ان حق الورثة يتعلق بأموال التركة منذ حلول مرض الموت ، وذلك لان هذا المرض يضعف الشخص الى درجة قد يسهل معها التأثير فيه فيحابي بعض الورثة على حساب البعض الاخر مخالفاً بذلك احكام الفرائض ، لذلك كان للورثة حق في اموال مورثهم منذ حلول المرض لكي يسلم لهم ثلث التركة ، فلا يعطي وارث الا بأجازتهم ولايعطي اجنبي الا في حدود الثلث . وان حق الدائنين هو اسبق من حقوق الورثة واحق منها بالاداء ، ولذلك جاء حكم الدائن كحكم الوارث ، أي ان حقه يتعلق بأموال المدين منذ وقت المرض ، واذا كان حق الورثة قد تعلق بمال المورث منذ المرض ليسلم لهم ثلثاه ، فأن حق الدائنين قد تعلق بهذا المال لكي يسلم لهم المال كله ، فحقهم عام على الاموال جميعاً ، متعلق بكل عين من اعيانها ، محيط بها احاطة كاملة .

ومما تقدم نستنتج ان المريض بمرض الموت في اثناء مرضه ليس لاحد عليه من سلطان ، وانما ينظر في تصرفاته بعد وفاته ، فان كانت تمس حق الورثة كان لهم الاعتراض عليها ونقضها ، او كانت موقوفة على اجازتهم ، لانه يتبين ان التصرفات تمسهم ، وليس لهم الاعتراض في حياته لان المرض لا يتبين انه مرض موت الا اذا اتصلت به الوفاة فعلاً ، وليس لهم الاعتراض قبل تحقق السبب المنشئ لحق الاعتراض ، وكذلك الدائنون ليس لهم الحق العيني في اموال المريض الا اذا ثبت ان المرض هو مرض موت ، وذلك بأن اتصل به الموت كما تقدم ،وفي حال حياته ليس لهم الاعتراض الا بقدر ما للديون في ذاتها من قوة ، من غير نظر الى مرض المدين او سلامته (1) .

فتصرفات المريض في مرضه اذاً عرضة للاتهام فلا يكون حر التصرف في ماله ويكون حكم تصرفاته بحيث يحقق المحافظة على حقوق الدائنين ونفي التهمة . وانما يتعلق حق الدائنين من التركة بالجزء الذي يكون بعد قضاء حاجات المدين في الحياة وما يلزم لتجهيزه بعد الوفاة . ولذلك يغلّب احياناً حق المدين في التصرف فيجوز ، واحياناً اخرى يغلب حق الدائنين في استيفاء ديونهم فيمتنع ، ولذا يكون الحجر في التصرف الذي يظن انه يمس الدائن وليس فيه حاجة شخصية للمريض ، فتلك الدائرة هي موضع الحجر والمنع ، وهي دائرة مرنة غير واضحة الحدود والمعالم ، ولقد كان ذلك دافعاً لان تجعل الشريعة اكثر احكام المريض للاحتياط ، واتخذت الشبهة في بعض الاحيان ذريعةً للمنع ، فهنالك اذاً تصرفات تكون قابلة للنقض واخرى غير قابلة له . ان التصرفات التي تكون قابلة للنقض بعد الوفاة هي التصرفات المالية المحضة التي يكون فيها نقص لرأس المال ، ولا تكون لقضاء حاجاته الاصلية ، وعلى ذلك لا يكون قابلاً للنقض ما يأتي :-

1.النكاح والخلع ولو ترتب عليها مغارم مالية ، ولكن على ان لا يتجاوز المهر مهر المثل وان لا يزيد بدل الخلع على ثلث المال ، فأن تجاوز المهر مهر المثل لا ينقض النكاح ، ويجب مهر المثل فقط ، وان تجاوز بدل الخلع ثلث المال لا ينقض الخلع ، ولكن لا يجب بدلاً الا الثلث.

