الحقوق في العصور القديمة وإعلانات الحقوق :
من المسلم به ان العصور القديمة كانت تجهل فكرة خضوع الحاكم لقواعد قانونية تقيد سلطاته ، فقد كان الحاكم في نظر الأفراد بحكم الآله وكان الخضوع لحكمه بمثابة الخضوع لأحكام الدين والالتزام بتعاليمه ، لذلك كان سلطانه مطلقا لا يناقشه فيه أحد ، ومن ثم فان النتيجة الحتمية المترتبة على هذا الوضع ان أضحى الأفراد محرومين من كل حق في مواجهة الحكام(1).وعلى سبيل المثال خضع الأفراد في الإمبراطورية الشرقية القديمة خضوعا تاما للدولة في النواحي الدينية والدنيوية ، اما في المدن اليونانية القديمة ، فكان الأمر مختلفا لحد ما ففي دساتير هذه المدن نجد ان الحقوق السياسية لم يكن معترفا بها إلا للمواطنين الذكور الأحرار البالغين عشرين عاما فقط ، أما الرقيق ومن لم يبلغ مرتبة المواطن من الأحرار وكذلك النساء فلم يكن معترفا لهم بها ، مما يعني إن تلك الحقوق كانت حكرا على بعض الأفراد من دون البعض الآخر ، ومن ناحية أخرى فأن هذه الدساتير لم تقر للأفراد بأية حقوق او حريات مدنية تطبيقا للفكرة السائدة آنذاك والتي تقوم على أساس ان الدولة هي الغاية وان الفرد أداة في خدمتها والأمر ذاته نجده في الإمبراطورية الرومانية ، اذ لم تتغير العلاقة بين الفرد والدولة عما كانت عليه في ظل الإمبراطورية الشرقية والمدن اليونانية ، بل ظلت قائمة على أساس ان الفرد أداة في خدمة الدولة ، وان الدولة هي النظام الذي يسمو على سائر الأنظمة البشرية ، وهذا ما كانت تعبر عنه قواعد القانون الروماني ونصوصه المكتوبة(2). غير ان الإمبراطورية الرومانية شهدت مولد المسيحية بتعاليمها التي تقضي باحترام ذات الإنسان ، ومدرسة القانون الطبيعي ، ونظرية الحقوق الطبيعية ، ونظرية العقد الاجتماعي التي نادى بها (هوبز) و (لوك) ثم (روسو) مما كان له الأثر في نشأة نظرية الحقوق والحريات العامة .
اولا / المسيحية : نبذت الديانة المسيحية الفكرة الرومانية القائلة بان الدين خاضع للدولة ، وفرقت بين الفرد كأنسان والفرد كمواطن ، فأكدت كرامة الإنسان باعتبار ان الله هو الذي خلقه كما انها وضعت حدودا للسلطة الدنيوية بمقتضى قانون أعلى مستمد من طبيعة الإنسان والمجتمع ، كذلك أكدت تعاليم المسيحية ان غايتها إسعاد الفرد وتحقيق نفعه ، وما الأسرة والدولة والكنيسة الا وسائل لتحقيق هذه الغاية(3).
ثانيا / مدرسة القانون الطبيعي : استخدمت فكرة القانون الطبيعي لتأكيد حقوق الأفراد ومقاومة الطغيان ، وقامت فلسفة هذه المدرسة على أساس ان هناك قانونا أبديا وثابتا لا يتغير أسمى من القوانين كافة يتضمن مبادئ عالمية وعادلة يوحى بها العقل ، وهذه المبادئ وان لم تكن إلهيه إلا إنها مثالية وتهدف إلى تحقيق المساواة وتأكيد الحرية للأفراد جميعا(4).
ثالثا / نظرية الحقوق الطبيعية : ظهرت هذه النظرية في القرن السابع عشر وترى ان الفرد اسبق من المجتمع و أسمى منه ، وان المجتمع قد صنع الإنسان ولم يصنع الانسان للمجتمع ، وبناء على ذلك فان للفرد بحكم ادميته حقوقا يستمدها من طبيعته لا من التشريعات التي تصدرها الدولة ، فهذه الحقوق سابقة على وجود الدولة ، وان الفرد بدخوله الجماعة التي كونت الدولة كان يهدف تأكيد ذاته وكفالة حقوقه وليس إهدارها او التنازل عنها ، ومن هذا المنطلق يقع على عاتق الدولة حمايتها بل لا يجوز لها الاعتداء عليها او الانتقاص منها(5).
