الإنتقام في القانون الدولي

يعرف بعضهم الانتقام reprisal في القانون الدولي بأنه أفعال تتخذ من قبل دولة إزاء دولة أخرى بقصد إرغامها على الموافقة على تسوية النزاع الذي كانت هي سبباً في نشوئه نتيجة إخلالها بالتزام دولي. كما عرفه آخرون بأنه فعل قسري منافٍ للقانون يتخذ رداً على فعل مماثل مناف للقانون.

أما الفقيه الدولي أوبنهايم فيعرف أعمال الانتقام بأنها «أفعال غير مشروعة دولياً ومضرّة تتخذها دولة إزاء دولة أخرى، استثناءً مسموحاً به، لإكراه الدولة الأخيرة على قبول التسوية المناسبة للخلاف الناجم عن جريمة دولية». ويقصد بالجريمة الدولية هنا أي مخالفة للالتزامات المفروضة طبقاً لمعاهدة ما أو أي اعتداءٍ على سلامة دولة أخرى، أو خرقٍ لسيادة إقليم دولة أخرى أو أي عملٍ غير مشروع دولياً. ويضيف أوبنهايم بأنه من الواجب أن يكون استخدام القوة مسبوقاً بطلب التعويض ولم يؤد هذا الطلب إلى نتيجة، كما يجب أن تكون القوة المستخدمة في الانتقام متناسبة والضرر الذي حدث. والأفعال الانتقامية يمكن أن تأخذ أي شكل غير مشروع فيه اعتداء على ممتلكات الدولة المعتدية ومواطنيها، على ألاّ يكون القصد من استخدام القوة البدء بحرب. ولابد هنا من التفريق بين الانتقام والاقتصاص retorsion. فالأخير هو الفعل المستخدم من جانب دولة ما لإيذاء دولة أخرى، وذلك بأفعال مشروعة مماثلة لتلك الأفعال الضارة – ولكن المشروعة – المقترفة من قبل تلك الدولة. وصفة المشروعية هنا هي التي تميّز الاقتصاص من الانتقام. وبعبارة أخرى الاقتصاص والفعل المسبب له من قبل الدولة الأولى البادئة هو عمل مشروع أي غير منافٍ للقانون الدولي، في حين يكون الانتقام والفعل المسبب له من قبل الدولة البادئة بالإيذاء هو أساساً، عملاً غير مشروع ومنافياً للقانون الدولي. ومثال على الاقتصاص حالة رفع دولة ما تعرفتها الجمركية حيال بضائع دولة أخرى رداً على رفع هذه الأخيرة تعرفتها الجمركية حيال بضائع الدولة المقتصة.

مشروعية الانتقام في القانون الدولي وأشكاله وأساليبه

عُرفت الأعمال الانتقامية منذ القدم، فقد عرفها البابليون ونص عليها تشريع حمورابي، كما عرفت عند القبائل العربية وعرفها الإغريق، أمَّا الرومان فلم يأخذوا بها. وقد كانت تشمل حجز الممتلكات أو الأشخاص وسيلة انتقامية رداً على خطأ اقترف من قبل دولة بحق الدولة التي تلجأ إلى الأعمال الانتقامية. وفي العصور القديمة كان يحق للدولة أن تفوّض إلى أحد رعاياها الانتقام بنفسه، إذا اعتدي عليه في دولة أجنبية، أي تفوض إليه القيام بالأعمال الانتقامية الخاصة كأن يقوم بالحجز على ممتلكات رعايا الدولة المعتدية. غير أن هذا النوع من الانتقام اختفى مع الزمن واقتصر الانتقام على الأعمال التي تنفذها الدولة بوساطة أجهزتها الرسمية. ومن هذه الأعمال الانتقامية التي كانت شائعة ومعروفة قبل نشوء عصبة الأمم ما يلي:

ـ حجز سفن الدولة المعتدية الموجودة في الموانئ والمياه الإقليمية للدولة المعتدى عليها، إضافة إلى إنزال علمها.

ـ القبض على سفن الدولة وممتلكاتها في أعالي البحار.

