على الرغم من معارضة العديد من فقهاء القانون الدولي العام، منح الشخصية القانونية الدولية للشركات متعددة الجنسية، وبالتالي اعتبارها شخصاً من اشخاص القانون الدولي العام، الا ان هناك عدداً غير قليل من الكتاب والفقهاء طالبوا باعطائها شخصية قانونية دولية ولو بصورة محدودة بغية تمكينها من ممارسة نشاطها من جهة وفرض الرقابة عليها من جهة اخرى. بل كان قسم كبير من هؤلاء الكتاب والفقهاء وان لم يطالبوا باعطائها شخصية دولية الا انهم طالبوا باعطائها مركزاً قانونياً دولياً متميزاً نتيجة تسليمهم بالحقيقة الواقعية المتمثلة باعتبارها –أي هذه الشركات- قوة لايستهان بها من حيث تأثيرها في مجرى العلاقات الدولية. اذن هناك العديد من الفقهاء والكتاب لمسوا حقيقة المشاكل التي تثيرها هذه الشركات غير انهم وقفوا مواقف متباينة منها. فمنهم من لم يقل بمنحها شخصية قانونية دولية ولم يرد بنفس الوقت تجاهل حقيقة مركزها، فاكتفوا وفقا لوجهة نظرهم باعطائها مركزا متميزا على صعيد القانون الدولي العام. فالشركات متعددة الجنسية – على وفق وجهة نظرهم – على الرغم من حقها في المساهمة في اجراءات وضع وتطوير القواعد القانونية الدولية فانها لا يمكن ان ترقى الى مستوى اشخاص القانون الدولي العام(1).
ويذهب الاستاذ “Colliard” الى انه يمكن منح هذه الشركات مركزا قانونيا دوليا معينا، وان كان لا يرقى الى مستوى الاعتراف لها بالشخصية القانونية الدولية، لان من شان ذلك ان يكفل فرض التزامات ورقابة عليها(2). ويرى الاستاذ “Schwarzenberger” ان الشركات متعددة الجنسية أدت دورا مهماً في تكوين قواعد قانونية تضمنتها اتفاقيات الامتياز التي تبرمها مع الدول النامية، وبصدد ممارسة نشاطها الدولي فانها قد ارست قواعد عرفية دولية، اذ تعرض على المحاكم الدولية بعض البنود الواردة في اتفاقيات الامتياز، نظرا الى ما تنشئه تلك العقود من التزامات ذات طبيعة دولية(3). وفي دراسة للحماية الدبلوماسية للمشروعات المشتركة للدكتور “حازم حسن جمعة” فانه راى ان عمل الشركات متعددة الجنسية على المستوى الدولي وتطور انشطتها قد ادى الى “اثراء قواعد القانون الدولي العام المعاصر والى اثراء “لمبادئ القانون العامة” وهي مصدر متجدد لقواعد القانون الدولي المعترف بها في المادة (38) من النظام الاساس لمحكمة العدل الدولية، ومن المتوقع ان يندمج الكثير من هذه القواعد المتصلة بالعقود الدولية في الاتفاقات الدولية التي يجري اعدادها في مجال القانون التجاري الدولي”(4).
وهذا يعني ان قدرة هذه الشركات في ارساء قواعد قانونية دولية عرفية وكذلك اثرائها لقواعد القانون الدولي ومبادئ القانون العامة، يعني ان لتلك الشركات القدرة على خلق القواعد القانونية وبهذا يبرز لديها اهم عنصر من عناصر التمتع بالشخصية القانونية الدولية وهي القدرة على خلق القواعد القانونية ، فضلا عن امتلاكها ارادة ذاتية مستقلة تميزها عن بقية الاشخاص القانونية بصورة عامة وعن الدولة التي أنشأتها بصورة خاصة. وكذلك فان لها القدرة بما تمتلكه من امكانات من ممارسة بعض الاختصاصات الدولية كعقد المعاهدات واللجوء الى القضاء الدولي وغيرها. وباكتمال هذه الامور فانه يحق الاعتراف لها بشخصية قانونية دولية محدودة وفي النهاية الاعتراف لها بالمركز القانوني الدولي. بل ان هناك جانباً من الفقهاء والكتاب من ذهب الى ابعد من ذلك، فمنهم من صورها على اساس انها يمكن ان تكتسب وصف الدولة حيث كتب “Barber Richard” ما يلي “انها دول سياسية قوية، انها مستعمرة القرن العشرين وعلى راسها الشركات الامريكية لانها الاغنى والاكثر تقدما من حيث التكنولوجيا. يتكون جيشها من مهندسين ومسيرين مجهزين برؤوس اموال وتقنيات تصرف، سفاراتها هي معاملها، مناجمها، خدمات بيعها فلا ينقصها الا علم“(5). في حين اعتبرها البعض شكلاً من اشكال “الدولة الاقتصادية” اذ ان الدول ذات السيادة لا يمكنها على شكل انفرادي من ممارسة الرقابة والاشراف على انشطة هذه الشركات. فتملكها نظما فريدة للعمليات المتكاملة والمنظمة دوليا، وقيامها على ثروة طائلة من الموجودات والاستثمارات، وحصولها على دخل سنوي مرتفع يوشك ان يفضي بها الى ان تتحول الى “دول اقتصادية مستقلة” تتمتع “بالسيادة الواقعية” فممثلو الشركات يقومون بوظيفة السفراء بل انهم غالبا ما يعاملون معاملة السفراء*. فضلا عن ذلك فان عدد الاتفاقات التي تكون الشركات طرفا فيها تكون عادة طويلة، وهي اكثر قربا الى المعاهدات منها الى العقود التجارية الاعتيادية(6).
