الإنتداب في قانون الشغل – القانون التونسي

الإنتداب في قانون الشغل

الاستاذ انيس بن نصر

● لاغرابة إذ نسمع المفكر الأمريكي (VICHINSKY ( A. يقول: “أية حرية يتمتع بها أمريكي عاطل عن العمل؟”، فأساس الحريات وجود الشغل للعامل لأن “لا حرية ولا كرامة للعامل إن لم يكن له شغل”.[1]

المشرع التونسي من جهته اقر حق الفرد في الحصول على عمل وكرسه حقا من حقوق الإنسان،[2] إلا انه حافظ على مبدأ حرية العمل الواقع إقراره بالاتفاقية الدولية عدد 105 لسنة 1957[3] ومنع العمل الإجباري، حيث يرجع الفضل في ظهور مبدأ حرية العمل إلى تعاليم الثورة الفرنسية التي نادت بالحرية والمساواة في العمل[4].

وتمثل حرية العمل بالنسبة للأجير والمؤجر على حد السواء خاصية قانون الشغل، فالمؤجر حر في تشغيل الأجير الذي يريد والأجير حر في العمل لدى المؤجر الذي يريد، فكل منهما حر في عدم التعاقد.[5] وهو ما جعل من الإطار القانوني للتشغيل يقوم على مبدأ حرية التعاقد وحرية العمل التي يري بعض الفقهاء أنها في تطور واضح. [6]

فالمقصود بحرية التشغيل حسب الأستاذ Cornu “هي الحرية المعترف بها لكل مؤجر في انتداب من يروق له”،[7] وقد أحال في تعريفه للتشغيل إلى مصطلح التوظيف والاستخدام والتعيين، وهو ما يدل على اتساع مفهوم التشغيل باعتبار أنه يبدأ منذ اتخاذ قرار اللجوء إلى الانتداب وينتهي بتعين العامل بالمؤسسة بموجب عقد عمل.

“فالتشغيل ليس إلا قبول المؤجر المستقبلي لطلب الأجير للعمل”،[8] لكن واقعيا المبادرة بالتشغيل تكون غالبا من طرف المؤجر عن طريق عرض شغل، وإبرام عقد الشغل لا يتم إلا بعد فترة زمنية يتم خلالها تقييم الأشخاص المرشحين للعمل، فهذا التقييم هو ما يسمي بالانتداب.

►- تعريف الانتداب :

الانتداب حسب الأستاذ Cornu عبارة عن “عملية تهدف إلى تعيين أفراد في جهاز ما”،[9] “وهذه العملية تتم بكثير من التروي لما لها من تأثير على مستقبل العلاقة الشغلية”.[10] ففي ظل غياب تعريف تشريعي واضح في قانون الشغل عرف الفقه الانتداب كونه “مجموعة من التصرفات التقديرية والتحضيرية لإبرام عقد الشغل”.[11]

فالانتداب يعتبر ركيزة أساسية في تكوين العلاقة الشغلية بمدلوله الاقتصادي كونه قرار يمكن أن يعكس حاجة المؤسسة إلى اليد العاملة.[12]

ومن هذه التعاريف نستنتج أن الانتداب لا يقتصر فقط على تعيين العامل بالمؤسسة وإنما يشمل العديد من المراحل الأخرى، فقد اعتمد الأستاذ Cornuعلى عبارة “عملية” والتي تتطلب غالبا المرور بعديد المراحل التي تمهد لها والتي تقتضي ظهور حاجة المؤسسة للانتداب ثم تحليل هذه الحاجة، فتحديد العمل الذي سيقوم به العامل وتحديد العقد الذي سيتم الانتداب على أساسه، ثم القيام بعملية الفرز والاختيار ثم القيام بالاختبارات والمقابلات اللازمة ليتم في الأخير أخذ قرار التعيين، ويتأكد ذالك من خلال القول إن الانتداب هو”جملة التصرفات التقديرية السابقة لعقد العمل.”[13]

فالانتداب في قانون الشغل يختلف عن الانتداب في الوظيفة العمومية[14]، الذي خصص له الباب الثاني للنظام الأساسي العام لأعوان الوظيفة العمومية وتم تحديد الشروط التي يجب أن تتوفر في المترشح[15] كالجنسية التونسية والمؤهلات الذهنية والتمتع بالحقوق المدنية وتسوية الوضعية العسكرية، كما تعتبر المناظرة الطريقة الأساسية لانتداب أعوان الوظيفة العمومية.[16]

فالانتداب في قانون الشغل يتمثل في جملة من العمليات اللاحقة لعرض العمل والسابقة للعمل، وتندرج هذه العملية في إطار فترة ما قبل عقد الشغل[17] التي تستوعب جميع الأحداث والتصرفات التي تسبق إبرام عقد الشغل، وتستمد هذه الفترة أهميتها من العناصر التي تقوم عليها ومن أهمها عملية الانتداب التي تكمن أهميتها من خلال مختلف الأوجه التي يعرفها[18] :

فيمكن لقرار الانتداب أن يكون اقتصاديا طالما أنه يعكس حاجة المؤسسة لليد العاملة،[19] كما يمكن أن يكون القرار مهنيا يتطلب اجتماع إرادة طرفي العقد، فالأجير مطالب ببذل كل جهده حتى يتسنى له الاندماج في المؤسسة، أما صاحب المؤسسة فإنه

مطالب بتقديم المساعدة اللازمة له، كذالك يمكن أن يكون له طبيعة قانونية وذلك بتأكد الحاجة إلى تدخل المشرع في هذه الفترة السابقة للتشغيل وذلك بالنسبة لمختلف مراحلها خصوصا بعد تفاقم النتائج السلبية التي أفرزتها البطالة.

ومن هنا يمكن القول إن الانتداب في قانون الشغل مرحلة حساسة بالنسبة للمؤجر، فبمجرد إبرامه لعقد الشغل سيكون ملتزما تجاه الأجير لمدة طويلة، لذلك على المؤجر انتقاء الأجير المناسب في المكان المناسب لتحقيق أحسن النتائج، وانه في صورة التقييم الخاطئ لقدرات الأجير سيكون المؤجر أمام حتمية الاستغناء عنه وهذا الاستغناء ستعقبه آثر مالية وكذلك اجتماعية هامة، فلا مجال أمام المؤجر للغلط في هذه المرحلة.[20]

◄- تعريف قانون الشغل:

رغم أن مبدأ سلطان الإرادة في مجال العمل يقتضي أن يتمتع كل شخص بحرية العمل، فإن هذه الحرية قد أدت إلى اختلال سوق الشغل لمصلحة أصحاب العمل ، مما عكس آثارا بالغة السوء على الطبقة العاملة وأن مثل هذا الاختلال كان نتيجة نشأة “قانون للعمل” يحمى الحد الأدنى من حقوق الطبقة العاملة،[21] ” فظهور وإقرار قانون للعمل يمثل إحدى الخصائص الأساسية للنظام الاجتماعي الحديث.”[22]

وقد اختلفت التسميات من القانون الصناعي والتشريع العمالي إلى القانون الاجتماعي، “وحافظت بلادنا على تسمية قانون الشغل لارتباط أحكامه بالحركة النقابية واستعمال النقابين لمصطلح الطبقة الشغلية واعتبار أن هذا القانون هو حصيلة كفاحهم من اجل حماية العمال وتحسين ظروف عملهم وعيشهم، وهو ما يميز قانون الشغل عن بقية القوانين واستقلاله عنها.”[23]

فالمعاملة التي كان يعامل بها العمال كانت وراء نشأة قانون الشغل لمحاولة انتشالهم من الاستبداد وتحريرهم من معني السلعة والاستغلال باعتبارهم عنصر من تكاليف الإنتاج الذي ينبغي تحديدها بأبخس الأثمان، وذلك من خلال إحاطته بحماية في مختلف مراحل العلاقة الشغلية خاصة منها مرحلة الانتداب وذلك للحد من إمكانية تعسف المؤجر في هذه المرحلة،[24] رغم أن بعض الفقهاء يعتبرون أن “عقد الشغل هو الذي يكسب الفرد صفة الأجير”[25] وبالتالي يتمتع بحماية قانون الشغل.[26]

إلا انه نظرا لعديد للتطورات الاقتصادية والاجتماعية على سوق الشغل أصبحت قواعد قانون الشغل تصبغ بنوع من المرونة طالما طالب بها المؤجرون في تنظيم علاقات العمل سواء الناشئة عن عقد العمل الفردي وعقد العمل الجماعي[27] وخاصة مرحلة الانتداب، حيث يتضح أن “هاجس قانون الشغل يتمثل أساسا في التوفيق بين الحماية الاجتماعية لفائدة العمال عبر ضمان مصالحهم المادية وسلامتهم الجسدية واستقرارهم المهني، من جهة،

ومن جهة أخرى الاستجابة للمقتضيات الاقتصادية والفنية للمؤسسة عبر ملائمة شروط العمل مع حاجياتها المتغيرة بهدف تجنب النزاعات بين العمال والمؤجرين قصد توفير المناخ الاجتماعي السليم لنمو المؤسسة وتطور العلاقات المهنية.”[28]

♥- أهمية الموضوع:

تكتسي دراسة الانتداب في قانون الشغل أهمية بالغة ضمن جملة البحوث المتعلقة بقانون الشغل على اعتبار أن الجوانب القانونية للانتداب لم تأخذ حيز هام من الدراسة، فالانتداب هو قرار ذو طابع اقتصادي ومهني لكنه كذلك ذو طابع قانوني، وهي مسألة تهم الحريات العامة، حقوق الأفراد، قانون الالتزامات وقانون الشغل[29]، لكنها نادرا ما كانت موضوع دراسة بصفة متداولة حيث يفتقر التشريع الشغلي التونسي لقواعد عامة تحكم عملية الانتداب باستثناء بعض النصوص المتفرقة في مجلة الشغل[30]

وبعض الاتفاقيات المشتركة[31] والدولية[32]، لكن هذه النصوص المتفرقة لم تساهم في وضع سياسة عامة للتشغيل، وهو ما أدي إلى الإقرار بحرية المؤجر في الانتداب باعتباره الطرف الأقوى في العلاقة التعاقدية، في حين أن “حرية الأجير في التعاقد لم تكن إلا حرية “وهمية”، وخوفا من شبح البطالة يفقد الأجير حريته في اختيار العمل واختيار المؤجر، وبالتالي يقبل بأي عمل يعرض عليه.”[33]

ويعتبر بعض الفقهاء أن “ضعف دراسة التكريس القانوني لمسألة التشغيل يرجع إلى موضوع قانون الشغل ذاته الذي يبدأ تطبيق قواعده من اللحظة التي يبرم فيها العقد إلى اللحظة التي ينقضي فيها”،[34] وبالتالي تبقي عملية الانتداب خاضعة لقانون العرض والطلب التي تضبطها تطور سوق الشغل وبالتالي لحرية المؤجر في الانتداب، خلافا للمشرع الفرنسي الذي أورد في مجلة الشغل جملة من الأحكام الخاصة بالانتداب والحريات الفردية من خلال قانون 31 ديسمبر1992.[35]

وتبرز أهمية هذه الدراسة كذلك في تجاوز الإطار الضيق للنصوص واعتماد دراسة نقدية واقعية للانتداب في قانون الشغل تساهم في الكشف عن حقيقة توجهات قانون الشغل والإجابة عن العديد من الإشكاليات النظرية والتطبيقية.

حيث تفترض دراسة الانتداب في قانون الشغل في ظل غياب تنظيم محكم للانتداب تفحص تطابق أساليب وتقنيات الانتداب التي تفرضها حرية الانتداب مع روح قانون الشغل وتوجهه الحمائي الذي يقتضي تكريس جملة من المبادئ الحمائية أهمها مبدأ المساواة ومنع الميز في الانتداب.

فحرية المؤجر تتجلى من خلال إمكانية اللجوء من عدمها إلى الانتداب، من خلال حرية الاختيار بين العقد المحدد المدة والعقد غير المحدد المدة،[36] كذالك حرية اللجوء إلى الانتداب مباشرة أو عن طريق مكاتب التشغيل[37] دون أن يكون ملزما بتشغيل ما يقترح عليه من يد عاملة، “فتاريخيا كان السيد يتمتع بحرية مطلقة في تشغيل اليد العاملة التي لا تتمتع بأية حرية أو حماية “[38].

كما تجدر الإشارة كذلك أنه في ظل مجتمع يعتمد على مبادئ النظام الاقتصادي الحر لا يمكن توفير فرص عمل إلا بمبادرة من أصحاب المؤسسات والمشاريع الخاصة ولا يمكن في أي حال من الأحوال إجبارهم على خلق فرص عمل أو الحفاظ على الوظائف الموجودة، ذلك أن القاعدة تقتضي تمتع أصحاب المؤسسات بحرية انتداب اليد العاملة من حيث الكم ذلك أنهم أحرار في إقرار عدد العاملين في المؤسسة، أو من حيث الكيف فهم أحرار في اختيار من يروق لهم من المرشحين وعلى أساس العقد الذي يختارونه وذلك باعتبار المؤجر “الحكم الوحيد” في المؤسسة والمتحمل لمخاطرها الاقتصادية.

فسياسة التشغيل تمثل ” أولوية الأولويات” بالنسبة للدولة، لكن “عولمة الاقتصاد والتطورات التكلونوجية والاقتصادية فرضت إعادة التفكير بعمق في مشاكل العمل، التشغيل وجميع النشاطات البشرية”،[39] ففي نطاق ما يسمي ب”عولمة الاقتصاد” ظهرت نتيجتين أساسيتين[40] :

تتمثل الأولى في تقلص الدور التوجيهي للدولة التي تخلت عن احتكارها لتحديد شروط العمل مقابل تنامي الإرادة الخاصة للأفراد والمنظمات المهنية، أما الثانية فتتمثل في ضرورة كساء تشريع الشغل بالمرونة اللازمة التي أصبحت مطلبا ملحا في قانون الشغل،[41] وذلك من خلال أقلمة قواعد قانون الشغل مع التطورات الاقتصادية والتقنية، مع المحافظة على المظاهر الحمائية في قانون الشغل.

فالمرونة في الانتداب تفترض إعطاء المؤجر الحرية في الانتداب، وإن استعمال عبارة “الحرية” يقترن بالضرورة بعبارة “السلطة” وانه كلما منحت السلطة إلى شخص إلا ومارسها بكل حرية يمكن أن تؤدى إلى التعسف في الاستعمال، من هنا يمكن للمؤجر أن يستغل هذه الحرية في الانتداب من خلال ما تمنحه له من سلطة في التسيير ويمكن أن يتعسف في استعمالها ويمكن أن يمس من حقوق الأجير الخاصة.[42]

كما أن انفراد المؤجر بتحديد محتوى العقد قد يؤدي إلى إمكانية إدراجه بنود يمكن تمس بحقوق الأجراء، فالغاية تبرر الوسيلة بالنسبة للمؤجر.

أضف لذلك ظهور وسائل جديدة في الاختبار وفي جمع المعلومات الخاصة بالمترشح[43] خصوصا بعد دخول الإعلامية والانترنات مجال الانتداب وما يمكن أن ينتج عنها من إمكانية مساسها بالحياة الخاصة بالأجير[44] وبالتالي يمكن لقانون الشغل أن يمثل عائق أمام ممارسة المؤجر لهذه الحرية من خلال نزعته الحمائية تجاه لأجراء.[45]

هكذا يكون الانتداب في ظل غياب إطار تشريعي محكم بين “مطرقة” حرية المؤجر و”سندان” النزعة الحمائية لقانون الشغل، ولضمان أن يخضع الانتداب لاعتبارات تهم قدرة العامل ومؤهلاته الفكرية والبدنية فقط كان لا بد من التساؤل:

كيف وفق قانون الشغل بين حرية المؤجر في الانتداب، حرية طالما طالب بها المؤجرون، وبين ضرورة توفير حماية للأجير في الانتداب، حماية تقتضيها نزعته الحمائية ؟ وهل وفق في ذلك؟

للإجابة عن هذا التساؤل يمكن القول أنه للتوفيق بين نزعته الحمائية وحرية الانتداب، حاول قانون الشغل الموازنة بين ثنائية “الحماية” و”الحرية”. فمن جهة، تتجلى حرية الانتداب خاصة في حرية المؤجر في اختيار الأجراء للعمل بالمؤسسة، ودعم قانون الشغل هذه الحرية بالتنويع من أصناف عقود الشغل ومراجعة نظام التأجير قصد ربطه بالكفاءات الفردية للعمال وإنتاجيتهم، “حيث أن مطالبة الأعراف بإدخال المرونة اللازمة على عمل المؤسسات والتصرف في اليد العاملة في هذه الفترة أدي إلى دعم حرية المؤجر في الانتداب بتبسيط إجراءاتها وتخفيف الرقابة عليها”،[46] وأنه في تقيد هذه الحرية بشروط وإجراءات ورقابة وعقوبات يجعل المؤجر ينفر من عملية الانتداب رغم شعور الوظائف وتفشي ظاهرة البطالة وما ينتج عنها من آثار سلبية، حيث تعتبر حرية المؤجر في الانتداب هي المبدأ.

ومن جهة أخرى، وفاءا لنشاته ونزعته الحمائية تجاه للأجراء باعتبارهم الطرف الضعيف في العلاقة الشغلية ، ولضمان أن تتم عملية الانتداب على أساس اعتبارات تهم فقط قدرات وكفاءات الأجير، وباعتبار أن استعمال عبارة “الحرية” عادة ما يقترن بعبارة “السلطة” وأنه كلما منحت السلطة إلى شخص إلا ومارسها بكل حرية مما يمكن لهذه السلطة أن تتسم بنوع من التعسف في الاستعمال، فقد سعى قانون الشغل إلى توفير نوع من الحماية للأجير أمام إمكانية تعسف المؤجر في الانتداب والحد من حريته في هذا المجال من خلال حماية الأجير من الأخطار التي تلحقه من جراء ذلك، وهو نفس التوجه الذي اتخذه المشرع الفرنسي في المادة الشغلية لكن قواعده كانت أكثر صرامة وأكثر عددا وأكثر تنظيما حيث كانت نتاجا لتقرير قام بإعداده وتحضيره الأستاذ LYON-CEAN (G.) أدمجت جل نصوصه في مجلة الشغل.[47]

فكان من الضروري حماية حقوق الأجراء كالحق في العمل والحق المساواة مع بقية المترشحين التي أقرتها العديد من القواعد في مجلة الشغل أو الاتفاقيات المشتركة أو الاتفاقيات الدولية أو الدستور لا لشيء إلا لاتصالها بكرامته، كذالك كان لا بد من تنظيم انتداب البعض من فئات طالبي الشغل في بعض الأعمال للحد من حرية المؤجر في الانتداب كالأطفال والأجانب.

ومن هنا يكون تحقيق التوازن بين معطيات المرونة عند الانتداب وبين توفير الحماية للأجراء خلال هذه المرحلة بمثابة المعادلة الصعبة التي تسعي التوجهات الحديثة لقانون الشغل لإنجاحها.[48]

لذلك سنتولى دراسة حرية المؤجر في الانتداب في (جزء أول)، من خلال الإقرار بحرية المؤجر في الانتداب في ( الفصل الأول ) وتدعيم قانون الشغل لهذه الحرية في ( الفصل الثاني ).

ثم نتطرق إلى دراسة حماية الأجير في الانتداب ( جزء ثان ) من خلال محاولة قانون الشغل حماية الأجير من تعسف المؤجر في الانتداب ( الفصل الأول ) وسعيه إلى تأطير حرية المؤجر في الانتداب ( الفصل الثاني ).

الجزء الأول: حرية المؤجر في الانتداب.

مما لاشك فيه أن قرار الانتداب والتشغيل هو من أحد أهم تجليات سلطة التسيير التي يتمتع بها المؤجر في قانون الشغل[49]، لكن تدخل المشرع التونسي في هذا المجال يتسم باحتشام شديد، على خلاف القانون الفرنسي[50] إذ لا توجد قواعد خاصة بإجراءات الانتداب.

فالمبدأ السائد في قانون الشغل هو حرية المؤجر في الانتداب، فالمؤجر يسعي من خلال ممارسة هذه الحرية إلى إيجاد “الجنة القانونية الضائعة”، على حد تعبير احد الفقهاء[51]، من خلال تعيين الأجير المناسب في المكان المناسب وبالشروط التي يحددها مسبقا.

فالقواعد المنظمة للانتداب على قلتها تتسم بالمرونة وتهدف إلى التشجيع على الانتداب وتسهيله للطرفين وإن لنجاعة الانتداب تأثير مباشر على مصلحة المؤسسة وبصفة غير مباشرة على مصلحة الدولة باعتبارها الساهر على التنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ذلك إن حرية الانتداب من شانها أن تساهم في الحد من نسبة البطالة وإنجاح سياسة الدولة في التشغيل، لذلك سندرس الإقرار بحرية المؤجر في الانتداب (الفصل الأول) من ثم كيف دعم قانون الشغل هذه الحرية ( الفصل الثاني ).

الفصل الأول: الإقرار بحرية المؤجر في الانتداب:

إن الدارس لتدخل المشرع التونسي في مجال الانتداب يلاحظ أنه يتسم بالاحتشام إذ لا توجد قواعد خاصة بإجراءات الانتداب عدى البعض من القواعد العامة المضمنة بمجلة الشغل[52] والاتفاقية الإطارية المشتركة[53] وبعض الاتفاقيات الدولية المصادق عليها[54].

حيث أن تنظيم عملية الانتداب لا يعني الحد من حرية الانتداب بل يهدف إلى إضفاء نوع من الشفافية على مرحلة حساسة من مراحل العلاقة الشغلية لذلك فإن هذه القواعد تتسم عادة بالمرونة وتهدف بالأساس إلى التشجيع على الانتداب وتسهيله بالنسبة للطرفين، أجير ومؤجر، وبالتالي كان الإقرار بحرية المؤجر في الانتداب الوسيلة الأنجع لتحقيق المصلحة الدولة العامة في الحد من البطالة وتحقيق المصلحة الخاصة وهي مصلحة المؤسسة.

وفي ظل غياب إطار قانوني خاص ينظم الانتداب سنبحث عن أسس حرية المؤجر الانتداب (المبحث الأول) ثم التطرق إلى مظاهر هذه الحرية (المبحث الثاني).

المبحث الأول: أسس حرية المؤجر في للانتداب:

إن مسألة تأسيس حرية المؤجر في الانتداب لا تخلو من أهمية باعتبار أن الأساس هو الذي يحدد نطاق ومجال هذه الحرية، فحرية المؤجر في الانتداب ليست حرية مطلقة وإنما هي حرية موسعة مقارنة بحرية الأجير لأن حرية المؤجر في الانتداب ترتكز على حقه في ملكية المؤسسة كوحدة اقتصادية ( الفقرة الأولي ) وملكيته هذه تجعله في حل من كل ضغط قد يمارس عليه ويجبره على التعاقد، كما يستند المؤجر في ممارسته لحريته في الانتداب على مفهوم مصلحة المؤسسة ( الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولي: حق ملكية المؤجر:

“في العصور البدائية كانت الملكية المشاعة لوسائل الإنتاج أساس علاقات الإنتاج وكان الرجل البدائي يجهل الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وبتطور وسائل الإنتاج وظهور تقسيم العمل والملكية الخاصة سيطر البعض على الملكية المشاعة واستحوذ على جزء من الإنتاج الذي يتجاوز حاجيات الأفراد ونشأة العبودية وخضع العبد لسلطة السيد”،[55] وبعد الثورة الصناعية تميزت علاقات العمل بعدة مبادئ أهمها اعتبار حق الملكية حقا طبيعيا و مقدسا.[56]

ويعتبر بعض الفقهاء[57] “أن قانون الشغل يتحرك داخل بيئة قانونية تتشكل بالأساس من مفاهيم ومؤسسات مدنية من قبيل العقد وحرية الصناعة والتجارة وحق الملكية” مما يؤكد تفاعل قانون الشغل مع هذه المفاهيم المدنية، وفي إطار هذا التفاعل يأتي ما رتبه قانون الشغل للمؤجر من صلاحيات استنادا إلى حقه في ملكية وسائل الإنتاج[58]

خاصة في مرحلة الانتداب من خلال تكريس السلطة المطلقة لحق الملكية في الانتداب ( أ ) والخروج بهذا الحق من الصبغة العينية المسلطة على الأشياء إلى حق يسلط على الأشياء والأشخاص في قانون الشغل خاصة في مرحلة الانتداب (ب)

أ- تكريس السلطة المطلقة في الانتداب:

حق الملكية في مفهومه الكلاسيكي “هو الحق الذي يخول صاحب الشيء وحده استعماله واستغلاه والتفويت فيه”،[59] أما حق ملكية المؤجر فانه يتسلط على المؤسسة بما هي” تجمع بشرى وتراكم لرأس المال في آن واحد”،[60] حيث خرج قانون الشغل من المضمون الكلاسيكي لصلاحيات الملكية ورتب للمؤجر بصفته مالك للمؤسسة مجموعة صلاحيات تتسلط على المؤسسة بعنصريها المالي والبشري أهمها الحرية في اللجوء وممارسة الانتداب.

