إعتدائات بيئية ، فقد تكون قد تحللت و قد تكون مزيجاً من عينات من أفراد عدة ، كما يحدث في حالة الإغتصاب المتعدد كثيراً ما لا يجد البيولوجي الشرعي إلا ميكروجرام واحد أو أقل من عينة من الحمض النووي ، أي ما يكفي لإجراء إختبار واحد لا أكثر ، فإذا لم تكن نتيجة الإختبار حاسمة لن يسهل أن يكرر الإختبار ، و يحكي إريك لاندر أنه أشترك بصفته شاهداً خبيراً في قضية نيويورك ضد كاسترو حيث قتلت بوحشية فيلمابونس و ابنتها البالغة من العمر سنتين في شقتها في برونوكس ، و كانت متزوجة زواجاً عرفياً و ألقى زوجها التهمة على بواب العمارة جوزيه كاسترو ، تلاحظ وجود بقعة دم صغيرة على ساعة يد كاسترو أرسلت إلى شركة لايفوكودز لإختبار الحمض النووي ، و ردت الشركة بأن الدم الموجود على الساعة يتوافق مع دم الأم القتيلة ، و في التحقيق الأولي عن مدى قبول البينة من الحمض النووي ظهرت مشاكل عديدة فنية أنتهت إلى أنه كان من المفروض تكرر التجربة ما دام قد ظهر إلتباس ، غير أنه عندما بدأت المحاكمة كان الحمض النووي الموجود على الفلتر قد أستهلك و لم يعد ممكناً تكرار العمل ، و كان حكم القاضي في النهاية أن بينة بصمة الحمض النووي مقبولة من ناحية المبدأ ، لكن التحليل في هذه القضية لم يتبع المباديء المقبولة ، و حكم بأن بينة الحمض النووي عن التوافق بين الدم الموجود على الساعة و بين دم القتيلتين بينة غير مقبولة قانونية ، ثم يقول إريك لاندر : أن من بين الأمور المهمة التي أبرزتها قضية كاسترو تأكيدها أن النظر وحده لا يكفي بل لا بد أن تجرى القياسات الكمية و تضاعف عينة إيجابية للمقارنة.

القاعدة الثالثة : الوقوف على طبيعة عدة التقنية :

يتطلب إستخدام بصمة الحمض النووي أيضاً معلومات غاية في الدقة عن طبيعة عدة التقنية ، و توضح تلك القاعدة قضية إغتصاب طفل ، و هي قضية مين ضد ماكلويد ، في هذه القضية بدا أن الحمض النووي للمتهم و عينة السائل المنوي متماثلان ، لكن نمطي التشريط كانا مزحزحين عمودياً كل منهما بالنسبة للآخر ، كما يقول التحليل الذي قامت به شركة لايفوكدز ، قد يشير مثل هذا الإختلاف إلى أن العينتين جائتا عن فردين مختلفين ، أو أنه نتيجة لظاهرة تسمى زحزحة الشرائط حيث يحدث أحياناً في المجال الكهربي أن تهاجر عينة أسرع من أخرى بسبب إختلاف في تركيز العينة ، أو تركيز الملح ، أو وجود ملوثات أو غير ذلك من أسباب ، و بهذا تبدو الشرائط و قد تزحزت إلى مواقع أخرى ، و لكي نقرر الصحيح من الإحتمالين علينا أن نحلل العينات بإستخدام مسبر للحمض النووي من موقع ثابت ، مونومورفي ، موقع لا يتغير بين أفراد العشيرة يحمله كل فرد ، فإذا وقعت النماذج المونومورفية في نفس المكان قلنا : أنه لم تكن ثمة زحزحة للشرائط ، و لنا إذن أن نفسر الفروق بين النماذج البوليمورفية على أنها حقيقة فعلاً ، أما إذا كانت النماذج المونومورفية قد تزحزحت بنفس القدر الذي تزحزت به النماذج البوليمورفية ، فلنا أ، نستنبط أن الشرائط قد تزحزت حقاً ، فنحاول أن نصحح الأثر ، يقول إريك لاندر : لقد عرضت قضية ماكلويد مشاكل تصحيح ظاهرة الشرائط بطريقة مسرحية ، تمت التحقيقات خلال أسبوع واحد ، قامت شركة لايفوكدز يوم الإربعاء بعرض موقع مونومورفي واحد تزحزح بمقدار 3.15 % و شهدت بأن هذا التزحزح النسبي لا بد أن يكون ثابتاً على طول الجين ، و على أساس هذا التزحزح تكون العينتان متوافقتين ، و في يوم الخميس واجه الدفاع الشاهد بسجلات المعمل ذاتها التي تبين أنه قد أستخدم مسبراً منومورفياً آخراً أشار إلى زحزحة قدرها 1.72 % إذا أستخدمنا هذا المسبر الأخير فإن العينتين لا تتوافقان ، في يوم الجمعة كانت القضية واضحة أمام القاضي ، و في يوم السبت ، و قبل أن ينادي على شاهد واحد ، سحبت أدلة الحمض النووي ، و أسقطت كل الإتهامات الجنائية ، على الرغم من أن زحزحة الشرائط ظاهرة معروفة جيداً ، و إذا حدثت تلك الظاهرة في بحث أو فحص طبي و نتج عنها إلتباس خطير فإننا ببساطة نكرر التجربة ، و ليس لدينا في التطبيقات القانونية مثل هذا الترف.

القاعدة الرابعة : الحذر من التكنولوجيا المتطورة :

يقول إريك لاندر : من الحكمة أن نحترس من الثقة الزائدة في التكنولوجيا فضلاً عن الإستخدام المتحيز لها ، إن للتكنولوجيا الجديدة ميلاً إلى أن تخلق متطلبات جديدة ، و كلما أزدادت قدرة التكنولوجيا من ناحية المبدأ – تكنولوجيا مثل بصمة الحمض النووي – قل على الأغلب تفحصها كما يجب و الإعتراض عليها عند التطبيق ، علينا أن نكون في غاي الحذر بالذات بالنسبة لهذه البتكنولوجيا الأكثر قدرة و الأكثر قيمة ، و إلا أنقلبت بشكل يزعج تسامحنا تجاه العمل دون النظر إلى معياريته ، الواقع أن هذا بدأ فعلاً بالنسبة لبصمة الحمض النووي ، ثمت محامون للدفاع يحاولون أن يقبلوا لأجل مصلحتهم تحاليل الحمض النووي التي يتولاها الإدعاء ، مدعين أن ما بها من إختلافات طفيفة تبريء عملاءهم ، و لحسن الحظ فإن تعيين الهوية ببصمة الحمض النووي تحسن بإستمرار من ناحية بسبب تحسن التكنولوجيا ، و من ناحية أخرى بسبب كل ما يبذل من مجهودات و كل ما تطرحه الممارسة العملية من مشاكل ، و لعل الدرس الذي لقنته التكنولوجيا المتطورة هو نصب العداء بين الحسن و الأحسن ، بهذا أنهي الحديث عن الجزء الرابع من مقالات ” البصمة الوراثية و دورها في الإثبات القانوني ” .
منهجية و مشروعية تطبيق البصمة الوراثية “