هذه الاراء حاولت تقريب الصورة قدر الامكان الى الاذهان بمحاولتها الباس الشركات نموذج الدولة. فهذه الاراء وان كان فيها نوع من المغالاة في توصيفها الشركات بالدولة، الا انها استمدت ذلك من واقع العلاقات الدولية. فهناك من الشركات اقل ما يمكن ان توصف بانها اقوى من اقوى الدول، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها فضلا عن امتلاكها سيادة واقعية على مقدرات دول العالم ولا سيما النامية منها، فجعل وصفها بانها دول اقتصادية امر لا يمكن انكاره على هذه الاراء. ويرى الدكتور “محمد سامي عبد الحميد” ان هناك قوى وان كانت لا تتمتع بالشخصية القانونية الدولية الا انها يمكن ان توصف بانها جماعات ضغط دولية، ولها دور لا يمكن اهماله او الاستهانة به في مجال العلاقات الدولية، ومن بين هذه القوى الشركات متعددة الجنسية“(7). ومن الفقهاء والكتاب من طالب بضرورة تطوير قواعد القانون الدولي ومفاهيمه بغية مواجهة الشركات متعددة الجنسية، وذلك من اجل صيانة مصالح الدول التي تباشر فيها نشاطاتها من ناحية وتامين عملياتها من ناحية اخرى. وهذا يجد صداه في الحقيقة القائمة على ان القواعد الوطنية التي يتم اتخاذها في اطار السيادة الوطنية لمجابهة هذه الشركات غير كافية(8).
فمثلا نجد ان شركة”Nike” من ضمن الشركات متعددة الجنسية التي عملت خارج اشراف حكومات الدول، بل انها وضعت قواعد ملزمة ذاتيا لحماية حقوق العاملين فيها في مختلف الدول النامية(9). مما يعني انها لم تعد تعترف بالقواعد القانونية الوطنية للدول المضيفة لها. فالعلاقة ما بين الدول والشركات متعددة الجنسية لا تدخل في نطاق القانون الدولي التقليدي، الا ان نسبة هذه العلاقة الى ان يحكمها القانون الدولي العام انما يعود الى التطور الذي طرا على القانون الدولي العام(10). فالدول لم تعد هي الصانع الرئيسي للقانون الدولي العام لان الفاعلين الجدد في القانون الدولي ومنهم الشركات متعددة الجنسية يمتلكون وجهات نظر مختلفة. وبالتالي فان النظريات التقليدية للقانون الدولي العام التي تبحث في كيفية صنع القانون وكيفية تنفيذه اصبحت غير ملائمة لها(11). فمواجهة الشركات متعددة الجنسية بتطوير قواعد القانون الدولي العام لا ياتي من ضعف الاجراءات الانفرادية التي تتخذها كل دولة على حدة فحسب بل سببه ايضا قيام تلك الشركات بالتصرف تجاه الدول كوحدة او ككيان واحد بحيث ان دور اشخاص القانون الدولي العام اصبح مهددا بنشاط الشركات متعددة الجنسية(12). ما لم يتم الاعتراف لها بشخصية قانونية دولية وتنظيم مركزها القانوني على المستوى الدولي.
ويرى الاستاذ “Saman zia-Zarifi” امكانية تطبيق القانون الدولي العام على الشركات متعددة الجنسية من خلال طرق متعددة منها :
1- تطبيق المعايير الدولية بصورة مباشرة على الشركات متعددة الجنسية وعلى المستوى الدولي.
2- تطبيق المعايير الدولية بصورة غير مباشرة على الشركات متعددة الجنسية من خلال تاكيد مسؤولية الشركة الام والدول المضيفة للانشطة غير القانونية لتلك الشركات.
3- تطبيق المعايير الدولية بصورة مباشرة على الشركات متعددة الجنسية على المستوى الداخلي(13).
