حقوق الإنسان بين الطرح الغربي والإسلامي
“هوة عميقة” أو “بون شاسع” هما العبارتان اللتان تصلحان للتعبير عن حقيقة الاختلاف بين منظومة حقوق الإنسان الغربية ومقابلها الإسلامي في رؤيته المثالية؛ حيث لا يمكن مقارنة المنظومتين، بالرغم من أن البعض يحاول جاهدًا، وعن عمد، وبحسن نية أيضًا، جعل المنظومة الحقوقية الإسلامية محض تابع للمنظومة الغربية لحقوق الإنسان.
لقد شاع مفهوم حقوق الإنسان في الفكر السياسي المعاصر لدرجة دفعت بعض الغيورين على الإسلام إلى التحرك لوضع ما تمت تسميته: بيان عالمي لحقوق الإنسان في الإسلام، على نسق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن هيئة الأمم المتحدة في عام 1948، وقد بلغت حدود التبعية غير المتعمدة حد أن الإعلان الإسلامي تضمن نفس المفاهيم والصور الحقوقية التي وردت في ميثاق الأمم المتحدة، مع التأكيد على أن الإسلام به نفس حقوق الإنسان الواردة في إعلان الأمم المتحدة، معتذرين إلى العالم عن عدم وضوح النص الإسلامي في هذا الصدد، أو معتذرين عن عدم اهتمام الحضارة الإسلامية به حتى ذلك الوقت.
وقد قام هؤلاء المفكرون الغيورون على الإسلام آنذاك بعرض مجموعة من الأدلة الدالة على أن كلامهم حق، وأن الإسلام دين به نفس المميزات التي تحفل بها الحضارة الغربية، وذلك دون محاولة البحث في أصول الذات؛ إذ ربما يكون لديها ما يفوق في قيمته ونبله وسموه ما أنتجته الحضارة الغربية.
وكان دافع أولئك المفكرين والساسة المسلمين إدراكهم ضرورة التحرك السريع للخروج بوثيقة إسلامية تحفظ ماء وجه الحضارة الإسلامية في مواجهة التقدم الفكري السياسي الغربي، حتى لو كانت وثيقة شوهاء. وكان المنتج الإسلامي الكامن في ذلك الوقت -بالفعل- يفوق في قيمته وفي نفاسته قيمة ما أنتجته الحضارة الغربية بالفعل. فما هي قصة ذلك التميز وتلك النفاسة؟
مفهوم حقوق الإنسان.. الطبعة الغربية:
مفهوم حقوق الإنسان – كما يرى الباحثون والمفكرون – مفهوم شائع الاستخدام في أدبيات الفكر والخطاب السياسيين المعاصرين، وهو أيضًا من المفاهيم الحديثة نسبيًا، التي لا يمكن اقتفاء أثرها بعيدًا في أدبيات الفكر السياسي.
فالمفهوم في الفكر السياسي الغربي لم يتم صكه كمصطلح إلا مع ظهور عدد من الوثائق السياسية المحددة التي حملت هذا الاسم بهذه الدرجة من الوضوح، مثل: إعلان حقوق الإنسان بالولايات المتحدة المعروف باسم إعلان فيرجينيا الصادر عام 1776، وإعلان الثورة الفرنسية الصادر في عام 1790، وانتهاءً بإعلان الأمم المتحدة الصادر في عام 1947، والمسمى بـ”الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.
لذا فمن الصعب حين نتعامل مع مثل هذا المفهوم أن نقتفي له أثرًا متغلغلاً في قلب جذور الفكر الإنساني الغربي. فالحضارة اليونانية القديمة -وهي أصل الحضارة الغربية- كما يرى الباحثون لم تصك مفهوم الحق، ولم تضع لفظًا لغويًا يقابله.