فيعتبر حق ملكية المؤجر مرجع كل صلاحيات التسيير والتصرف، حيث اسند قانون الشغل للمؤجر سلطة تسيير العمل ووصفها بأنها سلطة إدارة ومراقبة[61] بما أن الفهم الصحيح لسلطة التسيير يمر حتما عبر الفهم الدقيق لحق الملكية.

وتتجلى هذه السلطة أساسا في ما يتميع به المؤجر من حرية في الانتداب وفي توزيع مراكز العمل وتحديد الصنف المهني لكل أجير، وذلك تطبيقا لمقولة “حيث توجد الملكية توجد السلطة”،[62] فلا نتصور أن تعمل المؤسسة دون أن يكون للمؤجر حرية اختيار العملة والعقد الذي سيتم على أساسه الانتداب، فلا يكون ملزما بقبول العملة الذين يوجههم له مكتب التشغيل.[63]

فالمؤجر بصفته مالكا لوسائل الإنتاج ومتحملا لأخطار عملية الإنتاج، من حقه أن يباشر هذه السلطة التي تتجلي في حرية الانتداب وحرية اختيار وسائل العمل وطرق تنظيمه ” إذ بدون حرية الاختيار هذه لا يمكن للمؤجر أن يشعر بحقه في الملكية ولا يمكن تحميله أخطار عملية الإنتاج”.[64]

ومن بين التحولات التي يشهدها حق الملكية داخل المؤسسة حسب الأستاذ Jean Savatier انه “لم يعد فقط مصدر سلطة استعمال واستغلال وتفويت وإنما صار حق يرتب سلطة مالية هي سلطة التسيير تتسلط في أن واحد على الأشخاص والأشياء.”[65]

فالطابع الأحادي لسلطة التسيير يتجلى من خلال المفهوم المدني الكلاسيكي لحق الملكية الذي هو “حق فردي و حصري”،[66] وهو ما يتأكد من خلال الفصل 17 من مجلة الحقوق العينية حيث نص على أن صاحب الشيء يتمتع بحقه لوحده.

أما الطابع الأحادي لسلطة التسيير وتنظيم العمل كما رتبها قانون الشغل للمؤجر أرجعه بعض الفقهاء لما يتمتع به المؤجر من حق في ملكية المؤسسة ومن حرية اقتصادية وأن المؤجر يستأثر بصلاحيات تسيير وتنظيم العمل داخل المؤسسة باعتبار أن “موضوع الرضا الأصلي للأجير هو الخضوع لنفوذ المؤجر فقط.”[67] وهو ما أدي إلى الإقرار بحرية المؤجر في الانتداب.

ويعتبر الفقهاء أن سلطة تسير وتنظيم العمل “تبدو وكأنها كوكبة من الاختصاصات الحصرية تهرب داخلها كل القرارات والإجراءات التي يتخذها المؤجر عن كل مناقشة”،[68] وأن “المؤجر يبقي حرا في ضبط شروط عملية الإنتاج وحرا في تنظيم العمل وذلك في حدود حسن سير العمل داخل المؤسسة.”[69]

وقد تبني فقه القضاء الفرنسي في عديد القرارات نظرية “المؤجر القاضي الوحيد” بالنسبة لعملية تسيير وتنظيم العمل داخل المؤسسة، فهو القاضي الوحيد بالنسبة لكل ما يتعلق “بالتعديلات التقنية وبتنظيم العمل”[70] و”بشأن تعين أصحاب مراكز التسيير”،[71] أما في السنوات الأخيرة فقد تمسكت محكمة التعقيب الفرنسية بقولها: “لا يرجع للأجراء ولا للقاضي إحلال تقديرهم محل تقدير المؤجر في كل ما يهم سير المؤسسة طالما انه ليس هناك تجاوز للسلطة”.[72]

فقه القضاء التونسي وان لم يستعمل عبارة “المؤجر القاضي الوحيد” فقد اقر بحرية المؤجر في التسيير حيث اعتبرت المحكمة الابتدائية بتونس في قرار استئنافي عرفي

“إن الأصل كما هو معروف إن لرب العمل مطلق الحرية في تنظيم عمله بما يؤدي حسن سير هذا العمل”، وأشارت إلى حق المؤجر بالانفراد بسلطة التسيير وتنظيم العمل عندما اعتبرت “انه من حق صاحب المؤسسة تنظيم مؤسسته كما يراه صالحا دون المساس بالحقوق المشروعة لعملته”.[73]

وفي قرار آخر اعتبرت محكمة التعقيب انه “متى تم التسليم بأن المؤجر باعتباره صاحب المؤسسة هو حر في تشغيل من يريد فهو حل من كل تعقيد”.[74]

فبالإضافة إلى تكريس السلطة المطلقة لحق الملكية في الانتداب فقد اخرج قانون الشغل هذا الحق من طابعه العيني بما انه يتسلط لا فقط على الأشياء إنما كذلك على الأشخاص أيضا.

ب- الخروج عن الطابع العيني لحق الملكية:

حق الملكية حق عيني يتسلط على المال موضوع الحق،[75] لكن الأمر هنا يتعلق بحق ملكية المؤجر بما أن محل هذا الحق هو المؤسسة، والمؤسسة على حد تعبير الفقيه Michel Trochu ” تفترض التقاء بين رأس المال وقوة العمل”،[76] لكن قانون الشغل في تفاعله مع حق ملكية المؤجر خرج عن هذه الصبغة العينية.

حق الملكية كما كرسه القانون المدني هو “سلطة قانونية يمارسها شخص بصفة مباشرة على العين”[77] موضوع الحق.

أما حق ملكية المؤجر فيمارس في نفس الوقت على وسائل العمل كأشياء وعلى العمال كأشخاص، فمثلما يقر قانون الشغل للمؤجر سلطة اختيار وتنظيم وسائل الإنتاج يقر لها سلطة اختيار عملته وتنظيم عمله في إطار حرية الانتداب، و بالتالي “إن أهم الصلاحيات المترتبة عن ملكية وسائل الإنتاج ليست تلك التي انكب عليها الفقه المدني القديم بالتحليل وإنما هي سلطة تسيير وتنظيم تنطبق لا فقط على الأشياء وإنما على مجموعة معقدة من الأموال والأشخاص” و”نكون قد انزلقنا من حق الملكية المسلطة على الأشياء إلى النفوذ المسلط على الأشخاص، وان الأمر هنا يتعلق بملكية من نوع خاص تتسلط على المؤسسة بما تجمع بين رأس المال وقوة العمل البشري بشكل تصبح معه الملكية عند تسلطها على المؤسسة سلطة تنظيم وتسيير تتسع لتشمل الأشخاص إلى جانب الأموال.”[78]

وبالرجوع إلى القانون المدني نجد إن حق الملكية مكرس ومنظم ومقنن،[79] أما قانون الشغل فلم يقنن هذا الحق لكنه رتب للمؤجر المالك مجموعة من الصلاحيات تسلط على الأموال والأشخاص أهمها الإقرار بحرية المؤجر في الانتداب، وبذلك يكون قانون الشغل حسب الأستاذ A. Jemmaud

قد “توسط عبر عديد الأحكام والمؤسسات القانونية” بقصد إخراج سلطة المؤجر المالك على وسائل الإنتاج وعلى جسم العامل في شكل قانوني مجرد، باعتبار الأجير خاضع لسلطة المؤجر بموجب عقد الشغل، فدور قانون الشغل في الإقرار بحق ملكية المؤجر وفي إخضاع جسد العامل لهذا الحق ثابت ومؤكد كما ذهب إلى ذلك الأستاذ A .Jemmaud الذي اعتبر انه “كيف يمكن لسلطة تقرير وتنظيم وتسيير عملية الإنتاج إن توجد وتمارس خارج العنف إن لم يوفر لها القانون جسدا مطيعا وذلك عبر فصل العامل عن وسائل الإنتاج بقصد إخضاعه إلى سلطة مالكها.”[80]

ومن هنا يمكن اعتبار حق ملكية المؤجر أساس لحرية الانتداب في ظل غياب إطار تشريعي خاص بهذه المرحلة، كما يمكن أن نجد لهذه الحرية أساسا في اعتماد قانون الشغل لمفهوم مصلحة المؤسسة.

الفقرة الثانية: مصلحة المؤسسة :

مفهوم مصلحة المؤسسة مفهوم مكرس على مستوي القانون وعلى مستوي فقه القضاء[81] ويعتبر هذا التكريس توجها نحو تغليب نظرية المؤسسة على نظرية العقد التي كانت الأساس الوحيد لقيام العلاقة الشغلية، وقد سار في هذا الاتجاه بعض الفقهاء وجعلوا من المؤسسة رابطة بين الأجير والمؤجر على غرار الفقيه A. Brun الذي اعترف لهذه الرابطة بالاستقلالية.[82]

أما بالنسبة إلى فترة ما قبل عقد الشغل وخاصة عند عزم المؤجر الانتداب فانه غالبا ما يتكأ على مفهوم مصلحة المؤسسة لتبرير انتدابه أو رفضه الانتداب لما أصبح للتصرف في الموارد البشرية داخل المؤسسة من أهمية مالية واقتصادية حيث أصبح اللجوء للانتداب عملية خاضعة للدراسة قبل المضي قدما فيها تتم على أساس مصلحة المؤسسة ( أ ) وأصبح على إثره من الصعب التفرقة بين مصلحة المؤسسة ومصلحة المؤجر ( ب ).

أ- مصلحة المؤسسة أساس لحرية المؤجر في الانتداب:

يعتبر مفهوم مصلحة المؤسسة أساسا للسلطة الاقتصادية داخل المؤسسة من خلال ما يتمتع به المؤجر من حرية في انتداب العملة وفي اختيار شكل العقد والصنف المهني الذي يراه مناسبا.[83]

فقه القضاء التونسي كذلك جعل من هذا المفهوم أساسا لسلطة التسيير إذ أكد إن المؤجر يتمتع بسلطات يستعملها لضمان حسن سير العمل بالمؤسسة حين اعتبرت محكمة التعقيب “إن رئيس المصلحة هو المسؤول على تسيير وتنسيق العمل داخل المصلحة فهو الرئيس المباشر لعملة المصلحة والممثل القانوني للمؤسسة وكل الأعمال الصادرة عنه في هذا الإطار تحمله مسؤولية المؤسسة”.[84]

هذا التوجه القضائي يؤكد الرأي القائل بان مفهوم مصلحة المؤسسة هو مفهوم يكاد يكون من “صنع فقه القضاء”، الذي يرجع معظم تصرفات المؤجر إلى سلطة التسيير والتنظيم، فالتشغيل والطرد يمثلان التجسيم الفعلي لهذه السلطة[85] وهو ما أكدته إحدى القرارات الفرنسية الحديثة[86]، ويتأكد ذلك جليا من خلال القانون الفرنسي المؤرخ في 31 ديسمبر 1996 الذي يأطر عمليات الاختيار في مرحلة الانتداب والعمل.[87]

قانون الشغل من خلال مفهوم مصلحة المؤسسة صار اليوم يتجه نحو “عقلنة” سلطة المؤجر الاقتصادية من خلال إعطائها شكلا وإطارا قانونيين،[88] بشكل لم نعد معه إزاء المؤجر الذي يسير المؤسسة استنادا إلى قوة حق الملكية وإنما صرنا إزاء المؤجر الذي يمارس سلطة التسيير استنادا لقوة القانون وتحت عنوان مصلحة المؤسسة بحيث مازال المؤجر داخل حدود القانون ذاته وبموجبه يتمتع بهامش من الحرية في أخد القرارات وضبط الاختيارات الاقتصادية للمؤسسة خاصة على المستوي الفردي من خلال حرية اختيار الأجراء واختيار شكل ونوع العقد وفقا لمصلحة المؤسسة[89]،

“فباعتباره المتحمل الوحيد للمخاطر الاقتصادية يجب أن يكون المؤجر المحدد الأساسي لما تحتاجه المؤسسة من عملة.”[90]

فالمؤجر يستثمر هامش من حرية الاختيار يضمنه له القانون باسم مصلحة المؤسسة بما يتماشي مع مصالحه الخاصة، حتى أن بعض الفقهاء تحدثوا عن توظيف متصاعد للقانون في عملية التسيير حيث صارت بموجبه “قواعد القانون أدوات تصرف في المؤسسة” وأصبحنا نتحدث عن “تسيير قانوني للتشغيل”،[91]

بذلك سيكون المؤجر حريصا على اختيار شكل الانتداب الأكثر تلاءما مع أهدافه من بين إشكال التشغيل التي وفرها له المشرع كالعقود المحددة المدة والعمل لوقت جزئي وفترة التجربة وعقود المناولة وذلك سعيا إلى تخفيف الأعباء الاجتماعية المترتبة عن الانتداب وهي أشكال قدمت على أنها ترمي إلى تأهيل المؤسسة وضمان مصالحها الاقتصادية[92]، حيث تمكن المؤسسة من الاستفادة من الكفاءات المهنية المناسبة مع الحد من الأعباء الاجتماعية المترتبة عنها[93] فبين العقود المحددة المدة والعقود غير محددة المدة سيميل المؤجر حتما إلى العقود المحددة المدة لكونها اقل تكلفة خاصة عند الإنهاء.

وهكذا يتضح كيف إن مصلحة المؤسسة كمفهوم مكرس في قانون الشغل يعتبر أساسا لحرية الانتداب وأصبح من الصعب التفرقة بين مصلحة المؤسسة ومصلحة المؤجر.

ب_ صعوبة التفرقة بين مصلحة المؤسسة ومصلحة المؤجر:

مصلحة المؤسسة ومصلحة المؤجر مبدئيا مصلحة واحدة، لان المؤجر هو الحكم الوحيد والأكثر قدرة على ضبط معاير ومقاييس مصلحة المؤسسة وحاجياتها مما أدى إلى اعتبار أن “اختيار الأجير تمليه مصلحة المؤسسة”.[94]

كما يعتبر الأستاذ Lyon Caen (G.) إن”مصالح المؤسسة هي مصالح المؤجر” ومن خلفها مصالح رأس المال، فالمؤسسة لا تملك بعد أجهزة خاصة بها ومستقلة عن المؤجر ولا تتمتع بالشخصية القانونية حتى نقول بان لها مصالح خاصة، ذلك أن المؤجر “سيتصرف بالضرورة وفق المصلحة المشتركة لأصحاب رأس المال” مهما كانت صفته (رئيس مؤسسة، مسير، متصرف…).[95]

فالمؤجر مدفوعا بالبحث عن النجاعة في التصرف سيعتمد إلى “تنشيط خياله القانوني” بقصد استثمار غموض مفهوم المؤسسة لصالحه، من هنا يفترض أن يكون للقاضي دورا هاما في مراقبة كيف تعامل المؤجر مع ما منحه له القانون من سلطة في التسيير في حدود مصلحة المؤسسة.

وهناك العديد من الدلائل تشير إلى صعوبة إحلال تقدير القاضي لمفهوم مصلحة المؤسسة محل تقدير أطرافها، أهمها بعد القاضي عن جو المؤسسات وعدم إلمامه بجزئيات وتفاصيل سير عملية الإنتاج الاقتصادي داخل المؤسسة.[96] وتأكدت هذه الصعوبة على مستوي فقه القضاء الفرنسي الذي صاغ نظرية “المؤجر القاضي الوحيد” في شان الاختيارات الاقتصادية للمؤسسة حيث امتنع القاضي عن الحلول مكان المؤجر في تقدير ما يتطابق ومصلحة المؤسسة.[97]

لكن ولئن اعتبر فقه القضاء الفرنسي المؤجر المحدد الوحيد لمصلحة المؤسسة فانه لا يسمح بالخلط بين مختلف المصالح، فالمحاكم لا تتردد في معاقبة كل انحراف بسلطة أخذ القرار من طرف المؤجر تحت غطاء مصلحة المؤسسة لتحقيق مصالح شخصية.[98]

وهكذا تبينا كيف أن حرية المؤجر في الانتداب تجد لها أساسا في حق ملكية المؤجر الذي يمتد ليتسلط على الأشخاص، بالإضافة إلى مفهوم مصلحة المؤسسة، لنتبين فيما بعد مظاهر حرية المؤجر في الانتداب.

المبحث الثاني: مظاهر حرية المؤجر في الانتداب:

فرغم أن حرية المؤجر محدودة من خلال جمع المعلومات عن الأجير خاصة تلك التي لها علاقة بحياته الخاصة[99] إلا أن له الحرية في أن ينتدب الأجير الذي يختاره لما له من سلطة في التسيير والتصرف داخل المؤسسة[100]، فالمؤجر حر في اختيار الأجير المستقبلي الذي سيشغل الخطة الشاغرة ويمارس هذه الحرية من خلال تنوع تقنيات الانتداب الممنوحة في هذا المجال ومن خلال غياب التزامه بالتشغيل وما يمنحه له من حرية في الانتداب، لذلك سنقسم البحث في ( فقرة أولى) عن تنوع تقنيات الانتداب، ثم في ( فقرة ثانية) غياب التزام المؤجر بالتشغيل.

الفقرة الأولي: تنوع تقنيات الانتداب:

يرجع بعض الفقهاء عدم استقرار التشغيل إلى الاستعمال المتداول في ميدان الانتداب للتقنيات التقديرية في اختيار الأجير،[101] وكما قال الأستاذ Michel Despax. « Recruter, c’est choisir »، تنقسم هذه التقنيات إلى تقنيات تستعمل للتأكد من شخص الأجير (أ) وأخري للتأكد من قدراته المهنية (ب) قبل الموافقة على انتدابه نهائيا.

أ-التأكد من شخص الأجير:

يبذل أصحاب المؤسسات عناية فائقة في عملية اختيار العملة الذين سيقع التعاقد معهم ذلك أن هذه العملية ستؤسس لمستقبل المؤسسة والعامل معا، ومن هذا المنطلق يمكن للمؤجر أن يكون متشددا بشان مميزات العامل أو هذه “الجوهرة الثمينة” على حد تعبير أحد الفقهاء.[102] فإن تعدد الترشحات الوافدة على المؤجر يعطي له مجالا واسعا حتى يختار من بين المرشحين الأكثر كفاءة للعمل من خلال جمع المعلومات التي يمكن أن تساعده في تقدير مدى استحقاقهم للعمل المقترح عن طريق العديد من تقنيات الانتداب التي يمكن تقسيمها إلى تقليدية وأخرى متطورة.

– التقنيات التقليدية تتمثل في:

المقابلة: المقابلة تمكن المؤجر أو لمن فوضت له عملية الانتداب[103] أن يقوم باستدعاء المترشح لأجراء مقابلة معه يقوم فيها بطرح جملة من الأسئلة حول جميع المعلومات التي يريد معرفتها لتقييم مدى استحقاق المرشح للعمل المقترح، ويعمد في ذلك إلى كل الوسائل المتاحة لديه وخاصة استعمال تقنيات الإعلامية[104] التي تساعده على تقييم الأجير ومدي استحقاقه للعمل المقترح، كما يعمد المؤجر إلى التأثير علي المترشح فيحمله إلي الحديث في مختلف المواضيع وبالتالي يتمكن من التعرف علي بعض العناصر المكونة لشخصيته.[105]

كما انه ليس هناك تحديد مسبق لزمن المقابلة أو لعدد المقابلات ففي كل مقابلة يقابل المترشح احد المسئولين يكون أعلى درجة من السابق، كما أنها تمكن المترشح من معرفة ماهو مطلوب منه في العمل.[106]

ملف الترشح: يمكن من خلاله للمؤجر أن يكون فكرة أولية عن المترشح لما يحتويه هذا الملف من وثائق هامة كالشهائد العلمية، شهائد التربصات، شهائد العمل السابقة وعلى السيرة الذاتية للمترشح.

المراجع: تتمثل هذه الطريقة في جمع المعلومات التي تخص المترشح بالاتصال بمن له علاقة به أو بمن كان على علاقة معه كالأقارب وزملاء الدراسة وكذالك المؤجر السابق إن وجد، وتهدف هذه الطريقة إلى التأكد من مدى مطابقة هذه المعلومات مع ما جاء بالسيرة الذاتية.[107]

منهج تحليل الخلق: يعتبر أنصار هذا المنهج أن شكل الرأس والوجه ولون الشعر والعيون والجمجمة وغيرها من المظاهر الخارجية للجسد من بين العلامات التي تمكن من تحديد خصائص الفرد.[108]

الطرق الجرافولوجية: تعتبر من أكثر الوسائل استعمالا وتركز على دراسة خط اليد التي تعتبر المرآة العاكسة لسمات الأفراد ومزاجهم.[109]
وبالإضافة للتقنيات التقليدية للانتداب نجد التقنيات المتطورة التي تساعد المؤجر في الاختيار وتتمثل في:

الاختبار النفسي: تستعمل هذه التقنية غالبا في المؤسسات الكبرى وتتخذ أشكال متنوعة وتتم عن طريق أخصائيين في الميدان النفسي بتقييم سلوك المترشح وقدراته الذهنية والفكرية التي تتمثل بالخصوص في الذكاء وهي صفات يصعب تحديدها أو حصرها وهو ما يجعل هذه الطريقة تفقد مصداقيتها حيث يعتبر الاختبار النفسي بمثابة المقياس لعينة من السلوك يسمح بالمقارنة بين الأفراد في صفات سلوكية مختلفة وهي طريقة يمكن من خلالها تتحدد نية المؤجر في لانتداب من عدمها.[110]

تفويض عملية الاختيار: أجاز المشرع التونسي إمكانية تفويض رئيس المؤسسة أو وكيله عونا ليهتم بانتداب العمال،[111] لكنه لم يجز صراحة إمكانية تفويض عملية اختيار العملة المناسبين إلى مكتب خاص وإنما منع صراحة مكاتب التشغيل الخاصة[112]سواء كانت بمقابل أو بدونه، وقد كان من أهم الدوافع لإنشاء مكاتب التشغيل العمومية هو القضاء على الوسطاء ومتعهدي توريد العمال الذين كانوا يحتكرون جهد الإنسان والتحكم فيه.[113]

أما قانون الشغل الفرنسي فقد ذهب إلى أبعد من ذلك من خلال اعتبار التوظيف من طرف الخواص مكونا لجريمة[114] باعتبار أن سوق الشغل قبل أن يكون ذو طابع اقتصادي تحكمه قاعدة العرض والطلب يمكن اعتباره “فضاء قانوني” منظم”.[115]

في المقابل يمكن للمؤجر الاعتماد في الانتداب على مكاتب النصح في الانتداب[116] bureaux de conseil en recrutement) ( التي تسمي أيضا باسم “صائدو الكفاءات”[117] ( les chasseurs de têtes) التي لا يعد عملها منافسا لعمل الوكالة الوطنية للتشغيل بما أن اهتمامات الوكالة أشمل من اهتمامات مكاتب النصح التي تنحصر فقط في طلبات أصحاب المؤسسات، كما أن مكاتب النصح تقدم خدماتها بمقابل. وبعد التأكد من شخص الأجير يمر المؤجر إلى التأكد من قدراته المهنية.

