العلاقات العربية الصينية على ضوء وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك
” قراءة في المضامين والتحديات”
إسماعيل الرزاوي
باحث في سلك الدكتوراه، جامعة محمد الخامس بالرباط ، كلية العلوم القانونية، الاقتصادية والاجتماعية سلا
مقدمــة
شكل العرب ما يسمى بالثقب الأسود في الإستراتجية الصينية العليا. إذا ما تفحصنا لمحطات التوسع الصيني في العالم اليوم، نجد أن أولى هذه المحطات كانت سنة 1979، حيث عرفت بالإصلاح والانفتاح على منطقة جنوب شرق آسيا، ذلك على اعتبار أنها البوابة الاقتصادية السلمية الهادئة نحو المحيط الهادئ، فامتزجت بذلك مع العولمة ثم جاء انهيار الاتحاد السوفيتي مما أدى إلى انفتاح الصين على وسط آسيا لتكتمل المحطة الثانية، حينها أصبحت اوراسيا[1] المجال المحتضن للصين في التسعينيات عوض جنوب شرق آسيا ، كان من نتائج هذا، تسهيل عملية الاندماج مع الفضاء الأوروبي عبر المحطة الثالثة من خلال اتفاقيات التعاون والشراكة بين الطرفين الصيني والأوروبي، بعد ذلك جاء دور إفريقيا في المشهد الاستراتيجي الصيني عبر المحطة الرابعة لاعتبارات مختلفة ، حيث لا منافس فيها، ثم الساحات المتعددة ،والأنصار الكثر، ظلت الفجوة في الشرق الأوسط فجاءت الصين لتكتمل بذلك الصورة من المشهد الكلي للإستراتيجية الصينية العليا[2].
أمام كل هذه الاعتبارات، شكلت سنة 2016 حدثا هاما في مسار العلاقات الصينية العربية، حيث أعدت الصين وثيقة سياسية و إقتصادية توجهت فيها إلى دول المنطقة العربية والإسلامية. والملفت أن هذه الورقة تحمل مضامين وإشارات غير تقليدية كما في السابق – في مقاربة الصين لملفات المنطقة الساخنة، وهي تعكس جدية في وصف الوقائع وفي رسم اطر الحلول وفي التأكيد على أبعاد سياسية وهوامش من العلاقة في إطار مفتوح، بما يفتح بالمجال لعلاقات واسعة تتعدى الإطار الشكلي أو الإقتصادي أو التقليدي[3]..
تحاول الورقة دراسة واقع العلاقات العربية الصينية من خلال تقديم رؤية تحليلية لوثيقة الصين السياسية تجاه العالم العربي باعتبارها حدثا بارزا في تاريخ العلاقات بين الجانبين العربي والصيني، وذلك من خلال محورين اثنين ، المحور الأول يناقش مضامين وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية فيما يستعرض المحور الثاني تحديات تنزيل هذه الوثيقة في ظل ما تعيشه العلاقات العربية الصينية اليوم.
المحور الأول: مضامين وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية
حددت الوثيقة ابرز مجالات التعاون الممكنة سياسيا واقتصاديا وتنمويا وعسكريا وثقافيا، بما يجعلها بمثابة خارطة طريق يمكن للعلاقات الصينية – العربية السير على هداها لتحقيق مصالح الجانبين.
وتستعرض الوثيقة وتلخص أساس خبرة تطوير العلاقات بين الصين والبلدان العربية، وتصف مبادئ دليل تطوير العلاقات العربية – الصينية، وتخطط مشروع التعاون وتبادل المنفعة بين الصين والبلدان العربية، وتؤكد للمرة الثانية العمل على الحالة الأمنية والسياسية وهي : تحقيق الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط . يحتوي الملف على 7600 رمزا، باستثناء المقدمة ويحتوي على خمسة أجزاء[4] :
الجزء الأول يتناول أسس وسبل تعميق علاقات التعاون الاستراتيجي الصينية – العربية القائمة التعاون الشامل والتنمية المشتركة ، أما الجزء الثاني تطرق لسياسة الصين تجاه الدول العربية وركز على أهمية الدول العربية للصين سياسيا واقتصاديا وثقافيا ، فالصين كما هو معروف تركز في علاقاتها مع الدول العربية على أساس المبادئ الخمسة المتمثلة في الاحترام المتبادل للسيادة والوحدة الترابية للأراضي، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والمساواة والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي، فالصين مثلا تدعم قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية من خلال الجهود المبذولة في هذا الصدد من قبل جامعة الدول العربية ، كما تتمسك الصين بالطرق السياسية لحل القضايا الساخنة فهي على سبيل المثال تدعم إقامة منطقة خالية من السلاح النووي في الشرق الأوسط ..
