توجد هناك فجوة كبيرة ما بين التصور القانوني لحقوق الانسان وحرياته الاساسية التي جاءت بها المواثيق والاتفاقيات الدولية وخاصة ميثاق الامم المتحدة (1)، والاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الانسان، وما بين الواقع الفعلي المتمثل بممارسة الشركات متعددة الجنسية لا نشطتها المختلفة على ارض الواقع. فهناك انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان وخاصة في الدولة المضيفة لها. ولقد اصدرت اللجنة الفرعية لحقوق الانسان في دورتها الحادية والخمسين قرارا بعنوان “العولمة واثرها على التمتع الكامل بجميع حقوق الانسان” جاء فيه “واذ تعرب عن ضرورة تحقيق التعاون الدولي على تعزيز وتشجيع الاحترام لحقوق الانسان للجميع دون تمييز، وان تدرك ان ظاهرة العولمة ليست مجرد عملية اقتصادية بل لها ايضا أبعاد اجتماعية وسياسية وبيئية وثقافية وقانونية ذات اثار ملموسة على التمتع الكامل بجميع حقوق الانسان“(2). وحيث ان الشركات متعددة الجنسية تعد اهم وسائل العولمة فهي الاخرى لها اثار ملموسة على التمتع الكامل بجميع حقوق الانسان.

ولقد وصف الامين العام لمنظمة العفو الدولية السيد “بال بيرسين” الشركات متعددة الجنسية بانها اللاعب الرئيس في قضية حقوق الانسان بقوله “بالتأكيد، طالما ان لها نشاطات كبيرة في كل قارة وتوظف أعداداً هائلة من الناس، فان هذه الشركات الكبرى تتحمل مسؤولية هائلة اجتماعيا تجاه الاف العمال الذين يعملون في مصانعها، وسياسيا تجاه حكومات البلدان الثرية، حيث توجد مكاتبها الرئيسية، وتجاه البلدان الفقيرة التي عادة ما تكون اقتصاداتها الوطنية اصغر من اجمالي عائدات شركة متعددة الجنسية”(3). لقد اخذت انشطة الشركات متعددة الجنسية في انتهاكها لحقوق الانسان مستويات متعددة فهي لم تقتصر على حق دون اخر وانما تكاد تشمل جميع حقوق الانسان. فعلى صعيد الحق في العمل نرى ان الشركات متعددة الجنسية قامت بتسريح الاف العمال ومارست ضغوطا كبيرة على حكومات الدول المضيفة بغية التقليل من شان النقابات والاتحادات العمالية، ان لم يكن الغاء دورها تماما. واذا ما اجرينا مقارنة ما بين التصور القانوني والواقع الفعلي وجدنا الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان من قبل الشركات متعددة الجنسية فمثلا نجد ان (ف1/م23) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان تنص على “لكل شخص حق في العمل وفي حرية اختيار عملة وفي شروط عمل عادلة وفي الحماية من البطالة” في حين تنص (ف2/م23) ن نفس الاعلان على “لجميع الافراد دون تمييز الحق في اجر متساو على العمل المتساوي” كذلك نصت (ف1/م6) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على “تعترف الدول الاطراف في هذا العهد بالحق في العمل، الذي يشمل ما لكل شخص من حق في ان تتاح له امكانية كسب رزقه بعمل يختاره او يقبله بحرية، وتقوم باتخاذ تدابير مناسبة لصون هذا الحق“(4).