ولم تبدأ مفردة الحق في التداول بالصورة التي نعرفها اليوم إلا بعد أن أصّلتها الحضارة العربية الإسلامية. فمنذ مهد هذه الحضارة ونبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم يتحدث منبهًا على حقوق الله على العباد وحقوق العباد على الله وحق الزوجين كل على الآخر
ثم بدأ المفهوم يشق طريقه إلى حيز الاستخدام في أوروبا في العصور الوسطى، وقد أرخ المفكرون لذلك مع استخدام القس توماس الإكويني له في الحديث عن مفهوم حق الملكية التي تناولها باعتبارها حقًا تترتب عليه مسؤولية اجتماعية، وهي فكرة معروفة في السياق التشريعي الإسلامي المتمثلة في مفهوم استخلاف الله تعالى الإنسان في المال لينفقه في سبيله على من يحتاجه.
وقد بدأ استخدام المفهوم بصورة منظمة مع كتابات مفكري نظرية العقد الاجتماعي: هوبز ولوك وروسُّو. وكان أولئك المفكرون طليعة مفكري عصر النهضة الساعين إلى فصل العملية السياسية بصفة خاصة الدولة بصفة عامة عن سلطان الكنيسة. وكانت فكرة التعاقد هي الأساس الوضعي لتشكُّل مفهوم الحق وتأسيسه في التشكيل الفكري والحضاري الغربي.
وقد استندت أطروحة حقوق الإنسان في الغرب إلى ثلاثة أسس، هي:
أ – التعاقد.
ب – الصراع.
جـ – المنفعة.
فالتعاقد تم استنادا إلى رؤية أولئك المفكرين أن الجماعة الإنسانية تواضعت على أن المنفعة التي ستعود عليها من جراء الاتفاق مع حاكم، لأجل وقف حالة الصراع القائم بالفعل (كما تصور كل من هوبز ولوك)، أو الصراع المحتمل نشوبه (كما رسم ملامحه الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسُّو) ستكون منفعة تستحق تقليص عدد الحقوق التي يتمتع بها الفرد.
أما الأساس الثاني من أسس تدشين فكرة الحق، وهو الصراع، فيمكن تمثله في حديث كل من هوبز ولوك عن أصل الطبيعة البشرية التي اعتبروها شريرة، والتي أدَّت بهم إلى حالة حرب الجميع ضد الجميع. ولقد خالفهم روسُّو في ذلك حين تصور أن حالة الطبيعة الأولى كانت حالة رفاهية، إلا أنه أكد على أن مصير الجماعة البشرية إلى الصراع استنادًا إلى تجدد الحاجات والمطالب البشرية وتغيرها وتنوعها، في الوقت الذي تتجه فيه الموارد المتاحة للبشر نحو مزيد من الندرة.
وأما فكرة المنفعة فهي فكرة نشأت في حقل الأدبيات الفكرية الاقتصادية، في محاولة لتبرير الملكية ورأس المال وتحولات البرجوازية الأوروبية نحو التجارة ثم الصناعة، وجهود تعظيم الربح وتقليل الإنفاق… إلخ. وكانت هذه الفكرة التي خط ملامحها المفكر جيريمي بنثام من روافد نشأة مفهوم البراجماتية الذي مثَّل أحد أهم روافد بناء التشكيل الحضاري الغربي. كما أن نفس الفكرة: المنفعة، مثلت البيئة التي نما فيها مفهوم الرشادة أو العقلانية التي استند إليها بعض المفكرين في تدشينهم لمفهوم حقوق الإنسان.
فالحالة التعاقدية جماع تلك الأسس كلها، كما أنها في النهاية التجسيد الملموس لمفهوم الحق. فالترجمة العملية لأية حالة تعاقدية تتمثل فيما يترتب على العقد من حقوق على طرف والتزامات على طرف آخر في نفس العقد.
الطرح الإسلامي: التمايز والتميز:
أشرنا من قبل لحالة بعض المفكرين المسلمين الذين سارعوا إلى تقليد الغرب وأعلنوا أن الإسلام لديه منظومة حقوق إنسان كما الغرب، وأن حقوق الإنسان في الإسلام لا تقلُّ ألبتة في نطاقها وفي قيمتها عن قيمة منظومة حقوق الإنسان في الفكر الغربي.
من السهل أن نحذو حذو هؤلاء المفكرين الذين اصطلح عدد غير قليل من المفكرين على تسميتهم بـ المفكرين الاعتذاريين، ومن ثم نؤكد بأغلظ الأيمان على احتواء الإسلام على حقوق إنسانية مماثلة للحقوق الواردة في المواثيق والإعلانات الغربية لحقوق الإنسان.