1 ) منهج تحديد البصمة الوراثية :-

يقول إريك لاندر : أن المنهج الأساسي لتحديد بصمة الحمض النووي بسيط للغاية ، حيث يستخلص الحمض النووي أولاً من إحدى عينات الدليل و من دم المتهم ، ثم يقطع الحمض النووي فل كل من العينتين إلى ملايين الشظايا بإستخدام أنزيم تحديد يبتر عند تتابعات بذاتها ، تفرد الشظايا بعد ذلك عن طريق التفريد الكهربي بالجين ، إذا تحمل كل عينة على رأس حارة خاصة على الجين ، و تعرض لمجال كهربي يجري على طول هذا الجين فتتحرك شظايا الحمض النووي بسرعات تختلف بحسب حجمها ( الشظايا الأصغر تتحرك بشكل أسرع من الشظايا الأكبر ) في نهاية العملية تفصل شظايا الحمض النووي في كل حارة بحسب الحجم ، ينتقل الحمض النووي بعد ذلك فوق قطعة من الورق تسمى الغشاء ، و تثبت لتصبح جاهزة للتحليل لكي نظهر شظايا الحمض النووي المناظرة لأي موقع على الكروموسوم لا بد أن نستخدم مسبراً مشعاً يحمل من الحمض النووي تتابعاً قصيراً من هذه المنطقة ، يغمر الغشاء بالمسبر المشع فيقترن بالتتابعات المكملة ، ثم يعرض الغشاء لفلم أشعة سينية طوال الليل لنرى أين أقترن المسبر المشع ، تميز هذه المواقع بظهور شرائط أنيقة قاتمة اللون تسمى ( الصورة الإشعاعية الذاتية ) تشكل الشرائط نموذج الحمض النووي لعينة الموقع الذي نحن بصدده ، تجري المقارنة بالنسبة لكل موقع لنرى ما إذا كانت نماذج الحمض النووي للعينة ( عدد الشرائط و مواقعها بالضبط ) تتوافق مع نظيراتها في كرات الدم البيضاء المأخوذة من دم المتهم ، إذا لم تتوافق النماذج عند كل موقع فإنها تكون مأخوذة من مصادر مختلفة ( إلا إذا كان ذمة خطأ تقني ) ، فإذا ما كانت النماذج تتوافق فعلاً عند كل موقع قلنا : أنها قد تكون من نفس المصدر ، نعني أنها تستقيم مع الفرض بأنها من نفس المصدر ، على الرغم من إحتمال أن تكون من أفراد مختلفين لهم بالمصادفة نفس أنماط هذه المواقع بالذات ، فإذا عثرنا على توافقات لعدد كافٍ من المواقع قلنا أن العينات لنفس الشحص ، و تستغرق هذه الطريقة حوالي خمسة أيام ، و قد تمتد إلى ثلاثة أسابيع وفقاً للطرق المختارة في تصنيف الحمض النووي.

2 ) ضوابط العمل بالبصمة الوراثية بها شقان هما الجانب الشرعي و العملي أوردهما كالتالي :-

(أ) الضوابط الشرعية :

تتحقق الدقة في العمل الجنائي بإتخاذ السبيل إلى تطبيق شرع الله إعتماداً على الكتاب و السنة بصفة خاصة في الأعمال التي ترتب إدانة أي من الأشخاص ، و حلف الخبير أمام المحقق بمثابة عهد منه على الوفاء بعمله ، و هو مما يتطلب الوفاء به في فحص البصمة الوراثية ، و هو مسؤول عن ما يدونه في تقريره لما تسفر عنه نتائج الفحص و هذه المسؤولية ما يقع على عاتق البشر بأمر من الخالق سبحانه و تعالى في قوله تعالى : ( و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا ) ، لذا فإن حلف اليمين من الأمور المتطلبة حتى يتذكر أنه صاحب أمانة لا بد من أدائها إلى أصحابها أولهم الله سبحانه و تعالى ، حتى يتحرى الحق بكل دقة و يبعد عن الزور الذي أمرنا بالإبتعاد عنه لقوله تعالى : ( ذلك و من يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه و أحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان و اجتنبوا قول الزور ) ، و بعد أن يلتزم الخبير الأمانة في أداء العمل الفني فإنه يتطلب تقديم تقرير الخبير للبصمة الوراثية كتابة حتى تكون معلوماته مؤكدة لا خلاف فيها و لا تتغير بمرور الوقت ، كما أنها أمراً من الله سبحانه و تعالى لإثبات الحق في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه .. ) ، كما جرى العمل بها لأمر الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم و إتخاذه كاتب له ، حيث كان يتخذ علي و زيد ابن ثابت رضي الله عنهما كتاباً له ، و يكتب التقرير بأمانة كما هو بكامل المعلومات دون حذف أو إضافة ، و قد شمل نص المادة السابعة و السبعين من نظام الإجراءات الجزائية السعودي ببعض تلك الضوابط المنحصرة في شرط الكتابة لقولها ( على الخبير أن يقدم تقريره كتابةً في الموعد الذي حدد من قبل المحقق .. ) ، و لا يوجد نص مما يحث على حلف اليمين و إن كان موجوداً بنصوص الشريعة الغراء ، و التي هي دستور المملكة العربية السعودية ، كما ورد بذات المعنى في نص المادة السادسة و الثمانين من قانون الإجراءات الجنائية المصري الشروط الواجب توافرها في عمل الخبير حيث ورد بالنص أنه ( يجب على الخبراء أن يحلفوا أمام قاضي التحقيق يميناً على أن يبدوا رأيهم بالذمة و عليهم أن يقدموا تقريرهم كتابة ) ، و مما يعطي تقرير الخبير القوة في الإثبات ، أن يتم تحليل البصمة الوراثية بناءً على أمر من الجهات القضائية المختصة ، و مما لا شك فيه أن النتائج المترتبة على عمل البصمة الوراثية لا بد لها أن تكون مما يوافق إعمال العقل و المنطق ، حيث لا يصح نسب جريمة القتل مثلاً لشخص لديه شلل و لو كان عارضاً ، طالما تمت الجريمة حال مرضه ، كما أن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ، لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشر المنعقدة في مكة المكرمة عام 1419 هــ في القرار الأول له بشأن إستفادة المسلمين من علم الهندسة الوراثية ، قام المجلس بوضع ضوابط أخرى لصحة العمل بالبصمة الوراثية ، حيث قرر ثالثاً أنه ( لا يجوز إستخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية و وسائله في الأغراض الشريرة و العدوانية لكل ما يحرم شرعاً ) ، و قد قرر المجلس في الفقرة خامساً أنه ( لا يجوز إجراء أي بحث ، أو القيام بأي معالجة ، أو أي تشخيص يتعلق بمورثات إنسان ما ، إلا للضرورة ، و بعد إجراء تقويم دقيق و سابق للأخطار و الفوائد المحتملة و المرتبطة بهذه الأنشطة ، و بعد الحصول على الموافقة المقبولة شرعاً ، مع الحفاظ على السرية الكاملة للنتائج ، و رعاية أحكام الشريعة الإسلامية الغراء ، القاضية بإحترام الإنسان و كرامته ) ، و تقرر ثامناً أنه ( يوصي المجلس الأطباء و أصحاب المعامل ، و المختبرات ، بتقوى الله تعالى ، لإستشعار رقابته ، و البعد عن الأضرار بالفرد و المجتمع و البيئة ).

(ب) الضوابط العملية :

أ – وجود مختبرات تابعة للدولة و مراقبتها لها.

ب – تجهيز المختبرات بأحدث الأجهزة و ذات أعلى دقة في النتائج ، حتى لا تقابل بالهجوم من أي جهة أخرى.