رابعا / نظرية العقد الاجتماعي : تؤكد هذه النظرية الأصل التعاقدي لسلطة الدولة ، وأطراف هذا التعاقد هم الأفراد الذين تنازلوا عن جزء من حقوقهم المطلقة التي كانوا يتمتعون بها في حياتهم الطبيعية للهيئة التي ستتولى حمايتهم وتنظيمهم ، أما الجزء الاخر من حقوقهم التي احتفظوا بها فتضل بمنأى عن تدخل الدولة والا فقدت سبب وجودها وهو العقد الاجتماعي(6). لقد كان لهذه الأفكار اثر في اندلاع الحركات الثورية في العالم مطالبة بالحقوق والحريات العامة فكان من آثارها في بريطانيا وثيقة العهد الأعظم عام 1215 وملتمس الحقوق عام 1628 و إعلان الحقوق عام 1688 ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية إعلان الاستقلال عام 1776 وفي فرنسا إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789 الذي تضمن مبادئ في الحقوق والحريات ما زال الكثير من شعوب العالم الثالث الى اليوم يطمح في ممارستها . وتجدر الإشارة إلى انه خلال اقل من (48) سنة صدرت ثلاثة إعلانـات لحقوق الإنسـان في فرنسـا مستقاة مــن روح إعلان 1789وهـي ( مشروع جيروندا 1793 ) و ( إعلان مونتنارد 1793 ) و ( اعلان 1795(7).) الهدف المعلن من هذه الإعلانات الاعتراف بحرية الفرد وتأكيدها وصيانة حقوقه الطبيعية ، الا ان هذه الاعلانات تؤكد ان هذه الحقوق ذات مضمون سلبي إذ لا تفرض على الدولة أية التزامات إيجابية بتأمينها وكل ما يترتب عليها مجرد الامتناع عن التدخل فيها او اتخاذ الإجراءات التي تتنافى معها . والواقع ان الحقوق والحريات بهذا المعنى لا يتمتع بها الا أصحاب القدرة المادية التي تمكنهم من ممارستها ، فهم ليسوا بحاجة لتدخل الدولة ، بل ان هذا التدخل قد يتعارض ومصالحهم ، وفي الوقت نفسه فأن هذا المضمون السلبي لا يتلاءم ومصالح أولئك الذين لا يملكون من الوسائل ما يضمن لهم التمتع بحقوقهم ، اذ يكون تدخل الدولة ضروريا لضمان ممارستهم حقوقهم ، ونتيجة لذلك وتحت ضغط التيارات الاشتراكية لجأت الدول الغربية إلى تضمين دساتيرها نصوصا تخفف من غلو النزعة الفردية وتعمل على تحسين ظروف الفرد الاقتصادية والاجتماعية ، وهكذا برزت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تفرض على الدولة التزامات وخدمات ايجابية تقدمها للافراد(8). مثل الحق في التعليم وحق العمل والضمان الصحي ، وقد جاء النص على هذه الحقوق تدريجيا في الدساتير الوطنية ومن ثم أصبحت تحتل مكانه بارزة في المواثيق الدولية .
_______________________
1- جعفر صادق مهدي- ضمانات حقوق الانسان (دراسة دستورية) – رسالة ماجستير – جامعة بغداد – كلية القانون – 1990 ، ص9
2- عدنان حمودي الجليل – نظرية الحقوق والحريات العامة في تطبيقاتها المعاصرة – القاهرة – 1974 – ص11 وما بعدها
3- شمس مرغني علي – القانون الدستوري – مطبعة دار التأليف– 1977 – ص656.
