آليات الديمقراطية في‮ ‬عصر عولمة الحكم

. ‬راشيل كوفلد – ديبرا دلائيت *

ويمكن للعولمة ان تخلق فرصاً‮ ‬أفضل من أجل النهوض بالديمقراطية عبر تقوض السلطات القسرية وتنظيم السيطرة على الدول‮ ‬غير الديمقراطية داخل العديد من المجتمعات‮. ‬في‮ ‬الوقت نفسه‮ ‬،‮ ‬فإن مؤسسات الدولة تعد وسيلة رئيسية لإنشاء وتعزيز المؤسسات الديمقراطية‮. ‬وعلى الرغم من أن العولمة قد تقوض سلطة الدول الديمقراطية،‮ ‬فإنها تشكل أيضا عقبة تعترض السياسات الديمقراطية‮. ‬هذا التناقض‮ ‬يكمن في‮ ‬صميم العديد من المناقشات حول العولمة المعاصرة‮.

ويبدو أنه على الأفراد الذين‮ ‬يعملون من اجل وضع استراتيجيات لدعم وتعزيز الديمقراطية في‮ ‬كل مستويات الحكم،على المستويين المحلى والعولمى عليهم ان‮ ‬يتصارعوا ايضا مع العديد من النتاقضات‮. ‬إن تسخير إمكانات تحرير قوى العولمة وتقليل مدى ما‮ ‬ينتج عن‮ “‬السباق نحو القاع‮”‬،‮ ‬وتقويض التقدم الديمقراطي‮ ‬الذي‮ ‬تحقق في‮ ‬الحركات الديمقراطية ليست مهمة بسيطة،‮ ‬ولا‮ ‬يمكن تجنبها‮. ‬لقد‮ ‬غيرت العولمة بشكل جوهري‮ ‬– سواء للافضل او للاسوأ‮- ‬في طبيعة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في‮ ‬النظام العولمي‮ ‬المعاصر‮. ‬وهو ما أدى بدوره لإحداث تحول في ‬الآليات السياسية والاقتصادية بما‮ ‬يدعو لتحول في‮ ‬الأنظمة الموازية للحكم سواء أكان ذلك على المستوى المحلي القومى‮.

الآليات السياسية العولمية في‮ ‬الحقبة المعاصرة للعولمة

يمكن تعريف العولمة بأنها‮ “‬التوسع والتكثيف‮ ‬،‮ ‬وتسريع‮ ‬،‮ ‬وتزايد تأثير العلاقات المتداخلة والواسعة على مستوى العالم‮.‬ فالعولمة أخذت مكانها في‮ ‬المجالات اقتصادية والسياسية والاجتماعية،‮ ‬وقللت من المسافات الجغرافية التي كانت تعد بمثابة الحواجز أمام حركة الناس والسلع والخدمات والأفكار العابرة للحدود الإقليمية‮. ‬من طبيعة التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية كما تؤثر على أشكال النظم السياسة،‮ ‬والتي‮ ‬من المحتمل‮ ‬أن تزدهر في‮ ‬سياق أليات العولمة‮.

وباعتبار العولمة عملية تشكيل جذري‮ ‬لطبيعة الحكم‮ ‬،‮ ‬فإن العولمة ليست جديدة‮. ‬وكما‮ ‬يشير ستيفن كرسنر،‮ ‬فإن الدول‮… ‬عملت دائما في‮ ‬بيئة دولية متداخلة‮.” ‬ووفقا لكراسنر فالدول لم‮ ‬يكن لديها القدرة الكاملة على تنظيم التدفقات عبر الحدود المشتركة من الناس،‮ ‬والتكنولوجيا،‮ ‬ورأس المال،‮ ‬والاتصالات،‮ ‬أو الافكار‮. ‬فكانت عمليات العولمة الدولية والأزمات المالية العالمية‮ ‬،‮ ‬وتدفقات الهجرة الدولية‮ ‬،‮ ‬وانتشار الأمراض عبر الحدود‮ ‬،‮ ‬أقرب للظواهر التاريخية منها للظواهر الجديدة‮. ‬أما إلى أي‮ ‬حد تؤدى العولمة عبر عملية‮ “‬الإسراع‮”‬،‮ ‬لتقويض سيادة الدولة فهو شئ‮ ‬غير واضح حتى الان‮. ‬ومن المهم أيضا أن نلاحظ أن العولمة ليست في‮ ‬حد ذاتها‮ “‬جيدة‮” ‬ولا بطبيعتها‮ “‬سيئة‮”. . ‬ونتيجة لذلك‮ ‬،‮ ‬فإن الأفراد والجهات الراغبة في‮ ‬تعزيز سياسات أكثر ديمقراطية على جميع المستويات،‮ ‬من المستوى المحلي‮ ‬إلى المستوى القومي‮ ‬إلى العالمي‮ ‬،‮ ‬يجب أن‮ ‬يأخذوا بعين الاعتبار قوى العولمة‮.

التحولات الديموجرافية في‮ ‬عصر العولمة المعاصرة

على الرغم من تعقيد طبيعة وآثار العولمة والتي‮ ‬لا تعمل في‮ ‬اتجاه واحد‮ ‬،‮ ‬فمن الواضح أن العولمة المعاصرة ساهمت في‮ ‬إحداث تغييرات هامة في‮ ‬العالم في‮ ‬عدد من الاتجاهات السياسية‮ . ‬وأدت العديد من التوجهات المتزامنة لتحولات في‮ ‬الآليات الكامنة وراء البنى التقليدية في‮ ‬الحكم‮ ‬،‮ ‬وتزداد حدة هذه التأثيرا بسبب النمو الهائل وغير المسبوق في تعداد السكان في‮ ‬العالم‮. ‬وكما أن عدد سكان الأرض قد تجاوز‮ ‬السبعة مليارات،‮ ‬فإن الآثار المترتبة على هذا النمو السكاني‮ ‬اصبحت موثقة فموارد كوكب الارض‮ ‬اصبحت نادرة على نحو متزايد،‮ ‬العولمة ادت إلى توزيع بعض هذه الثروات في‮ ‬أنحاء متفرقة من مراكز الاقتصادات الناشئة،‮ ‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تركزت فيه الثروة بطرق دراماتيكية في مراكز أخرى‮.

‬علاوة على ذلك‮ ‬،‮ ‬فعالم العولمة وظهور التكنولوجيا الحديثة أدتا إلى مركزية المعرفة ومركزية نشرها بطرق قد تعزز أو تقلل من الرقابة الشعبية على أنظمة الحكم،‮ ‬وهو ما أثر على السلطات التقليدية للدولة‮.

ومع تزايد عدد سكان العالم الذي‮ ‬يتنافس على فرص المشاركة في‮ ‬الاقتصاد العولمي‮ ‬الجديد‮ ‬،‮ ‬وذلك باستخدام وسائل جديدة للاتصال تربط المجتمعات المحلية والوطنية والعالمية،‮ ‬أصبح‮ “‬الحضر‮” ‬هو القاعدة في‮ ‬العديد من عواصم العالم‮. ‬واليوم‮ ‬،‮ ‬يعيش أكثر من نصف السكان‮ ‬في‮ ‬المراكز الحضرية‮ ‬،رغم تباين النتائج لهذا الوضع‮.