وكذلك وضعت اللجنة الفرعية لتعزيز وحماية حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة عدة قواعد متعلقة بمسؤولية الشركات متعددة الجنسية ومؤسسات الاعمال في حقوق الانسان. وقد جاء في المادة (5) منها ما ياتي : “لا يجوز ان تلجأ الشركات غير الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال الى استخدام السخرة او العمل الجبري المحظور في الصكوك الدولية والتشريعات الوطنية ذات الصلة، وكذلك في القانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الانساني الدولي” اما المادة (7) منه فقد نصت على “توفر الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال بيئة عمل امنة وصحية على النحو المنصوص عليه في الصكوك الدولية والتشريعات الوطنية ذات الصلة وكذلك في القانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الانساني الدولي” في حين ان المادة (8) نصت على ان “تدفع الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال للعاملين فيها اجورا تضمن لهم ولاسرهم مستوى معيشة لائقا. ويجب ان تراعي هذه الأجور مراعاة تامة احتياجاتهم لتوفير ظروف معيشية ملائمة بهدف تحسينها تدريجيا“(5). كذلك فقد تضمنت الاتفاقيتان المنبثقتان عن منظمة العمل الدولية وهما اتفاقية الحرية النقابية وحماية حق التنظيم “المرقمة 87 لعام 1948” واتفاقية تطبيق مبادئ حق التنظيم والمفاوضة الجماعية “رقم 98 لعام 1949” تضمنتا الحق في تشكيل النقابات العمالية والاتحادات المهنية وان يعطى لهم الحق الكافي في التنظيم من حيث (تكوين وعقد الاجتماعات واجراء المفاوضات وغيرها من الامور التي تكفل حقوق العاملين)(6). غير ان الامر في الممارسة يختلف عما هو مدون في النصوص، فعلى سبيل المثال نجد ان العامل الذي يعمل في الشركة الموجودة في بريطانيا ينال اجرا اكثر من ذلك الذي يعمل في شركة تابعة في المكسيك وذلك بفارق (2.5) مرة في الساعة و (9) اضعاف نظيره الذي يعمل في سريلانكا(7).

وعلى صعيد الممارسة النقابية نجد انه في سيريلانكا تقوم هيئة الاستثمار الحكومية بأنشاء مجالس خاضعة لسيطرة الشركات متعددة الجنسية، مهمتها التخلص من العمال الذين يحاولون تشكيل اتحادات حقيقية. وفي الصين لا يختلف الامر في شيء فالعمال الذين يحاولون تشكيل اتحادات مستقلة يتعرضون للطرد والمضايقة والسجن.(8) وفي النمور الاسيوية (سنغافورة-تايوان-تايلند-ماليزيا- كوريا الجنوبية-الفلبين-اندونيسيا) فالشركات تقوم بالتدخل المباشر في علاقات العمل وتحرم العمال الكثير من الحقوق وتتباطأ في اعطائهم المزايا والمكاسب المتفق عليها مسبقا. ففي كوريا الجنوبية مثلا نجد ان الحكومة الكورية الجنوبية ما زالت لا تعترف بشرعية نقابات عمال كوريا وتنزل عقوبات قاسية بالعمال الذين يشتركون في مظاهرات الاحتجاج. وفي بورما واندونيسيا لا تزال عمليات قتل النقابيين وانتهاكات حقوق الانسان مستمرة.اذ كانت محاكمة القائد الاندونيسي “مختار باكياهان” مثالا واضحا لقيام السلطات الاندونيسية بخرق الحريات النقابية(9). وكذلك فان هذا العمل يخرق ما جاء به اعلان اللجنة الفرعية لتعزيز وحماية حقوق الانسان حول القواعد مسؤولية الشركات متعددة الجنسية اذ نصت المادة (9) منه “على الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال ان تكفل للعاملين فيها الحرية النقابية، والاعتراف الفعلي بالحق في المفاوضة الجماعية من خلال حماية حقهم في العمل النقابي والانضمام الى منظمات يختارونها بانفسهم، على الا يخضع ذلك الا للوائح المنظمة المعنية، دون تمييز او دون الحصول على اذن مسبق او تدخل في شؤون عملهم وذلك لاغراض حماية مصالحهم المهنية وغير ذلك من اغراض المفاوضة الجماعية على نحو ما تنص عليه التشريعات الوطنية والاتفاقات ذات الصلة لمنظمة العمل الدولية“(10).