4- عبد الحكيم حسن العيلي – الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام(دراسة مقارنة) –دار الفكر العربي- 1974 – ص 16
5- شمس مرغني علي – مصدر سابق – ص657
6- عدنان حمودي الجليل – مصدر سابق – ص22
7-غازي حسن صباريني – الوجيز في حقوق الانسان وحرياته الاساسية – الطبعة الثانية – مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع – عمان –1997 – ص28 وما بعدها
8- عبد الحكيم حسن العيلي – مصدر سابق – ص123
الحقوق في الشريعة الإسلامية :
حدد الإسلام حقوق الانسان وحرياته الاساسية ، ووضع الضمانات الكفيلة بحمايتها ، قبل اعلان ( الماكناكارتا ) في انكلترا ، وقبل اعلانات الحقوق الصادرة عن الثورتين الامريكية والفرنسية نهاية القرن الثامن عشر باثني عشر قرنا ، وكذلك قبل اصدار الاعلان العالمي لحقوق الانسان من الامم المتحدة في العاشر من كانون الاول عام 1948 بأربعة عشر قرنا ، اذ وجدت هذه الحقوق اساسها في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة ، ثم تولى الفقه الاسلامي بيانها وتوضيح مفهومها ومضمونها وتحديد نطاقها ، ولم تقتصر الاسس التي ارساها الاسلام في بناء حقوق الإنسان وحرياته وحمايتها على حق معين دون سواه ، فقد اكد الإسلام حق الإنسان في الحياة ، فهو حق كل إنسان في الوجود ، واحترام روحه وجسده باعتباره كائنا حيا اراد الله تعالى له الحياة واستحق تكريم الخالق (ولقد كرمنا بني آدم(1)) ، وحرم أي اعتداء على هذا الحق ، وقرر اشد العقوبات للجرائم الماسة بحياة الإنسان بصورة لم تتقرر في أي نظام من النظم حتى يومنا هذا(2). وكفلت الشريعة الاسلامية للانسان العيش بأمان في المجتمع الإسلامي وأوجبت على الدولة حماية الفرد من الاعتداء والأذى ، قال تعالى ( لاعدوان الاعلى الظالمين(3)) ، كذلك نادى الاسلام بالمساواة باعتبارها مبدأ أساسيا من المبادئ التي قام عليها و أقام دولة جديدة تساوى فيها الافراد امام احكام الشريعة وفي ساحة القضاء وفي ممارسة حقوقهم وحرياتهم وأمام التكاليف والاعباء العامة بلا تفرقة بسبب الاصل او اللغة او اللون في عصر لم يعرف فيه الافراد غير نظام الطبقات والتفرقة والتمييز ، وتجلى ذلك في الاية الكريمة ( يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله اتقاكم(4)) وأكد الإسلام حق الانسان في التنقل واختيار محل اقامته داخل بلاده او خارجها تبعا لحاجته ومصلحته(5). قال تعالى ( هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فأمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور(6)) . وفيما يخص حرمة المسكن ، فقد جعلت الشريعة الاسلامية لمسكن الفرد حرمة خاصة تمنع أي فرد من الاعتداء عليه او اقتحامه او دخوله من دون اذن صاحبه ، قال تعالى ( يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها(7)) وعلى صعيد الحقوق السياسية ، فان حق المشاركة في الحياة السياسية يجد اساسه في احد المبادئ الاساسية التي يقوم عليها النظام السياسي الاسلامي وهو مبدأ الشورى(8). ( وأمرهم شورى بينهم(9)) ، اما بشأن حق المواطنة ، فتعد الديانة الاسلامية من اقوى الروابط التي ظهرت على سطح الارض ، اذ كانت عقيدة وجنسية في ان واحد ، فكل من يدين بالديانة الاسلامية يصبح أهلا للانتماء إلى الدولة الاسلامية واكتساب جنسيتها ومن ثم له حق التمتع بكافة الحقوق السياسية وغير السياسية ويلزم بالتكاليف والواجبات التي تفرضها الشريعة الاسلامية(10). كذلك كفلت الشريعة الإسلامية حرية الرأي وجعلتها حقا وواجبا في الوقت نفسه ، وحققت لها الحماية في الواقع العملي ، بل انها جعلت من أحد المبادئ المتفرعة عنها عمادا وأساسا من اسس المجتمع الإسلامي وهو مبدأ ( الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ) . ونظمت الشريعة الاسلامية حرية العقيدة وأقرت حق الفرد المطلق في ان يعتنق ما يشاء من العقائد بل وعملت على كفالة هذه الحرية وحمايتها الى اقصى الحدود ، فليس لاحد ان يلزم غيره على ترك عقيدته او اعتناق غيرها او يمنعه من ممارسة شعائر هذه العقيدة(11) قال تعالى ( لا اكراه في الدين(12)) . وعلى صعيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، حثت الشريعة الإسلامية على العمل ، وكفلت حرية التجارة والصناعة وحق الملكية ، واباحت تملك الاموال العقارية والمنقولة المكتسبة بطريقة شرعية . نخلص مما تقدم الى ان الشريعة الإسلامية وضعت نظاما دقيقا لحماية حقوق الانسان وحرياته عجزت كل المواثيق الدولية عن التوصل أليه حتى الآن ، وقد اتخذت هذه الحماية ركيزة أساسية للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي سابقة بذلك الاتفاقات والمواثيق الدولية والإعلانات الصادرة عن المنظمات الدولية بشأن توفير وتقرير تلك الحماية .