ج – وجود خبراء ذوي أمانة ، و صدق ، و عدل إلى جانب الخبرة ، و ممن يطلعون على أحدث تطورات البحث العلمي في مجال البصمة الوراثية.

د – عدم وجود صلة شخصية بين الخبير و الموضوع الذي يتولى القيام بفحص البصمة الوراثية فيه ، لعلاقة بأي من أشخاص الجريمة.

و قد أثير نقاش حول عدد من يقوم بالخبرة هنا ، حيث ذهب بعض الفقه إلى إشتراط أكثر من خبير واحد للعمل بالبصمة الوراثية ، و حجتهم في ذلك الشهادة كمثال ، تدليلاً لقوله تعالى : ( و أشهدوا إذا تبايعتم و لا يضار كاتب و لا شهيد و إن تفعلوا فإنه فسوق بكم و اتقوا الله و يعلمكم الله و الله بكل شيء عليم ) ، و لكنه رأي محل نظر في أن هذا الرأي السابق وضع البصمة الوراثية وضع الشهادة ، و لكنه عمل كأي عمل خبرة لا يتطلب له أكثر من خبير وفق ما ورد في نصوص النظامين السعودي و المصري ، كما أنه ليس بشهادة و إنما خبرة فالخبير لم يرى شيء كما في حال الشاهد ، و إنما خبرته العلمية هي التي أوصلته لما يعلم ، و إذا كان الأمر للإحتياط حتى لا يتلاعب فيها فإن الخبيرين أيضاً لهما أن يتفقا على التلاعب و لو كانوا أكثر أو أن يخفي أحدهما على الآخر ، و هو ما قام به سليمان في قصة المرأة التي صب في دبرها بيض و هي نائمة ، و قضى سليمان بأن يشوى فإذا أجتمع كان بيضاً و إلا كان منياً ، كما أوصى مجلس المجمع الفقهي في قراره الأول في دورته الخامسة عشرة ( بالإستفادة من علم الهندسة الوراثية في الوقاية من المرض أو علاجه ، أو تخفيف ضرره ، بشرط أن لا يترتب عن ذلك ضرر أكبر ) ، و أوصى المجلس رابعاً بأنه ( لا يجوز إستخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية و وسائله ، للعبث بشخصية الإنسان و مسؤوليته الفردية ، أو للتدخل في بنية المورثات ” الجينات ” بدعوى تحسين السلالة البشرية ) ، و في التوصية السادسة أنه ( يجووز إستخدام أدوات علم الهندسة الوراثية و وسائله ، في حقل الزراعة و تربية الحيوانات ، شريطة الأخذ بكل الإحتياطات لمنع حدوث أي ضرر – و لو على المدى البعيد – بالإنسان أو الحيوان أو البيئة ).

3 ) القيمة القانونية للبصمة الوراثية لها شقان أوردهما كالتالي :-

(أ) تقرير الخبير :

بعد أن تتم عملية فحص البصمة الوراثية من الناحية الطبية يقوم الخبير الفني المنتدب بعمل تقرير يفيد بما توصل إليه من جراء الفحص ، لذلك فإن الفائدة و القيمة القانونية لتقرير خبير البصمة الوراثية تكون بتوضيح عناصر محددة سلفاً من قبل السلطة المختصة الآمرة بندب الخبير ، لذا ينقسم تقرير الخبير إلى ثلاثة أقسام ، حيث يذكر في القسم الأول منها محل العمل المنتدب لأجله ، و يتناول القسم الثاني منها الخطوات الإجرائية التي أتخذها لأجل إنجاز هذا العمل ، حتى تكون واضحة من الناحية القانونية من حيث صحتها ، و يخصص القسم الثالث لتوضيح النتيجة الفعلية و العلمية التي توصل إليها بأدق التفاصيل التي واجهها في سبيل أداء ذلك العمل ، مع إلتزامه بعدم الخروج على الحدود التي ندب لأجلها.

(ب) نتائج العمل بالبصمة الوراثية :

أن البصمة الوراثية نعدها من باب الوسائل التي تحقق القواعد الشرعية للدين الحنيف الدين الإسلامي ، حيث القاعدة الشرعية التي تقضي بأن ( درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ) ، فمنع المجرم من تكرار جرمه درءاً لمفسدته و كذلك عقابه على فعله الآثم فيه درء لمفسدة محققة ، كما فيه ردع عام للجميع و ردع خاص للمجرم محل المحاكمة ، و من أمثلة العمل بها ما تم التوصل إليه في العديد من القضايا كما حدث في جمهورية مصر العربية من إستخدام البصمة الوراثية في حادث قطار أسوان الذي أسفر عن العديد من الضحايا ما يقرب إلى ما يفوق ( 400 جثة مفتتة ) لا يوجد ما يدل على أن هذا الجزء يكمله آخر حتى تتمكن السلطات من رد الأشخاص إلى ذويهم و لو جثث هامدة ، فالبصمة الوراثية يمكن لها الإستعراف على الأشخاص و الإثبات أو النفي و لو كانت في محل ملوث و به من الأقذار ما به و لو كان مجرد رفات أو بقايا عظام ، و في عام 1417 هــ شب حريق أثناء موسم الحج مما أسفر عن 338 متوفي ، تعرف الأفراد على أقاربهم و لكن 152 فرد من الضحايا فقط و بقي 186 جثة متفحمة و مجهولة الهوية ، و لكن بإستخدام هذه التقنية الحديثة تم التعرف على معظم الجثث بطريق مقارنة البصمة الوراثية لهم مع البصمة الوراثية الماخوذة من ذويهم ، و كما قبلت من العديد من الدول و أصبحت وسيلة عالمية في الإثبات ، كما في القانون الجنائي الفرنسي بمادته (28/226) المعدلة عام 1994 م ، حيث جاء النص كما يلي ( إن كشف شخصية الإنسان عن طريق بصمته الوراثية لا يجب أن يكون إلا في إحدى حالات ثلاث ) هي كالتالي :

1 – الغرض الطبي.
2 – الغرض العلمي.
3- في نطاق إجراءات صحيحة.

و في الإمارات العربية المتحدة تم إنشاء مختبر جنائي لإجراء فحص البصمة الوراثية كما تم إستخدامه في العديد من القضايا ، و في جمهورية مصر العربية تم إنشاء معمل للطب الشرعي و البيولوجيا الجزيئية عام 1995 م لإجراء فحص البصمة الوراثية ، و في الكويت عام 1998 م أعد مشروع لتعديل الفقرة الأولى من نص المادة الثالثة و السبعين بعد المائة من القانون رقم واحد و خمسين لعام 1984 للأحوال الشخصية بما يجعل البصمة الوراثية دليل مفيد و قوي في إثبات و نفي النسب.