وعلى صعيد الحياة السياسية نجد ان الشركات متعددة الجنسية قد تغلغلت الى مراكز اتخاذ القرار فعجز الدول من اصدار قوانين تحكم بانشطة الشركات متعددة الجنسية لاتؤدي إلى إضعاف الدولة نفسها فحسب وانما الى اضعاف كل المؤسسات التي تعمل داخل الدولة من برلمان واحزاب سياسية واتحادات نقابية او بعبارة اخرى كل ادوات التحكم الديمقراطي الممكن او الفعلي(11). حيث انها قامت بافعال تتنافى واعلان قواعد المسؤولية التي وضعتها اللجنة الفرعية لتعزيز وحماية حقوق الانسان فلقد نصت المادة (11) منه “تمتنع الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال عن تقديم رشوة او أي اكرامية اخرى في غير محلها او عن قطع وعد بتقديمها او منحها او قبولها او التسامح ازاءها او الاستفادة منها عن علم او طلبها، ولا يجوز ان يطلب او يتوقع منها ان تقدم رشوة او اكرامية في غير محلها الى أي حكومة او مسؤول حكومي او مرشح لوظيفة انتخابية او أي فرد من افراد القوات المسلحة او افراد الامن او أي فرد اخر او منظمة اخرى. كما تمتنع عن القيام باي نشاط يدعم او يحض او يشجع الدول او أي كيانات اخرى على انتهاك حقوق الانسان وعليها، بالإضافة الى ذلك ان تسعى الى ضمان عدم استخدام السلع والخدمات التي توفرها في انتهاك حقوق الانسان“(12). وعلى الرغم مما هو مدون في النصوص فلقد قامت الشركات متعددة الجنسية بأفعال سابقة او لاحقة على هذا الاعلان وفي مختلف الوثائق والاتفاقات الدولية الخاصة بحقوق الانسان حيث انها قامت بأرشاء المسؤولين في الدولة وشراء ذممهم من اجل تحقيق مصالحها ففضيحة شركة (لوكهيد) لبيع الطائرات خير دليل على ذلك فلقد امتدت شبكة الرشاوي فيها من هولندا وايطاليا واليابان وانتهاءا بالعديد من الدول النامية وخاصة البترولية منها، ولقد كان وراء كشف هذه الفضيحة اللجنة الفرعية لمجلس الشيوخ الامريكي المكلفة حينها بمراقبة نشاط الشركات متعددة الجنسية حيث كشفت هذه اللجنة ان شركة (لوكهيد) قد دفعت ما لا يقل عن (12) مليون دولار كرشاوي للمسؤولين السياسيين في تلك الدول(13). فالشركات تعمل على افساد الحياة السياسية بافساد ممثليها وارشائهم بغية ابعاد منافس او الحصول على عقد من غير امتلاكها لشروط المفاضلة، وان افساد ممثل الدول حرمته اتفاقية فينا لقانون المعاهدات واعتبرت المعاهدة المبرمة على اساسه باطلة ويحق للدولة التي وقعت ضحية المطالبة بإنهاء المعاهدة(14).

بل ان الامر امتد الى ابعد من ذلك فلقد اصبح رؤساء الدول والحكومات يحملون عقودا تجارية لخدمة الشركات متعددة الجنسية في زياراتهم الخاصة بغية الحصول على منافع شخصية له او لحزبه فليس من المبالغة القول ان اكبر الساسة هم “مندوبي مبيعات”(15). ولم يتوقف عمل الشركات متعددة الجنسية عند افساد وارشاء الرموز السياسية للعديد من الدول، وانما امتد عملها ليشمل التدخل المباشر في شؤون الدول وهو امر يحرمه القانون الدولي العام، اذ ان مبدأ عدم التدخل يشكل احد الاعمدة الثلاثة مع (مبدأ السيادة ومبدأ المساواة) الذي يرتكز عليهم القانون الدولي في بنائه(16). فلقد قامت بالإطاحة بالحكومات التي تقف بالضد منها. وان الانقلاب الذي حصل في تشيلي عام 1973 والاطاحة بحكومة “السلفادور الليندي” انذاك خير مثال على ذلك. فلقد قامت شركة (I.T.T) بالتدخل مباشرة فساعدت المعارضة وأطاحت بالحكومة في تشيلي لان الاخيرة قامت باصدار قرارات اممت بموجبها حصص الشركات متعددة الجنسية في البلاد.(17). ومن الوان التدخل المباشر الاخرى مدها للحركات الانفصالية بالدعم المالي فلقد قامت شركة مناجم الماس “Debeers” التي تعد اكبر منتج للماس في العالم، بدعمها حركة (يونيتا) الانفصالية التي فرضت سيطرتها على اقليم (كانتغا) في انغولا، حيث تم ابرام اتفاق بين شركة “Debeers) وبين حركة يونيتا الانفصالية مفاده وصول تلك الحركة الى السلطة مقابل تمكين هذه الشركة من السيطرة على انتاج الماس الانغولي(18). ولم تكن شركة (Unocal) افضل من سابقتها فلقد عملت هذه الشركة مع شركة “Totals.A” على انتهاكات حقوق الانسان بالتعاون مع الحكومة في بورما. فلقد عانى الشعب البورمي كثيرا من عمليات التعذيب والاعتداء والاغتصاب وفقدان البيوت والممتلكات واعمال السخرة وغيرها من خروقات حقوق الانسان التي قام بها الجيش البورمي بدعم شركتي(Unocal) و”Totals.A” حيث قامتا بتقديم الدعم المالي للجيش البورمي(19).