______________________
1- سورة الإسراء / الآية (70)
2- عبد الغني بسيوني – النظم السياسية –الدار الجامعية – الاسكندرية – 1985 – ص389
3-سورة البقرة / الاية (193)
4- سورة الحجرات / الاية (13)
5- فاروق السامرائي واخرون – مصدر سابق – ص91
6- سورة الملك / الاية (15)
7- سورة النور/ الاية (27 )
8- عبد الغني بسيوني – مصدر سابق – ص331
9- سورة الشورى / الاية ( 38)
10- حسن المهداوي – الجنسية ومركز الاجانب واحكامها في القانون العراقي – الطبعة الرابعة – بغداد ، من دون سنة طبع – ص67
11- محمود شريف بسيوني – وآخرون – حقوق الانسان – المجلد الثاني – مصدر سابق- ص59
12- سورة البقرة / الاية ( 356 )
الحقوق في المواثيق الدولية :
يمكن الاحاطة بالجوانب الرئيسية لهذا الموضوع ، اذا ما تناولناه في ثلاث نقاط وعلى النحو الآتي :
اولا / الحقوق قبل الحرب العالمية الاولى :
لم يقر المجتمع الدولي حتى الحرب العالمية الاولى الا عددا محدودا من الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته ، مثل تلك المتعلقة بتحريم الرق والاتجار به ، والقراصنة ، واتفاقيات لاهاي لعام 1899 و 1907 و التي تتضمن القواعد التي يتعين مراعاتها اثناء الحرب ، ولم يكن هناك أي وجود لنصوص تهدف الى حماية عامة لحقوق الانسان ، وفي المقابل تمكنت الدول الكبرى من انشاء عدد من المؤسسات والانظمة الدولية التي تتيح لها حماية رعاياها او من تعتبرهم كذلك في الخارج . وفي هذا الصدد نادى الفقه الغربي بفكرة الحد الأدنى في معاملة الاجانب الذي لابد منه لهؤلاء وان حرم منه المواطنون ، وفرضت الدول الصناعية في امريكا الشمالية واوربا الغربية هذه الفكرة على الدول الصغرى ، غير انه يمكن القول ان الجدل بشأن الفكرة قد انتهى الان والقاعدة هي المساواة بين المواطنين والاجانب ، وان كان ثمة حقوق مثل الحقوق السياسية لا يتمتع بها بحكم طبيعتها سوى المواطنين . وبموجب نظام الامتيازات الأجنبية الذي ازدهر في عصر التوسع الاستعماري في القرن التاسع عشر ، اصبح رعايا الدول الأوربية بمنأى عن الخضوع لقوانين البلدان غير المسيحية المضيفة لهم او للقضاء الوطني المختص في تلك البلدان . علما ان هذا النظام لا وجود له الان في أي من الدول .وكانت معظم الدول ولاتزال تطالب بالحق في الحماية الدبلوماسية أي الحق في حماية مواطنيها في الخارج دبلوماسيا في حالة تضررهم من عمل غير مشروع دوليا ترتكبه الدولة التي يقيم فيها الأجنبي(1). والواقع انه اذا كان الحق في الحماية الدبلوماسية معترفا به الان لجميع الدول ، فان من الواضح ان الدول الكبرى هي المستفيد الاول من هذا الحق ، علما ان الحماية الدبلوماسية حق للفرد وليست حقا للدولة ، و أخيرا أقر الفقه الدولي التقليدي مشروعية التدخل من اجل الإنسانية، والواقع ان هذا النوع من التدخل لم يتقرر بدوره الا لصالح الدول الكبرى وعلى حساب الدول الصغرى .