4 ) آراء عملية مقارنة لمدى مشروعية تطبيق البصمة الوراثية :-

البصمة الوراثية تدل على هوية كل إنسان بعينه ، كما أنها أفضل وسيلة علمية للتحقق من الشخصية ، و معرفة الصفات الوراثية المميزة للشخص عن غيره ، عن طريق الأخذ من أي خلية من خلايا جسم الإنسان : من الدم ، أو اللعاب ، أو المني ، أو البول ، أو غير ذلك كما أشرت لها سابقاً في ثنايا سلسلة مقالاتي ، و الإستدلال من خلال نتيجة البصمة الوراثية على مرتكبي الجرائم ، و معرفة الجناة عند الإشتباه ، سواءً كانت جريمة زنا أم قتل أم إعتداء على ما دون النفس عمداً أو خطأً إلى غيرها من أنواع الجرائم و الجناية على النفس أو العرض أو المال ، فإنه كما يرى المختصون يمكن الإستدلال عن طريق البصمة الوراثية على مرتكب الجريمة ، و التعرف على الجاني الحقيقي من بين المتهمين من خلال أخذ ما يسقط من جسم الجاني في محل الجريمة و ما حوله ، و إجراء تحاليل البصمة الوراثية على تلك العينات المأخوذة ، و من ثم مطابقتها على البصمات الوراثية للمتهمين بعد إجراء الفحوصات المخبرية على بصماتهم الوراثية ، فعند تطابق نتيجة البصمة الوراثية للعينة المأخوذة من محل الجريمة ، مع نتيجة البصمة الوراثية لأحد المتهمين ، فإنه يكاد يجزم بأنه مرتكب الجريمة دون غيره من المتهمين ، في حالة كون الجاني واحداً ، و قد يتعدد الجناة و يعرف ذلك من خلال تعدد العينات الموجودة في مسرح الجريمة ، و يتم التعرف عليهم من بين المتهمين من خلال مطابقة البصمات الوراثية لهم مع بصمات العينات الموجودة في محل الجريمة ، و يرى المختصون أن النتيجة في هذه الحالات قطعية أو شبه قطعية ، و لا سيما عند تكرار التجارب ، و دقة المعامل المخبرية و مهارة خبراء البصمة الوراثية ، فالنتائج مع توفر هذه الضمانات قد تكون قطعية ، أو شبه قطعية الدلالة على أن المتهم كان موجوداً في محل الجريمة ، لكنها ظنية في كونه هو الفاعل حقيقةً ، يقول أحد الأطباء : ( لقد ثبت أن إستعمال الأسلوب العلمي الحديث بأعداد كثيرة من الصفات الوراثية كدلالات للبصمة الوراثية يسهل إتخاذ القرار بالإثبات أو النفي للأبوة و النسب و القرابة بالإضافة لإلى مختلف القضايا الجنائية ، مثل : التعرف على وجود القاتل ، أو السارق ، أو الزاني من عقب السيجارة ، حيث إن وجود أثر اللعاب ، أو وجود بقايا من بشرة الجاني ، أو شعرة من جسمه ، أو مسحات من المني المأخوذة من جسد المرأة تشكل مادة خصبة لإكتشاف صاحب البصمة الوراثية من هذه الأجزاء ، و نسب النجاح في الوصول إلى القرار الصحيح مطمئنة ، لأنه في حالة الشك يتم زيادة عدد الأحماض الأمينية ، و من ثم زيادة عدد الصفات الوراثية ، و بناءً على ما ذكر عن حقيقة البصمة الوراثية ، فإن استخدامها في الوصول إلى معرفة الجاني ، و الإستدلال بها كقرينة من القرائن المعينة على إكتشاف المجرمين ، و إيقاع العقوبات المشروعة عليهم في غير قضايا الحدود و القصاص ، أمر ظاهر الصحة و الجواز ، لدلالة الأدلة الشرعية الكثيرة من الكتاب و السنة على الأخذ بالقرائن ، و الحكم بموجبها و مشروعية إستعمال الوسائل المتنوعة لإستخراج الحق و معرفته ، الأخذ بمشروعية البصمة الوراثية كقرينة من القرائن التي يستدل بها على المتهم في قضايا الجرائم المختلفة ، لا يعني أنه يمكن الإعتماد عليها في قضايا الحد و القصاص.

# إذا أنه لا يثبت عن طريق البصمة الوراثية لا حد و لا قصاص لأمرين هما كالآتي :

أ – لأن الحد و القصاص لا يثبتان إلا بشهادة أو إقرار ، دون غيرهما من وسائل الإثبات عند كثير من الفقهاء.

ب – لأن الشارع يتشوف إلى درء الحد و القصاص ، لأنهما يدرءان بأدنى شبهة أو إحتمال.

و الشبهة في البصمة الوراثية ظاهرة ، لأنها إنما تثبت بيقين هوية صاحب الأثر في محل الجريمة ، أو ما حوله ، لكنها مع ذلك تظل ظنية عند تعدد أصحاب البصمات على الشيء الواحد ، أو وجود صاحب البصمة قدراً في مكان الجريمة قبل أو بعد وقوعها ، أو غير ذلك من أوجه الظن المحتملة ، و مستند الحكم الشرعي للأخذ بالبصمة الوراثية في المجال الجنائي و كذلك في مجال إثبات النسب أو نفيه في حال إذا لم يتم إثباته بأحد الطرق الشرعية المعتبرة و هي إما الفراش ، أو الإقرار ، أو البينة ، أو القيافة ، أو الإستلحاق ،أنها وسيلة لغاية مشروعة ، و للوسائل حكم الغايات ، و لما في الأخذ بها تحقيق لمصالح كثيرة ، و درء لمفاسد ظاهرة ، و مبنى الشريعة كلها على قاعدة الشرع الفقهية الشهيرة الكبرى ( جلب المصالح و درء المفاسد ) ، و أخذاً بما ذهب إليه جمهور الفقهاء من مشروعية العمل بالقرائن ، و الحكم بمقتضاها ، و الحاجة إلى الإستعانة بها على إظهار الحق و بيانه بأي وسيلة قد تدل عليه ، أو قرينة قد تبينه ، إستناداً للأدلة الشرعية و إجماع فقهاء العصر الحديث التي أفضل ذكرها كالتالي :

1 – من كتاب الله قوله تعالى : ( و شهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت و هو من الكاذبين ، و إن كان قميصه قد من دبر فكذبت و هو من الصادقين ).

2 – من السنة عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : ( أردت الخروج إلى خيبر ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فسلمت عليه ، و قلت له : إني أردت الخروج إلى خيبر ، فقال : إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً ، فإذا أبتغى منك آية فضع يدك على ترقوته ) ، فقد بين عليه الصلاة و السلام جواز الإعتماد على القرينة في الدفع للطالب ، و إعتبارها دليلاً على صدقه ، كشهادة الشهود.

3 – كذلك ما جاء في توصية الندوة الفقهية حول الوراثة و الهندسة الوراثية ما نصه : ( البصمة الوراثية من الناحية العلمية وسيلة لا تكاد تخطيء في التحقق من الوالدية البيولوجية ، و التحقق من الشخصية ، و لا سيما في مجال الطب الشرعي ، و هي ترقى إلى ” مستوى القرائن القوية التي يأخذ بها أكثر الفقهاء في غير قضايا الحدود الشرعية.. ).

و الواقع أن العمل بالقرائن أمر لا محيد عنه ، و قل أن تجد عالماً من العلماء أستطاع أن يتجنب الأخذ بالقرائن كلية و تجاهلها ، و حتى الذين صرحوا بعدم قبولها كدليل صالح لبناء الأحكام عليها عملوا بها في كثير من المواضع الغير محصورة و التي نستقرئها من واقع كتب الفقه الإسلامي حيث أعتمد الفقهاء فيها على القرائن و الأحوال و أوردها على سبيل المثال لا الحصر كالآتي:

1 – الإجماع على جواز وطء الزوج لزوجته إذا زفت إليه ليلة الزواج و إن لم يعرف عينها و لم يشهد عنده شاهدان أنها زوجته إعتماداً على القرينة الظاهرة.