الجزء الثالث من الوثيقة تعرض إلى تعزيز التعاون الصيني العربي على نحو شامل وتناول تفصيليا خمسة مجالات رئيسية لخدمة هذه الهدف الذي يطمح إليه الجانبان ..
المجال السياسي من خلال التبادل الرفيع المستوى آليات التشاور والتعاون بين الحكومات ، التواصل بين الأجهزة التشريعية والأحزاب السياسية والحكومات المحلية، التعاون في الشؤون الدولية ، القضايا المتعلقة بتايوان ومبدأ الصين الواحدة.
مجال الاستثمار والتجارة وتضمن مختلف مجالات التعاون سواء في إطار مبادرة الحزام والطريق والتعاون المشترك والفرص المتاحة من خلالها، أو التعاون في الطاقة الإنتاجية ودعم العملية الصناعية في الدول العربية. التعاون الاستثماري والتبادل التجاري التعاون في مجال الطاقة والتعاون في مجال البنية التحتية، التعاون في مجال الفضاء، والتعاون في مجال الطاقة النووية للأغراض السلمية التعاون المالي وأخيرا التعاون في بناء آليات واطر التعاون الاقتصادي والتجاري.
مجال التنمية الاجتماعية ، وتطرقت إلى التعاون المشترك في مجالات الرعاية الطبية والصحية والتعليم وتنمية الموارد البشرية، التعاون في مجال العلوم والتكنولوجيا، التعاون الزراعي ، مواجهة التغير المناخي والتعاون في حماية البيئة و الغابات.
مجال التواصل الإنساني والثقافي ، ويقوم على التواصل الحضاري والديني ، التعاون في مجالات الثقافة والإذاعة والسينما والتلفزيون والإعلام والنشر ومراكز الفكر، التبادل الشعبي والتواصل بين الشباب والنساء، التعاون في مجال السياحة.
مجال السلام والأمن ، وتضمن ضرورة تحقيق الأمن في المنطقة من خلال تطبيق مفهوم الأمن المشترك والشامل التعاوني والمستدام ، والتعاون العسكري من خلال تبادل الخبرات أو بناء القدرات الدفاعية والتسليح ، التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، التعاون في مجالات الشؤون القنصلية والهجرة، والقضاء والشرطة، بذل الجهود المشتركة لتعزيز القدرة على مواجهة التهديدات الأمنية غير التقليدية.
الجزء الرابع من وثيقة السياسة الصينية تجاه الدول العربية خصص لمنتدى التعاون الصيني العربي[5] وإعمال المتابعة، فيما تناول الجزء الخامس والأخير من الوثيقة العلاقات بين الصين والمنظمات الإقليمية العربية[6].
تقول الجملة الأولى من الوثيقة ” تضرب جذور الصداقة بين الصين والدول العربية في أعماق التاريخ” ارتبطت الصين بالعرب من خلال علاقات طريق الحرير برا وبحرا التي لم تعرفها التي لم تعرفها الدول الأوروبية الاستعمارية إلا حين بدأ البرتغاليون يبحرون في بحر العرب في القرن السادس عشر ، وتنافست بعد ذلك الإمبراطوريات البحرية الهولندية والفرنسية والبريطانية والألمانية والروسية للسيطرة على الأراضي العربية ومواردها أما الصين فقد حملت عبر هذا الطريق ولقرون ” السلام والانفتاح والتسامح والتدارس وتبادل المنفعة والربح ” وهي قيم ايجابية فيها سحر الجاذبية و القبولية .