ورغم أن المراكز الحضرية قد تؤدي‮ ‬إلى تعزيز فرص اقتصادية أكبر‮- ‬كما هو الحال في‮ ‬بعض الحالات‮- ‬فإن التركز السكاني‮ ‬في‮ ‬المراكز الحضرية‮ – ‬في‮ ‬انحاء كثيرة من العالم‮ – ‬أدى إلى مزيد من عدم المساواة وانتشار الفقر، ‬وتراجع حقوق الملكية الخاصة،_‮ ‬حيث‮ ‬يعيش القادمون الجدد في‮ ‬منازل وعلى ارض قد لا‮ ‬يملكونها‮.

هذه الأنماط المهاجرة أاتي‮ ‬مع مطالب استثنائية على الموارد الطبيعية والحكومية‮. ‬فالطلب على الطاقة وحده لا‮ ‬يمكن تحمله‮. ‬كما أن شح المياه‮ ‬يهدد بشكل متزايد سبل العيش وحياة الملايين‮. ‬وردا على الندرة في‮ ‬المياه،‮ ‬فإن الشركات المتعددة الجنسيات أصبحت تقتصد ليس فقط فى وسائل الإنتاج،‮ ‬لكن في‮ ‬الموارد الطبيعية التي‮ ‬يعتمد عليها الناس في العالم‮.

‬ومن المتوقع أن‮ ‬يواجه أكثر من ثلثي‮ ‬سكان العالم على مدى السنوات الخمس عشرة المقبلة نقصاً‮ ‬كبيراً‮ ‬في المياه،‮ ‬لكن المنظمات الدولية عقدت اتفاقات مع شركات في‮ ‬جميع أنحاء العالم للسيطرة على تدفق وتوافر المياه من خلال الخصخصة‮. ‬وهكذا أصبحت المياه‮ ” ‬سلعه‮” ‬كما هو الحال مع النفط،‮ ‬فقد أصبحت المياه في‮ ‬المقدمة من مواقع المنافسة الموارد الطبيعية الحيوية‮. ‬في‮ ‬هذا العالم الذي‮ ‬تحركه خصخصة الموارد‮ ‬،‮ ‬فإن الثروات تتركز في‮ ‬مراكز محدودة‮ ‬يمكنها الوصول إلى الاحتياطيات الحالية للنفط والفحم‮ ‬،‮ ‬و المياه‮ ‬،‮ ‬واستنزاف هذه الموارد‮ ‬يؤدي‮ ‬بشكل طبيعي‮ ‬إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية‮ ‬،‮ ‬والسياسية‮ ‬،‮ ‬والاقتصادية‮.

وبما أن معدل النمو السكاني‮ ‬في‮ ‬ارتفاع مستمر فإن الطلب على الموارد الحكومية‮ ‬يرتفع أيضا‮. ‬وتقع الكثير من المدن في‮ ‬براثن الصراع من أجل إيجاد سبل لاستيعاب السكان الجدد والمتطلبات الناجمة عن خدمات الصرف الصحي‮ ‬، وتقديم الرعاية الصحية‮ .. ‬وإنفاذ القانون‮ ‬،‮ ‬والتعليم‮ ‬،‮ ‬والخدمات الحكومية الأخرى بينما تصارع المناطق الريفية من أجل الحفاظ على الخدمات الأساسية والفرص الاقتصادية لسكان‮ ‬يتناقص عددهم بسرعة‮. ‬وإذا ما أخذنا الوضعين معا‮ ‬،‮ ‬فإن التحولات الديموجرافية تخلق ضغوطا جديدة على الحكومات القائمة‮ ‬،‮ ‬وصراعات داخل الدول وفيما بينها،‮ ‬وهو ما‮ ‬يعرض حياة الملايين من البشر للخطر‮.

‬هذه الضغوط،‮ ‬غالبا من قبل الدولة‮ ‬،‮ ‬ولكن بسبب قرارات المنظمات الدولية أو أعمال شركات لا تنضوى تحت مظلة الشفافية أو المساءلة في‮ ‬أي‮ ‬من الحدود الإقليمية‮.


إن تراجع المساءلة والشفافية في‮ ‬الحكم على حركة الناس واستخدام الموارد الطبيعية هي‮ ‬في‮ ‬صراع مباشر مع الحركة المتزايدة نحو مزيد من المشاركة الشعبية في‮ ‬الحياة المدنية بسبب فرص الوصول المتاحة للتكنولوجيا‮. ‬

فقد أصبحت الأفكار والمعلومات أكثر توافرا في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬توسعت فيه فرص الحصول على تكنولوجيا الاتصالات،‮ ‬مثلما عزز المال والخبرة العلاقات الاقتصادية الدولية وسمح للشركات المتعددة الجنسيات بالتوسع على نطاق لم‮ ‬يكن من الممكن أن نتخيله في‮ ‬تاريخ البشرية‮. ‬إن العلاقات الاقتصادية الدولية‮ ‬،‮ ‬والسياسية،‮ ‬والاجتماعية،‮ ‬والإعلامية ليست شيئا جديدا‮ ‬،‮ ‬ولكن السرعة والآلية التي‮ ‬يمكن من خلالها تطوير هذه العلاقات لم‮ ‬يسبق لها مثيل‮. ‬إن زيادة فرص الحصول على تكنولوجيا الاتصالات بشكل كبير،‮ ‬أدى إلى العولمة ليس فقط للتجارة‮ ‬،‮ ‬ولكن عولمة التفاعل البشري‮ ‬في‮ ‬كل جوانب حياتنا‮ ‬،‮ ‬وبسرعة البرق وبأسعار رخيصة نسبيا‮.

التعددية والشعوبية في‮ ‬عصر العولمة المعاصرة‮:

خلقت التحولات السياسية والاجتماعية الناجمة عن الاندماج في‮ ‬الاقتصاد العالمي‮ ‬العديد من الأفكار والاقتصادات، والتركيز مجددا على مفاهيم التعددية‮ ‬،‮ ‬حيث مجموعة متنوعة من الأيديولوجيات والمعتقدات تتنافس على الصدارة‮. ‬لقد سمحت تكنولوجيا الاتصال بالمنافسة في‮ ‬الأسواق الاقتصادية،‮ ‬ونظم تخصيص الموارد،‮ ‬والأيديولوجيات الدينية، والأعراف الثقافية‮ ‬،‮ ‬وخلق مجموعة من الفرص الفريدة والتحديات أيضا‮. ‬فأصبحتت تكنولوجيا مع المجتمع العولمي ‬تؤثر بشكل كبير في‮ ‬المجالات‮ ‬الروحانية والفن والموسيقى‮ ‬،‮ ‬والتقاليد الطبية‮ ‬،‮ ‬والممارسات التعليمية‮ ‬، والمسائل القانونية‮.