2 – الحكم على الخنثى بكونه رجلاً أو أمرأة إعتماداً على الأمارات التي تدل على ذلك.

3 – إعتبار سكوت البكر موافقة منها على الزواج ، و السكوت ليس إلا قرينة على رضاها.

4 – عدم إقرار قبول المريض مرض الموت لوارثه لإحتمال تهمة محاباة المقر له ، و هي قرينة ظاهرة.

و مما لا شك فيه أن الدراسات العلمية الحديثة في مجال مكافحة الجريمة قد أضافت الكثير من النظريات و التقنيات المتطورة ذات الصلة الوثيقة بكشف الجرائم و العملية الإثباتية ، و كأحد هذه الأدلة أو القرينة تن التطرق للبصمة الوراثية بإعتباره دليلاً مادي ، و يعتبر الدليل المادي الركيزة الأساسية في عملية الإثبات و وسيلة الوصول إلى الحقيقة و إثبات الحقوق أمام القضاء ، و بالتالي تحقيق العدالة التي هي مطلب الجميع ، و يمكن إستنباطها من خلال إجراء التحليل الفني و الشرعي للآثار المادية محل البحث في المنازعة ، فالأثر المادي بطبيعته متعلق بظروف المنازعة و مستمد منها ، لذلك فهو قد يمدنا بمفاتيح تكشف غموض مجرى الأحداث الخاصة بالموضوع محل النزاع ، و المسؤول عن تحليل الأثر المادي و تقديمه للمحكمة كدليل فني أو علمي هم خبراء التخصصات الفنية المختلفة ، إلا أن رأي المحكمة في هذا الدليل هو الرأي السائد فلها أخذه من عدمه ، معنى ذلك أن الأثر المادي يقدم لنا الدليل المادي بطريقة غير مباشرة ، إذ يحتاج إلى أساليب علمية و خبرة فنية لإستنباط أوجه دلالته ، لذلك فهو يسمى بالدليل الفني أو الدليل العلمي ، يطلق لفظ الأثر المادي و الدليل المادي على ما يعثر عليه من مواد أو أشياء في مسرح الجريمة أو على الأشخاص أطراف الجريمة ، و التي تفيد في تحديد شخصية الجاني و كشف الحقيقة ، و حقيقة أن الأثر المادي هو مصدر الدليل المادي ، فقد يكون الأثر دليلاً بعد الفحص العلمي أو الفني ، و قد لا يكون شيئاً له قيمة ، كما أن الأثر المادي قد تكون له دلالة و لكن المتهم يستطيع إثبات مشروعية صلة هذا الأثر و عدم تعلقه بالجريمة لا سيما في البصمة الوراثية ، حيث أن بصمة الأصابع أثر مادي و مقارنة البصمات تقدم لنا دليلاً مادياً على ملامسة صاحب البصمة للجسم الذي يحملها ، إلا أنها لا تثبت بالضرورة إرتكاب هذا الشخص للجريمة ، لأن المتهم يمكن تبرير وجوده في مكان الحادث بسبب مشروع ، لذلك فإن وجود صلة إيجابية بين الأثر المادي و الشخص المشتبه فيه قد يكون دليلاً مادياً على علاقته بالجريمة ، و عدم وجود تلك الصلة دليل مادي على عدم علاقته بالجريمة ، هذا ما يتعلق بالأثر المادي بإعتباره مصدر للدليل المادي الذي يعرف من الناحية العملية بأنه : ( حالة قانونية تنشأ من إستنباط أمر مجهول من نتيجة فحص علمي أو فني لأثر مادي تخلف عن جريمة ، و له من الخواص ما يسمح بتحقيق هويته أو ذاتيته ) ، بمعنى أن الدليل المادي هو ما يستفاد من الأثر المادي و يتحقق به الإثبات و هذا ينطبق على البصمة الوراثية بإعتبارها دليلاً مادي كما أشرت لذلك مسبقاً في ثنايا سلسلة مقالاتي.

# بعد هذه الرؤية المقارنة لمدى مشروعية البصمة الوراثية من حيث التطبيق أتضح لنا الآتي :

( أنها تعد قرينة من منظور شرعي و تعد دليلاً مادي نتج عن أثر مادي من ساحة الجريمة من منظور قانوني و أوجزت أعلاه أدلة شرعية تجيزها و كذلك آراء قانونية تأخذ بها ، لذا فهي تعد من أقوى القرائن و الأدلة التي يستدل بها على مرتكبي الجرائم و معرفة الجناة و كذلك فيما يتعلق بالنسب إذا لم يثبت بأحد الطرق الثابتة شرعاً ، لما ثبت بالتجارب العلمية المتكررة من ذوي الخبرة و الإختصاص في أنحاء العالم من صحة نتائجها ، و مدى قوة ثبوتها ، مما يجعلنا نقول بمشروعية الأخذ بها و الحكم بمقتضى نتائجها في غير ما أستثني من الشرع فيما يخص النسب الثابت بأحد الطرق المعتبرة شرعاً ، و كذلك في غير قضايا الحدود و القصاص ) ، بهذا أنهي الحديث عن الجزء الخامس من مقالات ” البصمة الوراثية و دورها في الإثبات القانوني ” .

” البصمة الوراثية في إثبات النسب و تحديد الهوية “

# أهمية البصمة الوراثية و دورها في إثبات النسب و تحديد الهوية :-

تلعب البصمة الوراثية دوراً مهماً للغاية في إثبات النسب أو نفيه و كذلك تحديد الهوية ، إذ أنها قرينة قوية كما تم الإشارة لذلك فيما سبق ، فهي تدل على هوية الإنسان بعينه دون غيره و تميزه بصفات وراثية تخصه ، لذا لها أهمية كبيرة في هذا المجال فهي تحل الكثير من الإشكالات و تحافظ على الأنساب من الإختلاط ، و ترد الشيء لأصله ، و تجعل المجتمعات مستقرة بإستقرار الأنساب و ثبوتها ، و لا تفسح المجال لإنتحال أنساب لأجل تحقيق غايات أو مصالح معينة ، و تتجلى هذه الأهمية العظيمة و الدور الكبير الذي تلعبه البصمة الوراثية في الحالات الآتية التي يحدث فيها تنازع في زمننا المعاصر و تفصل فيها فيما يتعلق بتنازع البنوة و تحديد الهوية و هي كالآتي :-

1 – حالات تبديل المواليد في مستشفيات الولادة :

و هو أن يتم تسليم مولود إلى غير أبويه خطأً أو عمداً ، و أيضاً في بعض حالات الطواريء قد يتم خلط المواليد حديثي الولادة مع بعضهم البعض خاصة في حالات الإخلاء السريع ، في مثل هذه الحالات يتنازع رجلان على المولود و لا يمكن للتشابه الخلقي الشديد ( القيافة ) بين الطفل و أحد الرجلين أن يرقى مطلقاً لأن يكون دليلاً يعتمد عليه بصورة مؤكدة لإلحاقه بأحدهما لعدم وجود القائف المتمكن هذه الأيام ، كما أن تحديد فصائل الدم تستخدم للإستبعاد فقط ، و لا يمكن إثبات البنوة على أساسها حيث أنها وسيلة نفي فقط و ليست وسيلة إثبات ، و يمكن إستعمال البصمة الوراثية لحل هذه المشكلة حيث يتم فحص الحمض النووي لأمهات و آباء المواليد و كذلك المواليد أنفسهم ، و بمقارنة البصمة الوراثية بين الطفل و كلا الرجلين فإنه يمكن قطعاً نفي المولود عن أحدهما أو عن كليهما أو إثباته لأحدهما إن كان هو أباه ، فالبصمة الوراثية تعتمد على التشابه و التطابق في كل ما يمكن أن يكون متوارق من الأبوين ، و لا يمكن أن يكون مستحدثاً جديد.