وذهب الاستاذ “لوتر باخت” الى وجود نزعة متزايدة لمعاملة الافراد والشركات ضمن مجال محدود كرعايا للقانون الدولي العام(14). بينما نادى الاستاذ “فريدمان” بضرورة اعطاء هذه الشركات وضعا قانونيا خاصاً يميزها عن بقية الاشخاص الخاصة. وذلك بتمكينها من التمتع بشخصية قانونية دولية محدودة، فتخضع بموجبها اتفاقياتها لقواعد القانون الدولي العام وليس الخاص. ذلك ان هذه الشركات قد ساهمت في تطوير القانون الدولي العام بطريقة مباشرة وغير مباشرة. عن طريق استعمال “مبادئ القانون العامة” في فض المنازعات التي تثور بسبب الاخلال وعدم تطبيق الاتفاقيات المبرمة بين الدول والهيئات الدولية الاخرى و بين الشركات الخاصة- أي الشركات متعددة الجنسية – وهذا واضح من قضايا التحكيم التي اجريت فيما بينها(15). ولا يختلف عنه الاستاذ “Patrik Daillier” في دعوته الى ضرورة الاعتراف للشركات متعددة الجنسية بشخصية قانونية دولية محدودة، بقوله لا يوجد هناك اطار قانوني محدد ضمن الانظمة القانونية الوضعية لحكم نشاط الشركات متعددة الجنسية وان اخضاعها للقواعد القانونية الدولية امر لا مناص منه(16). اما الاستاذ “Allain Pellet” فهو يرى ان خوف الشركات من امكانية حدوث نزاع بينها وبين الدول المضيفة فانها تفضل اللجوء الى التحكيم الدولي. الذي يعني انه يحرر الشركات متعددة الجنسية من الخضوع للانظمة الوطنية للدول المضيفة. فخوف هذه الشركات من تبدل انظمة الحكم يجعلها تلجأ الى التحكيم الدولي، ذلك انه يعتمد على قواعد تجد جذورها في اعراف العلاقات التجارية الدولية او في مبادئ القانون الدولي العام. وهكذا فان الشركات متعددة الجنسية لم تعد واقفة على هامش القواعد القانونية الدولية، وانما اصبحت تطرح كمسالة يجب تنظيمها من خلال قواعد القانون الدولي العام(17). ويذهب كل من “Celia Wells and Juanita Elias” الى انه نظرا الى النشاط المتزايد للشركات متعددة الجنسية وارتكابها جرائم ضد حقوق الانسان و القانون الدولي الانساني، فان الحاجة تدعو الى انشاء معاهدة ملزمة قانونا لضمان محاسبة االشركات متعددة الجنسية، ويجب ان تطبق هذه المعاهدة دوليا مع ضرورة تطور القانون الدولي ليشمل الشركات متعددة الجنسية فضلا عن الدول فليس من الصعب رؤية الشركات متعددة الجنسية كموضوع للقانون الدولي العام(18).
ويقترح الاستاذ “G.Ball” اعتبار الشركات متعددة الجنسية من الاشخاص الدوليين، وهذا يعني تعريفها عن طريق معاهدة او انشاء قانون دولي للشركات يكون مطابقاً في نظامه للتنظيم فوق الدولي. وهذا التنظيم سيكون ممثلا بالدول التي سيكون بامكانها ان تضفي نوعاً من الرقابة الاعتيادية على نشاطات تلك الشركات و لاجل تطبيق تشريع في مواجهة احتكاراتها ايضاً(19). ويرى البعض ان تقنين السلوك الذي اعدته لجنة الشركات متعددة الجنسية التابعة للامم المتحدة يعد اعترافا لها بالوجود في الاطار القانوني الدولي، ما دام انه قد وجه الخطاب اليها مباشرة، على الاقل بالنسبة لالتزاماتها تجاه الدول والمجتمع الدولي(20). وتعد قضية.”Texaco-Calasistic” نقطة تحول في اراء العديد من كتاب وفقهاء القانون الدولي العام. فحكم محكمة التحكيم لفض النزاع في هذه القضية اثار الشكوك حول امكانية تمتع الشركات متعددة الجنسية بالشخصية القانونية الدولية، ويرى الفقهاء ومنهم Nguyen Quoc Dinh and R.J.Dupuy الذين اسسوا رايهم على حكم هذه القضية امكانية منح الشركات متعددة الجنسية شخصية قانونية دولية، وان هذه الشخصية تمتاز بخاصتين:
أولاهما : انها شخصية مشتقة، أي ان اقرارها وتنظيمها يكون من جانب الدول المعنية.
ثانتيهما : انها شخصية قاصرة، أي انها غير مطلقة كالشخصية القانونية للدول ذات السيادة، وانما تقتصر على ممارسة بعض الحقوق في النطاق الدولي.