2.ولا يكون قابلاً للنقض شراء الادوية وحاجات المريض التي لا يستغني عنها مالم تكن فيها محاباة ، فاذا خلت من المحاباة بأن اشتراها بقيمتها او بغبنٍ يسير ، فالتصرف نافذٌ غير قابلٍ للنقض ، فان كان في التصرف محاباة بغبنٍ فاحش كان ذلك تبرعاً قابلاً للنقض من الدائنين ، وكذلك من الورثة لحفظ حقه .

3.العقود الواردة على المنافع كالاجارة والاعارة ، لان حق الدائنين يتعلق بالاعيان نفسها لا بمنافعها ، ولانه بمقتضى المذهب الحنفي عقود المنافع لا تبقى بعد موت المؤجر ، بل تفسخ الاجارة والاعارة . وعلى مقتضى المذاهب التي تبقي الاجارة بعد وفاة المؤجر يسري على الاجارة النافذة بعد الوفاة ما يسري على عقد البيع من حيث ما يكون فيها من محاباة .

هذه هي التصرفات التي لا تكون قابلة للنقض من قبل الدائنين ، اما تصرفات المدين المالية الاخرى فانها تكون قابلة للنقض اذا وقعت في مرض الموت ، بلا تفرقة بين تصرف منجز او مضاف الى ما بعد الموت ، وبلا تفرقة بين تصرفٍ بمقابل او بلا مقابل ما دامت تلحق بالمدين ضرراً . فما دامت التركة مدينة فحق الدائنين فيها ان تسلم قيمتها لهم ، وان كل تصرف من المريض لا يمس هذه القيمة فهو نافذ وان لم يجيزوه ، اما اذا كان التصرف تبرعاً فلا ينفذ الا اذا اجازوه ، وكذلك كل بيع او شراء فيه غبن ولو يسير لهم حق فسخه الا اذا زاد المشتري بما يزيل الغبن لان حقهم متعلق بالقيمة فيجب ان تسلم لهم ، ولكن اذا باع او اشترى بلا غبن اصلاً لم يكن لهم ان ينقضوه لان حقهم متعلق بالقيمة المالية وقد سلمت لهم فلا وجه لاعتراضهم ولا لنقضهم ما ابرم . فالبيع والهبة والوقف والوصية والابراء وغيرها من التصرفات يمكن للدائن ان يطعن فيها بمرض الموت لكي يرفع ما قد يلحقه من ضرر ، ولكي تبقى له التركة بقيمتها المالية .

إن هذه الدعوى ، اذا اردنا تكييفها ، فأننا نقول بانها دعوى عدم نفاذ التصرفات، لا دعوى بطلان ، حيث لا تسري تصرفات المريض مرض الموت على الدائنين ، ولا يحتج بها عليهم مالم يصلوا الى حقوقهم او اقتضاء ديونهم . هذا هو حكم الشريعة الاسلامية ، انه يعطي للدائنين وكذا للورثة حق الطعن في تصرفات المريض مرض الموت بقدر ما يدفع الايثار او الاضرار بالنسبة لاحدهما او بالنسبة للأخر، وكل تصرف صادر من المريض مرض الموت سواء أكان منجزاً ام مضافاً الى ما بعد الموت تسري عليه بعض احكام الوصية اذا مات في هذا المرض وكان التصرف بلا عوض او بعوض صوري ( محاباة )(2) –(3). وهذا ما جاءت به الشريعة السمحة ، واخذت به التشريعات الوضعية المستمدة من الشريعة(4). وغيرها من التشريعات، ومنها القانون العراقي ، حيث قضت المادة ( 1109 ) من القانون المدني العراقي النافذ رقم 41 لسنة 1951 بما يأتي :-

(1-كل تصرف ناقل للملكية يصدر من شخص في مرض الموت مقصود به التبرع او المحاباة يعتبر كله او بقدر ما فيه من محاباة تصرفاً الى ما بعد الموت وتسري عليه احكام الوصية اياً كانت التسمية التي تعطى له .

2- ويعتبر في حكم الوصية ابراء المريض في مرض موته مدينه وارثاً كان او غير وارث).

ونصت المادة ( 111 ) الفقرة ( 1 ) من القانون المذكور بصدد الاقرار في مرض الموت على ما يأتي : ( اذا اقر شخص في مرض موته بدين لوارث او لغير وارث فأن جاء اقراره على سبيل التمليك كان بحكم الوصية ).