وترى الوثيقة أنها لم تكن ” قيما ” عابرة أو نفعية أو استغلالية بل إنها قيم سائدة في التواصل بين الجانبين. فالصين اختارت إستراتيجية القوة الناعمة لتعزيز العلاقات بالدول العربية، ومن آلياتها الشراكة الإستراتيجية[7]، فالصين لا تسعى لإملاء شروط من الأعلى ولا ترمي إلى التدخل في الشؤون الداخلية ولا تقوم على الصراع الحضاري الثقافي، بل هدفها نشر القيم الصينية من خلال العلاقات الثقافية والدبلوماسية العامة والتعاون الاقتصادي[8].
ووردت الإشارة إلى الشراكة بصيغ مختلفة وفقا لطبيعتها ومستواها وثقل الدول العربية التي عقدت معها ومدى أهميتها في الساحة الجيو اقتصادية الصينية في الوطن العربي والشرق الأوسط إذ ترد في الوثيقة مفاهيم ” التعاون الشامل ” و ” علاقات الشراكة الإستراتيجية الشاملة” و ” علاقات الشراكة الإستراتيجية ” . وتؤكد الوثيقة دائما أن هذه العلاقة تقوم بين ” اخوين وصديقين ” . وهذا خطاب سياسي ناعم في أدبيات العلاقات العربية التي يرد فيها تعبير ” الأشقاء والإخوة ” في الإشارة إلى علاقات الدول العربية ببعضها وليس ” علاقات الجوار ” مما يعني أن الصين تلغي بهذا الخطاب البعد الجغرافي بينها وبين العرب ، وتضع أمام أعين العرب قرب الصلات التاريخية القديمة والتطورات السريعة التي جعلت الصين حاضرة في السلع الحياتية التي غزت الأسواق والبناء و تشييد البنى التحتية[9].
هناك ثلاث أسباب تعرف العلاقات الصينية العربية من منظور الشراكة الإستراتيجية، أولها طبيعة الصعود الصيني السلمي التنموي ، فالصين تدافع عن صيغة النظام الدولي الحالي أكثر من محاولتها تغييره، فهي في هذا الجانب وبارتباطها بالعالم العربي تسعى إلى إشراكه في مبادرتها طريق الحرير الجديدة ، ثانيها أن التنمية السلمية للصين كذلك هي بحاجة إلى بيئة مستقرة وآمنة وبالتالي فالعالم العربي يشكل أهمية قصوى للدبلوماسية الصينية من هذه الزاوية ، ثالثها أن الصين و العالم العربي يقتسمان نفس الاهتمامات في عدد مختلف من القضايا ولهما رؤى متطابقة إلى حد كبير ، بالإضافة إلى أن المحدد الاقتصادي يشكل سمتها البارزة خاصة إذا ما نظرنا إلى مجالات العلاقات الثنائية بين الطرفين على سبيل المثال تعتبر العلاقات الصينية السعودية نموذجا حيا لذلك[10].
من حيث صياغة الورقة يرى الدكتور نبيل سرور انها جاءت تقليدية كما هي عادة الصينيين في تأكيد ثوابتهم التاريخية وجذور علاقاتهم الإقليمية والدولية، كما أنها تعكس توجها صينيا واضحا لحجز مكانة ما في مشهد المنطقة السياسي المرتقب في المنطقة العربية، فالورقة حسب نفس الباحث تعتمد مقاربة سياسية شاملة لواقع وملفات المنطقة السياسية والاقتصادية، بعد أن كانت تقتصر في السابق على الموضوع الاقتصادي، ينضاف إلى هذا مسألة مهمة وهي أن الوثيقة تظهر بشكل جلي سعي الصين إلى بلورة نظام دولي متعدد الأقطاب يكون فيه للقوى الجديدة دور هام في صياغة مخرجاته[11] ،وهذا من مصلحة الدول النامية عامة والعربية خاصة.
تتميز الوثيقة كذلك باهتمامها بمبادرة طريق الحرير الجديدة والتي كان قد أطلقها الرئيس الصيني تشي جين بينغ في 2013، حيث تشكل هذه الأخيرة فرصة سانحة لعدد من الدول العربية من اجل حصد مجموعة من المنافع ، وقد أبدت معظم البلدان العربية رغبتها في تجسيد هذه المبادرة على ارض الواقع وذلك من خلال توقيع عدد من مذكرات تفاهم مع الطرف الصيني.