ب- التأكد من القدرة المهنية للأجير:

كان بعض أصحاب الأعمال في القطاع الخاص يعطون ما يسمي “شهادة الخبرة مجاملة ودون دقة في قياس مستوى مهارات العامل مما أدى إلى حصول بعض الأشخاص على شهادات خبرة تجعلهم ينتمون إلى مهنة معينة وهم ليسو على مستوى المهارة المطلوبة فيها”،[118] لذالك كان لابد للمؤجر من التأكد من القدرة المهنية للأجير قبل انتدابه، وتتم هذه العملية داخل إطار العمل عن طريق الاختبار المهني وفترة التجربة.

الاختبار المهني: يتمثل في اختبار يتخذ عادة حيز زمني قصير لا يتجاوز بعض الساعات، كما يمكن أن يتخذ صيغا مختلفة تتحدد بحسب طبيعة العمل، فيمكن أن يكون اختبار نظري عن طريق إخضاع المترشح إلى اختبار كتابي أو شفاهي حول المسائل المتعلقة بأصول المهنة ،كما يكون الاختبار تطبيقي يتمثل في تكليف المترشح بإبراز مهاراته العملية مباشرة وبصورة فعلية، وهنا يجب تفريقها عن فترة التجربة التي عادة ما تأخذ حيز زمني أكثر.[119]

مثل هذه الاختبارات لا تعدو في الحقيقة إلا أن تشكل مجرد عناصر واقعية يمكن أن تساعد المؤجر في تحقيق اختيار ناجح لا يأخذ منه وقتا كبيرا في التفكير.[120]

وفي هذه المرحلة يتمتع الأجير بكامل الامتيازات الممنوحة، حيث أن الحوادث الحاصلة في هذه الفترة تعتبر حوادث شغل.[121] لكن رغم ذلك لا يجب القول إن فشل الأجير في هذا الاختبار دليل قاطع على قلة إمكانياته، كما لا يضمن النجاح انتدابه مباشرة.

فترة التجربة: تعتبر فترة التجربة من أكثر الوسائل استعمال من طرف المؤجرين للتأكد من قدرة المترشح على العمل وتمكنهم من فرصة هامة للتعرف مباشرة على المؤهلات الحقيقية للأجير قبل انتدابه بصورة نهائية فهي تختلف عن التقنيات التي يقصد بها تعليم الأجير أو تأهيله مهنيا مثل التدريب أو التكوين أو التربصات وهو ما أكده فقه القضاء حين اعتبرت المحكمة إن فترة التجربة “مخولة للمؤجر للتثبت في قدرات الأجير الذي سيقع انتدابه”[122]، “فليس كل متخرج لامع بالضرورة أجير ناجح”.[123]

ويعتبر الأستاذ Durand (H)أنها “تمنح المترشح الفرصة لاكتشاف ظروف العمل والتحقق من مدي ملائمة العمل لمؤهلاته وللأجر المقدرة له.”[124]

وقد أحال المشرع التونسي تنظيم فترة التجربة إلى القانون الاتفاقي[125] الذي اعتني بتحديد مدة التجربة وشروط تجديدها، كما أن لا شيء في القانون يمنع الأطراف من إخضاع عقد الشغل المحدد المدة لفترة تجربة، وهو ما أكدته محكمة التعقيب التونسية[126] والفرنسية كذلك.[127]

كما اهتمت الاتفاقية الإطارية المشتركة بالتنصيص في الفصل 10 على إن إنهاء التجربة يمكن إن يتم بدون سابق إعلام بمجرد أن يعلم الطرف المقابل من دون أن يترتب عن عدم احترام إجراء الإعلام المسبق أي مسؤولية، كما لا يمكن أن يؤدي إلى إلزامه بالتعويض،[128] ولعل هذا ما يبرر رغبة الأجراء في الخضوع إلى الاختبارات الفورية من دون أن يقع إخضاعهم للتجربة التي يبقي مصيرها متوقفا على إرادة المؤجر الذي يبقي هو المتحكم الوحيد في تقرير نتيجتها إما بالانتداب أو بالرفض.

كما أن فترة التجربة ليست إجبارية، بل اختيارية وتخضع لاتفاق الطرفين، فالمؤجر يلتزم في إطار التجربة بتوفير العمل وخلاص الأجر للأجير، أما الأجير فيلتزم خاصة بإتباع تعليمات المؤجر وأوامره في كل ما يخص طرق القيام بالعمل المقترح عليه وهو ما أكدته محكمة التعقيب التونسية حين اعتبرت انه “ما دام إن عدم اتفاق الطرفين بالعقد على خضوع الأجير لفترة تجربة يعد تعبيرا عن إرادة لعدم اللجوء لتلك المسالة وهو من حقهما عملا بالفصل 242 م ا ع.”[129]

وهكذا تتجلى حرية المؤجر في الانتداب من خلال تنوع تقنيات الانتداب وتتأكد من خلال غياب التزام المؤجر بالتشغيل.

الفقرة الثانية: غياب التزام المؤجر بالتشغيل:

من المسلم به أن المؤجر لا يخضع لأي التزام بالتشغيل يجبره على خلق مواطن عمل بل يضطلع أصحاب المؤسسات بدور ريادي في دفع التشغيل، وقد تجلى إقرار هذه القاعدة في العديد من الأسس ( أ )، في جملة من المظاهر ( ب ) التي ما لبثت تأكد حرية المؤجر في الانتداب.

أ- أسس غياب التزام المؤجر بالتشغيل:

يرجع أغلب الفقهاء غياب مثل هذا الالتزام القانوني بالتعاقد إلى هيمنة مبدأ الحرية التعاقدية الذي يعتبر إحدى ركائز مبدأ سلطان الإرادة،[130] أما بالنسبة لقانون الشغل فالعلاقة الشغلية أساسها العقد، فهو اتفاق يلتزم بمقتضاه احد الطرفين ويسمى عاملا أو أجيرا بتقديم خدماته للطرف الآخر ويسمى مؤجرا،[131] وبما أن كل عقد ما هو إلا توافق لإرادتين حرتين فلا يمكن استثناء عقد الشغل من هذه القاعدة، إلا أن هذه الفكرة لاقت ردود فعل عديدة انقسمت بين مناهضة ومناصرة :

يعتبر أنصار الاتجاه المناهض أن قانون الشغل في حد ذاته بمثابة الاستثناء للقانون المدني، فهناك العديد من القواعد التي لا يمكن نقلها لقانون الشغل مثل الحرية التعاقدية ومبدأ سلطان الإرادة، بما أن خاصية عقد الشغل باعتباره يجمع بين طرفين غير متكافئين جعل تطبيق هذا المبدأ أمرا صعبا، كما انه هناك قواعد في قانون الشغل لا توجد في القانون المدني مثل مبدأ النظام العام الاجتماعي ومبدأ المنافع المكتسبة، كما انه لا وجود لفصل يدعو إلى الرجوع إلى القانون المدني كلما اقتضت الحاجة إلى ذلك عكس القانون الفرنسي الذي نص في الفصلL121-1 على خضوع عقد الشغل إلى قواعد القانون العمومي. [132]

في حين يرى الاتجاه المناصر إن فكرة نقل مبدأ سلطان الإرادة إلى قانون الشغل مستساغة منطقا وقانونا، “فقانون الشغل غير مستقل عن القانون المدني لأنه في حاجة إلى قواعد ومبادئ القانون المدني الذي يمثل الإطار القانوني الذي سينشأ فيه وإن التخلي عنه سيوقعه في فراغ تشريعي.”[133]

كذالك هناك من أكد أن “افتقار قانون الشغل للكم المناسب من المبادئ، الشيء الذي يعفيه من الرجوع إلى قواعد القانون المدني، يجبر شراح القانون إلى الرجوع إلى قواعد القانون المدني”[134] وهو ما أكدته محكمة التعقيب التونسية حين اعتبرت “انه لا تخضع قضايا الشغل إلا لإجراءاتها الخاصة بها وإن النصوص العامة لا يلجأ إليها إلا في غياب نصوص خاصة بها.”[135]

كما أنه من الثابت أن الحق في الشغل لا يجد له مكانا ضمن الحقوق الشخصية التي تفترض أن الدائن له الحق مطالبة مدينه بأداء الالتزام،[136] وبالتالي لا يخول للباحث عن عمل وهو الدائن في صورة الحال مطالبة المؤجر به، فالحديث عن حق شخصي يمكن للدائن جبر المدين على تنفيذه تقتضي وجود التزام محمول على كاهله، فبالنسبة لقانون الشغل يتعلق الأمر بمجرد ظروف ملائمة تمكن من الحصول على عمل لا يتحدد بموضوع معين بذاته وتتكفل الدولة بتوفير مواطن العمل عن طريق تبنيها لسياسة عامة للتشغيل.

ولئن وجدت مختلف التشاريع الغربية تعويضا عن انعدام الحق في إجبار أي طرف في ضمان الحق في العمل بتكريسه حقا شخصيا يمكن الاحتجاج به يتمثل في الحق بالتمتع بمنحة بطالة، فقد غاب إقرار هذا الحق في القانون التونسي في غياب صندوق بطالة تكفل الحصول على مساعد مادية يكون لها الأثر التعويضي عن فقدان العمل.[137]

كذلك تكريس مبدأ حرية العمل كواحد من أهم النظم القانونية الحديثة شكل بدوره احد الأسس، حيث يتمثل في حرية المؤجر في التعاقد من عدمه وحريته في اختيار العاملين لديه، حرية تبررها السلطات التي يتمتع بها صاحب المؤسسة في تسيير مؤسسته.[138]

إلا انه يمكن تبرير هذا الغياب بسعي المشرع إلى تكريس حرية المؤجر عند الانتداب التي ما انفكت تتدعم حيث أصبح البعض يتحدث عن “المرور من الحرية إلى السلطة”، فلم يعد المؤجر يتمتع بحرية عادية بل أن حريته كانت مشدد إلى درجة أنها تحولت إلى نفوذ وسلطة في تسيير الانتداب،[139] ويبدو إن بعض التشريعات أرادت هذا

المرور ولعل سكوت المشرع التونسي والفرنسي على موقف المؤجرين وعدم التعرض إلى هذه المسالة في التقيحات الأخيرة اكبر دليل على ذلك وقد اكتفي بوضع ضوابط لهذه السلطة[140]، حيث تعتبر حرية المؤجر في الانتداب النتيجة الأساسية التي أراد المشرع تحقيقها من وراء عدم فرضه لأي التزام قانوني بالانتداب على كاهل المؤجر. فماهية مظاهر غياب هذا الالتزام؟.

ب- مظاهر غياب التزام المؤجر بالتشغيل:

على أساس تمتع المؤجر بالحرية الكاملة في تقرير الانتداب من عدمه وفقا لحاجيات المؤسسة لليد العاملة، فإنه تمنع أي تدخل أجنبي قد يفرض عليه اللجوء للانتداب ولو كانت الغاية هي القضاء على البطالة لتبقي حاجيات المؤسسة هي المحدد الأول والأخير في التقدم بعروض الشغل.

فالتجسيد الفعلي لحق الفرد في العمل تقتضي إعطاء أولوية مطلقة لمكاتب التشغيل العمومية في عملية الانتداب عن طريق دعم نفوذها وتدخلها في سوق الشغل، فبالنسبة للمشرع التونسي فانه لا يمكن نفي أهمية الدور الذي تضطلع به مكاتب التشغيل العمومية، فإن ذلك لا يخفي بقاء الدور منقوصا باعتباره لم يؤثر في حرية المؤجر الانتداب بما أن المؤجر غير ملزم بقبول المترشح الذي يقدم له من طرف مكتب الشغل[141] وغير ملزم بتعليل رفضه حيث قام المشرع بحذف هذا التعليل[142] مقلصا بذلك دور مكاتب التشغيل والإقرار للمؤجر بإمكانية تجاوز مكاتب التشغيل والقيام بالانتداب مباشرة[143] من سوق الشغل دون الاكتفاء بالعروض الموجود لديها، هذه العروض تبقي بدورها خاضعة للسلطة التقديرية للمؤجر بوصفها تمكنه من إدراج الشروط التي يري فيها أنها تستجيب لحاجيات المؤسسة خاصة أن عنصر الاعتبار الشخصي في عقد الشغل يمنحه الحق في التثبت من شخص المترشح قبل انتدابه.

فبالتالي اتساع حرية المؤجر في الانتداب تدفعنا للتساؤل عن دور الدولة في ضمان الحق في الشغل عن طريق مختلف الهياكل التابعة لها حيث أن مختلف العروض الواردة على مكاتب التشغيل تبقي فاقدة لجدواها إذا لم يبدي المؤجر رغبة في الأخذ بها حيث أثبت الواقع العملي أن جل الانتدابات قد تمت عن طريق المؤجر مباشرة.[144]

فإرساء مكاتب تشغيل عمومية يبقي بدوره غير كاف إن لم يقع زيادة تدعيم دورها وطرق تدخلها طالما وأن “سياسة الحكومة هدفها الشفافية والعدالة الاجتماعية الخاصة بالتشغيل وهي مسائل لا يمكن أن تتحقق إلا لو تم الانتداب عن طريق مكاتب التشغيل”،[145] وبالتالي تمنع المؤجر من أن يتجاوز دورها وتجعله ملزما بالرجوع إليها عند كل عملية انتداب وهو فعلا ما كرسه المشرع الايطالي حينما قام بمنع الانتداب المباشر والسماح فقط بالانتداب عن طريق وكالات التشغيل،[146] نفس توجه المشرع المصري الذي أوجب على المؤجر ألا يختار العمال لشغل الوظائف الشاغرة إلا من بين المرشحين من قبل مكتب القوى العاملة بحيث لا يجوز توظيف أي عاطل عن العمل إلا إذا كان حاصلا على” شهادة قيد” من هذا المكتب.[147]

الفصل الثاني:تدعيم حرية المؤجر في الانتداب:

إن الإقرار بحرية المؤجر في الانتداب تدعم من خلال تنقيح مجلة الشغل سنتي 1994 و 1996 بصفة مباشرة وأخرى غير مباشرة.

بالنسبة للدعم المباشر لحرية المؤجر في الانتداب يتجلى في مرحلة أولى من خلال سعي المشرع التونسي إلى تبسيط إجراءات الانتداب وتخفيفها مما يفتح الباب إمام المؤجر لممارسة حريته في الانتداب دون قيود إجرائية تذكر أهمها وجوبية الإعلام السابق عن عملية انتداب، وفي مرحلة ثانية بتنويع أشكال الانتداب من خلال إقرار أنماط جديدة للعمل وتنويع الإشكال القانونية للعقود.

أما بالنسبة للدعم غير المباشر فنستنتجه من عدم وضع قانون الشغل لايطار قانوني محكم للانتداب من خلال عدم تدعيمه الرقابة المسلط على عمليات الانتداب والعقوبات الرادعة لمخالفتها، فلا يمكن القول أن المشرع قد سهي عن ذلك لكن يصح القول أن المشرع غفل عن دراية عن ذلك وذلك بمنح المؤجر المرونة اللازمة في الانتداب وذلك تماشيا مع التوجهات الحديثة في مجال التشغيل في التقليص من نسبة البطالة وانه في إلزام المؤجر بالتشغيل وفرض مراقبة وعقوبات صارمة قد تجعل المؤجر ينفر من الانتداب. فالمشرع كانت له الفرصة لذلك من خلال هذا التنقيح.

لذلك سنتولى بالدراسة في ( مبحث أول ) للتدعيم المباشر لحرية المؤجر في الانتداب، ثم في ( مبحث ثان ) للتدعيم غير المباشر.

المبحث الأول: التدعيم المباشر لحرية المؤجر في الانتداب:

يتجلى هذا الدعم لقانون الشغل بخصوص الانتداب بوضوح بعد تنقيحي سنة 1994 و1996 حيث تم القطع مع بعض من التوجهات القانونية وإقرار أخرى وذلك تماشيا مع حاجيات سوق الشغل وتطلعات الدولة في هذا المجال.

ومن أهم ما جاء به هو تدعيم حرية المؤجر في الانتداب من خلال تنوع الأشكال القانونية للانتداب ( الفقرة الثانية )، كما يتجلى هذا الدعم من خلال تبسيط الإجراءات المتعلقة بالانتداب خاصة الإعلام بالانتداب ( الفقرة الأولى).

الفقرة الأولى: تبسيط إجراءات الإعلام بالانتداب:

تدخل المشرع في هذه المسألة كان من خلال تبسيط إجراءات الإعلام بالانتداب التي هي محمولة على المؤجر من خلال حذف الإجراءات المقيدة لحريته في الانتداب ( أ )، وكذلك إقرار إجراءات في هذا المجال تهم سوق الشغل ( ب ).

أ- حذف الإجراءات المقيدة لحرية المؤجر في الانتداب:

كان المشرع يلزم المؤجر بإعلام مكاتب التشغيل العمومية أو التفقدية الجهوية للشغل قبل القيام بأية عملية انتداب في ثلاث نظائر في ظرف مضمون الوصول مؤرخا وتاما بالإمضاء محتويا على كل البيانات المتعلقة بالأجير والمؤجر وطريقة الانتداب،[148] ويكون المؤجر ملزما بانتظار الرد أي تأشيرة مكتب التشغيل[149] ليتمم انتدابه وإنه في انتظار هذه التأشيرة سيواجه المؤجر تعطيلات متعددة تعرقل وتطيل عملية الانتداب خاصة إذا ما رام تغير العامل فإنه مطالب بالإعلام ثانية عن العامل الجديد وانتظار تأشيرة هذا الأخير مما يرتب عن هذا الانتظار حرمان العديد من طالبي الشغل التمتع بحقهم في الشغل.[150] لذلك وقع حذف هذا الإجراء.

كذلك كان على المؤجر تعليل رفضه للأجير الذي تقدم به مكتب التشغيل، فالتعليل أداة فرضها المشرع لمراقبة مدى وجاهة هذا الرفض ولما للتعليل من علاقة بالنظام العام، واقر انه “يجب أن يبلغ سبب الرفض في كلتا الصورتين إلى المكتب العمومي للتشغيل أو إلى التفقدية الجهوية للشغل.” [151]

وكان المؤجر كذاك ملزما بالحصول على تأشيرة مكتب التشغيل وتفقدية الشغل كلما أراد إدراج عرض شغل بالصحافة ثم وقع حذف هذه التأشيرة بالنسبة لكل الوسائل.[152]

المشرع الفرنسي كان أكثر تشددا، فمنذ 1993 أصبح المؤجر ملزم بالتصريح بكل انتداب يقوم به لدي الجهات المختصة[153] حيث منع المشرع المؤجر من نشر عروض العمل بالصحف كما فرض على صاحب المؤسسة المكلفة بالنشر أن تقدم كل العروض التي تصلها إلى الوكالة القومية للتشغيل ويجب أن تكون العروض محررة بالفرنسية ويمنع التنصيص على سن أقصى ويجب أن لا يتضمن العرض أية معلومات خاطئة[154] ولضمان احترام هذه الإجراءات فرض عقوبات مالية على المؤجر عند الإخلال بها.

كما أعطي المشرع التونسي للمؤجر حرية الاختيار بين الانتداب المباشر والانتداب عن طريق مكاتب التشغيل ويمتاز هنا عن التشريع الايطالي الذي منع الانتداب المباشر.[155] وبالإضافة إلى حذف الإجراءات المقيدة لحرية المؤجر في الانتداب تم إقرار إجراءات تدعم الانتداب.

ب- إقرار إجراءات تهم سوق الشغل:

تنقسم الإجراءات الجديدة التي اقرها المشرع في مجال الانتداب إلى إجراءات سابقة وأخرى لاحقة للانتداب.

بالنسبة للإجراءات السابقة للانتداب ألزم المشرع المؤجر بالإعلام عن مؤسسته لدى تفقدية الشغل كلما اعتزم انتداب عمال بمؤسسته[156]، ويشمل هذا الالتزام جميع المؤسسات باستثناء المهن المنزلية التي لا تخضع في يومنا هذا إلى مجلة الشغل ويشمل كذالك العمال القارين والغير القارين، لوقت جزئي أو لكامل الوقت في حين كان الفصل 278 )قديم( من مجلة الشغل يتحدث عن العمال القارين فقط، لكن الأكيد إن هذا الإجراء ساهم في تدعيم نفوذ تفقدية الشغل في هذه المرحلة.

كما اوجب أن يكون الإعلام مضمون الوصول وفي ثلاث نظائر، مؤرخ و ممضى من طرف المؤجر ويجب أن يحتوي على عديد التنصيصات سواء المتعلقة بالمؤسسة اسمها ومقرها ونشاطها وفروعها وعدد انخراطها بالضمان الاجتماعي أو التنصيصات المتعلقة بالمؤجر والعمال والخطط الموجودة بالمؤسسة، كما منح المشرع أجلا لا يتجاوز الشهر للقيام بهذا الإعلام.[157] المشرع الفرنسي من جهته ألزم المؤجر بأن يقوم بإعلام تفقدية الشغل كلما اعتزم القيام بانتداب عملة جدد.[158]

بالنسبة للإجراءات اللاحقة للانتداب فهي تهدف إلى مراقبة سوق الشغل، وتتمثل في الإعلام اللاحق للانتداب الذي عوض الإعلام السابق حيث أقرت مجلة الشغل أنه “يتعين على المؤجر إعلام مكتب التشغيل العمومي المختص ترابيا بكل انتداب في أجل لا يتجاوز 15 يوما من تاريخ الانتداب”[159]. والملاحظ أن المشرع لم يحدد شكلية معينة لهذا الإعلام عدى انه يتعين على المؤجر مسك سجل يحتوي على كامل الانتدابات التي

قام بها بعد قيامه بمختلف المراحل ولعله أراد من خلال ذلك إضفاء المزيد من الحرية للمؤجر، لكنه زاد في العقوبة المتعلقة بذلك حيث أصبحت الخطية ثلاثون دينارا بعد أن كانت خمسة دنانير فقط وتضاعف في صورة العود[160].

كما أن تنويع المشرع من الأشكال القانونية لعقود الشغل بالإضافة إلى تبسيط الإجراءات يدعم أيضا حرية المؤجر في الانتداب

الفقرة الثانية: التنويع في الأشكال القانونية للانتداب:

اختيار عقد الشغل يخضع إلى عدة اعتبارات، منها ما هو اقتصادي متمثل في شغور مكان للعمل، إحداث موطن شغل جديد، تعويض وقتي أو حالة سوق الشغل، ومنها ما هو قانوني مثل تحديد حالات اللجوء إلى عقود الشغل محددة المدة، ومنها ما هو كذالك اتفاقي بالنسبة لتحديد مدة العقد لعمل وقتي[161] وهو ما يؤكد في الحقيقة حرية المؤجر في الانتداب. المشرع التونسي نوع في الأشكال القانونية لعقد الشغل من عقود معينة المدة وأخري غير معينة المدة،[162] كما نص كذلك على إمكانية إبرام عقد غير معين المدة للعمل لوقت جزئي[163] أو عن طريق عقود المناولة[164] وبالتالي وسع في دائرة الاختيار للمؤجر من خلال التنويع من الأنماط الجديدة للعمل.[165] وسوف نتجلى كيف أن هذا الدعم أعطي الحرية المؤجر في اختيار نوع ( أ ) ومحتوى العقد ( ب ).