بل من السهل علينا أيضا أن نقول إن أُسُس حقوق الإنسان في الإسلام تعاقدية كما في الغرب.. فالإسلام كله تعاقد على التسليم والاستسلام لله رب العالمين في مقابل الجنة {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة:111). أضف إلى ذلك أخي القارئ أن بيعتي العقبة الأولى والثانية كانتا شكلاً صارخًا من أشكال التعاقد، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم احتاج لتوسيع بند هذا التعاقد حين أراد الخروج لملاقاة قريش في بدر، حين قال: أشيروا عليّ أيها الناس.. يقصد الأنصار.
ومن السهل أن نقول إن المنفعة أيضا أساس إسلامي للحقوق، ونلبس نظريات المقاصد والمصالح في الفقه الإسلامي وأصوله لباس نظرية المنفعة بدلالتها الدنيا في الفكر الغربي، حيث الأساس في نظريتي المصلحة والمقاصد تحري صالح المسلمين وتنظيم الاستجابة للحاجات الجديدة التي ظهرت للمسلمين مع مرور الوقت، وتيسير الوصول للحكم الشرعي الضابط لها.
ويمكن من باب المزايدة أن نقول إن الصراع أحد الأسس التي يحفل بها الإسلام، ملبسين في هذا الإطار نظرية التدافع لباس نظرية الصراع.. يمكننا أن نفعل هذا كله، لكن لن نفعل لأسباب وجيهة. فإن لم يكن الوقت قد أسعف إخواننا المفكرين الاعتذاريين ليراجعوا كنزهم القرآني؛ فإن الوقت قد فسح أمام عدد وافر من الباحثين الإسلاميين للبحث في هذا الكنز، وللخروج منه بما هو أرقى من طرح الغرب في مجال حقوق الإنسان.
إن محاولات مفكري الإسلام إثبات أن الإسلام ليس أدنى من الحضارة الغربية أدت بهم إلى أن استوردوا المنظومة القيمية الغربية، وقاموا بطلائها بطلاء إسلامي -إن جاز التعبير- وفاتهم أن المفاهيم مرتبطة بأسسها الفلسفية، وأن محاولة استيراد النموذج الغربي بأسسه الغربية ستؤدي بأمتنا، وقد أدت بالفعل، إلى استمرار الاعتماد على الاستيراد الفكري من الآخر، ومن ثم قادت أمتنا العربية والإسلامية إلى حالة من التبعية الثقافية، ناهيك عن أثر المنظومة الحقوقية المستوردة في إحداث التفرق والصراع الاجتماعي. كما أن هذا الاستيراد حرمنا من أن نبني منظومتنا الخاصة، وحرم الغرب من مشعل حضاري هو اليوم في مسيس الحاجة إليه بعدما وصل إليه من تفسخ اجتماعي.
لا يمكننا أن ننكر أن في الإسلام حقوقًا تضارع حقوق الغرب إن لم تتفوق عليها كما قال أساتذتنا ومفكرونا الاعتذاريون جزاهم الله خيرا لاجتهادهم، وغفر لنا ولهم الزلل. لكن ليس معنى هذا أن نجعل الغرب هو المعيار الذي نقلده فنخيط أزياءنا على معاييره ووفق طرازاته.
إن علاقة فكرنا الإسلامي بالفكر الغربي في إطار ما لمسناه من تشابه في المنظومة الحقوقية أشبه ما يكون بقضبان قطارين: منطلقهما مختلف، وغايتهما مختلفة، ولكن تقاطعت مساراتهما ومحطاتهما في بعض الأحيان، لكن هذا لا يعني أن لهما نفس المسار. وقد كان ذاك هو الخطأ الذي وقع فيه أساتذتنا الاعتذاريون الذين لا ننكر جهدهم واجتهادهم. فتوحد المسارات والمحطات أحيانًا لا يعني التشابه ناهيك عن التطابق. فالبون شاسع. ولكن كيف؟ هلموا معي لنرى إجابة السؤال.