‬فالتبادل المعلوماتي‮ ‬المستمر والفوري‮ ‬يعطي‮ ‬صوتا للمجتمعات الصغيرة مع قضايا فريدة من نوعها‮ ‬،‮ ‬فضلا عن مجموعات تجارية قوية،‮ ‬بالاضافة للنخب الثرية التي‮ ‬قد تشارك مع استثمارات كبيرة في‮ ‬الوضع الراهن بكل سهولة وعلى قدم المساواة‮. ‬ويمكن للتعددية في‮ ‬عالم معولم تمكين السكان المحرومين من إشباع احتياجاتهم الاجتماعية والسياسية جنبا إلى جنب مع الأفكار الثقافية والدينية‮. ‬كما أنها تهدد بشدة هياكل السلطة القائمة،‮ ‬سواء كانت حكومية أو متعددة الجنسيات،‮ ‬لا سيما في‮ ‬الحكومات القمعية،‮ ‬ففكرة الاعتراف واحتضان التنوع في‮ ‬وجهات النظر‮ ‬يضعف القدرة على السيطرة على المواطنين وتحد من احتمالات تغيير جذري‮.

وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬يعزز فيه الاندماج في‮ ‬الاقتصاد العالمي‮ ‬قدرة المواطنين في‮ ‬جميع أنحاء العالم،‮ ‬ويسقط الحواجز التجارية،‮ ‬فمع تدفقات رأس المال إلى الأسواق الناهضة،‮ ‬تتزايد التوقعات الثقافية والأيديولوجيات‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬حين أن الضغوط الناجمة عن التعددية تثير المشاعر الشعبوية التي‮ ‬تسمو على الهياكل الحالية للدولة‮. ‬فالشعوبية هي‮ ‬حركة تاريخية لم‮ ‬ينصفها التاريخ‮. ‬ففي‮ ‬قلب كل الحركات الشعبوية تكمن عدم الثقة في‮ ‬الحكومات وهياكل السلطة الأخرى، ‬وشعور الفرد بفقدانه الثقة بها‮. ‬ففرضية الحركات الشعبوية عموما تقوم على فكرة أن الأفراد فقدوا السيطرة على القوى التي‮ ‬تتحكم في‮ ‬ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية‮.

ربما‮ ‬يمكن القول إن الشعبوية هي‮ ‬نتيجة للإحساس بـ‮ “‬الاغتراب‮” ‬عن الواقع،‮ ‬حيث إن الاعتقاد الأكثر شيوعا هو أن القرارات الأساسية التي‮ ‬تحدد مصير الإنسان تمليها قوى وهياكل سلطة بعيدة ولا تستجيب لظروف الفرد،‮ ‬وهي‮ ‬الركيزه الأساسية للاأيديولوجيا الشعبوية‮. ‬وكما كتب توماس ليهان‮ ‬, “فإن العواقب الاجتماعية والاقتصادية للحركة متعددة الأوجه نحو الاندماج في‮ ‬الاقتصاد العالمي‮ ‬واعتماده دون تمحيص لسياسات السوق الحرة الاقتصادية سيؤدي‮ ‬لخسارة الفرد قدرته على مواجهة النظام السياسي‮ ‬والاقتصادي‮ ‬العولمي،‮ ‬وسوف‮ ‬يولد بذلك الذي‮ ‬أصبح الكثيرون‮ ‬يعتبرونه بمثابة تنظيم لحرمان الفرد القدرة على تحديد مصيره‮.

نرى هذا الشعور بالاستياء الشعبي‮ ‬في‮ ‬جميع أنحاء العالم‮. ‬فهي‮ ‬غريزة لاستعادة العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وهي‮ ‬في‮ ‬قلب الانتفاضات الشعبية التي‮ ‬تعرف باسم الربيع العربي،‮ ‬وهى موجودة أيضا في‮ ‬الولايات المتحدة‮ ‬،‮ ‬كما ‬يتجلى في‮ ‬حركة‮ “‬حفلات الشاي‮” ‬و”احتلال وول ستريت‮” ‬على طرفي‮ ‬الطيف الأيديولوجي‮ ‬الداخلي‮.

‬وبدءا من الاحتجاجات في‮ ‬أنحاء العالم ضد منظمة التجارة العالمية في‮ ‬عام‮ ‬1999 ظهرت حركة معارضة لسيطرة الشركات متعددة الجنسيات في‮ ‬السياسات العالمية الاقتصادية والتجارية‮. ‬وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬كان فيه الاقتصاد العالمي‮ ‬يعاني‮ ‬كانت أرباح الشركات مستمرة بلا هوادة،‮ ‬في‮ ‬حين كان المواطنون‮ ‬يحتجون ضد تدابير التقشف وخفض محتمل في‮ ‬البرامج الاجتماعية في‮ ‬مختلف أنحاء أوروبا خلال الأشهر القليلة الماضية‮.

وعلى الرغم من أن هذه الحركات نشأت من ظروف مختلفة تماما ولها آثار متباينة على نطاق واسع في‮ ‬كل بلد على حدا، فإن جوهر المبادئ الأساسية هو ما‮ ‬يوحد هذه الانتفاضات الشعبوية‮. ‬في‮ ‬كل حالة،‮ ‬نجد لدى الشعب مخاوف حقيقية حول قدرته على إملاء متطلباتهم الحياتية هو ما‮ ‬يقود إلى رد فعل عنيف ضد القوى الاستبدادية المسيطرة على حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية‮. ‬قد تكون هذه القوى الاستبدادية هي‮ ‬المسؤولين الحكوميين أو الشركات المتعددة الجنسيات العابرة للحدود أو المنظمات الدولية أو التنظيمات المتطرفة دينيا‮. ‬وبغض النظر عن وجود مصدر محدد للسخط ‬،‮ ‬فالناس في‮ ‬جميع أنحاء العالم قلقون بشكل متزايد من الأيادي‮ ‬الخفية التي‮ ‬تتحكم في‮ ‬حياتهم ومعيشتهم‮.

وتتفاعل الشعبوية التي‮ ‬تميز هذه الحركات مع قوى العولمة بطرق قوية‮. ‬فأسباب عدم الرضا‮ ‬غالبا ما تكون نتيجة مباشرة للتكامل العولمي،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك فرص العمل وتحريك رؤوس الأموال بطرق‮ ‬غير شفافة ومن قبل صناع قرار‮ ‬غير مسئولين،‮ ‬والتغيرات الديموجرافية التي‮ ‬تهدد الاستقرار وزيادة التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية،‮ ‬والسياسية، بالإضافة لزعزعة الاستقرار والأفكار التي‮ ‬تهدد تماسك وتجانس المجتمعات السياسية القائمة‮.