ولا يفرق الامر بالنسبة لما قامت به شركات “Citiyroup، UBS and Credit Suisse for The Blood and Misery” في جنوب افريقيا(20). هذه الاعمال التي قامت بها الشركات متعددة الجنسية تخالف ما نصت عليه المواثيق والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الانسان من ان كل شعب له الحق في تقرير مصيره ولا يحق لاي جهة خارجية فرض ارادتها عليه او تعكير صفو الحياة السياسية فيه او تنمية النزاعات العرفية والدينية فيه او اللجوء الى اساليب واشكال من شأنها زعزعة الاستقرار السياسي والاقتصادي داخل البلد. ولقد نصت المادة (5) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان على “لايعرض أي انسان للتعذيب ولا للعقوبات او المعاملات القاسية أو الوحشية أو المحطة بالكرامة “(21). كذلك فقد ذهبت المادة (3) من اعلان قواعد مسؤولية الشركات متعددة الجنسية الذي جاءت به اللجنة الفرعية لتعزيز حقوق الانسان الى ان “على الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال الا ترتكب او تستغل جرائم الحرب او الجرائم المرتكبة ضد الانسانية او جرائم الابادة الجماعية والتعذيب والاختفاء القسري والسخرة او العمل القسري واخذ الرهائن والاعدام خارج نطاق القضاء او الاعدام باجراءات موجزة او الاعدام التعسفي، وغير ذلك من انتهاكات القانون الانساني والجرائم الدولية الاخرى التي ترتكب ضد الانسان على نحو ما حدده القانون الدولي، وبوجه خاص حقوق الانسان والقانون الانساني“(22).

ان نشاط الشركات متعددة الجنسية لم يتوقف عند ما ذكرناه سابقا بل شمل البيئة ايضا، فالشركات تمتلك تكنولوجيا متطورة وتعمل في صناعة اسلحة جرثومية وغير جرثومية فنشاطها شمل اذن تصنيع الاسلحة وتسويقها وتصنيع الاسلحة السامة المستخدمة في النزاعات المسلحة سواء كانت هذه النزاعات داخلية ام دولية.(23). في حين ان المادة (14) من اعلان قواعد مسؤولية الشركات متعددة الجنسية قد نصت على “تضطلع الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال بانشطتها وفقا للقوانين واللوائح التنظيمية والممارسات الادارية والسياسات الوطنية فيما يتصل بالحفاظ على البيئة في البلدان التي تعمل فيها، كذلك وفقا للاتفاقات والمبادئ والاهداف والمسؤوليات والمعايير الدولية ذات الصلة بالبيئة فضلا عن حقوق الانسان والصحة العامة والسلامة العامة واخلاقيات علم الاحياء ومبدا الحيطة، وتنفيذ انشطتها بشكل عام على نحو يسهم في بلوغ الهدف الاوسع نطاقا المتمثل في تحقيق التنمية المستدامة“(24). وفي “القمة العالمية للتنمية المستدامة” اتهم انصار البيئة الشركات متعددة الجنسية بانها تهدف الى تحقيق الربح حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بالبيئة وتوصلوا الى ان مشاركة الشركات بجانب الحكومات في هذه القمة يعطي الدليل على أنها تسعى نحو تغليب مصالحها عن الاهداف البيئية واهداف التنمية المستدامة في الدول التي تعمل فيها. وطالب انصار البيئة بضرورة التوصل إلى صيغة اتفاق دولي يمكن من خلاله مساءلة الشركات متعددة الجنسية اذا ما قامت بانشطة من شأنها الأضرار بالبيئة أو بالتنمية المستدامة على اعتبار ان هذه الشركات تملك ميزانية تفوق العديد من ميزانية الدول النامية الامر الذي يضعف كثيرا موقف الدول النامية ازاء هذه الشركات(25). ان قوة ممثلي الشركات متعددة الجنسية ووقوفها في مرتبة واحدة مع ممثلي الحكومات في التمثيل في المؤتمرات الدولية يعطي الدليل على ان تلك الشركات بدأت تتصرف على اعتبار انها وحدات مستقلة حالها حال الوحدات الدولية الاخرى. وهذا يعني انها بدأت تتبوأ مركزاً دولياً مميزاً يميزها عن بقية الاشخاص القانونية الخاصة وليجعل منها وحدات دولية يمكن اخضاعها لقواعد القانون الدولي العام، اذ يمكن لقواعده ان تخاطبها بصورة مباشرة.