أ- تدعيم حرية المؤجر في اختيار نوع العقد:

يتجلى هذا الدعم من خلال ترك المشرع حرية الاختيار للأطراف من خلال وضعه لنوعي العقد، المحدد وغير المحدد في المدة، على قدم المساواة، فالمشرع لم يجعل من العقد غير محدد المدة القاعدة بل أخذ العقدين على قدم المساواة وللمؤجر الحرية في الاختيار والمفاضلة.[166] ويتأكد ذلك من خلال الصياغة القانونية للفصول القانونية، حيث لا تطرح مسألة العقود المبرمة لمدة غير معينة إشكالية إذ اعتبرت المبدأ وهي التي من شأنها أن تجعل العامل قارا، وقد نظم المشرع هذه المسألة.[167] أما العقود المبرمة لمدة معينة فإنها تفتح الباب أمام المؤجرين لممارسة سلطتهم التقديرية لحاجيات المؤسسة من اليد العاملة، عكس المشرع الفرنسي الذي أقر بمبدأ عام مفاده أن عقد الشغل يجب أن يكون لمدة غير محددة أو إن اللجوء إلى العقود المحددة لا يتحقق إلا في حالات استثنائية ضبطها المشرع.[168]

المشرع التونسي من خلال مجلة الشغل مكن المؤجر من إبرام عقد محدد المدة وذلك في حالات على سبيل الذكر لا الحصر،[169] وهو ما يبرز توجه المشرع نحو فتح المجال أمام هذا النوع من العقود التي لا تخول للأجير الاستقرار في عمله، “فالمشرع لئن مكن الفرد من حرية الحصول على شغل إلا أنه لا يضمن له موطن عمل”[170] في ظل وجود عنصر الزمن المتحكم في إنهاء العقد وغياب الإعلام المسبق للإنهاء بما أن العقد ينتهي بحلول اجله و يبقي التجديد رهين إرادة المؤجر.

فأصبح من المؤكد صعوبة الاستغناء عن العقود محددة المدة في ظل التحديات الراهنة للوضع الاقتصادي الجديد الذي يفرض إضفاء مزيد من المرونة على العلاقات الشغلية للحفاظ على مصلحة المؤسسة عبر منحها صيغ مرنة للتصرف في قوة العمل من شأنها أن تحثها على تكثيف الانتداب. هذه الإرادة أكدها فقه القضاء التونسي حين اعتبر “أن انتداب عامل وقتي بحظيرة معينة لا يعني بقاءه إلى انتهاء العمل بتلك الحظيرة بل يعني بقاءه إلى أن ينتهي من العمل المنتدب من اجله والذي يمكن انجازه قبل انتهاء العمل بالحظيرة.”[171]

وتبرز أهمية اختيار الشكل القانوني للعقد أو نوعه في الآثار القانونية التي يمكن إن تترتب عن اختيار شكل معين للعقد دون الأخر، إذ أن كل نوع من العقود له نظامه القانوني الخاص به والذي سينعكس مستقبلا على العلاقة الشغلية.

فبالنسبة للوضعية القانونية للأجير داخل المؤسسة فانه على ضوء المدى الزمني للعقد الذي سينتدب به يتم التفرقة عادة بين الوضعية القارة والوضعية غير القارة أو الوقتية للعامل، هذه الأخيرة تعتبر الأكثر نفعا للمؤجر ذلك أن وضعية العامل غير القارة تكون عادة وضعية هشة مقارنة بالعامل القار وهو ما أكدته الاتفاقية الإطارية المشتركة إذ جاء فيها إن “العملة القارين الذين يتم استخدامهم لمدة غير معينة والذين هم غير منتدبين للقيام بالأشغال من حين لآخر أو بإشغال طارئة “، وبقراءة عكسية نستنتج أن العملة غير القارين هم الذين يتم استخدامهم لمدة معينة للقيام بالأشغال من حين لآخر أو بالأشغال الطارئة.[172]

لكن وعلى الرغم من الأهمية التي يمنحها العقد المحدد في مدته للمؤجر فانه قد يلجأ أحيانا إلى اختيار العقد غير المحدد في مدته إذا ما كانت مصلحة العمل تفرض ذالك أو إذا ما أسفر التفاوض إلى ذلك.[173] وهو ما يؤكد حرية المؤجر في اختيار نوع العقد، فماذا عن محتوي العقد؟

ب- تدعيم حرية المؤجر في تحديد محتوى العقد:

تعود سلطة تحديد مضمون عقد الشغل عموما إلى إرادة الإطراف،[174] لكن الإقرار بأن عقد الشغل هو عقد إذعان و”خضوع”[175] يربط بين طرفين غير متكافئين من حيث المراكز القانونية يجعل من إمكانية وجود اتفاق بين طرفي العقد أمر مستبعد لأنه في معظم عقود الإذعان يكون المؤجر هو المحدد لمضمون العقد بكامل عناصره بصفة مسبقة وفي غياب المترشح، حيث يقع تكيفها على أنها تصرفات قانونية أحادية الجانب، فالمؤجر هو الذي يحتكر هذه المهمة ولا يملك المترشح أية سلطة لا من حيث اختيار مضمون العقد ولا من حيث مناقشة بنوده فإما القبول أو الرفض وفي غالب الأحيان يقبل الإذعان لمجمل بنود العقد التي يحددها المؤجر.[176]

فالمؤجر يتمتع بنوع من الحرية في تحديد مضمون العقد، ما لم يقع المساس بالحقوق الأساسية للأجراء، من خلال إمكانية إدراجه لشروط في العقد لتنظيم العلاقة الشغلية المستقبلية ، حيث يتضمن العقد على عناصر أساسية يضمنها القانون لا تخضع لإرادة المؤجر بل لقوة القانون.[177]

لكن حرية المؤجر تتجلى من خلال البنود الثانوية التي لها صبغة تنظيمية لعلاقة المؤجر بالأجير في إطار تنفيذ عقد الشغل بتحديد مدة وظروف العمل وأوقات الراحة، كما يمكن للمؤجر إدراج ضمن العقد بنود مثل بند يفرض على الأجير “المحافظة على السر المهني” أثناء وبعد انتهاء العلاقة الشغلية وذلك لطبيعة العمل حيث يفرض على الأجير المحافظة على أسرار المهنة والمعلومات التي في حوزته وعدم اطلاعها على الغير[178]، كذلك يمكنه إدراج بند يقضي “بعدم المنافسة” حيث يمنع على الأجير العمل لدي مؤسسة منافسة بعد انتهاء عقده مع المؤجر الأول وفي ذلك حماية للمؤسسة من تحول الأجير إلى منافس للمؤجر في نفس العمل،[179] ويتأكد ذلك من خلال تأكيد محكمة التعقيب التونسية على ضرورة توفر أركان “جنحة الإغراء بترك العمل” من طرف لمؤجر الجديد لتجريم مثل هذه العمليات،[180] ومثل هذه البنود يجب أن تكون محدد في المكان والزمان وإلا اعتبرت “باطلة”.[181]

فالمشرع التونسي من خلال تنقيح 1996 أكد التوجه نحو الإقرار بحرية المؤجر في الانتداب بصفة مباشرة من خلال تبسيط إجراءاته وتدعيم حرية المؤجر في اختار العقد الذي سيتم على أساسه الانتداب، وكذالك بصفة غير مباشرة اقر دعمه لحرية الانتداب، فكيف ذلك؟

المبحث الثاني: التدعيم غير المباشر لحرية المؤجر في الانتداب:

إن السعي لتحقيق توزيع عادل لليد العاملة في مختلف القطاعات وتوجيهها لشتي الاختصاصات المهنية تبعا لحاجيات المؤسسة للمهارات والكفاءات يفرض ضرورة تدخل المشرع في مرحلة الانتداب[182] عن طريق مراقبة كل عملية انتداب. كما أن الاعتبار الشخصي يظهر بصفة واضحة وجلية في مرحلة الانتداب لتمتد آثاره إلى كامل مراحل العقد مما يفرض تواجد هذه الرقابة لان حاجة الأجير إلى الحماية تشتد قبل قيام العلاقة الشغلية.

لكن ما نلاحظه أن قانون الشغل التونسي يفتقر لنظام رقابة متكامل لمرحلة الانتداب ويبقي الاهتمام منصبا على مرحلتي التنفيذ والإنهاء مما جعل مرحلة الانتداب تفتقر إلى

هياكل رقابية فعالة ( الفقرة الأولى ) وعقوبات تتراوح بين الضعف والغياب ( الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولى: محدودية الرقابة على الانتداب على مستوى الهياكل:

مقارنة بفترتي التنفيذ والإنهاء، التي تشتدد فيها رقابة الهياكل الإدارية والقضائية على العلاقة الشغلية، ففي مرحلة الانتداب يتسم عمل هذه الهياكل بالاحتشام سواء الهياكل الإدارية ( أ ) أو القضائية ( ب ) رغم ما تحمله هذه الفترة من أهمية بالنسبة للأجير الذي تمكنه من مورد رزق يجابه به شبح البطالة.

أ- محدودية عمل الهياكل الإدارية في مراقبة الانتداب:

تتمثل الهياكل الإدارية المكلفة بمراقبة عمليات التشغيل في تفقدية الشغل ومكاتب التشغيل العمومية[183] بالإضافة إلى مصالح طب الشغل[184].

بالنسبة لتفقدية الشغل رغم أن مهمتها التقليدية تتمثل في مراقبة مدى احترام الأحكام المنظمة للعلاقات الشغلية إلا أن المشرع أوكل لها ثلاث مهام فقط تتمثل في السهرعلى تطبيق الأحكام الضابطة للعلاقة الشغلية ومد المؤجرون والعملة بالإرشادات والنصائح اللازمة وأخيرا إعلام السلطة المختصة بكل نقص أو تجاوز.[185] كذلك الشأن بالنسبة للقوانين المنظمة لعمل المعوقين والشبان، فلم يسند المشرع دورا يذكر لهذا الجهاز الرقابي ولعل ذلك يعود أساسا لطبيعة تدخله الذي يتزامن مع قيام عقد الشغل والحال أن هذان القانونان كرسا أولوية تنضوي في مرحلة ما قبل العقد إذ يبقي تجسيد هذه الأولويات فرضية غير محققة نظرا للسلطة التقديرية الواسعة التي يتمتع بها المؤجر في إبرام عقد الشغل من عدمه.[186]

أما بالنسبة لحق الأولوية المقررة للأجراء المترتبة عن عقد الشغل، فلقد واصل المشرع نفس التمشي حيث اتسم الدور الذي أوكله لتفقدية الشغل بالتذبذب، فمن ناحية لم يسند لها أي دور في ضمان تمتع الأجير بحق الأولوية المترتبة عن الجندية[187] والعاملين لوقت جزئي الراغبين في الانتقال إلى نظام العمل كامل الوقت والعاملين كامل الوقت الراغبين في الانتقال إلى نظام العمل لوقت جزئي،[188] وأن تدخل متفقد الشغل أو الوزير المكلف بالشؤون الاجتماعية في هذه المسائل كان لرفع الحماية لا لتدعيمها.[189] ومن ناحية أخرى أحاط المشرع الطرد لأسباب اقتصادية أو فنية بمراقبة خاصة، حيث اوجب على كل مؤجر يعتزم طرد العملة لأسباب اقتصادية أو فنية أن يعلم بذلك مسبقا تفقدية الشغل المختصة ترابيا[190] وهي ما تسمى بالرقابة السابقة كما توجد كذلك رقابة لاحقة عن طريق الجهاز القضائي .

فالهدف أصبح تشجيع المؤجرين على الانتداب من خلال إطلاق حريتهم في الانتداب، وهذه النتيجة أقرها المشرع من خلال إلغاء “لجنة التصنيف المهني”[191] التي كانت تشارك المؤجر في اتخاذ بعض القرارات، فقد كان من الممكن تدعيم تدخلها عوض التخلي عنها بينما كان المشرع الفرنسي قد تدخل ونظم مرحلة الانتداب من خلال قانون 31 ديسمبر 1992 رغم أنه سبق تنقيحي 1994 و 1996 في تونس.

أما بالنسبة لمصلحة طب الشغل : يهدف الفحص الطبي قبل الانتداب من جهة إلى حماية المترشح من الإخطار التي يمكن أن تهدد صحته ومن جهة أخرى يمكن الفحص الطبي من الكشف عن إصابة المترشح مثلا بمرض معدي قد يهدد سلامة باقي العملة إذا ما التحق بالعمل، كما يلعب هذا الفحص دورا في ضمان مصلحة خاصة للمؤجر إذ يصعب عليه الإقدام على انتداب مرشح أثبت الفحص ضعف قدرته على العمل، ومن هذا المنطلق فان الفحص الطبي يظهر كإجراء سابق لعملية الانتداب يمكن للمؤجر أن يلجأ إليه[192].

فعلى الرغم من أهميته لاعتباره وسيلة تقييميه لقدرة المترشح على العمل فانه لم يقع الاهتمام بتنظيمه بالصورة الكافية سواء في مجلة الشغل أو الاتفاقية المشتركة، حيث اكتفيت مجلة الشغل بالتنصيص على دور مصالح طب الشغل في القيام بالفحوصات اللازمة عند الانتداب[193]، كما نصت الاتفاقية الإطارية المشتركة على تعهد طبيب الشغل بفحص المترشح عند الاستخدام[194]، رغم اعتبار محكمة التعقيب “إن مسالة العمل المناسب لصفة الأجير هي من المسائل التي ترجع لأهل الخبرة والاختصاص وهو ما أكده الحكيم الشغلي المنتدب وليس من اختصاص المؤجر وحده.”[195]

كما نلاحظ انه وقع الاكتفاء بمجرد الإشارة إلى إمكانية إخضاع المترشح على الفحص عند الانتداب وتم السكوت على أية تفاصيل أخرى، من هنا لا يمكن أن نجزم بوجود واجب قانوني محمول على عاتق المؤجر يلزمه بضرورة إخضاع المترشح على الفحص الطبي قبل الانتداب وما يؤكد ذلك هو غياب الجزاء باستثناء بعض الأحكام الخاصة كالأحكام المتعلقة بتشغيل الأطفال التي يفرض ضرورة إخضاعهم لفحص طبي سابق[196] فانه يمكن القول إن إخضاع المترشح للفحص الطبي يبقى رهين إرادة المؤجر.

المشرع الفرنسي من جهته نص على الصبغة الملزمة للفحص الطبي، فلا يكفي استدعاء المترشح حتى يخضع للفحص إنما يجب أن يتحقق عرض المترشح على طبيب الشغل وفي صورة عدم وفاء المؤجر بذالك الالتزام فإنه تقع إثارة مسؤوليته الجزائية وعقوبتها بين الخطية والسجن،[197] كما اهتم بتحديد الوقت الذي يمكن أن يتم فيه قبل الانتداب أو على الأقل قبل انتهاء فترة التجربة.[198]

وتجدر الإشارة كذالك أن الانتداب في الوظيفة العمومية، عكس الانتداب في قانون الشغل، يخضع لرقابة سلطة الإشراف، وهو ما أكدته محكمة التعقيب حين اعتبرت أنه “يتضح من الفصل 14 من القانون عدد30 لسنة 1960 المؤرخ في 14 ديسمبر 1960 المحدث للصندوق القومي للضمان الاجتماعي أنه أخضع لرقابة سلطة الإشراف الانتداب والفصل عن العمل.”[199] فماذا عن محدودية الرقابة على مستوى الهيكل القضائي؟.

ب- محدودية عمل الهيكل القضائي في مراقبة الانتداب:

تمتد مشمولات القاضي الشغلي لتشمل جميع النزاعات المترتبة عن عقد الشغل الفردي بدءا بقيامه مرورا بتنفيذه وصولا على انتهائه. ومرورا بهذه المراحل نلاحظ تدرج أهمية هذه الرقابة بنسب متفاوتة “حيث أن اتساع الرقابة القضائية في المادة الشغلية يتجلى بصفة أوضح من خلال النزاعات المتعلقة بانتهاء العلاقة الشغلية وخاصة منها المتعلقة بالطرد، وبدرج أقل على مستوي تنفيذ العلاقة الشغلية بصفة خاصة مراقبة القاضي للسلطة التأديبية داخل المؤسسة”[200].

أما بالنسبة لقيام العلاقة الشغلية وخاصة في مرحلة الانتداب “فالقاضي لا يمارس أية رقابة مسبقة إزاء نفوذ المؤجر في هذه المرحلة لكن هذا لا يمنع تدخله لاحقا إذا ما أثير نزاع شغلي أمامه لتوضيح الضوابط القانونية التي يتعين على المؤجر التقيد بها في مجال الانتداب”،[201] فيمكن القول بأن هذه الرقابة محدودة في هذا المجال إذ ما قارناها بالرقابة في مجال الطرد من العمل من حيث التنظيم القانوني[202].

ومن هنا نلاحظ أن الرقابة القضائية على عمليات الانتداب هي رقابة لاحقة مشروطة بقيام نزاع شغلي أمام القاضي ليتمكن من مراقبة حسن سير العملية ويمكن حصر ميدان هذه الرقابة من خلال فقه القضاء فيما يتعلق بحرية المؤجر في اللجوء إلى عقود الشغل المبرمة لمدة معينة واللجوء لفترة التجربة.

بالنسبة للعقود المعينة المدة يعتبر بمقتضاها الأجير عاملا وقتيا مما يسهل إنهاء علاقته بالمؤسسة لاحقا وذلك على عكس عقود الشغل المبرمة لمدة غير معينة والتي بمقتضاها يعتبر الأجير عاملا قارا وإذا كان الانتداب بمقتضي عقود شغل مبرمة لمدة معينة يوفر للمؤجر مرونة واسعة في التحكم في قوة العمل، فان عقود الشغل لمدة غير معينة تشجع الأجير وتحفزه على الإنتاج على اعتبار أنها تضمن له الاستقرار في العمل. أما إدراج بند في العقد يتضمن خضوع الأجير لفترة تجربة قبل أن يصبح العقد نهائيا، “فقد ساهم فقه القضاء في ترشيد نفوذ المؤجر في هذا المجال قصد تجنبه الإفراط في اللجوء إلى فترة التجربة صلب عقد الشغل”[203] واستغلاها من طرف المؤجر كفترة عمل فعلية.

وتتجلى هذه المحدودية كذالك من خلال الفصل 183 ( جديد ) من مجلة الشغل حيث نلاحظ أن المشرع حدد مجال مراقبة دوائر الشغل على عقود الشغل وعقود التدريب وبالتالي فهي لا تنظر مبدئيا في النزاعات التي تنشب بمناسبة إبرام أو تنفيذ عقود التشغيل مثل عقود التكوين والتشغيل وعقود التربص للإعداد للحياة المهنية، أما النزاعات الناشئة عن فترة التجربة فهي من اختصاص دائرة الشغل باعتبارها الفترة الأولى من عقد الشغل ولم يخصها المشرع بعقد منفرد ومستقل عن عقد الشغل.[204]

فبالإضافة إلى غياب رقابة فعلية على عمليات الانتداب تتجلى أيضا محدودية على مستوى العقوبات.

الفقرة الثانية: محدودية الرقابة على الانتداب على مستوى العقوبات:

“يتحمل المؤجر المسؤولية عن كل تجاوز وتعد على القوانين المنظمة للتشغيل”،[205] حيث يعتبر الجزاء القاضي بإبطال قرارات المؤجر الغير مشروعة القاضية باستبعاد احد المرشحين من إجراءات الانتداب أكثر العقوبات تلاؤما مع الحق في الشغل، إلا أنه أمام الصعوبات المتعلقة أساسا بعدم إمكانية تطبيق الأثر الرجعي للبطلان في مثل هذه الصور، طالما أن المترشح يبقي أجنبيا عن المؤسسة ولم يدخل بعد في علاقة شغلية مع المؤجر، أصبحت العقوبات الجزائية أفضل بديل للبطلان

لكن بالرجوع إلى قانون الشغل نلاحظ ضعف هذه العقوبات إن وجدة من جهة ( أ ) وغيابها في أغلب الأحيان ( ب ) مقارنة بالتشريع الفرنسي الذي نظم وأقر عقوبات تتنوع بين جزائية ومدنية و مالية.[206]

أ- ضعف العقوبات :

الالتجاء للعقوبات الجزائية يمثل الوسيلة التي يمكن من خلالها إجبار المؤجر على احترام القوانين الاجتماعية المفروضة من قبل المشرع في إطار النظام العام الاقتصادي والاجتماعي،[207] المشرع التونسي من جهته اقتصر على المخالفات في جل النصوص المنظمة للانتداب مع التأكيد على الخطية دون عقوبة السجن.

ويبدو المشرع متردد حول أهمية العقوبة الجزائية في قانون الشغل، في هذا الإطار ظهرت ثلاثة تيارات فقهية[208]:

الاتجاه الأول يعتبر أن العقوبة الجزائية ضرورية لأن قواعد قانون الشغل تستمد قوتها من هذه العقوبة وتخضع المؤجر لقواعد النظام العام الاجتماعي.

الاتجاه الثاني يدعو إلى إلغاء العقوبة الجزائية في قانون الشغل لأنها تشكل حاجزا أمام تطور العلاقات المهنية وبالتالي إلغاء تدخل الدولة في قانون الشغل ويلاحظ أصحاب هذا التوجه أن العقوبة الجزائية تبقي ضرورية عند دخول قاعدة قانونية جديدة للحياة المهنية وبعد ذلك يقاس مدى تطور القاعدة وترسخها بمدى قدرتها على التخلص من العقوبة الجزائية.

الاتجاه الثالث يعتبر أن التخلي عن العقوبة الجزائية في قانون الشغل مسالة وقت ليس إلا فهي تمثل “الوسيلة الوحيدة التي تضفى الفاعلية على القواعد التي تحمي الأجراء” لذلك فإن هذا الاتجاه يدعو إلى الحد من نزعة التجريم المسيطرة حاليا على قانون الشغل وانتقاء عدد معين من المسائل ذات الأهمية وإخضاعها وحدها لمبدأ التجريم.

ويبدو أن المشرع التونسي قد تبني الاتجاه الثالث إذ أن العقوبات المكرسة تتم عن فلسفة تتدرج نحو إلغائها، وربما يعود هذا التوجه إلى محاولة المشرع التوفيق بين حاجة العامل للشغل وحرية المؤجر في الانتداب من عدمه وبالتالي فإن عقوبة السجن قد تنفر أصحاب المؤسسات من تطبيق هاته القواعد و تضعف بالتالي من هذا الحق. كما تتجلى هذه المحدودية على مستوى العقوبات من خلال غياب العقوبة الجزائية.

ب- غياب العقوبة الجزائية:

خلافا للمشرع الفرنسي الذي جرم الميز في الانتداب واقر عقوبة السجن لمدة تصل إلى السنتين عدى العقوبة المالية التي تصل إلى 200 ألف فرنك تنسحب لا فقط على كل من يرفض تشغيل طالب عمل بسبب جنسه أو وضعه العائلي أو غيرها من الأسباب الغير مشروعة[209] بل أيضا على أصحاب عروض الشغل المتضمنة لأحد مظاهر التمييز الممنوعة، افتقد قانون الشغل التونسي في المقابل أدنى عقوبة جزائية من شأنها أن تمنع الميز بين طالبي الشغل على أساس التمييز الجنسي دون التطرق لأشكال ميز الأخرى لتقتصر على إمكانية المطالبة بالتعويض عن الضرر وخطية زهيدة.[210]

كما نلاحظ غياب العقاب الجزائي في حالة خرق المؤجر لحق المعوق في العمل إذ تحدد الجزاء في مجرد خطية محدودة جدا[211] وهو جزاء غير كفيل بفرض احترام حق المعوق في العمل حيث كان من الأجدى التشديد في العقاب على غرار المشرع المصري الذي أقر لمخالفة هذه القواعد عقوبة جزائية تصل للسجن والخطية عدى الجزاء المدني المتمثل في دفع شهريا للمعوق مبلغ يساوي الأجر المقرر للعمل وذلك لمدة سنة على الأكثر من تاريخ إثبات المخالفة.[212]

كما أنه في الفصل 370 من مجلة الشغل المتضمن لحق الأولوية في التشغيل للعامل الفلاحي الذي تغيب لمدة تفوق الثلاثة أشهر بصفة معللة لم يقرر المشرع عن مخالفتها أي جزاء، نفس الشيء بالنسبة لمخالفة أحكام الفصل 21-13 (جديد) الذي اقر أن “للعملة اللذين فسخت عقود شغلهم نتيجة حذف مراكز شغلهم لظروف اقتصادية حق الأولوية في الشغل”.