‬وتغذى مشاعر عدم الرضا،‮ ‬المتبدية في‮ ‬الاضطرابات والاحتجاجات الشعبية،‮ ‬القدرة الهائلة على التواصل بسرعة وسهولة،‮ ‬والتي‮ ‬تجمع الأشخاص المتشابهين في‮ ‬آرائهم ونقل الخبرات المشتركة حول القهر وانعدام الثقة‮ . ‬فظهور تكنولوجيا الاتصالات مكن الأفراد من تخطيط وتنفيذ الانتفاضات الشعبية بسرعة وبتكلفة زهيدة‮. ‬وتعد ثورة مصر الشعبية،‮ ‬بطبيعة الحال،‮ ‬نموذجا على ذلك‮. في‮ ‬الحالات القصوى،‮ ‬فإن الأسباب والنتائج تأتيان معا مشكلة سبل فعالة للغاية‮.

‬ففي‮ ‬ديسمبر من عام‮ ‬2010 احتج رجل تونسي‮ ‬لسيطرة الدولة على مصدر رزقه،‮ ‬وأشعل النار في‮ ‬نفسه ليعلن بذلك بدء احتجاجات واسعة النطاق‮. وبعد شهر،‮ ‬بدأت الثورة المصرية مدفوعة بانعدام الثقة الشعبية في‮ ‬نظام مبارك نتيجة لتفشي‮ ‬البطالة والفساد وخصخصة الخدمات العامة والتفاوتات الاجتماعية والاضطهاد السياسي‮. ‬ومع تمكين وسائل الإعلام الاجتماعية،‮ ‬نجحت هذه الثورة في‮ ‬إزاحة مبارك عن السلطة‮. ‬إن عولمة الأفكار تسمح بالتعاون الدولي‮ ‬بين الناس في‮ ‬وضع مماثل،‮ ‬وفي ‬مناطق جغرافية مختلفة،‮ ‬كما تعترف بالمصالح والاهتمامات المشتركة للمواطنين،‮ ‬وخلق وحدة الهدف والدافع المشترك‮. وعلى الرغم من أن كل بلد لديه مجموعة فريدة من الفرص والتحديات‮ ‬،‮ ‬فإن توجه الناس لاستعادة السيطرة ليس فقط علامة مميزة لربيع العرب‮ ‬،‮ ‬ولكنه السمة المميزة لجميع الحركات الشعبية تقريبا في‮ ‬جميع أنحاء العالم اليوم‮.


أصبح من الصعب مع مجمل هذه التغيرات والتفاعلات فيما بينها،‮ ‬تصور الحكم بالمعنى التقليدي‮. ‬فالدولة القائمة على مفاهيم الحكم،‮ ‬حيث المجتمعات محددة جغرافيا, تحكم أنفسها بعيدا عن القوى الخارجية،‮ ‬يقدم تفسيرا‮ ‬غير كاف وفهما قاصرا للقوى التي‮ ‬تشكل حياة الناس في‮ ‬العالم‮.

‬فالتكنولوجيا‮ – ‬على وجه الخصوص‮ – ‬تمكن الأفراد والشركات،‮ ‬لكنها تغير أيضا من طبيعة سيادة الدولة‮. فالابتكارات التكنولوجية تمكن الجهات‮ ‬غير الحكومية الفاعلة من التحايل على السلطات التنظيمية للدولة‮ – ‬في‮ ‬بعض الاحبان‮ – ‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تعزز فيه التكنولوجيا وسائل المراقبة الخاصة بالدولة بطرق أخرى‮.

‬وفي‮ ‬هذا الصدد، ‬فإن التكنولوجيا،‮ ‬تبدو وكانها وجه‮ “‬يانوس،‮” ‬حيث تحمل في‮ ‬طياتها‮ “‬تأثير الفيس بوك‮” ‬من ناحية،‮ ‬والمخاوف من الديكتاتورية على‮ ‬غرار ما حدث في‮ ‬عام‮ ‬1984 من ناحية أخرى‮ . وفي‮ ‬كل الاحوال،‮ ‬فإن الطريقة التقليدية التي‮ ‬تركز على نموذج الدولة التي‮ ‬هيمنت على فهمنا السياسى والدبلوماسي ‬فد اختلتف‮. ‬فتغيير المفاهيم‮ ‬،‮ ‬التجارية والاقتصادية والنفوذ الثقافي،‮ ‬وتنقل الشركات‮ (‬من بين أمور أخرى‮)يتطلب تصورا جديدا وأوسع نطاقا حول مفهوم‮ “‬الحكم‮”.

الحكمة التقليدية حول العولمة والديمقراطية‮:

إذا ما أخذنا في‮ ‬الاعتبار تقييمنا لتغيير آليات السياسة والحكم،‮ ‬فما هي‮ ‬آفاق السياسة الديمقراطية والحكم في‮ ‬عصر العولمة الحالي؟ قبل الإجابة على هذا السؤال،‮ ‬سوف‮ ‬يكون من المفيد أن أتطرق بإيجاز للحالة الراهنة للنظام العالمي، ‬وخصوصا ما لا‮ ‬يمثله‮.

‬فالتفاؤل الناجم عن الثورات الديمقراطية في‮ ‬أنحاء كثيرة من الشرق الاوسط،‮ ‬لا‮ ‬يثبت أننا نعيش في‮ “‬نهاية التاريخ‮” ‬كما اقترح فرانسيس فوكوياما في‮ ‬عام‮ ‬1992 في‮ ‬عمله‮ “‬نهاية التاريخ وآخر إنسان‮” ‬فقد وصف فوكوياما منطق التاريخ العالمي،‮ ‬والاتجاهات التي‮ ‬تؤدي‮ ‬إلى الديمقراطية الليبرالية،‮ ‬وتوقع حركة تقدمية نحو ثورة ليبرالية في‮ ‬العالم‮. ‬من ناحية،‮ ‬يبدو أن ربيع العرب‮ ‬يؤكد رؤية فوكوياما‮.

‬من ناحية أخرى‮ ‬،‮ ‬فإن الطبيعة الغير مكتملة والغير واثقة من الثورات الليبرالية في‮ ‬الشرق الأوسط توحي‮ ‬بأن الحركة الليبرالية العالمية الديمقراطية لم تأت أكلها تماما‮. ‬وسواء كان هذا للأفضل أم للأسوأ،‮ ‬فإننا لا نزال نعيش تماما في‮ ‬منتصف التاريخ‮.

ولا‮ ‬يبدو أن آليات السياسة العولمية،‮ ‬وشكل الحكم في‮ ‬المقام الأول قد تشكل عبر‮ “‬صراع الحضارات‮” ‬،‮ ‬كما اقترح صموئيل هانتنجتون‮. ‬وخلافا لتوقعات هانتنجتون التي‮ ‬انذرنا بها في‮ ‬عام‮ ‬1993، حيث سيكون‮ “‬صدام الحضارات‮” ‬هو خط الصدع الرئيسي‮ ‬لصراع عولمي‮ ‬في‮ ‬السنوات المقبلة،‮ ‬فإن الكثير من الصراعات العنيفة التي ‬شهدناها في‮ ‬العقود الأخيرة تمثل الانقسامات الأساسية داخل‮ لحضارات‮” ‬الرئيسية التي‮ ‬حددها هانتنجتون‮ ‬،‮ ‬بل وداخل بلدان معينة‮. ‬وتتميز جميع الحضارات التي‮ ‬حددها هانتنجتون بالتعددية بدلا من التجانس،‮ ‬وإهماله لهذه الحقيقة المركزية‮ ‬يقوض فائدة حجته‮.