وهذا ما سار عليه مشروع القانون المدني الجديد اذ قضت المادة ( 228) منه بما يأتي :

(أولاً :كل تصرف قانوني يصدر عن شخص في مرض الموت ويكون مقصوداً به التبرع يعتبر تصرفاً مضافاً الى ما بعد الموت ،وتسري عليه أحكام الوصية أياً كانت التسمية التي تعطى لهذا التصرف .

ثانياً : على ورثة المتصرف ان يثبتوا ان التصرف القانوني قد صدر عن مورثهم وهو في مرض الموت ، ولهم اثبات ذلك بجميع الطرق ، ولا يحتج على الورثة بتاريخ السند اذا لم يكن هذا التاريخ ثابتاً.

ثالثاً : اذا اثبت الورثة ان التصرف صدر عن مورثهم في مرض الموت اعتبر التصرف صادراً على سبيل التبرع مالم يثبت من صدر له التصرف عكس ذلك ).

إن هذا النص إنما مأخوذ أساساً من القانون المدني المصري ،ولا يوجد بينهما فرق سوى أن نص القانون المصري جاء متمماً بعبارة (كل هذا ما لم توجد أحكام خاصة مخالفة ).

وهو أيضاً نفس الحكم ونفس النص الذي جاء به كل من القانون السوري والقانون الأردني والقانون الجزائري(5). وجاء في الفصل (479) من قانون الإلتزامات والعقود المغربي ما يأتي: (البيع المعقود من المريض في مرض موته تطبق عليه أحكام الفصل (344)إذا أجرى لأحد ورثته بقصد محاباته ،كما إذا بيع له شئ بثمن يقل كثيراً عن قيمته الحقيقية ،أو اشترى منه شئ بثمن يجاوز قيمته ،اما البيع المعقود من المريض لغير وارث فتطبق عليه أحكام الفصل (345)). ومن الجدير بالذكر أن الفصل (344)ينص على الآتي : (الإبراء الحاصل من المريض في مرض موته لأحد ورثته من كل أو بعض ما هو مستحق عليه لايصح إلا اذا أقره باقي الورثه ). وينص الفصل (345) على الآتي : (الابراء الذي يمنحه المريض في مرض موته لغير وارث يصح في حدود ثلث ما يبقى في تركته بعد سداد ديونه ومصروفات جنازته ).

وهذا هو نفس الحكم الذي جاء به كل من القانون التونسي والقانون الموريتاني، ولقد أتضح أن هذا الرأي يفرق بين الإبراء الحاصل للوراث والإبراء لغير الوارث(6). وغنيٌ عن البيان ان تشخيص مرض الموت يتم اما عن طريق الطب، او عن طريق وفاة المريض به، وقد يخضع ذلك لتقدير القاضي كما جاء في بعض قرارات محكمة التميز(7).

_____________________

1- محمد ابو زهرة ، الملكية ونظرية العقد ، ص318 ، واحكام التركات والمواريث ، ص13.

2- لقد خالف فقهاء الظاهرية ما ذهب اليه جمهور الفقهاء اذ لم يفرق الظاهرية بين تصرفات المريض مرض الموت وحالة الصحة ، فهذا فقية الظاهرية ابن حزم يقول الاتي :

( فكل ما انفذوا في أموالهم من هبةٍ او صدقةٍ او محاباة في بيع فكله نافذ من رؤوس اموالهم أي لامن ثلثها كما قدمنا في الاصحاء الآمنين المقيمين ولا فرق في شيء أصلاً، ووصاياهم كوصايا الأصحاء ولا فرق ، برهان ذلك قول الله تعالى : ( وافعلوا الخير ) ، وحضه على الصدقة وأحلاله البيع ،وقوله تعالى : ( ولا تنسوا الفضل بينكم).ولم يخص عز وجل صحيحاً من مريض ولا حاملاً من حائل ولا امناً من خائف ولا مقيماً من مسافر). ينظر ابن حزم ، المحلى ، ج9 ، ص348 .