لكن إقرار عقوبات جزائية يبقي من شأنه أن يكون ضمانا للأجير أكثر منه حد من حرية المؤجر في الانتداب ومنعه من التعسف بالنظر لما يوفره التتبع الجزائي من امتيازات للأجير غابت في التشريع التونسي ، وتجدر الإشارة انه لا يوجد استثناء لهذه القاعدة إلا في الفصل 266 (جديد) من مجلة الشغل المنظم لتشغيل اليد العاملة الأجنبية حيث أقر في فقرته الثانية معاقبة العامل الذي يستمر في مباشرة العمل رغم طلب توقيفه بالسجن لمدة تتراوح بين يوم وخمسة عشر يوما وبخطية تتراوح بين 120و300 دينارا أو إحدى العقوبتين فقط.

► خاتمة الجزء الأول ◄

بعد دراسة حرية المؤجر في الانتداب، نلاحظ أن قانون الشغل في ظل غياب إطار تشريعي ينظم عملية الانتداب، ولو في بعض الفصول المتفرقة من مجلة الشغل والاتفاقيات المشتركة والاتفاقيات الدولية، قد أقر بحرية المؤجر في الانتداب حيث أمكن تأسيس هذه الحرية بالرجوع إلى ملكية المؤجر للمؤسسة كأشخاص وأدوات عمل كأساس ذاتي، وتتأكد بظهور مفهوم مصلحة المؤسسة حيث أصبح المؤجر يبرر به حرية الانتداب.

أما عند ممارسة الانتداب فقد اقر قانون الشغل بحرية المؤجر في اختيار الأجير الذي سيتعاقد معه بصفة نهائية بتوفير جملة من التقنيات التي تساعده على اختبار مهارات العامل البدنية والفكرية والأخلاقية لكي لا يضطر فيما بعد إلى قطع العلاقة الشغلية وتعويض العامل عن ذلك، كما يستمد المؤجر هذه الحرية من غياب التزم قانوني يلزمه بالانتداب. وتدعم هذا التوجه منذ تنقيحي 1994 و 1996 من خلال تبسيط إجراءات الانتداب والتنويع من الأشكال القانونية للعقود وتدعيم إبرام العقود محددة المدة وعدم تشديد الرقابة على المؤجر في هذا المجال ومنحه امتيازات لتشجيعه على الانتداب.

إلا أن هذه الحرية في الانتداب ليست بالحرية المطلقة، إذ يمكن للمؤجر أن يتعسف في استعمالها ويتسبب في ضرر للأجير من خلال المساس بحريته الخاصة أو المساس بالحريات العامة، فقد حافظ قانون الشغل على الصبغة الحمائية للأجير باعتباره الطرف الضعيف في هذه المرحلة رغم توجهه نحو سياسة المرونة، وبالتالي يبقي الأجير في حاجة إلى الحماية من قبل قانون الشغل وهو ما سندرسه في الجزء الثاني.

الجزء الثاني: حماية الأجير في الانتداب

تعتبر حرية العمل أكثر الحريات عرضة للتحديد ذلك إن العلاقة الشغلية تجمع بين طرفين غير متكافئين ومن بين ما يتمتع به المؤجر من الحريات في قانون الشغل نجد أهمها حرية الانتداب لذلك كان من الضروري تحديد حرية المؤجر في الانتداب لتحقيق نوع من التوازن.

فوفاءا لنشاته ونزعته الحمائية تجاه للأجراء باعتبارهم الطرف الضعيف في العلاقة الشغلية ولضمان أن تتم عملية الانتداب على أساس اعتبارات تهم فقط قدرات وكفاءات الأجير، فقد سعى قانون الشغل في ظل غياب نص خاص بالانتداب إلى توفير نوع من الحماية للأجير بإقرار مبدأ المساواة عند الانتداب، وحماية الحياة الخاصة للأجير عند الانتداب، والحد من حرية المؤجر في اختيار العقد الذي سيتم على أساسه الانتداب وذلك في إطار حماية الأجير من تعسف المؤجر في الانتداب (الفصل الأول).

ومن جهة أخرى منع أصحاب المؤسسات من انتداب النساء والأطفال والأجانب إلا بتوفر شروط تشغيلهم، والأخذ بعين الاعتبار في الانتداب لبعض الاعتبارات الوطنية والاجتماعية من خلال أولويات الانتداب وأولويات إعادة الانتداب، في إطار تأطير قانون الشغل لحرية الانتداب ( الفصل الثاني ).

الفصل الأول: حماية الأجير من تعسف المؤجر في الانتداب:

لا وجود لحرية مطلقة، إذ تخضع كل حرية إلى جملة من القواعد التي تنظمها وتضبط كيفية ممارستها، وإن استعمال عبارة “الحرية” تقترن بالضرورة بعبارة “السلطة” وانه كلما منحت السلطة إلى شخص إلا ومارسها بكل حرية يمكن أن تؤدى إلى التعسف في الاستعمال، فانه يتم تحديدها كلما اقتضت الحاجة إلى ذلك.

وإن كان من حق المؤجر رفض الانتداب على أساس ما يتمتع به من سلطة في التسيير وحرية في الانتداب، فإنه لا يمكن أن يتعسف في استعمال هذا الحق إلا إذا كان الرفض مؤسسا على سبب شرعي، لذلك وللحد من حرية المؤجر في رفض الانتداب والسعي لتوفير الحماية اللازمة للأجير في الانتداب تدخل المشرع للحد من حرية المؤجر في اختيار الأجير المناسب للعمل ( المبحث الأول ) وللحد كذالك من حريته في اختيار العقد الذي على أساسه سيتم الانتداب ( المبحث الثاني ).

المبحث الأول: الحد من حرية المؤجر في اختيار الأجير:

إن اعتبار المؤجر المحدد الوحيد لمصلحة المؤسسة لم يمنع المشرع والمحاكم من التدخل لمعاقبة كل انحراف بالسلطة من طرف المؤجر تحت غطاء مصلحة المؤسسة[213] وذلك من خلال منع الميز (الفقرة الثانية) وحماية الحياة الخاصة للأجير عند الانتداب (الفقرة الأولى)، على حد قول الأستاذ Paul Durand “يجب على المؤجر التعامل مع الأجير بإنسانية.”[214]

الفقرة الأولى: حماية الحياة الخاصة للأجير عند الانتداب:

يتم الحديث عادة عن حماية الحياة الخاصة للأجير أثناء تنفيذ عقد الشغل،[215] لكن المؤجر على امتداد الفترة التي تسبق إبرام عقد الشغل يعمد إلى جمع المعلومات والمعطيات عن الأجير قبل أن يقرر انتدابه من عدمه في نطاق حقه في التعرف والتأكد من شخص الأجير، لكن في ظل غياب نص في قانون الشغل يتعلق بالانتداب بصفة خاصة وحتى لا يتعسف المؤجر في استعمال هذا الحق، تم تحديد هذا الحق بالرجوع إلى موضوع المعلومات التي يسعى المؤجر إلى معرفتها، حيث يتم التعرف على شخص الأجير من خلال الأسئلة التي يطرحها عليه المؤجر مباشرة أثناء المقابلة أو من خلال الوثائق التي يشترط تضمينها بملف الترشح، أي أنه يستفسر عادة عن العناصر والمسائل التي تساعده في تقييم مدى تأهل الأجير للعمل المقترح.

فالتزام المؤجر بمبدأ عدم المساس بالحياة الخاصة للأجير عند الانتداب يجد سنده في جملة من الحقوق ذات الطابع الدستوري،[216] وهو ما تدعم بإصدار قانون حماية المعطيات الشخصية[217] إذ يجب أن تكون المعلومات المطلوبة من الأجير مرتبطة بالعمل المقترح ( أ ) مع وجوب توفر الشفافية والأمانة في معالجة المعلومات ( ب ).

أ- وجوب ملائمة المعلومات المطلوبة مع العمل المقترح:

لقد نص الدستور التونسي في الفصل 9 على وجوب ضمان “حرمة الفرد” كحق من الحقوق التي يتمتع بها حيث “يعتبر ميدان الحياة الخاصة الدائرة السرية التي من حق الفرد أن يترك داخلها، وتشمل الحياة الخاصة حق الفرد في الهوية، ومن مظاهره عدم الكشف عنها بدون رضاه ولا يجبر أي شخص على تبيان اسمه وعمره وعنوانه وممتلكاته، والكشف عن الإسرار المتعلقة بصحته وحياته الزوجية والعاطفية بدون سبب شرعي.”[218]

من جهته القانون التونسي اهتم بحماية الحياة الخاصة للأفراد،[219] من خلال قانون 2004 المتعلق بحماية المعطيات الشخصية، لكن هذه المسألة لم يتم التعرض لها في قانون الشغل رغم أنه يمكن المساس بالحياة الخاصة للأجير أثناء عملية الانتداب.

بالنسبة لقانون الشغل الفرنسي كان أكثر تحديدا[220]، فعلى خلفية تقرير قام بإعداده الأستاذ Gérard Lyon Caen حول الحريات العامة والتشغيل تم إصدار قانون 31 ديسمبر 1992 الذي تم تضمينه في مجلة الشغل، وقد نص على أن المعلومات المطلوبة من المترشح لا يمكن أن تكون إلا بهدف تقييم قدراته ومؤهلاته المهنية لممارسة العمل المقترح وبالتالي فإنه لا يجب أن تهم حياته الخاصة، “فلا يمكن للمؤجر رفض انتداب أجير على أساس إحدى المعطيات المتعلقة بحياته الخاصة مثل حالته العائلية أعزب أو متزوج، انتمائه السياسي أو الديني”،[221] كما فرض قانون 1992 الفرنسي “أن تكون المعلومات المطلوبة من الأجير لها علاقة مباشرة بالعمل”،[222] وأن هذا المبدأ “ينطبق على كل وسائل البحث عن المعلومات من استجواب واختبارات وغيرها”.[223]

فقد حظية مسألة حماية الحياة الخاصة للأجير في الانتداب باهتمام خاص، حيث حاول فقه القضاء الفرنسي أن يبرز الحدود الفاصلة بين الحياة المهنية والحياة الخاصة للأجير فأقر أن المؤجر “لا يحق له أن يطلب من المترشح معلومات ليس لها علاقة مباشرة بالعمل المقترح، وأن الأسئلة الموجهة إليه يجب أن تكون بغاية تمكين المؤجر من تقييم موضوعي لقدراته المهنية”.[224]

لكن تطرق المؤجر للحياة الخاصة للأجير يمكن أن يساعده في بعض الأحيان على تحديد قرار الانتداب من عدمه، فأخلاق الأجير أو سلوكه قد تعتبر أحيانا عنصرا محددا لقرار الانتداب خاصة إذا كان العمل له صبغة تربوية أو من الأعمال التي تتطلب الثقة والأمانة كالحراسة أو الائتمان على الأموال، كذاك بالنسبة للحالة الصحية للأجير فقد تكون القدرة العملية مرتبطة أحيانا بالقدرة البدنية والصحية والذهنية

ومن هذا المنطلق يمكن الإقرار بأن الحدود الفاصلة بين الحياة الخاصة والحياة المهنية للأجير تكمن في مدى تأثير الأولى على الثانية، فكلما رأى المؤجر إمكانية لتأثير احد العناصر للحياة الخاصة للأجير على حياته المهنية فإنه يقوم بالاستفسار عنها، وهو ما أكده قانون العمل الفرنسي[225] عند تنظيم ضوابط الاستبيان الذي يجريه صاحب العمل مع المتقدمين لشغل الوظيفة حيث تطلب ضرورة أن تكون المعلومات المطلوبة للاستعلام عنها ذات صلة مباشرة وضرورية مع الوظيفة أو لازمة لتقدير الإمكانات والقدرات المهنية والمستوي الفني لطالب العمل، ومن جهة أخري يتعين على طالب العمل الإجابة على هذا الاستبيان “بطريقة تتفق مع ما يوجبه مبدأ حسن النية”.[226]

ومن الأسئلة الجائزة في الانتداب نجد الاستفسار عن الحالة المدنية للأجير المتمثلة في الاسم واللقب ومكان السكني، الحالة العائلية إذا لم تكن لها مساس بحياته الخاصة، الشهائد الحائز عليها، الحالة العسكرية. أما الأسئلة الممنوعة، مثلا الاستفسار عن حالة الحمل للمترشحة، الحالة الجنسية، الانتماء الديني، الحالة الصحية، الانتماء النقابي والأفكار السياسية، وأن سكوت الأجير لا يمكن أن يكون مبررا لطرده أو رفض انتدابه.[227] فكيف يجب أن تتم معالجة هذه المعطيات؟

ب- وجوب توفر الشفافية والأمانة في معالجة المعلومات الشخصية :

يعمد المؤجر أحيانا إلى جمع المعلومات المتعلقة بالأجير إلى استعمال طرق غير شرعية وغير قانونية خاصة الاستعانة بالمنظومة الإعلامية، فهذه الوسيلة “صالحة فقط لإعانة المؤجر”[228]، إذ يجب على المترشح للعمل أن يكون على علم بكل أساليب وتقنيات الانتداب التي سيخضع لها مسبقا[229]، فلا تعتمد كل معلومة يحصل عليها المؤجر بغير الطرق التي يعلم بها الأجير[230]، إذ يجب حسب قانون 2004 أن تتم معالجة المعطيات الشخصية في إطار الشفافية والأمانة واحترام كرامة الإنسان.[231] ويجب على كل شخص يقوم بمعالجة المعطيات الشخصية أن يتخذ جميع الاحتياطات للمحافظة على أمانها وسريتها[232]، “حيث يمنع الاحتفاظ بمعلومات تظهر بصفة مباشرة أو غير مباشرة الجذور الأصلية أو الأفكار السياسية أوالفلسفية أو الدينية أو الانتماء النقابي للمترشح، كذلك المعلومات المتعلقة بالصحة أوالحياة الجنسية بدون موافقة صريحة من المعني بالأمر في شكل كتابي”[233] وهو ما أكده المشرع التونسي[234] الذي اقر انه تحجر معالجة هذه المعطيات بدون موافقة صريحة من المعني بالأمر، و”يجب مد الأجير بها عند كل طلب ليتمكن من تعديلها إن لزم الأمر”[235]، “كما لا يمكن للمؤجر طلب المعلومات عن أجيره من مؤجره القديم دون علم هذا الأخير”[236].

كما أن سلطة المؤجر في مسك المعلومات الخاصة بالأجير محدد زمنيا، فالقانون لم ينص على مدة قصوى يجوز للمؤجر الاحتفاظ خلالها بالمعلومات المجمعة لديه عن الأجير، لكن الفقه يجمع على انه “لا يمكن أن يتجاوز احتفاظ المؤجر بالمعلومات السنتين من تاريخ آخر لقاء مع الأجير”،[237] فالاتجاه الغالب وهو أن لا تتجاوز مدة الاحتفاظ بالمعلومات المدة اللازمة لعملية الانتداب، فبانتهاء تلك المدة وبدون أن يتم الانتداب على المؤجر التخلص من تلك المعلومات نهائيا،[238] كما “لا يحق له تمريرها إلى طرف آخر يريد الاستفادة منها لغاية تجارية”.[239] وفي ذلك حماية للأجير تتأكد بسعي قانون الشغل منع كل إشكال الميز في الانتداب.

الفقرة الثانية : إقرار مبدأ عدم الميز عند الانتداب

إن طرح مسألة المساواة في قانون الشغل مبرر خاصة بارتباط المبدأ بفكرة النظام العام إضافة إلى تطور المفهوم نفسه، حيث لم يعد الأمر مقتصرا فقط على النظر إلى مبدأ المساواة باعتباره من القيم و المثل العليا غير قابلة للتطبيق بل إن البحث عن مدى تكريس مبدأ المساواة في الواقع العملي استوجب تخلي المفهوم عن إطلاقيته بتبني صيغ جدية أكثر تقنية مثل المساواة في الحقوق، التكافؤ في فرص العمل، مبدأ العدالة والإنصاف[240]، “فبالرغم من أن المساواة في العمل مطلب ملح إلا أنها صعبة المنال”.[241]

فمن خلال دعم قانون الشغل لحرية المؤجر في الانتداب[242] لا غرابة إذا سجلنا غياب مبدأ عام في تحقيق المساواة في الحظوظ وتكافئ الفرص للعمل، إذ أن نجاعة هذا المبدأ يمر حتما برسم حدود لهذه الحرية التي لا يجب أن تتحول إلى حد التعسف، لذا وجب البحث في التكريس القانوني لمبدأ عدم الميز ( أ ) ثم صعوبة إثبات الميز (ب).

أ-التكريس القانوني لمبدأ عدم الميز في الانتداب:

فعلى الرغم من خطورة وحساسية المسألة فان قانون الشغل لم يحدد ما المقصود بالميز ولا العناصر أو الأسباب المؤدية إلى تكييفه على أنه تعسفي، فبالنسبة لقانون الشغل التونسي لا وجود لنص خاص يجرم بصورة صريحة ممارسة الميز في الانتداب من طرف المؤجر، عكس المشرع الفرنسي الذي سعى لتوفير الحماية اللازمة للأجير من تعسف المؤجر في الانتداب، فقد نص على تجريم أي رفض للانتداب على أساس الجنس أو العرق أو الحالة الاجتماعية أو الانتماء السياسي أو الديني،[243] كما منع الميز على أساس نفس العناصر عند صياغة عرض الشغل بمنع أي إشهار على جنس المترشح وحالته العائلية[244] ، ومنع اشتراط سن قصوى ضمن عرض الشغل.[245]

وقد عرفت الاتفاقية الدولية عدد(111)[246] في المادة الأولى الميز على أنه “كل أشكال التفرقة أو الإقصاء والتخيير التي تقوم على أساس العرق، اللون، الجنس، الدين، الأفكار السياسي والأصل الاجتماعي أو الانتماء القومي والتي تهدف أساسا إلى خرق المساواة بين الأفراد أمام فرص العمل المتاحة.”ويأتي هذا منع الميز كتكريس للحقوق والحريات الأساسية التي جاء بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.[247]

ففي قانون الشغل التونسي كانت النصوص متفرقة، فبالنسبة للميز على أساس الجنس تم التنصيص في الفصل (5) مكرر على أن أحكام مجلة الشغل تطبق بدون تمييز بين الرجل والمرأة،[248] لكن هذا النص جاء عاما وليس به تنصيص صريح على منع الميز في الانتداب، لكن بالرجوع إلى الاتفاقية المشتركة الإطارية في فصلها 11 نجدها تنصص صراحة على أن” الشابات من البنات والنسوة المتوفرة فيهن الشروط المطلوبة يمكن لهن بنفس الوجه المتبع بالنسبة للشبان والرجال الحصول على كافة الوظائف بدون تمييز في الترسيم أو الأجر المقابل”.

أما بالنسبة للميز على أساس الانتماء النقابي فإنه رغم تنصيص الدستور التونسي على حرية الانتماء النقابي[249] لم يتم التعرض له صراحة في مجلة الشغل بل بصفة عرضية عندما نصت على ضرورة أن تهتم الاتفاقيات بتحديد شروط الانتداب التي لا يجب أن تمس بالحرية النقابية وبحرية الرأي،[250] عكس المشرع الفرنسي الذي جرم صراحة الميز على أساس الانتماء النقابي[251] أوالانتماء الديني[252] خاصة أثناء الانتداب وعلى منواله جرم فقه القضاء الفرنسي الميز بكل أنواعه.[253] ومن هنا نستشف فكرة حماية الانتماء النقابي للأجراء “على مستوى الفقه بالاعتماد على الضمان المتعلق” بالحرية الفردية” من جهة، وعلى مستوى فقه القضاء باعتباره عنصر من عناصر “الحريات الشخصية”.[254]

فالتزام المؤجر بمبدأ المساواة عند الانتداب يجد سنده في جملة من الحقوق ذات الطابع الدستوري كالمساواة في الحقوق والواجبات والحق في العمل،[255] من خلال التأكيد على مبادئ الشفافية والأمانة واحترام الكرامة البشرية، أضف إلى ذلك صدور القانون التوجيهي المتعلق بالنهوض بالمعوقين وحمايتهم الذي اعتبر الميز متمثل في كل الأحكام والأعمال التي يترتب عنها إقصاء أي مترشح بسبب إعاقته من إجراءات الانتداب إذا توفرت فيه المؤهلات اللازمة للقيام به،[256] كذالك نص الفصل 11 من النظام الأساسي العام لأعوان الوظيفة العمومية على انه “ليس هناك أي ميز بين الجنسين في تطبيق هذا القانون باستثناء الأحكام الخاصة التي تحتمها طبيعة الوظائف والتي قد تتخذ في هذا الصدد”.[257]

لكن على اعتبار أن هذه المسالة تهم فعل شرعي من حيث موضوعه (رفض الانتداب حق للمؤجر) ولكنه غير شرعي من حيث سببه ( على أساس الانتماء الديني مثلا) فان إثباته يتميز بنوع من الصعوبة. فأين تتجلى صعوبة إثبات الميز؟.

ب- صعوبة إثبات الميز:

بما أن قانون الشغل ظل وفيا للقانون المدني فيما يتعلق بالأحكام الخاصة بالإثبات فإن من يدعي الميز في الانتداب عليه إثباته طبقا لأحكام م إع،[258] وعلى هذا الأساس يكون المترشح الذي وقع إقصائه بطريقة تميزية عند الانتداب حرمته من حقه في العمل مطالب بإثبات خطأ المسؤول عن الانتداب المتمثل في خرقه مبدأ تكافئ الفرص في العمل وذلك بجميع الوسائل باعتبار الميز واقعة قانونية يمكن إثباتها بجميع الوسائل، ومطالب بإثبات ما ادعاه من تمييز غير مشروع وأن سلوك المؤجر كان على أساس معايير تمييزية تهم الجنس أواللون أوالانتماء النقابي أو الديني مما تسبب في حرمانه من الحصول على العمل بصفة مباشرة.