ويبني المؤيدون لامكانية تمتع الشركات متعددة الجنسية بالشخصية القانونية الدولية اتجاههم على حجتين :
الاولى : تبنى على اساس القياس، أي ان منح الشخصية القانونية الدولية للشركات متعددة الجنسية لا يعني انها ترقى الى مصاف الدول ذات السيادة وانما بالقياس الى المنظمات الدولية، حيث انها تتمتع بشخصية قانونية دولية وفقا للغرض الذي أنشئت من اجله، لهذا فان تمتعها بشخصية قانونية دولية يتناسب والدور الذي تؤديه في ميدان العلاقات الدولية.
الثانية: أنها هي مؤسسة على اعتبارات عملية، أي ان اعطاء الشركات متعددة الجنسية شخصية قانونية دولية يمكن من فرض رقابة فعالة عليها(21).
_____________
1- انظر د.محمد مغربي، السيادة الدائمة على مصادر النفط: دراسة في الامتيازات النفطية في الشرق الأوسط والتغيير القانوني، ط1 ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت ، 1973، ص172.
2- انظر د.محمد السعيد الدقاق، د.مصطفى سلامة حسين، التنظيم الدولي، ج1 (الاشخاص) دار المطبوعات الجامعية، الاسكندرية، 1997، ص221.
3- Schwarzenberger، Foreign Invesenment and International Law، Steven-London، 1969، p70-71.
4- انظر د.حازم حسن جمعة، الحماية الدبلوماسية للمشروعات المشتركة، ط2 ، مصر الجديدة، 1981، ص14.
5- د. عبد المجيد العبدلي، قانون العلاقات الدولية، ط2، اوريس للطباعة، تونس، 2000، ص221.
* بل ان بعضهم يعامل اكثر من معاملة السفير. فعندما زار هنري فورد الثاني وهو رئيس لشركة فورد للسيارات بريطانيا. استقبله رئيس الوزراء البريطاني .
6-انظر د. محمد مغربي، السيادة الدائمة على مصادر النفط: دراسة في الامتيازات النفطية في الشرق الأوسط والتغيير القانوني، ط1 ، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت ، 1973، ص168.
7-انظر د.محمد سامي عبد الحميد، اصول القانون الدولي العام، ج1، (الجماعة الدولية)ط5، 1989، ص397. كذلك انظر مؤلفه، العلاقات الدولية : مقدمة لدراسة القانون الدولي العام، الدار الجامعية، بيروت، بدون سنة طبع، ص196.
8- انظر د. محمد السعيد الدقاق، د.مصطفى سلامة حسين، التنظيم الدولي، ج1 (الاشخاص) دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، 1997، ص189.
9- Steven R. Ranter، International Law : The Trials of global Norms
بحث مسحوب من الانترنت على الموقع WWW.ptea-law.org، P.3
10- انظر د.محمد طلعت الغنيمي، الاحكام العامة في قانون الامم، مصدر سابق، ص230.
11- Steven R. Ranter، op، cit، p.3.
12- انظر محمد السعيد الدقاق، د.مصطفى سلامة حسين، مصدر سابق، ص189.
13- Saman zai-Sarifi، Applying International Law to Multinational Corporations
بحث مسحوب من الانترنت على الموقع http://www.corporatewatch.org، p3
14- اوردة د.محمد مغربي، مصدر سابق، ص172.
15- Fredman W.، The Changing Structure of the international Law. Stevens and Sons،
London، 1964، P223.
16-Nguyen Quon Dinh. Patrik Dailliar. Allain Pellet، Droit International Public،
Librairie General de driot et de jurisprudence، E.J.A. Paris، 1999.P.692.
17- Allain Pellet، La Droit International du Development Mondial Troisiemectude، New York، 1983، P 70.
18- ellia Wells and juanita Elias، Holding Multinational Corporations Accountable for Breaches of Human Rights، Center for business Relationships، Cardiff University، 2004، p4.
19- انظر د. محسن شفيق، المشروع ذو القوميات المتعددة، مجلة القانون والاقتصاد، العددان الاول والثاني، مطبعة جامعة القاهرة، 1977، ص29 هامش (1).
20- انظر د. مصطفى سلامة حسين، التنظيم الدولي للشركات متعددة الجنسية، دار النهضة العربية، القاهرة، 1982، ص80.
21- مصطفى سلامة حسن ، مصدر سابق، ص83.
المؤلف : طلعت جياد لجي الحديدي
الكتاب أو المصدر : المركز القانوني الدولي للشركات متعددة الجنسية
الجزء والصفحة : ص94-100
اعادة نشر بواسطة لويرزبوك
توضيح لموقف الفقه والقانون من الشركات متعددة الجنسية