وفي معرض الكلام عن انتهاكات الشركات متعددة الجنسية لحقوق الانسان فان اثاره “مسؤولية الشركات متعددة الجنسية” في غاية الاهمية. اذا ما عرفنا ان الاتحاد الاوربي قد اكد ضرورة تبني “القمة العالمية للتنمية المستدامة” نصاً يدعو الى “مساءلة الشركات”(26). فهناك عدة اسئلة تطرح نفسها على الواقع من بينها واهمها : هل يمكن اثارة مسؤولية الشركات متعددة الجنسية؟ وما هو نطاق هذه المسؤولية؟ وهل يمكن اخضاعها للقانون الداخلي ام الدولي؟ واذا امكن اخضاعها للقانون الدولي العام فمن هي الجهة المختصة في تحديد مسؤولية الشركات متعددة الجنسية؟ وما هو المعيار الذي يمكن الاخذ به لتحديد المسؤولية؟ أي ما هو الحد الادنى الذي بتوافره تنهض مسؤولية الشركات متعددة الجنسية؟ ان الذي يحرك المسؤولية الدولية تجاه الشركات متعددة الجنسية هو ارتباكها لتصرفات وافعال يحرمها القانون الدولي العام، ويوقع على مرتكبها الجزاء،ومن هذه الجرائم جرائم ابادة الجنس البشري والاعتداء على حقوق الانسان وحرياته الاساسية. وفي الامثلة السابقة وجدنا ان شركات (Unocal) و”Totals.A” و “Debeers” وغيرها قد قامت بمثل هذه الافعال اذ انها ساعدت الاطراف المتنازعة في بورما وانغولا وجنوب افريقيا وغيرها عن طريق مدهم بالاسلحة والاموال التي أدت الى تشريد الاف من ابناء شعوب تلك الدول، فقد ذهبوا ضحية التعذيب واعمال السخرة والاغتصاب وفقدان الاموال والممتلكات والقتل الجماعي وغيرها من الاعمال الوحشية التي يحرمها القانون الدولي العام. وقواعد المسؤولية الدولية عموما ما زال ينتابها بعض الغموض والابهام وخاصة في بعض الميادين والسبب في ذلك ان الالتزامات الدولية وخاصة تلك التي أوجدها العرف ومبادئ القانون العامة ما زالت غامضة ولاتوجد طريقة محددة لتوضيحها(27). غير ان الكتاب والباحثين قد عملوا على وضع مجموعة من الدراسات لتحديد مسؤولية الشركات متعددة الجنسية وفي مقدمة ما توصلوا اليه انه لا يمكن اخضاع تلك الشركات للقضاء الوطني لاي دولة لان مساءلة هذه الشركات بالاعتماد على التشريع والقضاء الوطني لا يلقى استجابة دولية(28). اذن لا بد من صياغة معاهدة دولية يحدد بمقتضاها الاطر القانونية الدولية لمساءلة الشركات متعددة الجنسية عن انتهاكات حقوق الانسان وفي حالة وضع معاهدة دولية ملزمة، لضمان محاسبة الشركات، فان هذه المعاهدة يجب ان تحتوي على محورين :

الاول : يتعلق بتحديد مبادئ مسؤولية الشركات متعددة الجنسية.

الثاني : يتعلق بتحديد اركان وعناصر الجريمة(29).