من التعاقد إلى التراحم
لست هنا بصدد أن أضع ثنائيات متقابلة طرفها الأول غربي والطرف الآخر إسلامي. فليس الأمر كما يشي به هذا العنوان الفرعي. لكن أحاول هنا أن أرسم ملامح صورة مقارنة بين البناء الإسلامي المستقل عن البناء الغربي، البناء المستقل في الأسس والمنطلقات، وفي أسلوب البناء، وفي الغاية من هذا البناء.
وبداية أقول إن الفارق الأساسي بين الطرح الإسلامي والطرح الغربي في بناء مفهوم حقوق الإنسان يتمثل في المفارقة بين مفهومي الصراع والإيمان. فأساس مفهوم حقوق الإنسان في الغرب هو الصراع.. سواء أكان الصراع مؤسِّسًا للحالة الحقوقية أم أسلوبًا لممارستها. فحقوق الإنسان تأسست في الغرب بسبب تصور حالة صراع الجميع ضد الجميع، وممارسة الحالة الحقوقية الغربية تعتمد كذلك على الصراع بين الحقوق وبعضها البعض. فحقوق المرأة لم تتحقق ولم تتأسس إلا عبر صراع المرأة مع الرجل، وهكذا.
أما في الإطار الإسلامي فإن الإيمان كان الأساس الذي بنيت عليه المنظومة الحقوقية الإسلامية. فالإيمان ولد مفهوم الأخوة والتراحم. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107). فالآية الأولى تستلزم التراحم لصون علاقة التآخي بين المسلمين. والآية الثانية مدَّت نطاق هذا التراحم للعالمين، على اعتبار أن هذه الأمة أمة دعوة ورحمة لا أمة منغلقة على رسالتها.
من الحق إلى الواجـب
كان لفضيلة الشيخ محمد الغزالي نظرة ثاقبة في بحث قضية الحقوق هذه. حيث أكد في إحدى كتاباته على أن الإسلام لم يعالج قضية الحقوق كما عالجها الغرب. فالغرب وضع للناس حقوقًا في مواجهة بعضهم البعض، فتحولت العلاقات الإنسانية إلى تناقض مصلحي، ومن ثم إلى تنافس بل صراع. بينما الإسلام صاغ حقوق الناس في صورة واجبات تقع على عاتق المحيطين بهم، يسائلهم الله تعالى عنها يوم القيامة، فحقوق الزوجة واجبات على الزوج، وحقوق الزوج واجبات على الزوجة، وحقوق الجار واجبات على جاره، وهكذا.. ومن ثم تحولت منظومة الحقوق في الحضارة الإسلامية إلى منظومة عطاء وتراحم وتراض لا منظومة تناقض مصلحي وصراع وتنافس وغصب وإكراه.
ومن هنا نجد أن الأساس الإيماني للحقوق في الإسلام باعتبارها واجبات على المسلم فردا وجماعة جعل المسلمين يتسابقون للوفاء بها، في حين تحولت الحقوق في الغرب إلى أعباء يمكن للفرد أن يتخلص منها متى غابت أعين القانون أو غفل رعاته. غير أن هذا ينبغي ألا يقودنا للظن بأن الله تعالى اعتبر هذه الحقوق ضربًا من الأخلاق غير الملزمة، بل جعل جلها تشريعات، منها المحكم ومنها المتشابه، ومنها المفصل ومنها المجمل المتروكة تفاصيله لتطورات ظروف وأوضاع الجماعة المسلمة، فهي في المنتهى لم تكن منظومة اختيارية.
والواقع أن هذه الثنائية أحد تجليات عبقرية الدين الإسلامي من وجهة نظر كاتب هذه السطور، حيث إن الله صاغ هذه التكليفات بصورتها الحقوقية لضمان التزامها تشريعيًا، لكنه عالج تقبلها نفسيًا لدى الجماعة المسلمة بصورة جعلت تنفيذها أهم لديهم حتى من العبادات نفسها. لقد جعل الله التقصير في حقوق الناس على بعضهم البعض أعسر غفرانًا من تقصير العباد في حقوق الله تعالى عليهم إلا الإشراك به سبحانه، والأحاديث الدالة على ذلك المعنى كثيرة ؛ فعن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه أنه سمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قام فيهم فذكر لهم “أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال” فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتلت في سبيل الله تكفّر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم “نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر” ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كيف قلت؟” قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين؛ فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك”. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من كانت له مظلمة لأخيه مِن عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه…” (رواه البخاري).