فكان لا بد من التفرقة بين الميز المباشر والميز غير المباشر، فالميز المباشر هو الذي يستهدف فئة معينة أو الناتج عن عروض الشغل التي تستهدف المتزوجين مثلا، أما الميز غير المباشر هو الذي يمس فئة أكثر من أخري مثل اشتراط طول معين في بعض العروض الذي يقصي أقلية مهتمة بالعمل المطلوب.[259]

لكن الإشكال يتمثل في صعوبة إثبات ممارسة المؤجر للتمييز وذلك راجع إلى افتقار قانون الشغل لنظرية إثبات خاصة به[260] من جهة، ومن جهة اجري هيمنة قاعدة “المؤجر القاضي الوحيد”،[261] وأن المسالة تهم إثبات فعل شرعي من حيث موضوعه ( رفض الانتداب حق للمؤجر) ولكنه غير شرعي من حيث سببه مما جعل النصوص القانونية المنظمة للميز قليلة التطبيق.[262]

فالأجير يصطدم عادة “بالمبررات الموضوعية” التي يقدمها المؤجر لتبرير رفضه الانتداب التي تتمثل غالبا في التحجج بان الأجير لا يملك المؤهلات الفنية والمهنية الكافية وأن الرفض لم يكن على أساس معطيات شخصية بل على أساس مصلحة المؤسسة[263]، وهو ما تأكد من خلال إيجاد معادلة بين “الحياة الشخصية” و”الحياة العملية” للأجير،[264] بل أكثر من ذلك، حيث يعجز المترشح للشغل في أغلب الأحيان عن إثبات صفة المؤجر المرتكب للميز.[265]

ففي صورة وجود نزاع يقدم الأجير الوقائع التي تثبت تعرضه للميز سواء مباشرة أو بصفة غير مباشرة، وعلى المؤجر إثبات أن رفضه للانتداب كان مؤسسا على معايير لا صلة لها بالميز، ففي صورة إثبات الميز، “يكون قرار المؤجر باطلا بحكم القانون ويعطي القاضي قراه بعد الإذن بإجراء الأبحاث والتحقيقات التي تساعده على ذلك”.[266] فالمتضرر من الميز يمكنه الحصول على التعويض على أساس الضرر الحاصل شريطة إثباته للميز،[267] كما يمنح القانون الفرنسي “حق القيام بالدعوى للنقابة والمنظمات المعترف بها قانونا بشرط الحصول على موافقة الأجير المعني بالأمر”.[268]

لكن من الملاحظ أن منع الميز في الانتداب في التطبيق يفتقد النجاعة اللازمة وهذا راجع لعدة اعتبارات مرتبطة بالسلطة الموسعة للمؤجر في مجال التشغيل فمن السهل رفض انتداب امرأة على أساس أنها لا تستجيب للمواصفات المطلوبة، مما يسهل إمكانية ” إخفاء الميز خلف مظاهر شرعية.”[269]

ومن بين الحلول الحديثة التي تبنتها العديد من القوانين المقارنة من أجل تمكين الأجير ضحية الميز من الحصول على تعويض الضرر الذي لحقه نذكر “قلب عبء الإثبات” وتحميله على المؤجر المتهم بالميز الذي يصبح مطالب بإثبات شرعية أسباب رفض الانتداب.[270] ومن هنا يصبح دور القاضي حاسما في مقارنة الوسائل بالغايات أي مراقبة “مدى جدية وشرعية الأسباب والتبريرات التي يقدمها المؤجر عند رفض الانتداب”[271] نفس التوجه أكدته محكمة التعقيب الفرنسية حين اعتبرت أن الطرد لا يمكن أن يبرر إلا ” بسبب جدي و حقيقي لا علاقة له بسن الشخص”.[272]

فبتوفير نوع من الحماية للأجير من خلال منع الميز في الانتداب وحماية الحياة الخاص للأجير حاول قانون الشغل الحد من حرية المؤجر في اختيار الأجير، كما حاول كذلك الحد من حرية المؤجر في اختيار العقد الذي سيتم على أساسه الانتداب على اعتبار أن هذا العقد من حيث مدته و شروطه سيؤسس لعلاقة شغلية بين الطرفين.

المبحث الثاني: الحد من حرية المؤجر في اختيار العقد:

من إجراءات الانتداب كذالك تحضير المؤجر للعقد الذي سيبرمه مع الأجير المستقبلي وهذا العقد لن يبرم إلا بعد رضا الطرفين عليه، وتسبق ذلك فترة تفاوض حول هذا العقد تحدد بعدها مسؤوليات كل طرف.[273] فالمبدأ هو حرية المؤجر في اختيار العقد، محدد المدة أو غير محدد المدة أو لوقت جزئي رغم اللجوء بقلة إلى هذا النوع الأخير.[274] لكن المشرع وفاءا لنزعته الحمائية مكن الأجير من نوع من الحماية في تحديد شروط العقد (الفقرة الثانية) ومدة العقد ( الفقرة الأولى ) قبل إبرامه.

الفقرة الأولى: بالنسبة لمدة العقد:

لم يكن يوجد في القانون التونسي قبل تنقيح سنة 1996[275] ما يحد ولو نسبيا من حرية المؤجر في إبرام عقود شغل معينة المدة وهو ما حدا بالمؤجرين للتحايل ، ولم يكن أمام الأجراء إلا قبول الانتداب على أساس هذا العقد وإلا فقدان مورد للرزق، إلا أن لجوء المؤجرين إلى هذا النوع من العقود يخضع إلى مراقبة قضائية ( أ ) تدعمت بتدخل المشرع ( ب ) بمناسبة تنقيح سنة 1996 بتحديد حالات اللجوء لهذا النوع من العقود.

أ- التدخل القضائي:

إن أهم ما يبرز الطابع الحمائي لقانون الشغل أن قوى الطرفين المتعاقدين ليست متوازنة بحيث يملى المؤجر شروطه على الأجير لينقلب عقد الشغل في الواقع من عقد رضائي إلى عقد إذعان، مما يستدعي تدخل القضاة لمنع التعسف باعتبار أن عقد الشغل يمنح الأجير حقوقا ويضمن له الاستقرار في العمل سواء كان محدد المدة أو غير محدد المدة، وإذا كان القاضي “لا يمارس أية رقابة مسبقة إزاء نفوذ المؤجر عند قيام العلاقة الشغلية فإن هذا لا يمنع تدخله لاحقا إذا ما أثير نزاع شغلي أمامه لمراقبة ذلك النفوذ وتوضيح الضوابط القانونية التي يتعين على المؤجر التقيد بها في مجال الانتداب”[276] خاصة البحث عن معيار واضح يمكن اعتماده قصد مراقبة نفوذ المؤجر في هذا المجال في ظل الفراغ التشريعي قبل 1996.

بعض القرارات استندت إلى مقياس زمني يتمثل في أن الأجير يعتبر قارا كلما تجاوزت أقديمته في المؤسسة ستة أشهر بدون انقطاع،[277] وذهبت قرارات أخرى إلى اعتماد معيار يتعلق بالاختصاص فأقرت محكمة التعقيب أن “العامل الذي لا اختصاص له المنتدب للعمل بحظيرة بناء يعتبر عاملا وقتيا”.[278] واكتفت بعض القرارات الأخرى بالاستناد إلى وجود بند يحدد مدة العقد بأجل ثابت لتستنتج أن الأجير الذي أنتدب لمدة معينة يبقي عاملا وقتيا حتى لو وقع تجديد العقد عدة مرات متتالية أو إبرام سلسلة من العقود المحددة المدة،[279] وأقرت في نفس التوجه “إن إبرام الطرفين لعقد محدد المدة بعد تجاوز مدة التجديدات أربع سنوات يعتبر على أساس الاستخدام القار وبالتالي لا عمل على الأجل الوارد به.”[280]

ومن خلال هذه القرارات نلاحظ أن محكمة التعقيب قد تشبثت بالمبدأ القائل أن العقد شريعة الطرفين[281] رغم تباين موقفها مع موقف قضاة الأصل الذي اعتبر أن تشغيل الأجير بتلك الطريقة يدل على التحايل على القانون وأن انتداب الأجير بمقتضي سلسلة من العقود المحددة المدة تفصل بينها مدة قصيرة من الزمن ينم عن نية المؤجر في حرمان العامل مما يمنحه له القانون من حقوق العمال القارين ويبرر بالتالي تدخل القاضي لإعادة تكييف العلاقة الشغلية باعتبارها علاقة مستمرة في الزمن،[282] لكن هذا لا ينفي إمكانية تدخل القاضي لإعادة تكييف العقد “كلما لاحظ فيه لبسا يبرر مثل ذلك التدخل.”[283] فماذا عن التدخل التشريعي لتنظيم شروط الانتداب؟.

ب- التدخل التشريعي:

قبل تنقيح سنة 1996 لم يكن المشرع التونسي ينظم شروط تشغيل العمال على أساس عقود معينة المدة إذ كان يقتصر على الإقرار بإمكانية اللجوء إلى هذا الصنف من عقود الشغل إلى جانب إمكانية اللجوء إلى عقود الشغل المبرمة لمدة معينة[284] وكان يترك الحرية كاملة لأصحاب المؤسسات في الاختيار بين هذين الصنفين من العقود في الانتداب.

وتكتسي التفرقة بين عقود الشغل المبرمة لمدة معينة وعقود الشغل المبرمة لمدة غير معينة أهمية بالغة في قانون الشغل ذلك أنه على أساس هذه التفرقة يقع التمييز بين العمال القارين والعمال الغير القارين اللذين يكونون عرضة لفقدان عملهم كلما انتهت مدة العقد دون مبرر، كما أن المشرع التونسي لم يكن يحدد بصفة موضوعية حالات اللجوء إلى عقود الشغل لمدة معينة مما أدي إلى صعوبة في التمييز بين العمال القارين والعمال الغير القارين.

وقد تدخل المشرع التونسي من خلال تنقيح سنة 1996 لبعض أحكام مجلة الشغل ليحد من ظاهرة الاستعمال المفرط لعقود الشغل المبرمة لمدة معينة في محاولة للتوفيق بين أهم اتجاهات فقه القضاء بتحديد حالات اللجوء إلى هذا الصنف من العقود حسب اعتبارات موضوعية تتعلق بطبيعة العمل أو الخطة التي يشغلها الأجير أو حسب اتفاق الطرفين على أن لا تتجاوز مدة العقد أربع سنوات بما في ذلك تجديداته وإلا أصبح الأجير قارا حسب الفصل 6-4 من مجلة الشغل. فنستنتج أن أحكام هذا الفصل تهدف إلى وضع حد للحالات المشطة المتمثلة أساسا في الانتداب بمقتضي عقد معين المدة يتجدد إلى ما لا نهاية له[285].

ويظهر موقف المشرع التونسي من خلال هذا التنقيح بكونه توفيقي حيث حرص على عدم المساس بحرية المؤجر في الانتداب حيث مكنه من عدم الاقتصار على حالات الفصل 6-4 م.ش. إلا أنه حاول في نفس الوقت التقييد من هذه الحرية وذلك بمنعه تجاوز الأربع سنوات حتى يكون الأجير على علم بمصيره قبل الانتداب وهو دعي محكمة التعقيب إلى التأكيد على ضرورة إعلام المؤجر” كل عامل بمجرد انتدبه بأنه سيقع استخدامه بصفة قارة أو موسمية أو طارئة الأمر”،[286] حيث يمثل الانتداب القار دفعا معنويا وحافزا للأجير لمزيد الإنتاج نظرا لشعوره بانتمائه للمؤسسة وانه في

غياب إعلام المؤجر للأجير بانتدابه للقيام بعمل معين ولمدة معينة، تتأسس العلاقة الشغلية على أساس الانتداب القار وإن الانتداب لمدة معينة أو لانجاز عمل يجب إثباته بعقد شغل محدد المدة وهو ما أقرته محكمة الاستئناف بالكاف وأكدته محكمة التعقيب من بعدها.[287]

كذلك الفصل 17 من مجلة الشغل التونسية تطرق كذلك لمسالة الانتداب على أساس عقود الشغل المحدد المدة ومسالة استرسال هذه العلاقة الشغلية عن كامل مدة العمل دون معارضة الطرف الأخر يتحول العقد حينها إلى عقد ذي اجل غير معين، وهو توجه أكدته محكمة الاستئناف بتونس في قرارات حديثة.[288]

أما بالنسبة للمشرع الفرنسي فقد حدد مدة العقد محدد المدة بين 9 أشهر و 18 شهر على أن لا تتجاوز 24 شهرا،[289] وأقر عقوبات بالنسبة لمخالفة هذه الأحكام، خاصة ما هو مدني متمثل في إعادة تكييف العقد على انه غير محدد المدة.[290]

وهكذا تتجه إرادة المشرع نحو ترشيد نفوذ المؤجر في الانتداب ليضع حد لتذبذب فقه القضاء في البحث عن معيار واضح للتمييز بين العمال القارين والعمال غير القارين.

الفقرة الثانية: بالنسبة إلى شروط العقد:

يخضع عقد الشغل كغيره من العقود إلى مرحلة التحضير والتكوين وهي فترة تسبق إبرام العقد بين الأجير والمؤجر حيث يحدد المؤجر محتوي العقد ويعرضه على الأجير الذي اختاره للعمل لديه والذي تبقي له الحرية في القبول أو الرفض أو إمكانية تعديل بعض شروط العقد بالاتفاق مع المؤجر، وكغيره من العقود فرض المشرع لإبرامها احترام جملة من الشروط القانونية العامة ( أ ) لكن نظرا لخصوصية عقد الشغل كعقد إذعان مكن المشرع الأجير أثناء الانتداب كونه الطرف الضعيف في العلاقة الشغلية من إدراج بنود تساهم في ضمان الاستمرارية في العمل ( ب ).

أ- احترام الشروط القانونية لإبرام عقد الشغل

إن احترام الشروط القانونية لإبرام عقد الشغل يمثل ضمان قانوني بالنسبة لاستقرار لأجير في عمله رغم أن قانون الشغل لم ينص صراحة على هذه الضمانات إلا انه يمكن الرجوع إلى الأحكام العامة في مجلة الالتزامات والعقود.[291]

فاحترام الشروط القانونية لقيام العقد ولصحته يعتبر من أهم الوسائل التي تؤدي إلى تجنب الحكم بالبطلان[292] الذي قد يهدد صحة قيام العلاقة الشغلية، وتعتبر هذه الشروط

ضرورية لقيام عقد الشغل، حيث اقتضى الفصل 23 م.ا.ع. انه لا يتم الاتفاق إلا بتراضي المتعاقدين على أركان العقد وعلى بقية الشروط المباحة التي جعلها المتعاقدان كركن له وما غيراه في الاتفاق اثر العقد لا يعتبر عقدا جديدا بل يلحق بالاتفاق الأصلي.

بالنسبة لعنصر الرضاء فإن التأكد من وجوده يعني التأكد من مدى وجود توافق بين إرادتين أو أكثر على إنشاء علاقة قانونية ملزمة تنصرف أثارها إلى كل طرف متعاقد،

أما التأكد من صحة الرضاء فإنه يحصل بالتثبت من عدم وجود أي عيب يمس من سلامته، فان رضا الأجير يتجسم في الإمضاء على محتوى ونوع العقد وبالتالي ينتقل من مرحلة الانتداب إلى الممارسة الفعلية للعمل.

فمن عيوب الرضا نجد عنصر الغلط الذي يتمثل في الغلط في شخص المتعاقد أو في صفة جوهرية من صفاته كأن يتوهم المؤجر عند التعاقد توفر مؤهل معين لدى الأجير يكيف على أنه غلط جوهري يمكن أن يؤدي إلى المطالبة بإبطال العقد[293]، أما بالنسبة لعنصر للتغرير فإن التأكد من عدم وجوده يتم خاصة بالتأكد من عدم استخدام وسائل أو طرق احتيالية لإيقاع الطرف المقابل في الغلط الذي يدفعه للتعاقد، كأن يعمد المترشح مثلا إلى تقديم شهائد مزورة أو انتحال شخصية غير حقيقية أو يعمد المؤجر إلى إدراج معلومات أو امتيازات مغلوط عن العمل المراد الانتداب له في عرض الشغل. أما الإكراه ولئن كان من العيوب المستبعدة في عقد الشغل فأنه لا شيء يمنع من إمكانية وقوعه.

بالإضافة لعنصر الرضا يشرط أهلية التعاقد في طرفي العقد، فالمبدأ أن كل شخص له أهلية الالتزام والإلزام ما لم يصرح القانون بخلافه.[294] فقد نص المشرع على أن “شرط صحة إجارة العمل وإجارة الخدمة رشد المتعاقدين فالمولى عليه لا يصح العقد منه إلا بموافقة وليه.”[295]

فبالنسبة للمؤجر فإن عقد العمل يعتبر بالنسبة إليه من العقود المتعلقة بالذمة المالية والتي تتنزل في إطار أعمال الإدارة والتي تنطبق عليها القواعد العامة للقانون المدني فإذا كان قاصر غير مميز فلا يجوز له التعاقد إلا بواسطة وليه الشرعي دون الحصول على إذن قضائي، أما إذا كان قاصرا مميزا فيمكن له إبرام عقد شغل لكن صحته تبقي متوقفة على إجازة الولي لكنه في بعض الأحيان يكون متمتعا بترشيد قضائي.

أما شرط المحل[296] فيتم التأكد من وجوده بالتحقق من مدى إمكانيته خاصة التأكد من عدم استحالته المطلقة في مرحلة الانتداب، أما تعيينه أو قابليته للتعيين فالتأكد منهما يتم عن طريق التحقق من تحديد نوع العمل ومواصفاته والتحقق من مشروعيته من خلال التثبت ما إذا كان مخالف للقوانين والنظام العام والأخلاق الحميدة.[297]

نفس الشيء ينطبق على السبب وذلك للطبيعة التبادلية لعقد الشغل حيث أن وجود السبب يختلف باختلاف طرفي العقد، فالمؤجر يجب أن يتأكد من أنه سينتفع بعمل الأجير مقابل الأجر، أما الأجير فيجب أن يكون متأكد من أنه سيتقاضي أجرا مقابل العمل. فبالتأكد من وجود وصحة الشروط القانونية قبل إبرام عقد الشغل يمكن أن يضمن الطرفان وخاصة الأجير كطرف ضعيف في العلاقة الشغلية احترام تلك الشروط عند تنفيذ العمل وبالتالي نكون قد حققنا حماية العقد من البطلان تتأكد من خلال البنود الضامنة لاستمرارية العلاقة الشغلية.

ب-البنود الضامنة لاستمرارية عقد الشغل

بالنسبة للبنود الضامنة لاستمرارية العلاقة الشغلية يمكن أن تكون نتاجا للتفاوض بين الأجير والمؤجر،”فالتفاوض حول العقود في القانون المدني يمكن الأطراف من

ضمان نجاح العلاقة القبل التعاقدية وتقوي فرص نجاحها”.[298] ورغم أن إمكانية التفاوض في عقد الشغل ضعيفة في أغلب الأحيان بسبب كونه عقد إذعان، إلا أن

إدراج مثل هذه البنود في عقد الشغل يمثل بالنسبة للأجير ضمانات اتفاقية جد هامة حيث تختلف هذه البنود باختلاف نوع العقد، محدد أو غير محدد المدة.

ففيما يخص العقود غير محددة المدة، التي تمثل في حد ذاتها ضمانا للأجير لاستمرار العلاقة الشغلية، يمكن الاتفاق على إدراج بند ضمن العقد يكون موضوعه تخلي أحد الأطراف عن ممارسة حقه في الإنهاء الأحادي للعقد لمدة معينة كتخلي المؤجر عن حقه في الطرد لمدة معينة، ويمكن أن تصل مدة هذا البند الضامن للعمل إلى حد تقاعد الأجير،[299] وهو ما يعبر عنه ب: « Clause de garantie d’emploi ».

رغم أن هذا البند يرمي إلى التنازل عن أحد الحقوق الأساسية التي تهم النظام العام لمدة معينة فإنه يمكن الإقرار بشرعيته عملا بالقاعدة القائلة ب” إمكانية مخالفة الأحكام التي

تهم النظام العام بما هو أصلح للأجير”،[300] كيف لا وهذا البند يرمي إلى تحقيق أقصي مطمح له وهو الاستمرارية في العمل، عن طريق الحد من حق المؤجر في الطرد. كما أن تحديد مدة معينة بالعقد غير المحدد المدة لا يكون له أي تأثير على تغيير التكييف القانوني للعقد إلى عقد محدد المدة طالما أن الأطراف مازالوا يتمتعون بحقهم في الإنهاء الأحادي ولم تقع التنازل عنه إلا لمدة معينة فقط.

وتبرز نجاعة هذا البند في كونه يمكن من استبعاد بعض الأسباب المؤدية على إنهاء العقد والتي تكيف على أنها من الأسباب الموجبة للطرد، “فباستثناء الخطأ الفادح والقوة القاهرة فإنه لا يمكن للمؤجر مثلا أن يحتج بالصعوبات الاقتصادية أو الفنية للمؤسسة لتبرير الطرد.”[301]

أما بالنسبة للعقود المحددة المدة ولتفادي الإنهاء التعسفي لعقد الشغل من طرف المؤجر يمكن للأطراف الاتفاق على إدراج بند في العقد يمكن أن يتخذ شكل الشرط الجزائي الذي يعرف على أنه “الاتفاق على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم يقم المدين بتنفيذ التزامه أو تأخر في ذلك.”[302]أ فقد أقر فقه القضاء التونسي بصحة هذا البند الذي يعتبر تجسيدا لمبدأ الحرية التعاقدية،[303] وبالتالي يعتبر هذا البند بمثابة التعويض الاتفاقي الذي لا يمكن جمعه مع التعويض القانوني إذ يفترض وجود سببين مختلفين لكل تعويض لتفادي وضعية الإثراء بدون سبب، لكن هذا لا ينفي الجدوى من اللجوء إليه باعتباره التعويض العادل ومن شأنه أن يحقق منفعة أكثر من التعويض القانوني.

أما بالنسبة للقانون الفرنسي فإن إقرار حرية الأجير في العمل يحمي هذا الأخير من لجوء المؤجر إلى إدراج بند ضمن العقد يقضي باقتصار الانتداب فقط على الأجراء غير النقابيين « Clauses de sécurité syndicale » وهو بند شرعي معمول به في الولايات المتحدة.[304]

أيضا وفي نفس التوجه الحمائي حد القانون من إمكانية إدراج المؤجر بند يقضي بمنع الأجير من ممارسة أي نشاط منافس سواء بصفة فردية أو لدي مؤجر جديد يمارس

نفس النشاط بعد قطع العلاقة الشغلية مع المؤجر الأول وهو ما يسمي شرط عدم المنافسة [305]« Clauses de non-concurrence » حيث يجب أن يكون محددا في المكان

والزمان[306] وهو ما أكدته المحكمة الابتدائية بتونس بقولها “لئن كان شرط عدم المنافسة شرعي من حيث المبدأ إلا انه يجب أن يكون محددا من حيث الزمان والمكان”[307] وكذلك نهجت محكمة التعقيب الفرنسية في قرار حديث صادر سنة 2007[308]، ومثل هذه البنود لا تكون شرعية إلا إذا التزم المؤجر بدفع مقابل مادي للأجير.[309]

ويتضح من خلال هذه القيود الواردة على حرية المؤجر في الانتداب أن قانون الشغل وفاءا لنزعته الحمائية حاول توفير نوع من الحماية للأجير من إمكانية تعسف المؤجر في الانتداب من جهة، و من جهة أخري حاول قانون الشغل ضمان هذه الحماية من خلال تأطير حرية المؤجر في انتداب بعض الفئات الخاصة.

الفصل الثاني:تأطير حرية المؤجر في الانتداب:

“لم يقتصر تدخل الدولة على تصحيح توجهات سوق الشغل عن طريق تأطير عملية التشغيل والفصل من العمل فقط، بل أن من أوكد اهتماماتها وأولوياتها كان حماية الفرد في العمل عن طريق إقرار تكافئ الفرص أمام طالبي الشغل وضمان إدماج المعوقين في الحياة العملية والاجتماعية وإعادة إدماج بعض الفئات الخاصة”.[310]

فتاريخيا، حماية العمال وخاصة الفئة الضعيفة منهم هي التي كانت وراء إقرار قيود على حرية المؤجر في الانتداب وبالتالي تنظيم سوق الشغل والحد من الآثار السلبية للمنافسة على العمل بين طالبي الشغل من الفئات الضعيفة وغيرهم من الفئات العادية، بما أنه يمكن للأطفال والنساء والمعوقين القبول بعمل يفوق قدراتهم البدنية لغاية توفير مورد للرزق مهما كانت ظروف وأجرة العمل.

ولتجاوز هذه المخاطر اتخذ المشرع منهجين، الأول يتمثل في تقييد تشغيل الأطفال والنساء والأجانب بشروط ( المبحث الأول ) وفي ذلك حماية لهم من مخاطر الانخراط في العمل، أما الثاني يتمثل في توفير العمل لبعض الفئات عن طريق “المراوحة بين الإلزام والتشجيع”[311] بإقرار أولويات للتشغيل لأمل مرة وأولويات في إعادة الانتداب ( المبحث الثاني ).