3- ينظر بصدد ما تقدم : ابن قدامه ، المغني ، ج6 ، ص491 ، محمد ابو زهرة ، نظرية العقد والملكية في الشريعة الاسلامية ، ص318 وما بعدها ، محمد ابو زهرة ، احكام التركات والمواريث ، ص13-17 ، شفيق شحاتة ، نظرية الالتزامات في الشريعة الاسلامية ، ص99 ، فقرة 66 ، علي الرجال ، حقوق الدائنين في التركة ، ص269-275 ، استاذنا الدكتور مصطفى الزلمي ، احكام الميراث والوصية ، ص144-145.

4- ينظر : المواد 395و880و1571و1602 من المجلة ، والمادة 267 من مرشد الحيران والمواد 567و569و570 من كتاب الاحكام الشرعية .

5- تنظر : المادة (916) من القانون المدني المصري ،والمادة (876)من القانون المدني السوري والمادة(1128)من القانون المدني الأردني ، والمادة (776) من القانون المدني الجزائري .

6- ينظر : الفصل (565) من مجلة الالتزامات والعقود التونسية ،والمادة (490 )من قانون الالتزامات والعقود الموريتاني لسنة 1989.

7- لقد صدرت قرارات كثيرة من محكمة التميز حول هذا الموضوع ،ومن هذه القرارات تلك التي لم تعد مرض الشيخوخة والشلل مرض موت ما دام لا يشكل خطراً داهماً على حياة الانسان حيث قضت هذه المحكمة بالاتي :

( الشيخوخة ليست مرض موت وكذلك الشلل وان الزم صاحبه الفراش وطالت مدته مادام لا يشكل خطراً داهماً على حياة المصاب به فاذا اشتدت اصبحت حالة المريض بسببه تنذر بدنو الاجل ، واستمر المرض بالاشتداد حتى انتهى بالوفاة قبل مرور سنة على هذا الاشتداد فيكون المرض مرض موت من الوقت الذي اشتد فيه لا من تاريخ الاصابة به ). قرار محكمة التميز 1338 / مدنية ثانية /975 في 3/11/1975 . وذهبت هذه المحكمة الى ان مرض سرطان الكبد هو مرض موت حيث قضت المحكمة بالاتي : ( يعتبر المصاب بسرطان الكبد مريضاً مرض الموت اذا مات قبل مرور سنة على مرضه بعد ان زادت علته سواء كان صاحب فراش ام لم يكن ، واذا كان المريض قد نظم سنداً في فترة مرضه ولم يكن للسند تاريخ ثابت رسمياً فيعتبر منظماً في فترة مرض الموت باعتبار ان الحادث يضاف الى اقرب اوقاته ). قرار محكمة التميز رقم 254 / الهيئة العامة الاولى / 1973 ، ينظر استاذنا الدكتور مصطفى الزلمي ، المصدر السابق ، ص144 . وجاء في أحد قرارات محكمة النقض المصرية ،بصدد تحديد مرض الموت ،ما يأتي: (المقرر في قضاء هذه المحكمة أن المقصود بمرض الموت أنه المرض الشديد الذي يغلب على الظن موت صاحبه عرفاً أو بتقرير الاطباء ،ويلازمه ذلك المرض حتى الموت وإن لم يكن المرض معروفاً من الناس بانه من العلل المهلكة ). ينظر: قضاء الطعن رقم 816 لسنة1943 ،نقلاً عن معوض عبد التواب ،المرجع في التعليق على نصوص القانون المدني ،ج2،ط5،2000م ،ص675.

وجاء في أحد قرارات القضاء التونسي ما يأتي : (والمقصود من مرض الموت ،المرض المخيف المنذر بالوفاة العاجلة ،لا المرض المزمن ،كالسل والسرطان الخفيفين إذ انهما لا يعيبان الرضا) قرار تعقيبي مدني عدد 4408 لعام 1966،نقلاً عن بلقاسم القروي الشابي، مجلة الإلتزامات والعقود ،المطبعة الرسمية ،1986،ص48.

اعادة نشر بواسطة لويرزبوك .

حق الطعن في تصرفات المريض مرض الموت حسب التشريعات المختلفة