2 – الشك في النسب :

قال صاحب بداية المجتهد لما كان الفراش موجباً للحوق النسب ، كان للناس ضرورة إلى طريق ينفونه له إذا تحققوا فساده ، و تلك الطريق هي اللعان ، فاللعان حكم ثابت بالكتاب و السنة و القياس و الإجماع ، إذ لا خلاف في ذلك عامة فبين كل زوجين لعان ، لأنه ينفي عنه الولد ، فالرجل إذا ولدت أمرأته ولداً يمكن كونه منه فهو ولده في الحكم ، و لا ينتفي عنه إلا بنفيه باللعان ، و يكون نفي الحمل في حالة ما إذا أدعى الزوج أنه لن يطأها أصلاً من حين العقد عليها ، أو أدعى أنها أتت به لأقل من ستة أشهر بعد الوطء ( أدنى مدة حمل ) ، أو لأكثر من سنة أو سنتين أو أربع ( أقصى مدة حمل حسب رأي الفقهاء ) من وقت الوطء ، فإذا نفى الرجل ابنه و تم اللعان بنفيه له ، أنتفى نسبه من أبيه و سقطت نفقته عنه و أنتفى التوارث بينهما و لحق بأمه ، فهي ترثه و هو يرثها لما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ( و قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه و ترثه أمه ، و من رماها به جلد ثمانين ) ، و يؤيد هذا الحديث الأدلة الشرعية الدالة على أن الولد للفراش ، و لا فراش هنا لنفي الزوج إياه ، و لا يعد مجهول النسب فلا يصح أن يدعيه غيره ، و إذا كذب الزوج نفسه ثبت نسب الولد منه ، و يزول كل أثر للعان بالنسبة للود ، إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة و يحتاج رأي الفقهاء هو هل نأخذ بالبصمة الوراثية دون تطبيق اللعان ؟ و هل إذا نفى الرجل ابنه بالملاعنة يتم اللجوء إلى البصمة الوراثية ؟ و إذا ثبت أن المولود له هل يلحق به و يورث ؟ و هناك حالات ينكر فيها الرجل نسب طفل من زواج شرعي للإختلاف الشديد في التشابه الخلقي بين الطفل و أبويه ، كأن يكون الأبوان ذوي بشرة بيضاء و الطفل ذا بشرة سوداء ، هنا يمكن للبصمة الوراثية أن تثبت أن هذا الطفل من هذا الزوج أم لا ، أو أن يجامع الرجل زوجته ثم يسافر و يحدث حمل بعد سفره ، ثم يحضر بعد زمن طويل فيجد له ولد و تدعي أمرأته أن الولد على فراش زوجها و يرفضه الزوج و ينكر أنه ولده أو ينكر حمل أمرأته و ولادتها ، هنا أجمع الفقهاء على أنه لا بد للمرأة من أن تأتي ببينة تثبت بها أنها حملت و ولدت و ليس أنها ولدت هذا الولد بالذات ، فإن جاءت بالبينة ( الشهود ) على أنها حملت و ولدت ثبت النسب بالفراش ، و لكن أختلف الفقهاء في نصاب هذه البينة هل هي شهادة أمرأة واحدة أو غير ذلك ، و عن طريق مقارنة البصمة الوراثية لزوجها مع الولد يمكن تصديق قول الزوجة و إثبات الولد لزوجها و أنه أبوه.

3 – الحالات التي ينكر فيها الرجل أن الأب لطفل نتيجة نكاح غير شرعي كالإغتصاب أو الزنا :

و ذلك لتبرئة نفسه من هذه الجرائم ، بمقارنة البصمة الوراثية لهذا الرجل و الطفل يمكن إثبت أنه الأب الحقيقي للطفل ، و المذهب أن ولد الزاني لا يلحق به و إن أعترف به لحديث الفراش السابق ، و أختار الشيخ الجليل تقي الدين أنه إذا أستلحق ولده من الزنا و لا فراش لحقه ، و في الإنتصار : يلحقه بحكم حاكم.

4 – حالات الإدعاء من قبل المرأة لتحقيق غاية معينة :

كالحالات التي تدعي فيها المرأة أن مولودها يخص رجلاً معيناً لإجباره على الزواج أو طمعاً في الميراث أو في أخذ النفقة ، و بمقارنة البصمة الوراثية للمولود و الرجل المدعى عليه يمكن إثبات أو نفي إدعائها.

5 – الحالات التي يدعي فيها رجلان نسب الولد المجهول النسب أو اللقيط :

من أدعى نسب اللقيط من ذكر أو أنثى ألحق به متى كان وجوده منه ممكناً ، لما فيه من مصلحة اللقيط دون ضرر يلحق بغيره ، و حينئذ يثبت نسبه و إرثه لمدعيه ، فإن أدعاه أكثر من واحد ، في مثل هذه الحالات تقدم دعوى من له بينة ( شهود عدل ) على دعوى من ليس له بينة ، فالشهود العدل شرعاً بإتفاق الفقهاء القدامى من أقوى الأدلة على إثبات النسب لأنها دليل على صحة إدعاء المدعي ، و عليه يثبت نسبه لمن لديه البينة على دعواه ، فإن لم يكن لهم بينة أو أقامها كل واحد منهم عرض على القافة الذين يعرفون الإنسان بالشبه ، و متى حكم بنسبه قائف واحد أخذ بحكمه متى كان مكلفاً ذكراً عدلاً مجرباً في الإصابة ، فإن لم يتيسر ذلك أقترعوا بينهم ، فمن خرجت قرعته كان له ، و قال الحنفية لا يعمل بالقائف و لا بالقرعة بل لو تساوى جماعة في ولد و كان مشتركاً بينهم ورث كل منهم كأبن كامل و ورثوه جميعاً كأب واحد ، في هذه الحالة نرى أن اللجوء إلى البصمة الوراثية يحل المسألة ، أما إذا كان لكليهما بينة أو لأحدهما بينة و أدعى نسب طفل قد نسبه رجل آخر إليه من قبل و لكن بلا بينة ، فعلة الخلاف هنا كما ذكرنا هي الطريقة التي يستوثق بها من صحة دعوى أحد المدعيين ، و مما لا شك فيه أنه يمكن القول بأن مقارنة البصمة الوراثية لكلا المدعيين و الولد المتنازع عليه أقوى من شهود العدول في مثل هذه الأحوال ، فالشهود يشهدون بما يعلمون ( و قد يكون علمهم بالشيء غير صحيح ) ، أما البصمة الوراثية فهي تنتقل من الأباء إلى الأبناء و ملازمة للفرد ، و لو كانت البصمة الوراثية معروفة لدى الفقهاء القدامى للجئوا إليها لأنها تؤدي إلى إقامة الحجة و البينة على صدق أو كذب المدعي للنسب و هو الغرض الذي يقوم به الشهود العدول ، فلو أن البصمة الوراثية لمدعي النسب تطابقت مع الطفل الذي يدعي نسبه فهو ابنه يقيناً ، بمعنى أن مقارنة البصمة الوراثية لكل المدعيين و الولد قد تكون ذات فائدة عظيمة في نفي النسب عن أحدهما و إثباته للآخر أو في نفي النسب عن كليهما بصورة أكيدة و دقيقة.