المبحث الأول: تقييد المؤجر في الانتداب:

يتجلى تأطير حرية المؤجر في الانتداب من خلال تقييد هذه الحرية باعتبار أن كل حرية يمكن أن تحمل في طياتها بعض التجاوزات، فممارسة المؤجر للحرية في الانتداب وبحثه على تحسين مردودية المؤسسة يمكن له خلق بعض التجاوزات. وكضمان لعدم استغلال المؤجر لهذه الحرية فرض المشرع قيود على حرية الانتداب يمكن تقسمها إلى قيود لاعتبارات إنسانية (الفقرة الأولى) تهم انتداب الأطفال والنساء، وقيود لاعتبارات تهم سوق الشغل بالنسبة لانتداب اليد العاملة الأجنبية (الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولى: قيود لاعتبارات إنسانية:

لم يقتصر الطابع الحمائي لقانون الشغل على حماية حق الأجير في العمل باعتباره مبدأ دستوري وإلغائه العمل الجبري وإقرار الحرية التعاقدية بين المؤجر والأجير، بل امتد أيضا إلى حماية شخص الأجير الذي يمكن أن يتضرر في بعض الأحيان من قيام العلاقة الشغلية.

ويعتبر الأطفال والنساء من أكثر الفئات التي يمكن أن تتضرر من الدخول الفعلي في الحياة العملية، وحماية لهذه الفئة من مخاطر ممارسة العمل منع المشرع انتداب الأطفال في بعض الأعمال التي تمثل خطر على صحتهم وحياتهم ( أ )، وكذالك نفس التوجه اعتمده المشرع بالنسبة لانتداب النساء ( ب ).

أ- تقييد انتداب الأطفال:

في ظل غياب تعريف تشريعي وحتى فقه قضائي ” للعامل الطفل “[312] فقد مثلت حماية شخص هذا المترشح في العمل احد الأهداف الأساسية التي عمل قانون الشغل على تحقيقها خاصة إذا تعلق الأمر بتشغيل الحدث الذي يمثل “ثروة المستقبل البشرية.”[313]

فعلى مستوى القانون الدولي كان التوجه نحو حماية الأطفال من الاستغلال الاقتصادي ومن أداء الأعمال الخطيرة التي يمكن أن تعيق تعلمهم وتضر بصحتهم وبنموهم البدني والعلمي والروحي والمعنوي[314]، رغم أن بعض الأطفال يجدون أنفسهم مجبرين على العمل في سن مبكرة لتأمين رزق عائلة لا حول لها ولا قوة.[315]

أما في قانون الشغل الداخلي فقد اعتني المشرع بتنظيم تشغيل الأطفال بما يمكن أن يضمن لهم الحماية التي تتطلبها بنيتهم الضعيفة وحقهم في التربية والتعليم والصحة، كما يضمن لهم حماية أخلاقية نظرا لأن الانخراط في العمل في سن مبكرة قد يؤدي إلى الإضرار بأخلاق الطفل، ولتفادي لجوء المؤجر إلى استغلالهم من خلال انتدابهم لعمل لا يتماشي وقدراته البدنية والمهنية تم تكريس جملة من المبادئ الحمائية[316] أهمها تحديد السن الأدنى لقبول الأطفال في العمل، وإجبارية إجراء الفحص الطبي لتأهيل الأطفال للعمل و منع تشغيل الأطفال ليلا.

المشرع التونسي من جهته لم يحدد سنا أدنى عام وموحد لتشغيل الأطفال وإنما جعلها تختلف باختلاف طبيعة النشاط المهني، فلاحي أو صناعي أو فنية. [317]

بالنسبة للأنشطة الفلاحية فالمبدأ أنه لا يمكن للمؤجر أن ينتدب طفلا للعمل دون 16 سنة[318] ، وذلك ملائمة مع ما نصت عليه أحكام اتفاقية العمل الدولية.[319] وككل مبدأ وردت جملة من الاستثناءات تخضع هذه السن إلى إمكانية التخفيض والترفيع فيها، إذ يمكن التخفيض في السن الدنيا لتشغيل الأطفال دون السن 16 إذ ما توفر في الطفل في المؤسسات التي يعمل فيها أعضاء العائلة سيتم مع غياب أي تأثير سلبي لهذا التشغيل على صحته ونموه البدني والعقلي وعلى تعليمه[320]. وقد تبني المشرع التونسي[321] كذالك إمكانية تشغيل الأطفال البالغين من العمر 13 سنة في الأعمال الخفيفة الواردة ضمن الاتفاقية عدد 138 بالنسبة للأعمال الفلاحية والغير الفلاحية وغير الصناعية.

أما بالنسبة للأنشطة الصناعية فقد بدا المشرع التونسي أكثر صرامة بخصوص الأعمال التي يمكن أن تشكل خطرا على صحة أو سلامة وأخلاق الأطفال وذلك بحكم طبيعتها أو الظروف التي تقع فيها والتي يتم تحديدها بموجب قرار تطبيقي يتخذه الوزير المكلف بالشؤون الاجتماعية، فنص على ضرورة الترفيع في تلك السن إلى 18

سنة،[322] كما ينسحب هذا الترفيع على الأعمال التي تتم تحت الأرض في المقاطع والمناجم.[323]

أما الأعمال ذات الصبغة الفنية فإنه يمكن الترخيص للطفل الذي لم يبلغ 16 سنة للعمل في عرض المشاهد العمومية أو القيام بأدوار ثانوية أثناء التقاط المناظر السينمائية وذلك بشرط أن لا تقل سنهم عن 13 سنة، وفي عروض المشاهد المصادق عليها من طرف لجنة السينما التابعة للوزارة المكلفة بالثقافة.[324]

كذالك منع المشرع التونسي تشغيل الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 14 سنة ليلا[325] نظرا لتركيبتهم الجسمانية ومحدودية مؤهلاتهم البدنية حيث يجب أن تتوفر في العامل المؤهلات البدنية اللازمة لممارسة العمل الشاغر.[326]

ونلاحظ مما سبق أن فرض سن معينة للتشغيل لايكفي وحده لتحقيق الهدف المنشود وهو حماية الطفل صحيا وبدنيا لذلك أوجب المشرع ضرورة الخضوع إلى الفحص الطبي المجاني قبل الانتداب بالنسبة للأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة وذلك للتأكد من قدرتهم على ممارسة العمل ويعد العقد باطلا بطلانا مطلقا إذا كان خاليا من الشهادة الطبية ما عدا بالنسبة للأعمال غير الفلاحية،[327] ويشمل هذا الفحص عند الاقتضاء فحوصا سريرية ومخبرية وإشعاعية مع العلم أنه “لا يمكن مواصلة تشغيله إلا بعد تجديد الفحص بصفة دورية على فترات لا تتجاوز 6 أشهر على حد بلوغ الحدث سن 21 سنة بالنسبة للأعمال التي تهدد صحته.”[328]

وتتسم هذه الأحكام بتعلقها بالنظام العام فلا يجوز الاتفاق على مخالفتها، إذ لا يمكن للأحداث أو أولياء أمورهم أن يتنازلوا عن شيء من هذه الحقوق لأن الغرض منها هو حماية أجيال لا أفراد.

أما مراقبة تشغيل الأطفال فتوكل إلى متفقد الشغل الذي يتولى الإطلاع على الدفاتر الخاصة للمؤجر التي ينص فيها على أسماء وتواريخ الأطفال الواقع انتدابهم والذين لم يبلغوا 18 سنة،[329] وقد تم تدعيم هذه الرقابة بإحداث خطة مندوب الطفولة[330] الذي يحرص على منع تعرض الطفل لأي استغلال بما في ذلك الاستغلال الاقتصادي الذي عرفه المشرع في مجلة حماية الطفولة على أنه ” تعرض الطفل للتسول أو تشغيله في ظروف مخالفة للقانون أو تكليفه بعمل من شانه أن يعوقه في تعليمه أو يكون ضارا بصحته و بسلامته البدنية أو المعنوية.”[331]

بالنسبة للرقابة القضائية فقد مكن القانون قاضي الأسرة من التدخل قصد حماية الطفل من المخاطر التي تهدد صحته بما يضمن له تكامل توازنه وسلامته الجسدية والنفسية،[332] لذلك رتب المشرع على مخالفة القواعد المنظمة لانتداب الأطفال جملة من العقوبات الرادعة تحت عنوان ” في العقوبات ” وتنقسم إلى عقوبات مادية بين 24

و60 دينار عند مخالفة الشروط المتعلقة بالسن الأدنى للتشغيل أو المتعلقة بإجراء الفحص الطبي،[333] لكنها تبقي زهيدة وغير رادعة لأنها غير مرفقة بعقوبة السجن.

نفس هذا التوجه نجده مكرسا في أغلب التشريعات العربية منها التشريع الأردني الذي سعي إلى حماية الحدث من الناحية الجسمانية والصحية من خلال حظر تشغيل الحدث الذي لم يكمل الثامنة عشر من عمره في الأعمال الخطرة أوالمرهقة أوالمضرة بالصحة، هذا من جهة، وحماية الحدث من الناحية الأخلاقية من خلال حظر تشغيل الحدث ما بين الساعة الثامنة مساء والساعة السادسة صباحا لأن “الحدث قد يكون أكثر عرضة للتأثيرات غير الأخلاقية التي يحدثها رفاق السوء”.[334]

كما يترتب على استخدام الحدث في القانون المصري بمخالفة الحد الأدنى للسن المحددة بالقانون أن “يبطل هذا العقد لمخالفته لقاعدة آمرة من النظام العام تحدد أهلية وجوب الحدث.”[335]

وفي نفس الإطار قيد قانون الشغل حرية المؤجر في انتداب اليد العاملة النسائية.

ب- تقييد انتداب النساء:

باختياره انتداب يد عاملة نسائية يكون المؤجر قد قبل تطبيق نظام قانوني خاص بتشغيل هذه الفئة،[336] فقد سعى المشرع إلى حماية المرأة من تعسف المؤجر في الانتداب بإقرار المساواة أمام فرص العمل وتجريم الميز وضمان حق المرأة في العمل ومعاملتها سواسية مع الرجل سواء في ممارسة العمل أو استحقاق الأجر[337] عملا بالقاعدة القائلة « A travail égal, salaire égal ».[338]

لكن العمل قد يشكل أحيانا خطرا على صحة المرأة، ومن هنا أصبحنا نتحدث عن تقسيم العمل بين المرأة والرجل،[339] خاصة إذا كان سيقع تحت الأرض في المناجم والمقاطع. من هذا المنطلق فالمبدأ هو منع المشرع تشغيل المرأة مهما كان سنها بأعمال تحت الأرض[340] وذلك لضعف قدراتها البدنية وحماية لصحتها بما أن هذه الأعمال عادة ما توصف بأنها أعمال شاقة وخطرة.[341]

نفس توجه اتخذته جل التشريعات العربية حيث تم تحديد قائمة بالأعمال المحظورة إسنادها للنساء لاعتبار صحي أو أخلاقي حيث يتم تحديدها عن طريق الوزير المختص وتتم مراجعتها دوريا لمواجهة المستحدثات الطارئة[342]، فالمبدأ جاء صريحا ولا يخضع لأن استثناء مما يدل على أن المنع جاء مطلقا.

أما الأعمال فوق سطح الأرض فقد قام المشرع بالتفرقة بين الأنشطة الفلاحية والأنشطة غير الفلاحية.

بالنسبة للأنشطة الفلاحية فقد ربط المشرع إمكانية تشغيل النساء بالأعمال الفلاحية الخطرة التي تمكن أن تلحق بها ضرر بالحصول على ترخيص خاص،[343] أما بالنسبة للأنشطة الغير فلاحية فقد منع المشرع تشغيل المرأة بالمؤسسات أو أقسام المؤسسات أو الحظائر التي تجري بها عمليات استرجاع المعادن القديمة أو تحويلها أو إيداعها.[344]

الاستثناء ورد بالاتفاقية الدولية عدد 45 لسنة 1957[345] التي سمحت للدول المصادقة عليها بالتنصيص ضمن تشريعاتها على إمكانية تشغيل النساء تحت سطح الأرض شريطة أن تكون طبيعة العمل من صنف الأعمال الإدارية أو الصحية أو الاجتماعية. كما نصت نفس الاتفاقية على إمكانية منح هذا الاستثناء للنساء اللواتي يسمح لهن أثناء مدة الدراسة بالتمرين على العمل في أقسام المناجم تحت الأرض لاكتساب الخبرة المهنية، كما تم التنصيص ضمن نفس الاتفاقية الدولية كذالك على منع تشغيل المرأة ليلا، والليل حسب نفس الاتفاقية هي المدة التي تحتوي على 11 ساعة متتالية على الأقل تدخل فيها الفترة ما بين الساعة العاشرة مساءا والساعة الخامسة صباحا من اليوم الموالي.

وتكريسا لما جاء به التشريع الدولي منع المشرع التونسي تشغيل النساء ليلا خلال فترة 12 ساعة متوالية على الأقل تشمل الحصة الزمنية الفاصلة ما بين الساعة العاشرة ليلا و السادسة صباحا من اليوم الموالي،[346] لكن وحرصا على تمكين المرأة من فرص أكثر للحصول على عمل تم إدخال بعض المرونة على هذا المبدأ وهو ما تجلي في إقرار مجلة الشغل[347] بإمكانية تشغيل المرأة ليلا لكنه قيد ذلك بشروط.

وعملا على تكريس المساواة بين الرجل والمرأة والاستجابة لطلبات المؤسسات الراغبة في تشغيل النساء ليلا تم رفع التحجير على عمل النساء ليلا بالنسبة للوظائف الإدارية أو الوظائف التي لها صبغة فنية التي تتضمن مسؤولية أو في المصالح الاجتماعية التي لا يقمن فيها بعمل يدوي،[348] كما تم التنصيص على إمكانية تعديل الفترة الليلية التي لا يجوز فيها تشغيل النساء وعلى إمكانية رفع تحجير تشغيل النساء ليلا وذلك بموجب قرار من الوزير المكلف بالشؤون الاجتماعية أو ترخيص من رئيس تفقدية الشغل لكن ذلك لا يمكن أن يتم إلا في صورة توفر الضمانات الكافية لتوفي حماية للمرأة[349]، وهو نفس التوجه الذي أقرته معظم التشاريع العربية حيث انه “تحدد بقرار من الوزير بعد استطلاع رأي الجهات الرسمية المختصة: الصناعات والأعمال التي يحظر تشغيل النساء فيها، الأوقات التي لا يجوز تشغيل النساء فيها والحالات المستثناة منها.”[350]

لكن حتى لو اعتبرنا تدخل المشرع من باب الحماية فإنه يقلص أيضا من حظوظ المرأة في الانتداب، إذ نظرا لكثرة القيود سيفضل المؤجر انتداب الذكور رغبة منه في التقليص من الأعباء التي سيتحملها، وبذلك سيبقي هو سيد الموقف وسيختار عدم انتداب المرأة ويعمد إلى تعويضها بالرجل، وفي سياق هذه المسألة فقه القضاء الفرنسي لا يبدو متشددا مع المؤجر مادام لم توجد إرادة فعلية في التمييز، وقد أشار أن:

L’employeur qui avait répondu à une candidate «parmi plusieurs condidatures nous avons préféré c’elle d’un homme qui à des qualités comparables aux vôtres », à été cependant relaxé au motif que n’était pas démontrée l’existence d’une manifestation volontaire de discrimination sexiste.[351]

وهكذا حاول قانون الشغل من خلال هذه القيود ذات الطابع الإنساني تأطير حرية المؤجر في انتداب الأطفال والنساء و تأكدت من خلال إقرار قيود لاعتبارات تهم سوق الشغل كذلك.

الفقرة الثانية: قيود لاعتبارات تهم سوق الشغل:

عمل المشرع على تنظيم انتداب اليد العاملة الأجنبية[352] وذلك للحيلولة دون مزاحمة اليد العاملة المحلية والحد من فرص العمل لديها خاصة مع ارتفاع نسب البطالة حيث أن العمل يعتبر حقا طبيعيا يجب توفيره لكل مواطن قادر عليه ويقتضي ذلك في أغلب الأحيان “أن تضمن الدولة عدم منافسة الأجانب للوطنيين في الحصول على فرص العمل”،[353] حيث أن انتدابهم يجب أن يتم على أساس حاجيات سوق الشغل أو على أساس “وضعيات إنسانية أو عائلية”[354]. ويتجلي ذلك من خلال إقرار جملة من الشروط المنظمة لتشغيل الأجانب بالبلاد التونسية والملزمة للمؤجر والأجير في الآن نفسه ( أ ) كما منع تشغيل الأجانب بصفة صريحة في بعض الأعمال (ب).

أ- شروط انتداب اليد العملة الأجنبية:

ألزم المشرع التونسي بالفصل 258-2 من مجلة الشغل المؤجر باحترام جملة من الشروط عند العزم على انتداب أجير أجنبي، فلا يمكنه انتداب عامل أجنبي ما لم يكن حاملا لبطاقة إقامة تحمل عبارة “يسمح له بتعاطي عمل مأجور بالبلاد التونسية”،

وهو ما أكدته محكمة التعقيب حين اعتبرت “انه طالما المعقب المغربي الجنسية لم يدلي بما يفيد توفر الشروط ومسكه للتراخيص المشار إليها آنفا فان إنهاء عقد شغله من طرف المعقب ضدها يعد شرعيا ولا يوجب التعويض”،[355] “وإن كل عقد مع أجنبي مخالف لشروط تأجير اليد العاملة الأجنبية بالبلاد التونسية يعتبر باطلا”.[356]

أما بالنسبة لبعض الدول العربية فإنها تشترط لحصول الأجنبي علي ترخيص يخول له العمل أن يكون حاملا لتصريح بالإقامة بقصد العمل بالإضافة إلى شرط المعاملة بالمثل من جانب الدولة التي ينتمي لها.[357]

كما أن عقد الشغل المبرم بين المؤجر والأجير الأجنبي[358] يجب أن يكون مبرما طبقا للأنموذج المعد من طرف الوزير المكلف بالتشغيل ومؤشر من طرفه ليكتسب النفاذ القانوني، ويشترط فيه أن يكون متضمنا لجملة من التنصيصات الوجوبية المتعلقة بالمهنة التي سيشغلها العامل والولاية التي سيتم فيها العمل، حيث إن الانتقال من ولاية إلى أخرى يكون عن طريق ترخيص من السلطة المختصة، وبذالك يمكن مراقبة عمليات الانتداب بالنسبة لليد العاملة الأجنبية.

كذالك اشترط أن يكون عقد شغل الأجنبي محدد زمنيا، إذ يجب إبرام عقد شغل لمدة لا تتجاوز السنة قابلة للتجديد مرة واحدة ، غير أنه يمكن تجديد العقد أكثر من مرة في حالة تشغيل أجانب بمؤسساتهم العاملة بالبلاد التونسية في نطاق إنجاز مشاريع تنموية مصادق عليها من قبل السلطة المختصة ويجب التأشير على ذلك من قبل الوزير المكلف بالتشغيل.[359] من هنا نستشف التوجه الحمائي للمشرع الذي يرمي إلى جعل انتداب اليد العاملة الأجنبية مؤقتا باعتبار أن الأولوية لليد العاملة المحلية.

فبالإضافة إلى التحديد الزمني قام المشرع في تونس بتحديد عدد الأجراء الأجانب الذين يمكن انتدابهم للمؤسسة الواحدة وذلك من خلال قانون التشجيع على الاستثمار الذي مكن المؤسسات المصدرة من انتداب بكل حرية أعوان تسيير أجانب في حدود أربعة عمال لكل مؤسسة بعد إعلام وزارة التكوين المهني والتشغيل ولمدة سنتين ويخضع الانتداب لأكثر من ذلك الحد لبرامج الانتداب المقررة من طرف نفس الوزارة[360]، وهذا التحديد يمثل أقصى آليات الرقابة المسلطة على تشغيل الأجانب.[361]

وانه في عدم احترام هذه التراتيب الخاصة من طرف المؤجر فالأجير الأجنبي له الحق في التعويض عن مقابل نشاطه في نطاق عقد الشغل بالإضافة للعقوبات الجزائية[362]. فبالإضافة إقرار شروط لانتداب الأجانب فقد منع انتدابهم في بعض الحالات.

ب- منع انتداب اليد العاملة الأجنبية:

في هذا الإطار حرص المشرع على جعل تشغيل الأجانب موقوفا على عدم توفر الاختصاص في صفوف اليد العاملة المحلية ويعتبر القرار عدد 47 المؤرخ في 20 سبتمبر 1994 الصادر عن وزارة التكوين المهني والتشغيل أول بادرة هامة وجريئة في التقيد الوظيفي لتشغيل الأجانب حيث اشترط لقبول تشغيلهم عدم وجود مرشح تونسي يستجيب لمتطلبات العمل المطلوبة.

نفس التوجه كرسه المشرع بعد تنقيح مجلة الشغل في 1996 حيث نص على “أنه لا يمكن انتداب أجانب عند توفر كفاءات تونسية في الاختصاصات المعنية بالانتداب”،[363] وهو ما أكدته محكمة التعقيب[364] حين اعتبرت “إن المؤجر يلتزم بعدم انتداب أي عامل أجنبي خارج الاتفاقية المشتركة القطاعية وبعدم التعاقد مع المتعاونين للقيام بإعمال في استطاعة العاملين بالمؤسسة القيام بها”.

فعلى خلاف التقييد العددي الذي يوفر حماية محدودة لليد العاملة الوطنية فإن قاعدة التقييد الوظيفي تجري على جميع العملة التونسيين بقطع النظر عن المؤسسة المشغلة، وتتضاعف أهمية هذه القاعدة من خلال عدم التنصيص على أي استثناء لها وهو ما من شانه أن يضمن فعاليتها.

كذلك حجرت مجلة الشغل تشغيل أجنبي مازال مرتبط بعقد مع مؤجر سابق وذالك ما لم يقع فسخه بالتراضي أو التقاضي[365]، والهدف من ذلك منع الأجنبي من الجمع بين وظيفتين في نفس الوقت نظرا لما قد يترتب عن ذلك من التضييق في فرص العمل لدى اليد العاملة المحلية.

كما تم تحجير مباشرة الأجنبي لبعض الأعمال كالدليل السياحي[366] حيث تشترط فيها الجنسية التونسية وبالغ من العمر 20 سنة ومتحصل على الكفاءة لممارسة هذه المهنة من طرف السلطة المختصة[367] ، نفس التوجه بالنسبة للمهندسين المعماريين بالرغم من أن المشرع أعطى لوزير التجهيز إمكانية منح المهندس الأجنبي، وبطلب، رخصة لكنها وقتية بعد أخذ رأي عمادة المهندسين المعماريين.

ولمزيد من توفير هذه الحماية كان لا بد من إرفاق هذه الشروط بعقوبات رادعة تراوحت بين الخطية المالية والطرد من البلاد التونسية، بالنسبة للخطية المالية، المؤجر الذي ينتدب أجنبي غير حامل لتصريح عمل حسب الفصل 265 (جديد) م.ش. تسلط عليه خطية تتراوح بين 12 إلى 30 دينار عن كل يوم وكل عامل من تاريخ بداية المخالفة إلى اليوم الذي وقعت فيه معاينتها، وهي خطية زهيدة بالمقارنة بالمشرع الجزائري حيث تتراوح بين 5000 و 10000 دينار[368]، كما تسلط الخطية عند الامتناع عن تقديم الدفاتر والوثائق المطلوبة التي تهم تشغيل الأجانب[369]، أما الطرد فيكون نتيجة لخرق أحكام الفصول 258 – 2 و266 من مجلة الشغل ويكون ذلك بقرار صادر عن المدير المكلف بالأمن الوطني.[370]

والى جانب تقييد قانون الشغل لحرية المؤجر في الانتداب، ألزمه بالانتداب في بعض الحالات.