ويذهب البعض الى امكانية اخضاع الجرائم التي ترتكب ضد حقوق الانسان وضد القانون الدولي الانساني للمحكمة الجنائية الدولية، اذ ان مسودة النظام الاساسي للمحكمة تحتوي على عبارات يمكن من خلال اعتمادها توسيع السلطة القضائية للمحكمة الجنائية الدولية لتشمل الشركات متعددة الجنسية(30). غير ان هناك من يرى ان النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية لا تحتوي على نصوص تتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لهذا فانه لا يمكن والحالة هذه شمول صلاحياتها لنشاط الشركات متعددة الجنسية، وهذا مرده الى انه لا توجد في نصوصه عبارات تشمل الاشخاص غير الطبيعيين او حتى ارتكاب الاشخاص الطبيعيين جرائم ضد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبالتالي والحالة هذه عدم اخضاع جرائم الشركات لان تنظرها المحكمة الجنائية الدولية(31). غير انه يمكن استشفاف اثارة المسؤولية الدولية تجاه الشركات متعددة الجنسية في نص المادة (16) من اعلان القواعد المتعلقة بمسؤولية الشركات متعددة الجنسية فلقد نصت هذه المادة على “تخضع الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال لعمليات المراقبة وتحقق دورية من جانب الامم المتحدة واليات دولية ووطنية اخرى سواء كانت قائمة بالفعل او سيتم انشاؤها فيما يتعلق بتطبيق هذه القواعد وتكون عملية المراقبة هذه شفافة ومستقلة وتأخذ في الاعتبار المساهمات التي يقدمها اصحاب الشأن (بمن فيهم المنظمات غير الحكومية) وتكون نتيجة شكاوى تتعلق بخرق لهذه القواعد. وعلاوة على ذلك، يجب ان تكون الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال بعمليات تقييم دورية لما لانشطتها من تأثير في حقوق الانسان في اطار هذه القواعد“(32). اذن يمكن القول إن أساس مسؤولية الشركات متعددة الجنسية ينجم من حق تلك الشركات في ممارسة انشطتها، فممارسة الحق يقابله الامتناع عن الاضرار بالغير. وحيث ان الشركات تضر بالغير اثناء ممارستها لحقها –انشطتها المختلفة- فان المسؤولية تبرز هنا لتحديد ماهية الحق الذي تتمتع به هذه الشركات. وفيما يتعلق بنوعية المسؤولية فانها تكون دولية، لان الشركات متعددة الجنسية اصبحت تتمتع وخاصة في ظل العولمة بمركز قانوني دولي متميز واضحت تمتلك مقومات التمتع بالشخصية الدولية وبالتالي فان رفع دعوى المسؤولية الدولية تجاه الشركات امر لا مناص منه على اساس عولمة المسؤولية الدولية للشركات متعددة الجنسية. اما بالنسبة لنطاق مسؤولية الشركات متعددة الجنسية فانه يمتد ليشمل كل انواع النشاطات التي تمارسها هذه الشركات دون استثناء ما دامت تبغي من وراء ذلك الربح، لهذا فان تحديد معالم مسؤوليتها تتطلب ضرورة وضع تقييدات على ارباح الشركات متعددة الجنسية.

وفيما يخص تحديد الحد الأدنى للقول بوجود امكانية مساءلة الشركات من عدمه فهذا امر مرتبط اساسا بتحديد الجهة التي تنظر في دعوى المساءلة. اذن تأسيس مسؤولية الشركات متعددة الجنسية عن انتهاكات حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني يتطلب قيام الامم المتحدة بوضع مدونة قانونية خاصة تتعلق باثر انشطة الشركات متعددة الجنسية في حقوق الانسان، ويجب ان تشمل هذه المدونة تحديد الالية القانونية لمنازعات تلك الشركات مع الدول في مجال انتهاكات حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني من حيث تحديد المعيار الذي يؤخذ به للقول ان تلك الشركات متورطة بانتهاكات حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني وتعيين الجهة التي تنظر في النزاع او في الدعوى التي تبين تورط الشركة في انتهاكات حقوق الانسان والقانون الدولي الانساني، وقد تكون هذه الجهة المحكمة الجنائية الدولية بعد توسيع النصوص او اعادة صياغتها لتشمل الشركات متعددة الجنسية او تشكيل هيئة قضائية مستقلة للنظر في انتهاك الشركات متعددة الجنسية لحقوق الانسان والقانون الدولي للانسان، ويجب ان تكون القرارات الصادرة عن المحكمة ملزمة للشركات متعددة الجنسية. وهكذا تتضح معالم الصورة الدولية للشركات متعددة الجنسية، فموجة الاندماجات الدولية المتلاحقة التي تشهدها هذه الشركات في ظل العولمة وتكوينها ميزانيات ضخمة وسيطرتها على اسواق المال العالمية وارتكابها انتهاكات خطيرة ضد حقوق الانسان ومدها للاطراف المتحاربة باسلحة ومواد كيمياوية تتنافى ومبادئ القانون الدولي الانساني، وتدخلاتها المتلاحقة في شؤون الدول، كل هذه الامور مجتمعة او فرادى تستدعي وجوب إعادة النظر حول المركز القانوني الحقيقي للشركات متعددة الجنسية، فمن الاجحاف بحق الدول وخاصة الدول النامية منها ترك تنظيم انشطة هذه الشركات للقوانين الداخلية للدول، وحيث ان الاخيرة عاجزة عن تأطير نشاط هذه الشركات ضمن اطار قانوني خاص بها فان نشاطها سوف يكون طليقا وينأى عن كل مراقبة. ونظرا إلى أن المجتمع الدولي يمر بمرحلة تاريخية عظيمة ممثلة بالعولمة، وان الشركات متعددة الجنسية احدى واهم وسائلها، فان المنطق القانوني يقتضي مواكبة الواقع الفعلي لهذه الشركات ومن ثم اعادة هيكلة مركزها وجعلها تتمتع بمركز قانوني دولي، بدا من الاعتراف لها بشخصية قانونية محدودة مرورا باخضاع افعالها وتصرفاتها للقانون الدولي العام وانتهاءا بتحميلها المسؤولية الدولية عن الاخطاء والتصرفات الضارة التي ترتكبها وليس أدل من ذلك سوى الاعلان المتعلق بقواعد مسؤوليات الشركات متعددة الجنسية وغيرها من مؤسسات الاعمال في مجال حقوق الانسان الذي صدر عن اللجنة الفرعية لتعزيز وحماية حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة. فهذه القواعد تعد اعترافاً ضمنياً من قبل هيئة الامم المتحدة بالمركز القانوني الدولي للشركات متعددة الجنسية وبالتالي الاعتراف بانها شخص من اشخاص القانون الدولي العام له كيانه وطبيعته الخاصة التي تميزه عن الوحدات الاقتصادية الاخرى.