ثانيا / الحقوق بعد الحرب العالمية الاولى :
في هذه المرحلة التي تمخض عنها تأسيس عصبة الامم عام (1919) كأول تجمع دولي ، كان الاهتمام بحقوق الانسان ضئيلا ، فقد جاء عهد عصبة الامم نفسه خاليا من النصوص الخاصة بتقرير الصفة الدولية لحماية حقوق الانسان ، اذا استثنينا ما جاء في هذا العهد من التزام اعضاء العصبة بان يعاملوا الشعوب التي تقطن الاقاليم الخاضعة لادارتهم معاملة عادلة ، وكذلك النص على احترام حقوق الشعوب التي تسكن الأقاليم التي وضعت تحت نظام الانتداب ومنها معاهدات الصلح التي تلت الحرب العالمية الأولى والتي جاء النص فيها على احترام حقوق الاقليات ، كذلك ما جاء في تصريحات بعض الدول عند تقدمها لعضوية عصبة الامم من التزامها باحترام حقوق الاقليات(2). ولقد تم خلال تلك الفترة تاسيس منظمة العمل الدولية التي استهدفت اقامة العدالة الاجتماعية على اسس وطيدة كسبيل لخدمة السلام واستقراره عن طريق القضاء على ظروف العمل السيئة وما يكتنفها من ظلم ومشقة وحرمان(3). والحقيقة ان دستور منظمة العمل الدولية كان بمثابة الاتفاقية العامة الاولى لحقوق الانسان بشكل عام والعامل بشكل خاص .
ثالثا / الحقوق بعد الحرب العالمية الثانية :
شهدت هذه المرحلة تطورا كبيرا بشأن الاهتمام بحقوق الإنسان تجسد ذلك في اقامة تنظيم عالمي جديد اتفقت عليه ست وعشرون دولة اطلقت على نفسها ( الامم المتحدة ) انظمت اليها تباعا دول اخرى عديدة ، فقد نصت ديباجة الميثاق على تأكيد الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره ، وبما للرجال والنساء والامم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية . هذا وتجدر الاشارة الى انه على الرغم من احتواء الميثاق على النصوص المتعلقة بحقوق الانسان وحرياته الاساسية الا ان معالجته للمسألة جاءت في صورة اشارات عامة للحقوق الاساسية للانسان والمساواة في التمتع بها خاصة وانه لم يبين ماهية هذه الحقوق اضافة الى انه لم ينشئ اجهزة معنية بالرقابة لضمانها وحمايتها .وعليه كانت الحاجة ماسة في الامم المتحدة الى اتخاذ مبادرات مكملة للميثاق اكثر طموحا وفعالية ، تجسدت في اصدار الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العاشر من كانون الاول عام 1948 الذي يمثل الخطوة الاولى من خطوات المنظمة الدولية على طريق تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها(4). فقد جاء في مقدمة الاعلان ( ان الاقرار بالكرامة المتأصلة لكافة اعضاء الاسرة الانسانية بحقوقهم المتساوية التي لا يمكن التصرف بها انما يشكل الأساس الذي تقوم عليه الحرية والعدالة والسلام في العالم ). لقد اثر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تأثيرا واضحا وفاعلا في اغلب الدساتير الوطنية على الرغم من انه لم يكن ذا قيمة قانونية ملزمة وانما كان ذا قيمة ادبية ارشادية، وقد نصت مقدمات بعض الدساتير صراحة على التمسك بمبادئ الاعلان ، واعلن القسم الاخر من الدساتير عن تمسكه باهداف المنظمة الدولية باعتبار ان احد اهدافها احترام وتعزيز حقوق الانسان . ان الاهتمام الدولي بحقوق الانسان لم يتوقف عند هذا الحد بل استمرت الاتفاقيات الدولية في تنظيم تلك الحقوق بصورة تدريجية ، فصدر العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966 ، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1966 ، فضلا عن البروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي الاول والخاص باستلام ودراسة تبليغات الافراد الذين يدعون انهم ضحايا انتهاك لأي حق من الحقوق المنصوص عليها فيه . وبحكم ما يتسم به العهدان من طابع عالمي ملزم ، فانهما يمثلان وسيلة مهمة لحماية حقوق الانسان على الصعيد الدولي ، غير ان عدم انضمام بعض الدول إلى العهدين ادى الى عدم الافادة الكاملة من آليات العهدين المذكورين(5). كما لايمكن اغفال التنظيم الاقليمي لحقوق الانسان الذي تجسد في الاتفاقية الاوربية لحماية حقوق الانسان وحرياته الاساسية لعام 1950 والميثاق الاجتماعي الاوربي لعام 1961 والاتفاقية الامريكية لحقوق الانسان عام 1969 و الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب عام 1981وكذلك الميثاق العربي لحقوق الانسان عام 1994 . واخيرا لا يمكن اغفال الدور الفعال للوكالات المتخصصة التابعة للامم المتحدة في مجال حماية حقوق الانسان ، وهي منظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية ومنظمة اليونسكو ومنظمة الزراعة و الأغذية ( فاو ) اضافة الى المنظمات الدولية غير الحكومية منها الرابطة الدولية لحقوق الانسان واللجنة الدولية للصليب الاحمر ومنظمة العفو الدولية ورابطة الحقوقيين الديمقراطيين العالمية(6). نخلص مما تقدم الى ان حركة حقوق الانسان المعاصرة قد مرت عبر جيلين متعاقبين ومتداخلين مع بعضهما :
الجيل الاول : وهو جيل حقوق الانسان المدنية والسياسية أي جيل حقوق الانسان الفرد والمواطن وكان للغرب دور في اصدار المواثيق الدولية في هذا الجيل بالنظر لاهتمامه بها ولدوره في الامم المتحدة في المراحل الاولى من تأسيسها ، ويقوم هذا الجيل على عد الانسان فردا يتمتع بصفته تلك بحقوق طبيعية سابقة للكيانات الاجتماعية.