المبحث الثاني: إلزام المؤجر بالانتداب:

يمكن للمشرع في إطار البحث على توفير أكثر ما يمكن من فرص للباحثين عن عمل أن يلزم المؤجر بانتداب بعض الفئات الخاصة من طالبي الشغل سعيا إلى توفير تكافئ الفرص في حصولهم على عمل مع المترشح العادي يتماشي مع قدراتهم الذهنية والبدنية أو لحالات خاصة خارجة عن إرادة الأجير، حيث ينقسم هذا الإلزام بين إقرار المشرع أولويات في الانتداب ( الفقرة الأولى ) وبين أولويات في إعادة الانتداب (الفقرة الثانية ).

الفقرة الأولي: إقرار أولويات الانتداب:

بالنسبة للأولوية في الانتداب يتمتع بها أشخاص من ذوي الحاجيات الخصوصية الباحثين عن عمل حيث نظم المشرع طرق انتداب هذه الفئة التي تعرف باليد العاملة المعوقة ( أ ) كما تشجع الدولة على انتداب حاملي الشهادات العليا ( ب ).

أ- انتداب اليد العاملة المعوقة:

يمكن تعريف المعوق بأنه “كل فرد انخفضت بدرجة كبيرة احتمالات ضمان عمل مناسب له والاحتفاظ به والترقي فيه نتيجة لقصور بدني أو عقلي معترف به قانونا”،[371] كما “يقصد بالشخص المعوق كل شخص له نقص دائم في القدرات والمؤهلات البدنية والحسية ولد بها أو لحق به بعد الولادة يحد من قدرته على أداء بنشاط أو أكثر ويقلص من فرص إدماجه في المجتمع”،[372] كما أن بعض التشريعات الأجنبية تعرف العامل المعوق حسب نسبة الإعاقة ( البرتغال 60 بالمائة، ألمانيا 50 بالمائة، إيطاليا 45 بالمائة).[373]

المشرع الفرنسي من جهته وسع في قائمة الأشخاص المعوقين لتشمل أب العائلة الوفيرة العدد والأرامل التي تكفلن صغارا، كذالك الجيوش القدامى وأرامل ويتامى الحرب وزوجات فاقدي الأهلية من جراء تخلف ذهني حصل لهم من جراء الحرب[374] وتفسر هذه الأولوية الممنوحة لهم “بوجود واجب أخلاقي محمول على المجتمع تجاههم”.[375] ولحماية هذه الفئة من الأجراء وضمان حصولها على عمل تراوحت سياسة المشرع بين الترغيب والإلزام.

في إطار الإلزام ولكي لا تكون الإعاقة سببا في إقصاء الشخص من سوق الشغل وحرمانه من العمل طالما توفرت فيه المؤهلات المطلوبة،[376] فرض المشرع على كل مؤسسة عمومية أو خاصة تشغل 100 عامل فما فوق تخصيص واحد بالمائة من مواطن الشغل للمعاقين،[377] وهي نسبة ضعيفة جدا مقارنة مع أقره المشرع الفرنسي الذي اشترط فقط وجود 20 عاملا بالمؤسسة حتى تصبح ملزمة بتشغيل 6 بالمائة من عمالها من بين المعاقين،[378] كذلك المشرع المصري تبني سياسة وطنية للتأهيل المهني واستخدام المعوقين تقوم على مبدأ تساوي الفرص بين العمال المعوقين والعمال عموما[379]، فنص على انه “يجب على أصحاب الأعمال الذين يستخدمون 50 عاملا فأكثر استخدام من ترشحهم مكاتب القوى العاملة من واقع سجل قيد المعوقين في حدود 5 بالمائة من مجموع عدد العمال في الوحدة التي يرشحون لها.”[380]

وتتأكد الصبغة الإلزامية أكثر من خلال التنصيص على جزاء مخالفة هذا الحق[381] إذ نص قانون 2005 على أن كل مخالفة لأحكام الفصول 30 و31 و32 تعاقب بخطية تتراوح من 24 إلى 60 دينار مع دفع مبلغ يساوى الأجر الادني المضمون لمختلف المهن أو الأجر الأدنى الفلاحي المضمون لفائدة الصندوق الوطني للتضامن الاجتماعي وذلك حسب عدد مراكز العمل طيلة مدة المخالفة.

تجدر الإشارة كذلك إلى أن المشرع استثني عند احتساب العمال المعاقين اللذين يواصلون العمل بمؤسساتهم بعد حصول الإعاقة واللذين خول لهم إمكانية إعادة ترتيبهم لدى مؤجريهم إذا كان هناك مركز شاغر يمكن إسناده لهم وذلك بعد أخذ رأي اللجنة الإدارية المتناصفة أو الجنة الاستشارية للمؤسسة. [382]

أما لتشجيع المؤسسات وترغيبها على تشغيل الأجير المعاق وتوفير أكثر فرص عمل له منح المشرع المؤسسة التي تنتدب يد عاملة حاملة لإعاقة جملة من الامتيازات التي تختلف بحسب درجة الإعاقة، حيث أعفاها من دفع جميع التكاليف الاجتماعية الموظفة عليها إذا ما انتدبت عاملا حامل لبطاقة معاق مع مصاحب ومن دفع ثلثي التكاليف عن كل عامل يحمل بطاقة أولوية ومن دفع نصف التكاليف عن كل عامل يحمل بطاقة معاق بسيط.[383]

كما تم إقرار جملة من التشجيعات الجبائية والتي من شأنها أن تمثل حافز لأصحاب المؤسسات لانتداب اليد العاملة المعوقة، حيث تم إعفاء إنتاج المعاقين من الأداء تسهيلا لعملية تسويقه، كما تم الإقرار بحقهم في التكوين المهني الملائم حتى لا تعتبر الإعاقة عنصر عزلة وتهميش طالما أن المعاق قادر على تلقي التكوين مع الأجير العادي[384].

فبالنظر للقوانين المتعلقة بالأشخاص المعوقين يمكن ملاحظة تطور إرادة السلطة العامة نحو تمكين المعوق من مكان داخل المؤسسة وتمكينه من الحقوق الأساسية التي يتمتع بها كافة المواطنين أهمها الحق في الشغل.[385]

ب- تشجيع الدولة على انتداب حاملي شهادات التعليم العالي:

يتجلي هذا التشجيع[386] من خلال دعم الدولة لكل عملية انتداب لطالبي الشغل المحرزين على شهادات تعليم عال عقب دراسة تدوم على الأقل سنتين بعد البكالوريا أو الشهادة المعادلة بالنسبة للمؤسسات الخاصة التي تقوم بأول عملية انتداب والمؤسسات الصغرى والمتوسطة التي تنخرط جديدا في برنامج التأهيل والمؤسسات الصغرى والمتوسطة المنتصبة بمناطق التنمية الجهوية عن طريق تكفل الدولة لمدة سنة بنسبة 50 بالمائة من الأجر المدفوع.[387]

كما تتكفل الدولة بنسبة من مساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي كتشجيع للمؤسسات العاملة بقطاعات الفلاحة والصيد البحري والصناعات المعملية والخدمات والصناعات التقليدية على انتداب حاملي الشهادات العليا للرفع من نسبة التأطير.[388] وفي ذلك تشجيع للمؤجرين على الإقدام على انتداب هذه الفئة من جهة للتمتع بالتسهيلات التي يوفرها المشرع و من جهة أخري التقليص من نسبة البطالة لهذه الفئة المتعلمة و المثقفة و التي تمثل أساس المجتمع الحديث.

المشرع الفرنسي كذلك اخذ بهذا التوجه من خلال توفير فرص عمل لتجاوز مشكلة البطالة من طالبي الشغل الحاملين لشهادات تعليم عالي.[389] واقر مثل هذه الأولويات في الانتداب، فهل اقر كذالك بالأولوية في إعادة الانتداب؟

الفقرة الثانية: إقرار أولويات إعادة الانتداب:

أول ما يجب ذكره هو أنه لا يجب الخلط بين أولويات إعادة الانتداب والحق في الرجوع للعمل بالنسبة للأجراء المتمتعين بالراحة القانونية التي تمنحها لهم المؤسسة والتي لا توجب قطع العلاقة الشغلية، فالأولوية في إعادة الانتداب تحد من حرية المؤجر في الانتداب حيث “يجب عليه الأخذ بعين الاعتبار مطالب الرجوع للعمل من قبل الأجراء القدامى اللذين قطعت عقودهم لأسباب متنوعة”[390].

والأولوية في إعادة الانتداب هي الحالة التي يمنح فيها الأجير الحق في الانتداب من جديد بتفضيله على غيره في حالة وجود مركز عمل يتماشي ومؤهلاته[391] وذلك إما لوضعه الخاص ( أ ) أو يمكن أن تكون ناتجة عن وضعية المؤسسة ( ب ).

أ- الحالات الخاصة بالأجير:

هناك ثلاث حالات يتمتع فيهم الأجير بحق الأولوية في إعادة الانتداب، وهي ترك العمل لأداء الواجب الوطني، العاملين لوقت جزئي الراغبين في الانتقال إلى نظام العمل كامل الوقت واللذين لهم نفس الاختصاص والمؤهلات المطلوبة والعاملين كامل الوقت الذين انتقلوا لنظام العمل لوقت جزئي بسبب.

أولا لا جدال في أن الأجير الذي وقع تجنيده يتمتع بحق الرجوع إلى عمله بعد انقضاء فترة الخدمة العسكرية باعتبار أن عقد الشغل الذي يربطه بالمؤجر لم يقع قطعه إنما تم تعليقه بفعل القانون وهو ما أكدته الاتفاقية الإطارية المشتركة،[392]

لكنه أيضا يبقي متمتعا بحق الأولوية في إعادة الانتداب على أساس عقد جديد طيلة عام من تاريخ السراح وذلك بعد قطع العلاقة الشغلية القديمة نتيجة حذف الخطة التي كان يعمل بها، ثم تراءى للمؤجر انتداب عملة في نفس الصنف المهني الذي كان يشغله المجند[393]، وهي نفس المدة التي نص عليها قانون الشغل الفرنسي[394] الذي أكد كذلك “أنه في صورة انتداب المؤجر لأجير جديد، فهذا الأخير إما يقع إعادة تصنيفه أو طرده”،[395] مع العلم أنه للعامل حق المطالبة بغرم الضرر عند مخالفة المؤجر هذه الشروط، ويعتبر كل شرط مخالف لاغيا قانونا.[396]

محكمة التعقيب التونسية كذالك أكدت هذا التوجه وأقرت “أن المعقب ضده لا ينازع في كونه ترك مركز عمله للالتحاق بالخدمة العسكرية ومع ذلك فانه لم تعرب عند علمه بموعد سراحه أو بعده مؤجرته برغبته في استئناف عمله السابق برسالة مضمونة الوصول ولم تتأكد محكمة الموضوع كذاك من وجود مركز شاغر يتناسب وخطة المعقب ضده السابقة.”[397] كما اعتبرت محكمة التعقيب الفرنسية كذالك أن تجنيد العامل ليس سببا لقطع عقد العمل، وسعت المحكمة إلى توفير الحماية والضمان الكافي للعامل حتى يعود إلى عمله، ففرضت على المؤجر أن يقوم بإثبات خلو المؤسسة من عمل شاغر يتناسب مع الاختصاص المهني للعامل المجند[398] وتكون بذلك قطعت الطريق أمام المؤجر حتى لا يحاول إبعاد العامل المجند من العمل.

كما ينتفع بهذه الأولوية العاملين لوقت جزئي الراغبين في الانتقال إلى نظام العمل كامل الوقت واللذين لهم نفس الاختصاص والمؤهلات المطلوبة[399] والعاملين كامل الوقت الذين انتقلوا لنظام العمل لوقت جزئي بسبب الحمل أو لضرورة رعاية طفل يقل عمره عن ست سنوات أو فرد من العائلة معاق أو مريض ويمكنهم العودة إلى نظام العمل لوقت كامل وذلك عند توفر شغور في مراكز العمل.[400]

وقد أكد فقه القضاء هذه الأولويات في الانتداب حين أقرت محكمة التعقيب “حيث اقتضى الفصل 76 من القانون عدد 78 المؤرخ في 05 أوت 1985 المتعلق بضبط النظام الأساسي العام لأعوان الدواوين والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أنه يمكن أن تنتدب لضرورة العمل أعوان للقيام بعمل معين أو لمدة معينة أو لتعويض عون قار مؤقتا إلا إن لهؤلاء الأعوان الأولوية فيما يتعلق بالانتداب إذا ما تساوت الجدارة والمؤهلات.”

ب- الحالات الخاصة بالمؤسسة:

بالنسبة للعملة الذين فسخت عقودهم نتيجة حذف مراكز عملهم لظروف اقتصادية مرت بها المؤسسة لهم حق الأولوية في إعادة الانتداب حسب شروط التأجير التي كانوا ينتفعون بها وذلك في صورة قيام المؤسسة بانتداب عملة من نقس الصنف المهني وذلك طيلة سنة من تاريخ الطرد مع احترام إجراءات الفصل 8 من مجلة الشغل وذلك بضرورة إعلام المؤجر برغبته في الرجوع إلى العمل عن طريق مكتوب مضمون الوصول في أجل لا يتجاوز الشهر من تاريخ طرده من العمل مع مراعاة الأقدمية وسنوات الخبرة في العمل[401]، حيث تأكد محكمة التعقيب التونسية على ضرورة احترام

إجراءات الإعلام ليتمتع الأجير بحق الأولوية في إعادة الانتداب.[402] وقد نص المشرع على انه يتم الترفيع في الأقدمية بسنة عن كل ولد دون 16 عام عند تاريخ الطرد وذلك باعتبار أن الطرد لأسباب اقتصادية وفنية ليس راجع لخطأ الأجير.

بالنسبة للمشرع الفرنسي فقد اعتمد الشروط نفسها[403]، وألزم على المؤجر إعلام الأجير المطرود بكل شغور في الوظائف يتناسب وصنفه المهني وأن العمل سيكون لمدة معينة أو غير معينة، وكل مخالفة لهذه الأحكام تضمن للأجير تعويض على الأقل اجر شهرين للأجير الذي يتمتع بأكثر من سنتين أقدميه[404]، في هذه الحالة فاللجوء إلى عقود الشغل محددة المدة بستة أشهر بالنسبة لموطن شغل شاغر نتيجة للطرد لأسباب اقتصادية لا يمنع المؤجر من احترام التزامه بإعادة الانتداب.[405]

محكمة التعقيب الفرنسية تعرضت كذلك إلى مسالة تمتع العامل لوقت جزئي المطرود لأسباب اقتصادية بالأولوية في إعادة الانتداب، “حيث اعتمدت المحكمة حل قانوني مقنع لكنه صعب التطبيق على أرض الواقع باعتبار مدة العمل هي معطي مختلف عن قرار الطرد الذي يجب أن يمارس بصفة متساوية على العملة لوقت جزئي والعملة لكامل الوقت.”[406]

وتجدر الملاحظة على أنه رغم الأهمية القانونية والاجتماعية لمنح هذه الأولوية فإنها تميزت بغياب الجزاء عكس المشرع الفرنسي الذي يلزم المؤجر المخالف بدفع تعويض لا يجب أن يقل في جميع الأحوال عن أجرة شهرين.

► خاتمة الجزء الثاني ◄

رغم ما يتمتع به المؤجر من حرية في الانتداب من خلال الحرية في اللجوء للانتداب من عدمه والحرية في تسيير عملية الانتداب في حد ذاتها من خلال الحرية في اختيار الأجير والعقد اللذان سيؤسسان لمستقبل العلاقة الشغلية وبالتالي المؤسسة، فان قانون الشغل ظل وفيا لنشاته ونزعته الحمائية التي توفر للأجير، باعتباره في اغلب الأحيان الطرف الضعيف وعرضه للاستغلال وسوء المعاملة والتعدي على حقوقه في سبيل مصلحة المؤسسة، نوع من الحماية تجلت في مرحلة الانتداب في محاولة المشرع الحد من حرية المؤجر في الانتداب في مرحلة أولى من خلال الحد من إمكانية تعسف المؤجر في الانتداب وذلك بإقرار حماية للأجير من تعدي المؤجر على حياته الخاصة وإقرار كذلك مبدأ يقضي بمنع الميز وإقرار المساواة بين طالبي الشغل.

أما في مرحلة ثانية تجلي تدخل قانون الشغل من خلال محاولة تأطير حرية المؤجر في الانتداب من خلال المراوحة بين فرض بعض القيود على انتداب فئة معينة من طالبي الشغل من الأطفال والنساء والأجانب، وبين إلزام المؤجر بانتداب فئة أخري من طالبي الشغل تتكون من المعوقين وحاملي الشهادات العليا لها الأولوية في الانتداب لأول مرة، وكذلك ألزام المشرع المؤجر بانتداب أجراء أعطاهم القانون الأولوية في إعادة الانتداب لدي نفس المؤجر في حالات حددها القانون كالجندية والعمل لوقت جزئي أو في صورة مرور المؤسسة بصعوبات اقتصادية.

وهكذا لم يشذ قانون الشغل عن القاعدة بالنسبة لانتداب الأجراء من خلال محاولته توفير قدر من الحماية للأجير، لكن التساؤل يبقي مطروح: إلى أي مدي نجح قانون الشغل في ذلك؟.

الخاتمة العامة

بعد هذه الدراسة المعمقة لموضوع ” الانتداب في قانون الشغل ” من خلال محاولة الإجابة على الإشكالية المتمثلة في التساؤل : كيف وفق قانون الشغل بين ضرورة توفير حماية للأجير تقتضيها نزعته الحمائية، وبين حرية المؤجر في الانتداب؟ وهل وفق في ذلك؟، نتبين أن الانتداب في قانون الشغل التونسي يتميز بغياب إطار تشريعي محكم، فالمبدأ يتمثل في حرية المؤجر في الانتداب تجد لها أساسا في حقه في الملكية وفي ظهور مفهوم جديد متمثل في مصلحة المؤسسة، وتتجلى كذلك من خلال الحرية في اللجوء للانتداب من عدمه ومن خلال الحرية في اختيار الأجير، حيث أتاح القانون للمؤجر استعمال كل الوسائل اللازمة للتأكد من شخصية وقدرات الأجير سواء باستعمال تقنيات كالمقابلة والاختبار النفسي والتجربة المهنية وفترة التجربة وغيرها من تقنيات الانتداب في ظل غياب أي التزام قانوني يجبره على الانتداب.

كما تدعمت هذه الحرية بما أعطاه قانون الشغل للمؤجر من حرية في اختيار العقد الذي سيتم على أساسه الانتداب وتتجلى هذه الحرية في ميل المؤجرين إلى إبرام عقود الشغل المحددة المدة رغم وجود أشكال أخري للتشغيل، بالإضافة إلى حريتهم في تحديد محتوي العقد، ويبقي الخيار للأجير إما القبول أو الرفض، لكنه في اغلب الأحيان سيقبل باعتبار أن العمل سينتشله من سجن البطالة و يوفر له مورد رزق.

وتدعمت حرية الانتداب كذلك بمحدودية الرقابة المسلطة على عمليات الانتداب وحتى تدخل المشرع كان للتبسيط من إجراءات الانتداب لا التشديد فيها.

لكن هذا الإقرار بحرية المؤجر في الانتداب لم يمنع وجود بعض القواعد الحمائية لصالح الأجير سواء في مجلة الشغل أو الاتفاقيات المشتركة أو الاتفاقيات الدولية من شأنها أن تمنع المؤجر من التعسف في استعمال هذه الحرية، منها إقرار مبدأ المساواة عند الانتداب وإقرار حماية لحياة الأجير الخاصة في هذه الفترة، بالإضافة إلى إقرار قواعد هامة من شأنها أن تؤطر هذه الحرية من خلال منع انتداب الأطفال والنساء والأجانب في حالات معينة، بالإضافة لبعض القواعد الحمائية في اختيار وتحديد نوع و محتوى العقود.

كل هذه القواعد أملاها التوجه الحمائي لقانون الشغل في محاولة لتحديد حرية الانتداب ، إلا أن التساؤل عن مدى نجاعة هذه الحماية يطرح نفسه؟.

إن المتأمل في هذا التوجه الحمائي يلاحظ لوهلة امتداده على مرحلة الانتداب، إلا أنه بالتعمق في ذلك نلاحظ ما يتسم به هذا التوجه الحمائي من محدودية تتجلى في عدة مظاهر، وراجعة لعدة أسباب ،تتأكد بإجراء مقارنة بسيطة بين التوجه الحمائي في الانتداب وبين التوجه الحمائي في مرحلتي تنفيذ وإنهاء العلاقة الشغلية على اعتبار أن حماية قانون الشغل للأجير تشمل كامل مراحل العلاقة الشغلية من تكوين وتنفيذ و إنهاء.

فبالنسبة لأسباب المحدودية فتتعدد من غياب تنظيم قانوني متكامل لمرحلة الانتداب على غرار مرحلتي تنفيذ وإنهاء العلاقة الشغلية وهيمنة حرية المؤجر في الانتداب، بالإضافة لغياب التزام المؤجر بالانتداب والتشغيل.

أما بالنسبة لمظاهر هذه المحدودية فتتجلى خاصة في غياب رقابة فعلية على عمليات الانتداب التي تبقي خاضعة لحرية المؤجر، فالرقابة من شأنها أن تعطي أكثر فاعلية للهياكل المكلفة بذلك والمتمثلة في تفقدية الشغل ومكاتب التشغيل خاصة، بالإضافة إلى ضعف العقوبات المسلط على مخالفة الشروط القانونية للانتداب سواء المالية أو الجزائية، إن لم تغب في بعض الأحيان، أما الرقابة على بقية مراحل العلاقة الشغلية فتظهر أكثر تنظيم وفاعلية سواء على مستوى الهياكل أو العقوبات.

فبإجراء هذه المقارنة نلاحظ مدى محدودية هذا التوجه الحمائي في الانتداب.

إلا أنه بنظرة أخرى على غياب التنظيم المتكامل للانتداب والإقرار بحرية المؤجر يمكن القول أن المشرع قد تغافل عن ذلك عن دراية على خلاف مرحلتي التنفيذ والإنهاء للعلاقة الشغلية وذلك تكريسا لبعض المرونة التي طالب بها المؤجرون في هذه المرحلة والتي تتماشى وسياسة الدولة في التشغيل.

فالمؤجر يطالب بتخفيف إجراءات الانتداب وتدعيم حرية الانتداب والدولة من جهتها تهدف إلى التقليص من نسبة البطالة، فبذلك تكون الأهداف متوازية ومتكاملة باعتبار أن القضاء على البطالة يقتضي حث المؤجر على انتداب أكبر عدد ممكن من طالبي الشغل ولن يكون ذلك إلا بتشجيعه على الانتداب بتبسيط إجراءاته وتخفيف الرقابة عليه وبالتالي منحه المزيد من الحرية في الانتداب، وبذلك يتمكن الأجير من الحصول على عمل ومورد رزق يواجه به غلاء المعيشة والحاجيات اليومية والهروب من سجن البطالة والانحراف.

وبذلك يبدو أن هذا التوجه الذي اقتضته سياسة الدولة الأقرب إلى تبرير حرية المؤجر في الانتداب التي تبدو كأنها في صالح الأجير وتحمل في طياتها نوع من هذا التوجه الحمائي لقانون الشغل.

الإنتداب في قانون الشغل – القانون التونسي

سلام اريد الحصول علي هذا المقال لانه منقوص من المراجع فاردت مراسلتكم لتمكيني منه كاملا لو سمحتم وشكرا لكم علي مجهودكم الجبار