إن المضمون الرئيسي لطريق الحرير الجديد يتمثل في خمس نقاط تبرز التعاون العملي القائم على المشاريع المفصلة، وسيعود بفوائد ملموسة على شعوب الدول ذات الصلة: وهي ممثلة في الآتي:
1ـ تناسق السياسات: يمكن لمختلف الدول إجراء التواصل الوافي حول الاستراتيجيات والسياسات الخاصة بالتنمية الاقتصادية، بحيث يتحقق الالتحام العضوي بين هذه الاستراتيجيات على أساس مبدأ ” إيجاد قواسم مشتركة من بين الاختلافات “، ورسم الخطط والإجراءات للتعاون الإقليمي عبر التشاور، بما يعطي ” الضوء الأخضر ” من حيث السياسات والقوانين أمام الاندماج الاقتصادي الإقليمي.
2ـ ترابط الطرقات: إن الصين والدول ذات الصلة بحاجة إلى التباحث الايجابي في تحسين البنية الأساسية العابرة للحدود في مجال المرور، واتخاذ خطوات تدريجية لتكوين شبكة للنقل والمواصلات تربط مختلف المناطق دون الإقليمية في آسيا كما تربط آسيا بأوروبا وإفريقيا، بما يعالج مسائل عدم الترابط أو الترابط دون التمرير أو التمرير دون الانسياب.
3ـ تواصل الأعمال: التباحث في سبل تسهيل التجارة والاستثمار ووضع الترتيبات ملائمة، تساعد على إزالة الحواجز التجارية والاستثمارية ورفع سرعة الدورة الاقتصادية الإقليمية وجودتها، بما يطلق بشكل كامل الإمكانات الكامنة للدول الواقعة في ” الحزام ” و “الطريق” في مجالات الاستثمار، وتوزيع ” كعكة التعاون “.
4ـ تداول العملات: العمل على تحقيق المقاصة بالعملات المحلية وتبادل العملات، وتعزيز التعاون النقدي الثنائي والمتعدد الأطراف، وإنشاء مؤسسات مالية للتنمية الإقليمية، وخفض تكاليف المعاملات، وبالتالي تعزيز القدرة على مواجهة المخاطر المالية من خلال الترتيبات الإقليمية، وتعزيز القدرة التنافسية لاقتصاد المنطقة ككل على الساحة الدولية
5ـ تفاهم العقليات: إن الصين والدول ذات الصلة بحاجة إلى توطيد القاعدة الشعبية للعلاقات الرسمية، وتعزيز التواصل والتحاور بين مختلف الحضارات، وزيادة التبادل الودي بين شعوب الدول وخاصة على مستوى الفئات المجتمعية الأساسية، بما يعزز الفهم المتبادل والصداقة التقليدية بينهما.[12]
وتؤكد الوثيقة أن ما تدعو إليه الصين هو ” تيار عالمي ” تتجسد فيه قيم ” السلام و التنمية والتعاون ” وليس الحروب والنزاعات والخلافات والتخلف الذي ترافق مع النظام الغربي منذ وستفاليا في 1648 والذي سعى إلى التوازن من خلال الأحلاف والتسلح والاستعمار ، ولم يكن فيه لشعوب إفريقيا واسيا منزلة معترف بها سوى ” التبعية ” و ” الدونية “[13] .