الجيل الثاني : وهو جيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أي جيل حقوق الانسان الجماعية ، وتجد هذه الحقوق مصدرها خاصة في التبعات الاجتماعية والاثار الفكرية التي نتجت عن الثورة الصناعية ، هذه الثورة التي بينت بجلاء ان الانسان اضافة الى كونه فردا فانه يتمتع بصفته تلك بحقوق فردية وسياسية ، فهو طرف في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يتمتع بعدد من الحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، ولعبت في اصدار وثائق حقوق الانسان العالمية لهذا الجيل دول العالم الثالث مدعومة من قبل الدول الاشتراكية دورا وفي تبني مواثيق اقليمية تكرس الحقوق هذه . ولابد من الاشارة الى ان هناك جيلا ثالثا في الحقوق الانسانية مازال محل جدل فقهي يطلق عليه أحيانا جيل الحقوق الانسانية الكونية تتقاسم الاهتمام به دول العالم كافة وهو جيل حقوق الانسان التي تؤكد على بعد جديد هو ضرورة التضامن بين البشرية جمعاء في مواجهة التحديات التي تعترضها ويمكن ان تهدد بقاءها ، ومن أمثلة حقوق هذا الجيل الحق في التنمية والحق في بيئة نظيفة … الخ . هذا وان حقوق هذا الجيل لا تشكل مساسا أو تنكرا لحقوق الجيلين الأول والثاني بل هي مكملة لها(7).
________________________
(1) محمود شريف بسيوني – وآخرون – حقوق الانسان – المجلد الرابع – مصدر سابق – ص32
(2) عبد العزيز محمد سرحان – المدخل لدراسة حقوق الانسان في القانون الدولي – دراسة مقارنة بالشريعة الاسلامية والدساتير العربية – الطبعة الاولى – مطبعة الكويت – 1980 – ص72 .
(3)عز الدين فودة – حقوق الانسان في التأريخ وضماناتها الدولية – المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر- القاهرة – من دون سنة طبع – ص42
(4)قادري عبد العزيز – حقوق الانسان في القانون الدولي والعلاقات الدولية – دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع – الجزائر – 2002- ص113 ، و عزت سعد السيد بوعي – حماية حقوق الانسان في ظل التنظيم الدولي الاقليمي – القاهرة – 1985 – ص17
(5) بلغ عدد الدول المنظمة للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (148) دولة والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (145) دولة ، ويذكر ان العراق انظم الى العهدين بتاريخ 25/12/1971 باسيل يوسف – دبلوماسية حقوق الانسان – المرجعية القانونية و الاليات – الطبعة الاولى بيت الحكمة – بغداد 2002-ص209و221 .
(6) للتفصيلات انظر باسيل يوسف – دبلوماسية حقوق الانسان – مصدر سابق و محمود شريف بسيوني و آخرون – حقوق الانسان – المجلد الرابع – مصدر سابق – ص37 وما بعدها
(7) رياض عزيز هادي – العالم الثالث وحقوق الإنسان – وزارة الثقافة والإعلام – دار الشؤون الثقافية العامة –سلسلة افلق(19)- بغداد – 2000 – ص27 وما بعدها
المؤلف : مروج هادي الجزائري
الكتاب أو المصدر : الحقوق المدنية والسياسية وموقف الدساتير العراقية منها
اعادة نشر بواسطة لويرزبوك .
الحقوق في ضوء أحكام الشريعة الاسلامية والمواثيق الدولية – مقال قانوني