‬ففي‮ ‬مصر وغيرها من البلدان التي‮ ‬تمر بثورات ديموقراطية،‮ ‬فإن مايجمع هذه المجموعات‮ ‬،‮ ‬وليس الهوية المشتركة الدينية أو الثقافية.وانما مدى إلتزامها بالديمقراطية،‮ ‬ففي‮ ‬مصر،‮ ‬جاء المسلمون المعتدلون والجماعات الإسلامية الأصولية والعلمانية معا للاحتجاج على الحكم الاستبدادي‮. ‬الآن،‮ ‬البعد الأساسي‮ ‬للصراع في‮ ‬مصر هو صراع بين العلمانيين والمسلمين المعتدلين ‮ ‬،‮ الأقليات الدينية‮ ‬،‮ ‬والأصوليين الإسلاميين بشأن المكان الصحيح للدين في‮ ‬نظام حكم ديمقراطي‮. ‬ باختصار،‮ ‬فإن التعددية أصبحت بعدا حاسما في السياسة في‮ ‬جميع المجتمعات التي‮ ‬لم‮ ‬يستطع هانتنجتون حسابها في‮ “‬صدام الحضارات‮”.

وخلافا لادعاءات توماس فريدمان‮ ‬،‮ ‬فنحن لا نقترب من عالم‮ “‬مسطح‮” ‬في‮ ‬أي‮ ‬وقت قريب‮. ‬فالعولمة الاقتصادية ‬فتحت أسواقا جديدة،‮ ‬وجلبت الازدهار الملحوظ،‮ ‬وتكنولوجيا الاتصالات التي‮ ‬سمحت بانخراط فكري‮ ‬ملحوظ ملحوظ فى بعض المناطق‮ . ‬ومع ذلك‮ ‬،‮ ‬فإن هذه التطورات عززت أيضا وفاقمت من التفاوتات الكبيرة في‮ ‬توزيع الثروة والخدمات للناس،‮ ‬فضلا عن إنفاذ حقوق الإنسان‮ ‬،‮ ‬والممارسات الثقافية والفرص الاقتصادية‮.

‬وعلى الرغم من أن عملية‮ “‬التسوية‮” ‬أو التسطيح قد تحدث،‮ ‬فإن الفوائد ما زالت بعيدة المنال بالنسبة للغالبية العظمى من سكان العالم‮. ‬وكما‮ ‬يكتب دي‮ ‬ـ جيـ من التواصل‮ ‬يبدأ من اللغة الأم إلى الخبرات الطبية‮ ‬،‮ ‬من الدين السائد الي‮ ‬الفكر السياسي ‬،‮ ‬من الصراع المزمن إلى الخطر البيئي‮ ‬،‮ ‬من طرق الحيانة إلى أنماط الحياة‮ ‬،‮ ‬كل ذلك‮ ‬يرتبط ارتباطا وثيقا‮. ‬مثل هذا المتغير من حيث جغرافيا‮ – ‬الفرص والقيود هو ما‮ ‬يجعل العالم المهتز‮ ‬يتعولم‮ ‬،‮ ‬والمواطنين الذين أصبحوا سكانا محليين‮ ‬يعيشون في‮ ‬عالمين مختلفين تماما‮ ‬وغير متكافئان للغاية‮”.

‬وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬نجد فيه أن فوائد العولمة قد تكون مركزية‮ ‬،‮ ‬فان الآثار الناجمة عن نظم الحكم‮ ‬قد‮ ‬يكون لها آثار تمتد لأبعد من ذلك بكثير‮.

رؤية عقدية للعولمة والحوكمة والديمقراطية

إن مستقبل النضال الإنساني‮ ‬وحقوق الإنسان والتفاعل بين الإنسان ورفاهيته‮ ‬يرتبط ارتباطا وثيقا بأساليب جديدة لمفاهيم الحكم،‮ ‬لكن الحكومات ستواصل القيام بدور حيوي‮ ‬في‮ ‬حياة مواطنيها‮. ‬وكذلك حركة رأس المال المعولم والأفكار، ودعوات المشاركة من جانب المنظمات‮ ‬غير الحكومية،‮ ‬والهيئات متعددة الجنسية الحاكمة والشركات والتحالفات بين هذه الجهات‮.

وتقليديا‮ ‬،‮ ‬تم تعريف الحكومة بوصفها وظيفة جغرافية‮. ‬غير أن الحكم هو مفهوم واسع النطاق إجرائيا‮. ‬فالحكم لا ‬يقتصر على الحكومة،‮ ‬بل هو عملية صنع قرار جماعية في‮ ‬أي‮ ‬مؤسسة عامة أو خاصة،‮ ‬ويمكن أن تتجاوز الحدود الجغرافية من خلال إعادة فهم كيف‮ ‬يتم إنشاء القواعد وتنفيذها،‮ ‬وكيف‮ ‬يتفاعل الناس مع الوحدات التنظيمية التي‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون لها أكبر الأثر في‮ ‬حياتهم اليومية،‮ ‬وكيفية محاسبة السلطات الحاكمة،‮ ‬وإمكانية تكيف هياكل صنع القرار على نموذج جديد لجغرافيا العلاقات السياسية‮.

‬وعلى الرغم من أنه كثيرا ما‮ ‬ينظر إلي‮ ‬العولمة كظاهرة اقتصادية أواجتماعية في‮ ‬المقام الأول،‮ ‬فإنها الشكل الجذري‮ ‬في‮ ‬طبيعة الحكم عبر وداخل المجتمعات‮.

‮ ‬إن التواصل الإنسانى لم‮ ‬يعد مقتصرا على وحدات محددة جغرافيا‮ (‬كالدول‮)‬،‮ ‬ولكن تحدث على نطاق عالمي‮. ‬وكما تغيرت جوانب أخرى من التفاعل البشري‮ ‬لتتكيف مع الاندماج في‮ ‬الاقتصاد العالمي،‮ ‬ فلابد أن تتغير مفاهيم الحكم أيضا‮.

فالحكم‮ ‬ينطوي‮ ‬على‮ ” ‬الإجراءات والوسائل التي‮ ‬اعتمدها المجتمع في‮ ‬تعزيز العمل الجماعي،‮ ‬وتقديم الحلول الجماعية في‮ ‬السعي‮ ‬لتحقيق أهداف مشتركة‮. ‬وبهذه الطريقة،‮ ‬فان الحكم‮ ‬يحدث على مستويات متعددة،‮ ‬وهو أكثر نموذجية‮ ‬،‮ ‬وربما أكثر دقة‮ ‬،‮ ‬أن نتحدث عن المجتمعات المحلية أو الوطنية التي‮ ‬تمكنت من وضع نظم محددة للحكم وحل مشاكل العمل الجماعي‮.