6 – الحالات التي يدعي فيها رجل نسب شاب مجهول النسب أو العكس على أساس أنه ابنه و قد فقده منذ فترة طويلة أو أن ينسب شاب نفسه لرجل طمعاً في تحقيق غاية ما :

كأن يدعي شاب نسبه إلى رجل معين فقد ابنه منذ فترة طويلة و ذلك طمعاً في أخذ الميراث أو الخلوة بمحارم المدعى به ، هنا ظاهر الأمر ليس كباطنه ، فالدعوى قد تكون كاذبة ! إن مشكلة الأولاد مجهولي النسب واردة و قائمة بين المسلمين في هذا الزمان الذي تحدث فيه جرائم الإغتصاب و الزنا و ذلك لمجاراة الكفار في عاداتهم و سلوكياتهم ، إلا أنه و الحمدلله لا يحدث مثل هذا كثيراً لتمسك معظم المسلمات و المسلمين بدينهم و مبادئهم الحنيفة ، و لكن هناك بعض المغتصبات و الزانيات لهن أولاد لا يعرفن آباءهم الحقيقيين ، فلو فرض أن أحد هؤلاء مجهولي النسب أصبح شاباً غنياً ذا مال و مركز مرموق و له أسرة و أولاد و بنات ، ثم حضر رجل ما و لديه بينة ( شهود ) و قال أنه أب هذا الشاب ، أو أن الشاب أدعى أنه ابن رجل ما ، فلو حكم الحاكم بالنسب بناءً على هذه الدعوى الكاذبة ، هل هذا الحكم يجعل من المدعي به ابناً شرعياً أو المدعي عليه أباً شرعياً ، و أن ما يترتب على هذا الحكم صحيح و شرعي كالخلوة بالمحارم أو أخذ الميراث و ما إلى ذلك من الأمور المحرمة عليه قبل ثبوت النسب ، فهل بعد هذا الحكم بإثبات النسب بالشهود تصبح تلك الأمور المحرمة حلالاً ؟! في هذه الحالة يمكن للبصمة الوراثية أن تنفي النسب إذا كانت الدعوى كاذبة فعلاً ، و ذلك بمقارنة البصمة الوراثية و إثبات عدم تطابقها ، و في هذا النفي منفعة عظيمة و إبقاء لمصلحة ، إذ أن الإبقاء على حال جهالة النسب أولى من أن يستحل كاذب أموال و أعراض الآخرين بغير حق ، و مما يؤكد ذلك قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل … ) ، و على العكس إذا أدعى شاب نسبه إلى رجل معين فقد ابنه منذ فترة طويلة و هو يعلم أنه ليس بأبيه و ذلك طمعاً في أخذ الميراث … و قبل الرجل هذا النسب ، ثم جاء شخص آخر و شهد بأن هذا الشاب ليس ابناً لهذا الرجل ، فهل يجوز الأخذ بهذه الشهادة ( شهادة الحسبة ) في النسب ؟! أختلف الفقهاء في هذا الأمر بين مجيز و مانع ، إن مقارنة البصمة الوراثية يمكنها تكذيب من يدعي نسبه إلى غير أبيه بصورة أكيدة.

7 – الحالات التي تتنازع فيها أمرأتان على أمومة ولد و تساوتا في البينة ( الشهود ) :

هنا أختلف الفقهاء ، فهل يثبتونه لإحداهما أو ينفى عن كلتيهما أو يثبتوه لكلتيهما ، من المعروف أنه لا يمكن أن يكون للولد أُمان ، لذلك يمكن نفي الولد عن إحداهما و إثباته للأخرى عن طريق مقارنة البصمة الوراثية للولد و المرأتين ، و كذلك إذا أدعت أمرأة أمومة ولد فإنه بمقارنة البصمة الوراثية للولد و المرأة يمكن نفي الأمومة عنها أو إثباتها لها بصورة أكيدة ، و قد يكون للولد أُمان ، إحداهما ولدته و الأخرى أرضعته ، و تدعي كل منهما الولد ، و حيث أن أحكام النسب هي أحكام الإرضاع ، و أن الإرضاع لا يغير من البصمة الوراثية للولد ، لذلك يمكن نفي الودل عن إحداهما و إثباته للأخرى عن طريق مقارنة البصمة الوراثية.

8 – الحالات التي يتنازع فيها رجلان على مولود من أمرأة زوجة لأحدهما و مطلقة من الآخر :