لقد جاءت معظم التعليقات ايجابية ومرحبة بالوثيقة من الجانب العربي الرسمي ، فعلى سبيل المثال أكد السيد نبيل العربي الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ان الورقة الصينية ” جيدة وحسنة ، أنها تدعو إلى التعاون والسلام ” في حين اعتبر وزير الدولة السابق لشؤون الإعلام والاتصال الدكتور محمد المومني أن ” توقيت إصدار هذه الوثيقة يحمل دلالات كبيرة، فالعالم العربي مثخن بالجراح في هذه المرحلة، كما أن العديد من الدول العربية تمر بظروف طاحنة من الحروب والفتن والاقتتال، مشيرا إلى أن الصين أكدت من خلال هذه الوثيقة أن العالم العربي، بالنسبة لها، شريك تاريخي، وأن الظروف العابرة التي تمر بها المنطقة العربية لا تقلل من الأهمية الإستراتيجية لهذا الجزء الحيوي من العالم وأن نظرة الصين للعلاقات العربية- الصينية نظرة راسخة تتجاوز تحديات الحاضر وتراهن على ثوابت التعاون بين الطرفين التي نجحت في الماضي نجاحا مذهلا ، كما أنها مرشحة، إذا ما صح العزم وصدقت النوايا، للعب دور محوري مميز في المرحلة المقبلة ..” [14]
من خلال ما تقدم يتضح تحليل هذه الوثيقة عن وجود رؤية إستراتيجية صينية متكاملة لسياستها تجاه الوطن العربي، كما أنها توضح المواقف الصينية تجاه القضايا العربية، وتطرح خططا وبرامج للتعاون المشترك طويل الأمد في المجالات السياسية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية والثقافية والأمنية والتكنولوجية كافة مع تركيز واضح ومفصل على التنمية التكاملية، كما أنها تشتمل على الأسس والمبادئ التي سيتم الالتزام بها بالنسبة الى سياستها الخارجية تجاه الوطن العربي[15].
المحور الثاني: تحديات تنزيل وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية
إن من بين التحديات التي يتوجب على البلدان العربية والصين التعاون والتنسيق بشأنها هي: إصلاح الخلل القائم في النظام الدولي الذي بني وفق أسس تخدم مصالح الدول المنتصرة خلال الحرب العالمية الثانية، وبالتالي لا يأخذ بالحسبان التحولات العالمية التي حصلت منذ ذلك الحين، وأهمها تزايد دور وقوة عدد من القوى الصاعدة . وهناك مطالب عديدة من قبل الدول النامية، ومنها الدول العربية، حول ضرورة إصلاح الأمم المتحدة وخاصة توسيع عضوية مجلس الأمن، وتفعيل دور المنظمة العالمية بشكل عام خدمة للسلم والأمن الدوليين[16]..
هكذا اعتبرت الصين أن من مصلحتها بناء علاقات تعاون وشراكة مع اثنين وعشرين قطرا المكونة للعالم العربي. وأصبح العالم العربي بالنسبة للصين ذا أهمية إستراتيجية بموقعه الجغرافي الحساس وبأهمية موارده، وبحجم ساكنته التي تفوق ثلاثمئة مليون نسمة.
ورغم أن العالم العربي يفتقد اليوم إلى عنصري التوحد والانسجام، ورغم خطورة وتنوع التحديات التي تخترق مكوناته، لقد حرصت الصين على إحداث إطار مؤسسي للعلاقات التي تربطها مع العالم العربي. يتعلق الأمر بملتقى التعاون الصيني العربي الذي بادر بتأسيسه الرئيس هو جينتاو مع الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى سنة 2004[17].
و تمثل الصين اليوم فاعلا اقتصاديا جامحا يعاني فيض الإنتاج وغيض الاستهلاك المحلي من جهة، وفاعلا سياسيا مراجعا ( Revisionist ) يسعى حسب البعض لإعادة ترتيب النظام الدولي الأحادي القطبية في حقبة ما بعد الحرب الباردة من جهة أخرى، والوطن العربي الذي يمثل من جهة فاعلا اقتصاديا ناميا يعاني عدة مشاكل اقتصادية بنيوية أهمها التبعية المفرطة لقطاع المحروقات، كما يمثل من جهة أخرى فاعلا سياسيا مثقلا بالخلافات والتصدعات السياسية، بعضها مرتبط بميراث الحقبة الاستعمارية وبعضها مرتبط بتحولات ما بعد الربيع العربي[18].