________________

1- انظر المواد (1، 2، 55، 56) من ميثاق الامم المتحدة.

2- انظر القرار 1999/8 الصادر من اللجنة الفرعية لتعزيز وحماية حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة والمسحوب من الانترنت على الموقع http://www.1.umn.edu/humanrts/arab/sub1999.8.htm ص1.

3- بال بيير سين، العولمة والشركات متعددة الجنسية تهدد حقوق الانسان، مقال منشور في مجلة البيان ومسحوب من الانترنت على الموقع http://www.albayan.com ص2.

4- انظر المادة (6) من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمادة (22) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والمادة (15) من الميثاق الافريقي لحقوق الانسان وكذلك المواد (17-18-19) من مشروع الميثاق العربي لحقوق الانسان.

5- انظر الاعلان المتعلق بقواعد مسؤوليات الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال في مجال حقوق الانسان. مسحوب من الانترنت على الموقع

http://www.umn.edu/humanrts/arab/commentary-Any2003.htm ص5-7.

6- انظر الشركات متعددة الجنسية ودور الاتحادات المهنية في مواجهة سياساتها. مصدر سابق، ص6.

7- انظر عماد خليل ابراهيم/ القانون الدولي لحقوق الانسان في ظل العولمة، رسالة ماجستير مقدمة من كلية القانون، جامعة الموصل، 2004، ص98.

8- انظر لانس كومبا ، لا بد من الربط بين التجارة الحرة وحقوق الانسان، بحث مسحوب من الانترنت على الموقع http://www.alwatan.com ص1.

9- انظر المؤتمر العام العاشر/الوضع النقابي الدولي (1994-1999) مسحوب من الانترنت على الموقع http://www.lcatu.org/conf.7.htm ص8 كذلك انظر Clavde K. Apokavi، op.، cit.، p 1-3

10- انظر القواعد المتعلقة بمسؤوليات الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال في مجال حقوق الانسان، مصدر سابق، ص7-8. وكذلك انظر (ف4/م23) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمادة (8) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمادة (22) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

11- انظر – دان غالين ، أي حركة نقابية في زمن العولمة . بحث مسحوب من الانترنت

http://www.maroc.attac.org، ص2.

12- انظر القواعد المتعلقة بمسؤوليات الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال في مجال حقوق الانسان، ص9.

13- انظر . فائز محمد علي، الشركات الراسمالية الاحتكارية والسيطرة على اقتصاديات البلدان النامية، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1979، ص71، د.فاضل حمه صالح الزهاوي، المشروعات المشتركة وفقاً لقوانين الاستثمار جامعة صلاح الدين – اربيل ، 1990 ، ص105.

14- انظر المادة (50) من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات لعام 1969 .

15- انظر د.اسماعيل صبري عبد الله، الكوكبة: الراسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الامبريالية، مصدر سابق، ص20.

16- للمزيد عن مبدا عدم التدخل انظر د. محمد طلعت الغنيمي، الاحكام العامة في قانون الامم (قانون السلام)، منشاة المعارف، الاسكندرية، 1970، ص329 كذلك انظر د. عامر الجومرد/ تدخل الامم المتحدة في شؤون الدول، مجلة الرافدين للحقوق العدد (7) كلية القانون-جامعة الموصل، 1997، ص113 وما بعدها.