من النسبي الغربي إلى المطلق الإسلامي
من أهم مميزات منظومة الحقوق الإسلامية أنها استندت إلى داعي الإيمان برب الخلق. فالحقوق في المنظومة الإسلامية هي حقوق الخلائق.. كل الخلائق. وهي منظومة أمر بها رب الخلائق. وما دام رب الخلائق مطلقا فإن المنظومة التي فرضها منظومة مطلقة لا يمكن التهاون في الائتمار بها. كما أنها منظومة متعالية على أن يضعها بشر قد تكون لهم مصالحهم الطبقية أو الاقتصادية أو السياسية… إلخ.
أما الغرب فقد أسند نسق الحقوق فيه إلى فكرة المنفعة. والمنفعة فكرة نسبية متغيرة بتغير الزمان ودوران الأحوال. كما أن فكرة المنفعة تتغير وفق نظرة الجماعة المهيمنة على دوائر صناعة القرار أو قريبة من دوائر التأثير عليه: كجماعات الضغط، أو الطبقات الاجتماعية، أو النخب السياسية المهيمنة…إلخ. وهذا ما يجعل فكرة الحقوق في المنظومة الغربية فكرة نسبية بالتبعية.
وقد لمسنا تجليين بارزين لهذه النسبية في الحضارة الغربية:
التجلي الأول: تمثل في إنكار الغرب لحقوق الإنسان غير الغربي. وتاريخ الغرب حافل بالنماذج والأمثلة على هذه الحالة، ومن يريد المثال فليرقب اليابان في الحرب الاستعمارية العالمية الثانية، أو العراق أو فلسطين أو لبنان أو السودان أو كوريا الشمالية أو الأرجنتين أو بوليفيا…إلخ.
إن نشأة أمريكا قامت على إبادة الهنود (السكان الأصليين) الذين تقلص عددهم من 10 ملايين إنسان إلى 200 ألف إنسان.
وإذا ما قررنا الاستشهاد بخبرات التاريخ المعاصر فسنجد ناعوم تشومسكي المفكر الأمريكي يذكر أنه في إحدى ليالي الحرب الاستعمارية الثانية دمّرت 334 طائرة أمريكية ما مساحته 16 ميلاً مربعًا من طوكيو بإسقاط القنابل الحارقة، وقتلت 100 ألف شخص، وشردت مليون نسمة. ولاحظ الجنرال كيرتس لوماي أن الحرارة كانت شديدة جدًّا حتى إن الماء قد وصل في القنوات إلى درجة الغليان، وذابت بعض الهياكل المعدنية، وتفجر الناس في ألسنة من اللهب. وقد تعرض أثناء الحرب ما يقرب من 64 مدينة يابانية، فضلاً عن هيروشيما وناجازاكي الشهيرتين، إلى مثل هذا النوع من الهجوم. ويشير أحد التقديرات إلى مقتل زهاء 400 ألف شخص بهذه الطريقة. وكان هذا تمهيدًا لعمليات الإبادة التي ارتكبتها الولايات المتحدة ضد أقطار أخرى لم تهدد واشنطن.
وقد ذبحت الولايات المتحدة بين عامي 1952 و1973 – في تقدير غير مغالٍ – زهاء عشرة ملايين صيني وكوري وفيتنامي ولاوسي وكمبودي. ويشير أحد التقديرات إلى مقتل مليوني كوري شمالي في الحرب الكورية، وكثير منهم قُتلوا في الحرائق العاصفة في بيونج يانج ومدن رئيسية أخرى، ويذكرنا هذا بالهجمات الحارقة على طوكيو.