ـ الحصار السلمي pacific blockade ويعني محاصرة موانئ معينة في أوقات السلم. وقد استخدم هذا الأسلوب بعد تحريم الانتقام في القانون الدولي الحديث، وذلك حين حاصرت البحرية الأمريكية كوبة عام 1962 إثر تزويد الاتحاد السوفييتي إياها بصواريخ بعيدة المدى زُعم أنها كانت تحمل رؤوساً نووية. وقد كان «الانتقام» محل جدل فقهي واسع منذ القدم. فقد وجد من أيده بوصفه نوعاً من المساعي الذاتية self help التي كانت مقبولة بوصفها وسيلة تستهدف إرغام الخصم على الكفّ عن مخالفة القواعد الدولية أو التعويض عن الأضرار التي تسبب بها فعل غير مشروع. في حين عارض مذهب فقهي آخر أعمال الانتقام وقت السلم ولاسيما تلك التي تستخدم فيها القوة لأنها ستكون محفوفة بالمخاطر، إذ سيرد عليها بالقوة أيضاً، وهذه هي الحرب عينها. ومع توقيع عهد عصبة الأمم عام 1919 تكاثر الشراح المهاجمون للأعمال الانتقامية في ضوء نص المادة 12 من ذاك العهد التي عدّت التدابير العسكرية البرية والبحرية والجوية أعمالاً انتقامية غير مشروعة إذا بوشرت قبل اتخاذ الإجراءات السلمية المنصوص عليها في العهد. وفي هذا يقول شارل فيشر: «إن الأعمال الانتقامية المسلحة تعد اعتداءً ومن ثم فهي مناقضة للمادة 12من عهد عصبة الأمم». وكان من أنصار هذا الرأي «بولتيس» و«إكسيولي» و«دي لوتير» و«سِل» وسواهم. ثم جاء ميثاق لوكارنو وميثاق بريان كيلوغ ليدعما حجج أنصار عدم قبول الانتقام؛ بيد أن عدداً آخر من الفقهاء ظل يؤيد قبوله أمثال بوفندورف والكتاب الألمان ومنهم إيرزبيرجر Erzeberger. أمَّا في ظل ميثاق الأمم المتحدة الذي هو دستور العلاقات الدولية في هذه الأيام فلا يمكن قبول الانتقام ولا عدّه مشروعاً، ولو على سبيل الاستثناء، وذلك في ضوء الكثير من مواد هذا الميثاق، ولاسيما المادة 2/3 التي تقضي بأن «على جميع أعضاء الهيئة أن يحلوا منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر» والمادة 2/4 التي تقضي بأن «يمتنع أعضاء الهيئة جميعاً في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة واستخدامها لتهديد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة».

ولا يجعل الميثاق سبيلاً لدولة على دولة أخرى لاستخدام القوة إلا حالة الدفاع المشروع التي تشترط وقوع الاعتداء على الدولة المستخدمة لحقها في الدفاع المشروع، أو كون هذا الاعتداء واقعاً أو وشيك الوقوع إلى أن يتدخل مجلس أمن الأمم المتحدة، إعمالاً لنظرية الأمن الجماعي، في رد الاعتداء عن الدولة المعتدى عليها وفق أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

أمَّا في زمن الحرب فقد ظلت الأعمال الانتقامية معترفاً بها بوصفها تدابير تتخذ حيال الدولة المعتدية في حدود معينة معترف بها. وقد تأكد ذلك في محكمة نورمبرغ[ر] العسكرية التي حاكمت مجرمي الحرب النازيين. وأكدتها لجنة القانون الدولي في تقريرها عن مشروع تقنين الجرائم التي تهدد سلامة البشرية وأمنها بقولها: «عقاب على الفعل إذا وقع في الحدود المعترف بها دولياً». ومع أن الحرب ذاتها غير معترف بمشروعيتها في نظام الأمم المتحدة إلا أنها حصلت وتحصل واقعياً وتجري فيها أعمال انتقامية لم يتمكن القانون الدولي الحديث إلا من تحريم المقترف منها بحق الأفراد. وهذا ما أكدته اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 المكملة بملحقي جنيف لعام 1977، تلك الاتفاقيات التي عدت إساءة معاملة الأفراد، فضلاً عن الانتقام منهم، جرائم خطيرة يحاسب عليها مقترفوها إضافة إلى مسؤولية دولهم.

وقد شهد الوطن العربي أعمالاً وصفتها إسرائيل وبعض الدول الغربية بالانتقامية لتسويغ اعتداءات «إسرائيل» على بعض الدول العربية. من ذلك: أعمالها إزاء سورية قرب بحيرة طبرية التي أدانها مجلس الأمن في 29/3/1955، وكذلك هجومها على مطار بيروت في 28/12/1968 رداً على هجوم قام به فدائيان فلسطينيان ضد طائرة تابعة لها في مطار أثينة يوم 26/12/1968. وقد أُدينت إسرائيل على هذا الهجوم بقرار مجلس الأمن رقم 262 لعام 1968. غير أنه لا يمكن أن تختفي الأعمال الانتقامية من التعامل الدولي، على تحريمها، مادامت بعض الدول لا تحترم قواعد القانون الدولي وخاصة حين تشن الحروب وتنكر على الشعوب حقها الثابت في تقرير مصيرها.

مقال قانوني متميز حول الإنتقام في القانون الدولي