‬ومع ذلك‮ ‬،‮ ‬يمكن أن نتحدث أيضا عن‮ “‬مجتمع عولمي‮” ‬ناشئ طور نظاما لإيجاد حلول جماعية للمشاكل العولمية للحكم العولمي‮. ‬إن‮ ‬غياب المؤسسات الحكومية الرسمية‮ ‬غير الفعالة لا‮ ‬يعبر بالضرورة عن الافتقار إلى الحكم‮. ‬وبطبيعة الحال،‮ ‬فإن المؤسسات الحكومية تلعب عادة دورا بارزا في‮ ‬الحكم‮. ‬ومع ذلك‮ ‬،‮ ‬فإن مجتمعا ما‮ – ‬على المستويات المحلية والوطنية‮ – ‬أو على المستوى العولمي‮ ‬يمكنه تحقيق الحكم‮ ‬،‮ ‬كما هو محدد أعلاه‮ ‬،‮ ‬دون الحاجة إلى اعتماد قوانين رسمية تدعمها آليات الإنفاذ الحكومية‮.

وفي‮ ‬هذا السياق،‮ ‬ثمة أشكال للحكم تنطوي‮ ‬على أعمال ومساهمات لأطراف متعددة وفاعلة على مستويات عدة،‮ ‬بما فيها المنظمات الدولية،‮ ‬والدول،‮ ‬والجهات الفاعلة‮ ‬غير الحكومية‮. ‬وعلى الصعيد الدولي،تشارك مجموعة واسعة من المنظمات الدولية في‮ ‬مجال الإدارة العولمية‮. ‬وتشمل هذه المنظمات وكالات الأمم المتحدة المتخصصة وبرامجها‮ ‬، ومصارف التنمية المتعددة الأطراف‮ ‬،‮ ‬وعلى الأخص البنك الدولي‮ ‬والمنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي‮ ‬وجامعة الدول العربية‮ ‬،‮ ‬ومنظمة الدول الأمريكية‮ ‬،‮ ‬والاتحاد الأفريقي،‮ ‬بالإضافة الى الجهات الفاعلة‮ ‬غير الحكومية المساهمة بطرق هامة في‮ ‬الحكم على جميع المستويات‮. ‬

وقد ساهم عدد لا‮ ‬يحصى من الجهات الفاعلة‮ ‬غير الحكومية‮ ‬، ‬التي‮ ‬تتراوح بين المنظمات‮ ‬غير الهادفة للربح وكذلك الشركات الكبرى في‮ ‬شكل نظم الحكم‮ ‬،‮ ‬وآليات العولمة،‮ ‬وهو ما زاد من أهمية هذه الجهات الفاعلة‮ ‬غير الحكومية‮. ‬وفي‮ ‬عالم العولمة‮ ‬،‮ ‬يمكن أن تلعب الجهات‮ ‬غير الحكومية دورا هاما من خلال سياسة سد الثغرات التي‮ ‬أوجدتها العولمة،‮ ‬والديناميات التي‮ ‬تحد من قدرة الدول على تلبية الاحتياجات الضرورية،‮ ‬وتعبئة القواعد العالمية‮ ‬،‮ ‬والموارد‮ ‬،‮ ‬والسياسات في‮ ‬جميع أنحاء العالم‮.

إن التطور المستمر وتعزيز المنظمات الإقليمية والدولية،‮ ‬إلى جانب انتشار الجهات الفاعلة‮ ‬غير الحكومية تشير إلى أن نظم الحكم في‮ ‬المقام الأول المتجذرة في‮ ‬دول الإقليم أصبحت في‮ ‬مواجهة مع العولمة‮. ‬وبما أننا قلنا ذلك،‮ ‬فان ديناميات العولمة الراهنة لا تشير إلى أن الدولة الإقليمية أصبحت‮ ‬غير ذات صلة أو أن الحكومات الوطنية لا تهم أحدا‮.

‬على العكس من ذلك‮ ‬،‮ ‬ستظل الدول الأطراف هي‮ ‬الفاعلة الحاسمة‮ ‬،‮ ‬ويمكن القول إنها أهم القوى الفاعلة في‮ ‬معظم قضايا ومستويات نظم الحكم فالدول لديها شبكة مؤسسات ضخمة ومعقدة للغاية تنظم أو تتحكم في‮ ‬العديد من الموارد البشرية والمالية على حد سواء‮ ‬،‮ ‬ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار تأثيرها في‮ ‬أي‮ ‬تحليل لإمكانية الحكم الديمقراطي‮ ‬في عالمنا المعولم‮.

أما التركيز على الحكم بدلا من الحكومات فإنه‮ ‬يطمس الفروق بين الدول والمنظمات الدولية،‮ ‬والجهات الفاعلة‮ ‬غير الحكومية‮ (‬وكلاهما‮ ‬غير ربحية وغير هادفة للربح‮)‬،‮ ‬وهذه الجهات تتعاون في‮ ‬كثير من الأحيان في‮ ‬البحث عن حلول جماعية للمشاكل المشتركة‮.

‬إن شراكات القطاعين العام والخاص والتي‮ ‬تنطوي‮ ‬على شراكات رسمية بين الحكومات والقطاع الخاص الرامية إلى تحقيق أهداف مشتركة أو متداخلة،‮ ‬أصبحت مألوفة بشكل متزايد في‮ ‬الآليات التي‮ ‬تحكم كرد فعل لمشاكل اجتماعية كبيرة‮. ‬على سبيل المثال‮ ‬،‮ ‬تعادل القوة الشرائية‮ ‬يلعب دورا متزايد الأهمية في‮ ‬مجال الصحة العالمية‮. ‬فالمنظمات الدولية والدول والجهات الفاعلة‮ ‬غير الحكومية لا تملك الموارد والقدرات‮ ‬،‮ ‬أو إرادة حل المشاكل العالمية الملحة بشكل مستقل‮. وكما أن الشراكة بين القطاعين العام والخاص توفر وسيلة للعلاقات اونية بين الحكومات الحالية للدولة،‮ ‬وربحية شركات القطاع الخاص في‮ ‬عملية صنع القرارات السياسية،‮ ‬فإن المفاهيم القائمة على المساءلة والشفافية والتنظيم، يجب بالمثل أن تتوسع لأبعد من المفاهيم التقليدية للحكومة لتتبني‮ ‬مفهوم الحكم كمفهوم أوسع وأكثر شمولية‮.