وذكر الراهب البوذي الفيتنامي “ثيتش ثين هاو” أنه بحلول منتصف عام 1963م تسببت الحرب التي شنتها أمريكا على فيتنام في مقتل 160 ألف شخص، وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص، واغتصاب 31 ألف امرأة، ونزعت أحشاء 3000 شخص وهم أحياء، وأحرق 4000 حتى الموت، وتدمير ألف معبد، كما هوجمت 46 قرية بالمواد الكيماوية السامة.. وأدى القصف الأمريكي لهانوي وهايفونغ في فترة أعياد الميلاد في العام 1972م إلى إصابة أكثر من 30 ألف طفل بالصمم الدائم.
وكانت وزارة الدفاع الأمريكية قد اعترفت سنة 2000 بأن قوات الناتو أطلقت 31 ألف قذيفة تحتوي على اليورانيوم المنضب أثناء حملة حلف الأطلسي على يوغسلافيا، في حين أفاد مسؤول حلف الناتو أن عشرة آلاف قذيفة من هذا النوع استُعملت في حرب البوسنة عامي 1994 و1995.
وتدمير العراق في حرب الخليج الثانية لا يزال قريب العهد؛ فقد أكدت التقارير أن الطائرات الأمريكية ألقت زهاء مليون قذيفة يورانيوم منضب جو أرض، كما استخدمت 15 ألف قذيفة دروع؛ وهو ما أحدث خللاً واضحًا في الأمن البيئي في الكويت قبل العراق، فلوث مساحات واسعة من الأرض بمواد مشعة كاليورانيوم المنضب، واستخدام سموم فطرية ذات تركيز عال مُسَرطنة، فضلاً عن تلويث الهواء والتربة، وإهلاك الكثير من الأحياء، وظهور أمراض كثيرة، وازدياد معدلات الوَفَيَات في الأطفال دون الخامسة عدة أضعاف بالنسبة للعراق. بل إنها لم تتورع عن إبقاء الحصار المفروض على العراق لما يزيد عن عشرة أعوام، والذي لا تزال آثاره المدمرة بادية على الشعب العراقي المنهك البائس.
وكشفت مجلة النيوزويك مؤخرًا (27-8-2002) جرائم الحرب في أفغانستان، وكيف أن أكثر من 3000 أسير في طالبان ممن استسلموا لقوات التحالف الشمالي كانوا قد حُشروا وهم مرضى يتضورون جوعًا في مرفق يتسع لـ 800 شخص فقط، وكيف أن المئات منهم ماتوا خنقًا في حاويات معدنية (مختومة) أثناء نقلهم إلى المعتقلات!
التجلي الثاني: يتمثل في هشاشة وضع الحريات في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، من تجسس على البريد العادي والإلكتروني والهاتف، والاعتقالات بلا محاكمات، ومنع من السفر، ومنع من العودة… إلخ. أليس هذا دليلا على أن فكرة الحق الإنساني هذه فكرة نسبية تأسيسًا على ما يرون من نفع لها، حتى لو كان ذاك النفع ظنيا أو متوهما.
إن للمسلم أن يفخر بأن منظومته القيمية الحقوقية مختلفة كثيرًا، إن لم نقل جذريًا عن المنظومة الغربية. فهذا الاختلاف سببه تفرد منظومة الإسلام وسموها وصدق توجهها الإنساني العام الشامل.
ولكن ينبغي أيضًا على المفكرين المسلمين أن يحرصوا على توضيح هذه الصورة من ناحية، وأن يحرصوا من ناحية ثانية على بلورة برنامج لصون هذه الحقوق، وبخاصة الحقوق السياسية. فالبريق الذي يلف حرص الغربيين على حقوقهم السياسية يجعل حملة المشروع الإسلامي يتوهمون أنهم في موقف ضعف في مواجهة المشروع الحقوقي الغربي في الوقت الذي لا يرقى فيه ذاك المشروع الغربي – رغم بهرجته – لمطاولة القمة السامقة التي يبلغها المشروع الإسلامي الحقوقي.
رئيس وحدة البحوث والتطوير بشبكة إسلام أون لاين
ومن ذلك السياق نجد أن المفهوم تم استخدامه بهذه الدلالة القاطعة في الحديث الذي صدَّق فيه النبي صلى الله عليه وسلم على قول سلمان “آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟. قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاما، فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان” (رواه البخاري).
حقوق الإنسان بين الطرح الغربي والإسلامي – مقالة قانونية هامة