لقد أصبحت الصين ثاني أكبر شريك تجاري[19] للدول العربية. وفي عام 2004، بلغ حجم التجارة بين الصين والدول العربية 36.7 مليار دولار، وفي عام 2008، تجاوز 100 مليار دولار، وفي عام 2012، تجاوز 200 مليار دولار، وفي عام 2014 وصل إلى 251.2 مليار دولار، بزيادة 5.2 % عن العام الماضي، وبلغ حجم التجارة بين الصين والدول العربية 191.352 مليار دولار في عام 2017، بزيادة 11.9% عن العام الماضي كما يوضح الرسم البياني أسفله.[20]
بالمقابل يبقى تحدي تخفيف العجز التجاري الكبير الذي يميل لصالح الصين من بين أصعب التحديات التي تواجه مستقبل العلاقات التجارية بين الطرفين، إذ يتعين على الجانب العربي التفكير في حلول لزيادة حجم الصادرات المتجهة نحو السوق الصينية، و أن لا تقتصر فقط على الموارد الطاقية.
وفي السياق ذاته، تواجه الصين بعض الصور السلبية التي تتعلق ببعض الممارسات غير التنافسية في علاقاتها التجارية بالدول العربية، والاتهامات المتصاعدة للصين بالإغراق الاقتصادي والمنافسة غير العادلة بسبب تراجع مستوى العملة الصينية إلى اقل من مستوياتها الحقيقية.
كذلك هناك جملة من التحديات تواجه الدور الصيني في منطقتنا العربية تتمثل أساسا في ، التوازن بين المحاور الإقليمية، إذ تسعى الصين إلى الحفاظ على علاقاتها مع مختلف الأطراف ضمن المحاور الإقليمية ذات المصالح المتعارضة، إذ أن العلاقات الوثيقة بين الصين و كل من إيران و إسرائيل تؤثر على آفاق تطور العلاقات الصينية – العربية، ثم الشراكة الإقليمية المتكافئة فعلى الرغم من إعلان الصين سعيها للشراكة مع الدول العربية من خلال مشروع طريق الحرير، فان ثمة اتجاهات في المنطقة العربية تتخوف من أن تخدم عوائد المشروع في الأساس الاقتصاد الصيني ، ولا تحقق فرص التنمية المتكافئة للجانبين، ينضاف إلى هذا التمدد المتزايد لخريطة طريق الحرير، فنظرا إلى اتساع نطاقه الجغرافي و الاقتصادي يرى البعض أن هذا المشروع هو اقرب إلى رؤية رمزية لمستقبل العلاقات منه إلى مبادرة قابلة للتطبيق ذات سياسية واليات واضحة. ثم أخيرا التحدي المرتبط بعودة الدور الأمريكي في المنطقة حيث تمثل إعادة صياغة التوجهات الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترمب تجاه الشرق الأوسط، على نحو يؤدي إلى عودة الولايات المتحدة لممارسة دورها بكثافة في هذا الإقليم[21]، احد التحديات لدور الصين وطموحاتها في المنطقة، في ظل مساع أمريكية للحد من التوسع الصيني.
إن فريقا من الباحثين الأكاديميين يرى أن هذه الوثيقة الصينية لا تعدو أن تكون مجرد إرشاد أو دليل، لكنها ليست إستراتيجية ، ويقول في هذا الصدد الدكتور كاظم هاشم نعمة أن الورقة الصينية تفتقر فيها أهداف واضحة ومحددة المعالم، بل يغلب عليها الكلام العام ويدلل على ذلك بورود مصطلحات ” التعاون ” 123 مرة و” السلام ” 14 مرة بالمقابل ورد مصطلح ” التنمية ” 24 مرة. ويضيف ملاحظات أخرى ، انه إلا يشار إلى العرب ككل ، فالصين تنظر إلى العالم العربي من منظور مصلحي و براغماتي .. فهو أي العالم العربي، تارة كتلة ” شرق أوسط ” و تارة “عرب ” ونحن تارة ” نفطيون ” ونحن تارة “جيوبوليتكيون” .