17- انظر مايكل تانزر واخرون، مصدر سابق، 207-208، محمد صبحي الاتربي، مدخل الى دراسة الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية، دار الثورة للصحافة والنشر، بغداد، 1977، ص13. كذلك انظر بنفس المعنى، ناطق شاكر محمود، الشركات متعددة الجنسية ودورها الاستغلالي في نهب ثروات الشعوب، ط1، وزارة الثقافة والاعلام /السلسلة الاقتصادية(13)، بغداد، 1981، ص18. أنظر د. حسني الجمل، الخطورة الدولية للشركات متعددة الجنسية، مجلة السياسة الدولية العدد (34)، مؤسسة الأهرام، القاهرة، 1973 ص157.

18 – انظر زكي العبيدي/ الحروب المتغيرة والعولمة/ مجلة الانساني، العدد(11) اللجنة الدولية للصليب الاحمر، جنيف، 2000، ص19.

19- Celia Wells and juanitu Elius، op، cit. p4.

20- Ibid. p.4 . Saman Zia- Zarifi، op، cit، p2 .

21- انظر م(5)من الاعلان العالمي لحقوق الانسان والمادة (7) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسي والمادة (3) من الاتفاقية الاوربية لحقوق الانسان والمادة (5) من الاتفاقية الامريكية لحقوق الانسان والمادة (5) من الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب كذلك انظر المادة (5) من اعلان القاهرة عن حقوق الانسان والذي اقره المؤتمر الاسلامي التاسع لوزراء الخارجية

22- انظر اعلان القواعد المتعلقة بمسؤوليات الشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال، مصدر سابق، ص3.

23- David Baigun/ criminal responsibility of transnational Corporation

بحث مسحوب من الانترنت على الموقع http://www.cetim.ch/active/activeny،htm ص4

24- انظر الاعلان المتعلق بقواعد المسؤولية للشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الاعمال، مصدر سابق، ص11.

25- انظر مها سراج الدين كامل/ القمة العالمية للتنمية المستدامة رؤية تحليلية، مجلة السياسة الدولية، العدد(105)، مؤسسة الاهرام، القاهرة، 2002، ص262. كذلك أنظر المبدأ السادس من شرعة مبادئ لرجال الاعمال ومؤسساتهم والخاص بالبيئة مسحوب من الانترنت على الموقع http://www.caurroundable.org ص4

26- انظر مها سراج الدين كامل/ القمة العالمية للتنمية المستدامة رؤية تحليلية، مجلة السياسة
الدولية، العدد(105)، مؤسسة الاهرام، القاهرة، 2002، ص262

27- انظر د.محمد حافظ غانم/ المسؤولية الدولية : دراسة لاحكام القانون الدولي وتطبيقاتها التي تهم الدول العربية، محاضرات القاها على طلبة قسم الدراسات القانونية بمعهد الدراسات العربية العالمية، جامعة الدول العربية، 1962، ص7.

28- Celia wells and Juantia Elias، op، cit،P4

كذلك انظر Francois Rigaux، An International Criminal Court for Transnational Corporations بحث مسحوب من الانترنت على الموقعhttp://www.cetim.ch/activ/actieny.htm ص1-3 كذلك انظر :David Baigun، op، cit، P3.

29- Celia wells and Juantia Elias، op، cit،P4 .

30 – انظر Ibid. p5. ، كذلك حول المحكمة الجنائية الدولية للشركات متعددة الجنسية انظر Francois Rigaux، op، cit، p 1-3.

31- Human Rights sub-commission، transnational corporations and legal aspects

بحث مسحوب من الانترنت على الموقع www.human-tor.orgt p4 كذلك انظر

Transnational corporations and human rights

بحث مسحوب من الانترنت على الموقع www.niwi.knaw.n1/en/oc/noderzek/ond. p3

32- انظر اعلان القواعد المتعلقة بمسؤولية الشركات عبر الوطنية وغير ها من مؤسسات الاعمال، ص13.

المؤلف : طلعت جياد لجي الحديدي
الكتاب أو المصدر : المركز القانوني الدولي للشركات متعددة الجنسية
الجزء والصفحة : ص148-160

اعادة نشر بواسطة لويرزبوك .

دور الشركات متعددة الجنسية في مجال حقوق الانسان وفقاً لقواعد القانون الدولي