كالمطلقة طلاقاً رجعياً أو بائناً و تزوجت برجل آخر و أنجبت في أدنى مدة للحمل ، أو في أقصى مدة للحمل ، أو تزوجت قبل إنقضاء فترة العدة ( كالتزوير مثلاً ) ، فهل ينسب المولود للزوج الأول أو للثاني أو لكليهما ؟! و إذا أنجبت توأماً فهل من الممكن أن تحمل المرأة من الرجلين ؟! أجمع الفقهاء على أن أقل مدة حمل هي ستة شهور و ذلك لقوله تعالى : ( … و حمله و فصاله ثلاثون شهراً … ) ، و لقوله تبارك و تعالى : ( و الوالدت يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة … ) ، و لقوله تعالى : ( … و فصاله في عامين أن أشكر لي و لوالديك إلي المصير ) ، الآية الأولى ذكرت الحمل و الفطام في سنتين و نصف السنة ، و الآية الثانية و الثالثة ذكرتا أن الإرضاع أو الفطام سنتان فقط ، يقول ابن قدامة من فقهاء الحنابلة : ( إذا أتت به ” أي بالمولود ” دون ستة أشهر من حين تزوجها فلا يلحق به ” أي الزوج ” في قول كل من علمنا قوله من أهل العلم لأننا نعلم أنها علقت به ” أي بالجنين ” قبل أن يتزوجها ) ، و في الجوهرة : ( و إذا تزوج أمرأة فجاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم تزوجها لم يثبت نسبه ) ، و هذا يدل على أنه لا خلاف في أن المولود لأقل من ستة أشهر يلحق بالزوج الأول ، و في عصرنا الحاضر يمكن للطب تشخيص عمر الجنين على وجه التقريب عن طريق الأشعة المتطورة و إستشاف مراكز التعظم في عظامه ، كما يمكن فحص الدم و مقارنة البصمة الوراثية لمعرفة الأب الحقيقي إذا أشكل الأمر ، أما بالنسبة لأقصى مدة حمل فقد أختلف الفقهاء بسبب عدم وجود دليل قطعي من القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة يحدد أقصى فترة للحمل ، قال أبو حنيفة : ( إن أكثر مدة للحمل سنتان ) ، و قال الحنابلة و الشافعية و المشهور في المذهب المالكي : ( إن أكثر مدة للحمل هي أربع سنوات ) ، أما الظاهرية و الجعفرية و الزيدية فقالوا : ( أن أقصى مدة للحمل هي تسعة أشهر ) ، و يقول ابن حزم في المحلي : ( إن تحديد أقصى مدة للحمل تسعة أشهر هو مذهب عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ) ، لذلك أختلفت التشريعات العربية بالنسبة لأقصى مدة للحمل ، فبعضها قد حددت هذه المدة ب 356 يوماً ، و من الناحية الطبية فإن من النساء من لا تحمل إلا كل سنتين أو ثلاث سنوات ، و قد تجد من لا تحمل إلا كل أربع سنوات ، و هذا لا يعني أن الجنين بقي داخل رحم المرأة سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو كما يحلوا للبعض أن يقولون خمساً و سبعاً !! فهذا معناه أن الحمل قد يتأخر إما بسبب الزوج ، أو بسبب تأخر إطلاق المبيض للبويضة أو تناول أدوية منع الحمل التي قد تؤدي إلى إنقطاع الطمث لفترة قد تزيد عن سنة أحياناً ، و هذا شي بديهي طبياً ، إضافةً للحالة النفسية و الإجتماعية و الفردية و العرق و المناخ … إلخ ، لكن القول بأن فترة الحمل تمتد إلى سنتين و ثلاث و أربع و خمس و سبع دون إبداء الدليل الطبي الواضح فهذا غير صحيح ، فطبياً يستمر الحمل حوالي 280 يوماً بعد اليوم الأول من آخر حيضة ، إن طبيب النساء المختص بما يحوزه من خبرة عملية و إكلينيكية و ما يحيط به من أجهزة مخبرية و أشعة فوق سمعية قد يستطيع أن يساهم مساهمة فعالة في تجلية الموقف و تحديد هوية الجنين و عمره الرحمي في معظم حالات النسب المشتبه بها ، و في حالة إختلاط الأمر يمكن فحص الدم و مقارنة البصمة الوراثية للطفل مع كل من الزوجين ، و في هذا السياق لا يجب الإعتماد على أقوال المرأة و وضع المولود الذي يجيء لستة أشهر من زواجه بعد الطلاق و العدة في الحضانة ، إذا قد يكون هذا المولود مكتمل النمو لتسعة أشهر كونه من الزوج الأول ، طبياً يستحيل أن يخلق الشخص الواحد من مائين ، و لذلك فمن الطبيعي أن لا يلحق المولود برجلين ، ذلك أن البويضة لا يلقحها إلا حيوان منوي واحد ، و إذا لقحت بويضة واحدة فإنها تحتاج إلى فترة أقصاها سبعة أيام لكي تصل إلى الرحم ، و بعد أن تصل البويضة الملقحة إلى الرحم من قناة المبيض – أي بعد أن يستقر الحمل في الرحم – فإنه يستحيل أن تحمل المرآة مرة أخرى ، أي لا يمكن أن تلقح بويضة أخرى بحيوان منوي آخر بعد تلقيح البويضة الأولى بسبعة أيام ، هنا يظهر إعجاز الشريعة الإسلامية السمحة في جعل العدة شريعة ، فلو أن رجلاً جامع أمرأته في طهر ثم طلقها مباشرة بعد الجماع فإنه لا يحل لها أن تتزوج من رجل غيره إلا بعد إنقضاء فترة العدة حتى يبرأ رحمها ، أما إذا لم تكون هناك عدة لحدث إختلاط في الأنساب ، فالمرأة التي يطلقها زوجها مباشرة بعد الجماع و تتزوج برجل آخر و تجامعه في مدة أقصاها 7 أيام ، يمكن أن تحمل من الرجلين ( زوجها الأول و زوجها الثاني ) ، يطلق المبيض بويضة مرة كل 28 يوماً أو ما يقارب ذلك ، و قد يحدث أن يطلق المبيضان كليهما في أوقات قريبة بعضها من بعض أو يطلق المبيض الواحد نفسه بويضتين في آن واحد ، فمن الناحية الطبية النظرية يمكن للمرأة أن تحمل من رجلين و لكن بتوأم غير متطابق و ليس بجنين واحد ، إذ يمكن أن تلقح بويضتان في نفس الوقت بحيوانين منويين إلا أنه يشترط أن يكون وقت الجماع بالرجلين متقارباً و قبل إستقرار البويضة الملقحة الأولى في الرحم كما ذكرنا سابقاً ، أي يكون وقت وجود المائين متقارباً ، و هناك حالات نادرة جداً مسجلة في المراجع الطبية لنساء حملن من رجلين مختلفين بتوأم غير متطابق أي طفلين مختلفين و يحدث ذلك في المرأة التي يجامعها رجل ثم يجامعها آخر مما يؤدي إلى دخول حيوانات منوية من رجلين إلى رحم المرأة في نفس الوقت التي يكون هناك بويضتان قابلاتان للتلقيح ، فتلقح بويضة بحيوان واحد من أحد الرجلين و تلقح الأخرى بحيوان منوي واحد من الرجل الآخر ، وهكذا تحمل المرأة من رجلين في نفس الوقت ، فما أحكم الشريعة الإسلامية بجعل العدة شريعة منعاً لإختلاط الأنساب ، فلو أفترضنا حدوث ذلك و أن أمرأة حملت من رجلين بتوأم غير متطابق ، فإنه بمقارنة البصمة الوراثية للتوأم مع الرجلين يمكن تحديد نسب كل طفل و معرفة أب كل واحد منهما ، أما التوأم السيامي المتطابق و الذي أصله بويضة واحدة و حيوان منوي واحد ( إذ أنه من المستحيل أن تلقح البويضة بأكثر من حيوان منوي ) فهو من رجل واحد ، و بذلك إذا أنجبت المرأة المطلقة بعد زواجها توأماً سيامياً متطابقاً أو مولوداً في خلال ستة أشهر من زواجها ( أدنى مدة حمل ) أو في خلال أقصى مدة الحمل ، و حدث تنازع بين الزوج الأول و الزوج الثاني على المولود فإنه يمكن بمقارنة البصمة الوراثية معرفة الأب الحقيقي.

9 – إدعاء المسلم و الكافر النسب :

إذا أدعى مسلم و كافر نسب ولد فهما شرعاً متساويان في دعوى النسب ، لأنه بنسب الولد إلى الكافر لا نحكم بكفره ، و دعوى المسلم والكافر للنسب من القضايا الهامة في هذه الأيام ، و لذلك لكثرة زواج بعض المسلمين من الأجنبيات الغير مسلمات ، و بعد فترة من الزواج قد يحدث خلاف بين الزوجين و تسافر الزوجة الأجنبية إلى بلدها و يجامعها رجل آخر من ديانتها حيث أن ذلك من عاداتهم ، فإذا حدث حمل و ولادة قد تدعي المرأة أن المولود هو ابن الرجل المسلم ، أو أن ابن الرجل المسلم هو للرجل الأجنبي ، هنا بمقارنة البصمة الوراثية للمولود و زوجها المسلم يمكن معرفة نسب الطفل إليه أو نفيه عنه.

10 – إثبات النسب لطفل الأنبوب ( التلقيح الصناعي ) :

ينشأ طفل الأنبوب عندما يتم تلقيح البويضة بالحيوان المنوي خارج الرحم ، ثم تعاد البويضة الملقحة إلى درب الصفاق الخلفي للرحم لينمو الجنين بشكل طبيعي حتى يحين وقت الولادة ، و هذا العمل أصبح معتاداً الآن كوسيلة للتلقيح الصناعي ، و لكن يشترط رضا الزوجين و أن يكون من الزوج و الزوجة ، فإذا حدث تلاعب ، و ذلك بأخذ حيوانات منوية من رجل غير الزوج أو أخذت البويضة من أمرأة غير الزوجة ، يمكن إثبات النسب للطفل الحادث بواسطة مقارنة البصمة الوراثية له مع الزوج و الزوجة.

موقف القانون المقارن من استخدام البصمة الوراثية في الإثبات