إذن فالعرب على الورقة الصينية مشتتون ، ذلك أن الصين تحاور العرب ضمن جامعة الدول العربية وتحاور الخليج العربي ككتلة من الناحية المصلحية. من جهة أخرى نلمس غياب مرادفات “الديمقراطية” ، “حقوق الإنسان” ، فالصين تخاطب الحكومات العربية وليس الشعوب، وهذا دليل على إيمانها بالوضع الراهن وهي بذلك لازالت تتقيد بالمبادئ الخمس الماوية[22]. إذن فالورقة الصينية هي بمثابة ورقة جيوايكونومية وليست جيوبوليتيكية أو جيواستراتيجية حيث تهتدي وراء المرشدات الاقتصادية[23].
لكن رغم الطبيعة الواعدة للعلاقات الاقتصادية بين الصين والعالم العربي إلا أنها تظل مع ذلك تواجه العديد من التحديات والمشاق التي تحتاج إلى المزيد من التفكير واتخاذ خطوات جادة من كلا الجانبين. غير أن الجانب العربي يبقى الطرف المعني أكثر بضرورة اتخاذ مثل هذه الخطوات وذلك بكونه يشكل الحلقة الأضعف نظرا إلى قوة الاقتصاد الصيني المتعاظمة، وبخاصة خلال السنوات الأخيرة من جهة، ونظرا إلى المشكلات والمصاعب، السياسية والاقتصادية على حد سواء التي تواجهها البلدان العربية من جهة أخرى تطفو على السطح مجموعة من التحديات وهي تحدي التبادل اللامتكافئ ، تحدي المشترك في مكاسب مشروع طريق الحزام والطريق ، تحدي الاستقرار الأمني في المركب الأمني المشرق – الخليج العربي، التمركز المفرط للسياسات الخارجية العربية حول الغرب ، غيض المعرفة والفهم المتبادلين بين الصين والوطن العربي وتحدي الانقسامات السياسية العربية – العربية[24].
خاتمـــــة
لم تحظى وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية بالاهتمام الكافي من لدن الباحثين والمهتمين بل و حتى صناع القرار في الوطن العربي رغم أنها جاءت من قبل قوة صاعدة أصبحت تفرض نفسها في الساحة الدولية يوما بعد يوم .
تعتبر الوثيقة بمثابة خارطة طريق واضحة المعالم للتعاون الثنائي بين الصين والدول العربية ، خاصة أنها شملت كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها .و تخاطب الوثيقة العرب خطابا تفاؤليا يفيد بأن حضارتهم لم تنقطع عن العطاء ، لهذا ففي وسع العرب أن يحذوا حذو الصين في أن يكون لهم حلم يسعون إلى إحياء الأمة العربية كما فعلت الصين خلال عقود من الزمن محدودة مستلهمة مستقبل حلمها من حضارتها[25] . فالعلاقات العربية الصينية هي محصلة تركيبية من العناصر التاريخية و الثقافية والسياسية والمصالح المتبادلة والتبادل والتعاطف بين الطرفين[26]. لكن بالمقابل هناك من يرى أنها تحتاج إلى مجهودات كبيرة من الطرفين لتنزيلها على ارض الواقع .
[1] يمثل المجال الاوراسي قلب الأرض من المنظور الجيوبوليتيكي حسب العالم الجغرافي البريطاني ” هالفورد ماكيندر ”
[2] كاظم نعمة، مداخلة بعنوان الإستراتيجية الصينية في الوطن العربي على هامش مؤتمر ” العرب والصين ، مستقبل العلاقة مع قوة صاعدة” ، الدوحة، 2016/05/22-21
[3] نبيل سرور، قراءة تحليلبة في وثيقة الصين تجاه الدول العربية على الرابط التالي: http://www.dirasat.net/kitabat_details.php?id=221&id_cat=14 / تاريخ الولوج 2018/10/12
[4] جين تشويغ جين ( شمس الدين )، العلاقات العربية – الصينية، ص 62-63
[5] تم انطلاق تأسيس ” منتدى تعاون الصين والبلدان العربية ” في عام 2004 بهدف مأسسة العلاقات الثنائية بين الجانبين : للمزيد أكثر حول هذا منتدى التعاون الصيني يمكن زيارة الموقع الرسمي للمنتدى http://www.chinaarabcf.org/ara/
[6] عماد الأزرق، شي جين بينغ ، الطريق إلى القمة ، بيت الحكمة للاستثمارات الثقافية، القاهرة مصر ، الطبعة الأولى 2017، ص 181 -183