لذا فإن دعوة الكيانات الخاصة مع المركز لتعاون استباقي‮ ‬من أجل المشاركة في‮ ‬الحكم, يجب أن تعترف بأن هذه الكيانات نادرا ما تتحمل آثار قراراتها‮. ‬فإجراءات الشركات عادة ما تكون‮ ‬غير شفافة‮ ‬،‮ ‬كما أنها ليست بدافع العمل الديمقراطي‮. ‬هي ‬بالأحرى تتم بدافع الربح‮. ‬وببساطة فإن دمج القطاعين العام والخاص،‮ ‬وبالتالي‮ ‬،‮ ‬يمكن أن تكون دعوة للفساد والتواطؤ،‮ ‬وتقويض أسس الحكم الديمقراطي‮.

فالشفافية‮ ‬يمكن أن تكون هي‮ ‬نفسها إشكالية في‮ ‬الحكم الديمقراطي،‮ ‬لا سيما في‮ ‬الساحة ذات الاطراف المتعددة،‮. حيث‮ ‬تصبح عملية صنع القرار هي‮ ‬بالضرورة نتيجة لموائمات قد تصبح شديدة الصعوبة في‮ ‬بيئة مفتوحة تنافس فيها الفصائل المختلفة من أجل الهيمنة على تحديد المفاهيم الأساسية والضغط على جداول أعمالها‮.

غالبا مايكون أفضل طريق لتحقيق تسوية ما،‮ ‬هو ما‮ ‬يتم من خلال المجموعات الصغيرة بعيدا عن الجمهور وبين أفراد‮ ‬يحملون الهم العام‮. ‬ولكن هذا هو الوضع المثالى الذي‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن نتحقق من حدوثه،‮ ‬لذا،‮ ‬فإن الشفافية‮ ‬يمكن أن تكون مفيدة في‮ ‬هذا الإطار لضمان أن هذه المجموعات الصغيرة من الأفراد لا تزال مسؤولة أمام مصالح المجتمع‮. ‬ولا‮ ‬يمكن لعملية صنع القرار في‮ ‬الشركات أن تضمن ذلك،‮ ‬ولا مؤسسات الأعمال التجارية المسؤولة عن‮ “‬دائرة‮” ‬واحدة‮ ‬تبعد قليلا عن حملة أسهمها‮. ‬

ونظرا للقوة‮ ‬غير العادية من العناصر الفاعلة في‮ ‬القطاع الخاص في‮ ‬السياسة العالمية اليوم،‮ ‬فان هذا الافتقار إلى الشفافية والمساءلة‮ ‬يعد إشكالية عميقة‮.

إن الحكم الديمقراطي،‮ ‬إذا ما كان له أن‮ ‬يتواجد بنجاح على جميع المستويات‮ ‬،‮ ‬يجب أن‮ ‬يتضمن آليات المساءلة الصارمة وتنظيم الأعمال‮. ‬فالدول فى تنافسها فيما بينها لتحقيق الفرص الاقتصادية لمواطنيها‮ ‬،‮ ‬فان‮ “‬السباق إلى القاع‮” ‬قد‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى تحرير سريع بما‮ ‬يسمح للشركات بالعمل على مصالحهم بغض النظر عن الخسائر البشرية خاصة في‮ ‬مجال التدهور البيئي،‮ ‬واستهلاك الموارد،‮ ‬وعدم المساواة الاقتصادية‮ ‬،‮ ‬وكلها قد تدفع لاحقا للصراع‮.

ن الديمقراطية في‮ ‬حوكمة الشركات،‮ ‬حيث تعتمد الشركات على الممارسات التجارية الشفافة،‮ ‬والالتزام بها طوعا،‮ ‬وعلى قواعد المساءلة والمشاركة في‮ ‬النظم التنظيمية التي‮ ‬تعطي‮ ‬الأولوية لمصالح السكان المحليين،‮ ‬وتخفيف من الدوافع السيئة لتبادل العولمة الاقتصادية والمعلومات التي‮ ‬تعزز امتيازات الأقلية،‮ ‬وتقوض فرص الفرد بالنسبة للأغلبية لتشعل الاضطرابات المدنية الشعبية‮.

فالانتقال إلى الحكم الديمقراطي‮ ‬في‮ ‬قطاع الشركات من‮ ‬غير المرجح أن‮ ‬يحدث طوعا‮. ‬ولن تهدأ سلطة رجال الأعمال،‮ ‬ولن تسمح لسيطرة الدولة على أكبر مساحة عمل ممكنه مستندة إلى الشفافية التي‮ ‬تمكن الحكومة من ضمان المساءلة ضمن حدود منطقة جغرافية معينة‮.

‬وببساطة سوف تستمر العولمة الاقتصادية، ويمكن أن نجادل حول مزايا أو عيوب هذا الأمر،‮ ‬لكن بدلا من ذلك‮ ‬،‮ ‬فإن جهود إرساء الديمقراطية في‮ ‬المستقبل‮ ‬يجب أن تشمل قطاع الأعمال جنبا إلى جنب مع الدولة الإقليمية‮.

‬إن عولمة المعلومات والأفكار،‮ ‬وقوة تكنولوجيا الاتصالات،‮ ‬يمكن أن تساعد على تحقيق أهداف الديمقراطية في‮ ‬حكومات الدول وفي‮ ‬الحكم الدولي‮ ‬ورجال الأعمال‮. ‬وكما تم اتصال المواطنين بسبب المخاوف المشتركة حول فقدان السيطرة علي‮ ‬حياتهم الخاصة،‮ ‬وتم إعطاء شكل وصوت لمشاعر شعبية في‮ ‬جميع أنحاء العالم فانهم ايضا قادرون على استخدام تكنولوجيا الاتصالات لممارسة الضغط على الهيئات المتعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية،‮ ‬والبنك الدولي،‮ ‬والاتحاد الأفريقي‮ ‬من أجل تشجيع علاقات تعاونية مع المؤسسات الخاصة التي‮ ‬تلتزم بآمال الحكم الديمقراطي‮.

وإذا كان الدافع وراء العولمة مصالح الشركات ونفوذها في‮ ‬ربط سكان الأرض،‮ ‬من أجل توسيع الأسواق وزيادة الأرباح فإن الشركات ليست الخطر الوحيد الذي‮ ‬يهدد الحكم الديمقراطي‮ ‬في‮ ‬عالم‮ ‬يتميز بالاندماج في‮ ‬الاقتصاد العالمي،‮ ‬ولا حتى دمقرطة ممارسات الشركات تعد حلا فريدا للشواغل التي‮ ‬أدت إلى المخاوف الشعبوية‮. ‬فالعولمة قد تمس جميع مجالات الخبرة البشرية‮ ‬،‮ ‬ومثلما الأيديولوجيات المتطرفة المؤيدة لقطاع الأعمال تقوض المبادئ الديمقراطية في‮ ‬بعض الحالات،‮ ‬فإن الإيديولوجيات الدينية المتطرفة تقوض المبادئ الديمقراطية في‮ ‬حالات أخرى‮.

‬وبالمثل،‮ ‬سنجد الوضع نفسه،‮ ‬حيث الليبرالية العلمانية المرتبطة بانتشار الرأسمالية‮ ‬يمكن أن تسهم في‮ ‬عمليات التحول الديمقراطي،‮ ‬ويمكن أن تساهم التقاليد الدينية في‮ ‬نشر وتعزيز الديمقراطية في‮ ‬المجتمعات التي‮ ‬تكون فيها الأغلبية الشعبية تحتضن دينا واحدا‮.

‬وحسب بنجامين باربر،‮ ‬فإن طاعة الله قد تكون بمثابة الفرامل على الحكومة الدنيوية السلطوية والفساد،‮ ‬في‮ ‬حين تكفل لشعب معتدل الإيمان أن‮ ‬يحكموا أنفسهم ديمقراطيا على طريقة الكالفينانيين في سويسرا أو بروتستانت ماساتشوستس قبل الثورة‮” .

في‮ ‬الواقع‮ ‬،‮ ‬كانت البروتستانتية الكالفينية ذات تأثير كبير على الديمقراطية في‮ ‬السياقات الأوروبية والأمريكية‬، ‬حيث تمثل المسيحية التقاليد الدينية التي‮ ‬تتبناها‮ ‬غالبية السكان في‮ ‬هذه البلدان‮. ‬وبالمثل‮ ‬،‮ ‬في‮ ‬البلدان ذات الأغلبية السكانية المسلمة،‮ ‬فإن الدين‮ ‬يجب أن‮ ‬يلعب دورا مركزيا في‮ ‬تحديد أنواع الديمقراطيات التي‮ ‬تبرز في‮ ‬هذه السياقات السياسية‮. ‬الأهم من ذلك‮ ‬،‮ ‬إنه لا‮ ‬يوجد سبب لافتراض وجود تناقض متأصل بين الإسلام والديمقراطية أكثر من وجوده بين الديمقراطية والمسيحية‮.

‬كما‮ ‬يشرح رضا أصلان‮: “‬الحقيقة هي‮ ‬أن الغالبية العظمى من المسلمين أكثر من مليار شخص في‮ ‬العالم‮ ‬يقبل بسهولة المبادئ الأساسية للديمقراطية‮… ‬وأرجع المسلمون لغة الديموقراطية الى القواعد الإسلامية،‮ ‬والاعتراف بالشورى،‮ ‬والتمثيل الشعبي،‮ ‬والإجماع والمشاركة السياسية،‮ ‬والبيعة والاقتراع العام‮. ‬إن بعض المفاهيم الديمقراطية مثل الدستورية‮ ‬،‮ ‬ومحاسبة الحكومة،‮ ‬والتعددية،‮ ‬وحقوق الإنسان مقبولة على نطاق واسع في‮ ‬جميع أنحاء العالم الإسلامى‮.

‬لكن ما لا‮ ‬يقبل بالضرورة،‮ ‬وهو مفهوم‮ ‬غربي‮ ‬واضح فهو فصل الدين والدولة،‮ ‬وأن العلمانية هي‮
‬أساس المجتمع الديمقراطي‮. ‬وفي‮ ‬الواقع‮ ‬،‮ ‬فإن الأسس العلمانية للأنظمة الفاسدة والقمعية في‮ ‬بعض دول الشرق الأوسط تظهر بوضوح أن العلمانية لا تنتج بالضرورة الديمقراطية بالنسبة للديمقراطيين الليبراليين‮ ‬،‮ ‬ويجب أن‮ ‬يكون الطموح للتأكد من أن الديمقراطيات التي‮ ‬تم إنشاؤها في‮ ‬المجتمعات الدينية توفر الحماية للأقليات الدينية وغيرها‮.

‬لذا،‮ ‬فمن الواضح أنه في‮ ‬المجتمعات حيث‮ ‬غالبية السكان‮ ‬يتمسكون بالدين فإن الدين سيشكل بالضرورة نظام الحكم إذا كان ذلك النظام هو أن تكون ديمقراطية في‮ ‬أي‮ ‬إحساس ذي‮ ‬مغزى‮.

الخاتمة‮:

هذه نبذة موجزة عن الطبيعة المتعددة للحكم في‮ ‬شكل النظام العولمي،‮ ‬والذي‮ ‬يتشكل على نحو متزايد من جانب قوى العولمة،‮ ‬ويوضح كل التحديات والفرص التي‮ ‬هي‮ ‬على المحك في‮ ‬الجهود المبذولة،‮ ‬لدفع السياسة الديمقراطية في الحقبة المعاصرة‮.

‬فمن ناحية،‮ ‬قد تكون الجهود المبذولة لدمقرطة المؤسسات على مستوى واحد من الحوكمة محددا بمدى عدم ديمقراطية المستويات الأخرى من الحكم‮. ‬وبالمثل،‮ ‬يجوز لغير القوى المناهضة للديمقراطية الناشئة في‮ ‬مستوى واحد من الحكم إحباط الجهود الرامية إلى تعزيز الديمقراطية على مستوى آخر‮.

‬من ناحية أخرى‮ ‬،‮ ‬حقيقة أن الحكم ينطوي‮ ‬على العديد من الأطراف الفاعلة،‮ ‬والمدخلات على مستويات مختلفة تشير إلى أن القوى المؤيدة للديمقراطية‮ ‬يمكن إشراك حلفاء لها من مجموعة من المواقع الجغرافية والمؤسسية‮.

‬فعلى سبيل المثال‮ ‬،‮ ‬يمكن لمنظمة‮ ‬غير حكومية مواجهة المقاومة المناهضة للديمقراطية من داخل مؤسسات الدولة من خلال السعى إلى الالتفاف على الدولة من خلال تطوير الموارد والنفوذ الخارجي‮ ‬من الدول الأخرى،‮ ‬والمنظمات الدولية‮ ‬،‮ ‬أو‮ ‬غيرها حتى الجهات الفاعلة‮ ‬غير الحكومية‮. ومع ذلك‮ ‬،‮ ‬ومن أجل الحفاظ على،‮ ‬وتعزيز ـ المؤسسات ـ الديمقراطية‮ ‬يتطلب منا الأمر إعادة النظر في‮ ‬الأهداف الأساسية للحكم‮ ‬،‮ ‬ليس بوصفها وظيفة من الدول الإقليمية،‮ ‬لكن باعتبارها القيم العليا جميع المساعي‮ ‬البشرية التي تشمل المجالين المحلي‮ ‬والإقليمي‮ ‬والوطني‮ ‬والعالمي،‮ ‬وكرؤية واقعية لإحلال الديمقراطية‮ ‬يجب أن تتضمن مفاهيم العدالة والمساواة‮ ‬،‮ ‬والمساءلة‮ ‬،‮ ‬والرفاه الجماعي،‮ ‬ليس فقط على المستوى الاجتماعي‮ ‬والسياسي‮ ‬،‮ ‬بل أيضا في ‬أعمالنا‮ .

قسم العلوم السياسية‮ ‬جامعة دراك‮ ‬ـ كندا-

آليات الديمقراطية في عصر عولمة الحكم – مقال قانوني فريد