[7] ترتبط الصين باتفاقيات الشراكة الإستراتيجية مع عدد من الدول العربية، كالإمارات العربية المتحدة و المملكة العربية السعودية و جمهورية مصر و الجزائر و المغرب
[8] كاظم هاشم نعمة، القوة الناعمة الصينية والعرب، سياسات عربية ، العدد 26، 2017 ، ص27
كاظم نعمة، مرجع سابق، ص35 [9]
[10] Degang SUN & Yahia ZOUBIR ( 2014 ) China-Arab States Strategic Partnership: Myth or Reality ? Journal of middle Eastern and Islamic Studies ( in asia ) , P71 . P72
[11] نبيل سرور، نفس المرجع
[12] محمود إدريس الصيني، معرفة حقيقة الحزام والطريق، مؤتمر آفاق التعاون العربي الإفريقي الصيني في إطار مبادرة الحزام والطريق، جامعة إفريقيا العالمية، الخرطوم – السودان، 2017 ، ص 5 ،ص6
[13] كاظم نعمة ، مرجع سابق، ص 31
[14] خبراء أردنيون: وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية خارطة طريق واضحة تؤطر العلاقات الصينية العربية . على الرابط الالكتروني: http://arabic.news.cn/2016-01/15/c_135012158.htm تاريخ الولوج 2018/10/13
[15] مجموعة مؤلفين، حال الأمة العربية 2016-2017 ” الحلقة المفزعة: صراعات مستدامة واختراقات فادحة، مركز دراسات الوحدة العربية. الطبعة الأولى، بيروت – لبنان 2017 ، ص 48
[16] خالد الهباش، ندوة بعنوان العلاقات العربية – الصينية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ، لبنان، 2017، ص 32
[17] فتح الله ولعلو، نحن والصين الجواب على التجاوز الثاني، المركز الثقافي، الطبعة الأولى، 2017 ، الدار البيضاء ـ المغرب، ص243
[18] محمد حبشي، ندوة بعنوان العلاقات العربية – الصينية، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، لبنان ، 2017، ص214
[19] لما انفتحت الصين على اقتصاد السوق، أصبحت البواعث الاقتصادية هي المتحكمة في نسج علاقاتها مع البلدان العربية، وأصبحت دبلوماسية النفط عنصرا أساسيا في هذه العلاقات، باعتبار حاجيات الصين المتزايدة إلى النفط و الغاز، واهتمامها بالفوائض المالية للبلدان النفطية لتستفيد منها عبر التبادل التجاري والمساهمة في المشاريع التجهيزية.
[20] التشارك في بناء ” الحزام والطريق ” ودفع التعاون الجماعي الصيني العربي نحو انطلاقة جديدة ، انجازات وأفاق منتدى التعاون العربي الصيني، دراسة من انجاز معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة شانغهاي للدراسات الدولية، ومركز دراسات منتدى التعاون الصيني العربي ، مايو 2018 ص 14
[21] تحديات تنامي الدور الصيني في منطقة الشرق الأوسط ، مجلة اتجاهات الأحداث ، مركز المستقبل للأبحاث و الدراسات المتقدمة، العدد 21، مايو ، يونيو 2017، ابوظبي ـ الإمارات ، ص 69
[22] تتمثل المبادئ الخمس الماوية في : الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، عدم الاعتداء المتبادل ، عدم التدخل في الشؤون الداخلية بصورة متبادلة، المساواة والمنفعة المتبادلة ، التعايش السلمي..
[23] كاظم نعمة، الإستراتيجية الصينية في الوطن العربي، مرجع سابق.
[24] محمد حمشي، مرجع سابق، ص215
[25] كاظم نعمة ، الإستراتيجية الصينية في الوطن العربي، مرجع سابق.
[26] منى حداد، قراءة في تاريخ العلاقات العربية الصينية وسبل تعزيزها، مؤتمر آفاق التعاون العربي الإفريقي الصيني،الجامعة افريقيا العالمية، الخرطوم – السودان، 2017 ،ص 120
مقال قانوني – مضامين وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك