العلمانية في الدساتير السورية
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك
يقول أحد المفكرين: “أن العلمانية هي كلمة لها رائحة البارود لما تثيره من استجابات متضاربة, متناقضة, والتناقض الذي تحركه ليس تناقضاً طبيعياً كالذي يؤلف الآراء مع فكرة واضحة أو ضدها, بل هو تناقض ينال مضمون الفكرة ومعنى الكلمة”.
وإذا كانت الفكرة العامة للعلمانية تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة, فإن هذه المسألة في الواقع شغلت ليس الأنظمة السياسية التي حاولت أن تشخص الحدود الفاصلة مع الدين أو إن صح التعبير مع الكنيسة, وإنما شغلت الإنسانية منذ نشأتها وكانت موضوع دائم النقاش، ومن اهتمامات السياسيين والفلاسفة وعلماء الاجتماع واللاهوتيين. وفي كل فترة أو عصر من العصور كان هنالك جهة منتصرة وجهة خاسرة فأحياناً كان فيها الدين منتصراً وتارة الدولة.
لا بل أن الأمر وصل إلى حد أن هناك من جعل الدين عائقاً أمام الوحدة القومية, وخصوصاً في عصر النهضة, حيث الأفكار والتصورات التي جاء بها مفكرو وفلاسفة العصر ومن بينهم ميكيافللي الذي دعا إلى ((إيطاليا الموحدة غير الكهنوتية))، وترافق مع ذلك بزوغ عقليات جديدة بسبب نشأة علم جديد للكون عند كوبرنيكوس وغاليلو, ولاسيما عندما ألف الأول كتاباً في (الحركات السماوية) نشر في آخر حياته عام 1543، وفيه لم يعد الإنسان مركز الكون ولم يعد الكون يدور حول الإنسان. ومنذ ذلك الوقت بذرت البذور الأولى لظهور العلمانية بأفكارها وفلسفتها الواضحة, وإن كانت قد اختمرت قبل ذلك بطريقة طويلة في عقول ومخيلة العديد من المفكرين والفلاسفة الذين انتفضوا ضد نظرية السيفين أو ازدواج السلطتين (الزمنية والدينية) لاسيما من دانتي 1321 ومارسيليو بادو 1343 حيث طالبا باستقلال الدولة وهدم نظام السيطرة البابوية وأسس القانون الكنسي.
وقد غذّت هذه الأفكار وبلورت اتجاهات احتجاجية تمثلت في الصراع الذي دار منذ القرن التاسع عشر بين الكاثوليك والبروتستانت، وساد فترة الصراع هذه صدور العديد من الاتفاقات التساومية التوفيقية التي تنظم العلاقة ما بين الأطراف المتصارعة، فتارة تعبر عن انتصار الحركات المحتجة وتكرس مبدأ الحرية الدينية والمساواة أمام القانون, وتارة أخرى تعبر عن التراجع عن ذلك وبروز سيطرة الكنيسة وتعاليمها على الحياة السياسية والدينية في وقت واحد، إذ أنه يمكن اعتبار الثورة الفرنسية منعطفاً حاسماً في هذه المنازلة حيث تم فيها مصادرة أملاك الكنيسة وإقرار مبدأ وجوب اختيار الأساقفة من قبل الشعب بدل تعيينهم من قبل البابا, ثم جاء إعلان حقوق الإنسان الذي لم يتم الإشارة فيه إلى الدين بل أعلن عن الحرية والمساواة بين كل الناس, بما في ذلك المعتقد الديني. ولم يقتصر ذلك على مجال معين وإنما امتدت حركة الإصلاح وحرية الأفكار إلى كل مجالات الحياة اليومية ولاسيما حقل التربية والتعليم, حيث توقفت عملية بناء المدارس والجامعات الدينية، وأنشئ مكانها مدارس وكليات علمانية.
وإزاء ذلك فإن الكرسي الرسولي بدأ في إدراك حقائق الأوضاع والتطورات الجديدة وعمل على إعادة النظر بعقيدته المتعلقة بعلاقات الكنيسة والدولة، حيث أقدم البابا لادون الثالث عشر في آواخر القرن التاسع عشر بإصدار منشور ENCYCLIGUE IMMORTALE DEI وبموجبه أعلنت الكنيسة للمرة الأولى مبدأ التفريق بين السلطتين الدينية والزمنية, وميّزت بين المجتمع الديني والمجتمع المدني.
من هنا, تميز الفكر الأوروبي بأنه كان صدى للتيار اللائيكي الذي دعا إلى فصل الدين عن المجتمع. وتستند اللائيكية إلى أربعة عناصر للحياة الإنسانية: الاقتصاد، العدالة، التعليم، والسلطة السياسية. والعلمانية مشتقة من اللفظ اللاتيني saeculum أي العالم المتزمن بالزمان, أي أنه تاريخ (تحديد الوجود الطبيعي والإنساني ببعدين هما الزمان والتاريخ). ولعل أوضح تعريف أعطي للعلمانية هو ذلك الذي ورد في مناقشات المجلس الفرنسي لدستور 1946 حيث جاء فيه: “أن العلمانية هي حياد الدولة تجاه الدين, كل دين, فالعلمانية ليست عقيدة إيجابية أو فلسفية تعتمدها الدول وتبشر بها وتعلمها وتقف بها بوجه المعتقدات الدينية, بل هي موقف سلبي وبناء عليه فإن العلمانية:
تقر بحرية المواطنين الدينية وهذه الحرية تعني أن الدولة ترفض الدعوة إلى انتحال أي دين، كما أنها ترفض الدعوة للإقلاع عن أي دين، فالقانون العام أو الدستور خلو من أي دين أو معتقد ديني؛ إن الدولة لا تلزم نفسها بأي معتقد أو دين؛ كما أنها لا تخص أي دين باعتراف خاص أو بمساعدة امتيازية؛ على الدولة أن تمكن المؤمن من ممارسة شعائره وعباداته, ولا تفرق بين المواطنين على أساس انتمائهم، وترضى بالواقع الديني كما تحدده وتنظمه الأديان نفسها، ومقابل ذلك على الدين أن يعترف بأن الدولة مستقلة عنه وعن تعاليمه في حقول نشاطها وممارسة أعمالها”.
وقد واجهت العلمانية موقفاً فكرياً وسياسياً رافضاً في العالم الإسلامي, لأنها تهدف إلى تأسيس نظام سياسي ومنظومة علاقات اجتماعية وثقافية لا تستوحي الشريعة.
وعلى الرغم من هذا الرفض والمقاومة لفكرة العلمانية, إلا أنه ظهرت بعض الاتجاهات الفكرية التي تزعمها العديد من المفكرين العرب، من بينهم الشيخ علي عبد الرازق في كتابه ((الإسلام وأصول الحكم)) الصادر عام 1925 وفيه يدعو الشيخ إلى العلمانية ونقد تسييس الإسلام. واعتبرت العديد من الدراسات بأن الشيخ عبد الرازق يمثل تياراً أكثر راديكالية في تأويل القيم الإسلامية من ((مدرسة محمد عبده)) التي اتبعت خطى بعض المفكرين العرب أمثال حسن العطار ورفاعة الطهطاوي الذين حاولوا إدماج الأفكار الليبرالية والعلمانية الغربية في البناء الفلسفي للإسلام وحاولوا التقريب بين العلم والدين, وتأويل علم الكلام بحيث يحرر المجتمع من قيود التراث. لكن هذه التيارات الراديكالية تعرضت لمواجهة عنيفة في العالم العربي، الأمر الذي أفضى إلى بروز منظمات إسلامية أصولية وجّهت سهام نقدها إلى مفكري هذه التيارات الذين تراجعوا عن محاولاتهم لوضع أسس العلمانية في الإسلام.
ولذلك جاءت معظم الدساتير العربية منصوصة على أن الإسلام دين الدولة ماعدا الدستور اللبناني الذي نص على أن ((حرية الاعتقاد مطلقة)) أما الدساتير السورية التي جرى تطبيقها في سورية منذ عام 1918 فقد كانت تعبيراً عن هذا الصراع الفكري؛ فمشروع الدستور الملكي الذي أعلن عنه في 3 تموز 1920 كان ينص في المادة الأولى منه على أن دين الملك هو الإسلام. وفي زمن الانتداب الفرنسي عام 1930 أصدر المفوض الفرنسي بإرادته المنفردة دستوراً هو في جوهره نفس مشروع الدستور الذي كانت تناقشه الجمعية التأسيسية في العهد الفيصلي.
وبين عامي 1943 ـ 1949 أصدر المجلس النيابي المنتخب عام 1943 دستوراً جديداً حافظ في مادته الثانية على مبدأ دين رئيس الدولة الإسلام، وكان هذا الدستور الذي وضع بإشراف المندوب السامي من أكثر الدساتير تكريساً للطائفية. فقد جاء في المادة 28 منه: حقوق الإنسان والمواطن يكفلها الدستور هي الحقوق التقليدية وتتسم بطابع محافظ ويكفل الدستور ((حقوق الطوائف الدينية المختلفة)) بما فيها إنشاء المدارس لتعليم الأحداث ((بلغتهم الخاصة)) و((تمثيل الأقليات الطائفية)). وتتجلى في هذه النصوص آثار ميثاق عصبة الأمم وصك الانتداب وقد أضافت فرنسا حق ((الطائفية)) رغبة في نشر التفرقة. ولا يقصد بتمثيل الأقليات تجزئة هيئة الناخبين، إذ أنها واحدة لجميع المرشحين للنيابة، ويقترع مجموع الناخبين في الدائرة الانتخابية. وبعد الاستقلال وبتاريخ 30 آذار 1949 وقع انقلاب حسني الزعيم حيث وضع دستور جديد بتاريخ 27 حزيران 1949 لا إشارة فيه إلى دين رئيس الدولة. ويستلهم الدستور الاتجاهات الدستورية الحديثة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية. ويذكر في المادة الأولى أن سورية جمهورية… (تقوم على أسس المساواة والعدالة الاجتماعية وعدم الأخذ بالطائفية (لما بين السوريين من وحدة الشعور الوطني).
وفي 14 آب أطاح انقلاب عسكري بقيادة سامي الحناوي بنظام حسني الزعيم وتولى المجلس الحربي كافة الصلاحيات التشريعية ريثما تتألف الحكومة الدستورية. وقد تم تأليف حكومة دعت إلى انتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً للبلاد. وبتاريخ 14 كانون الأول أصدرت الجمعية أحكاماً دستورية مؤقتة تنص على أن انتخاب رئيس للدولة يتمتع ـ إلى أن يوضع الدستور ـ بالحقوق والصلاحيات المنوطة برئيس الجمهورية في دستور عام 1930، وتم اقرار الدستور في ظل سيطرة فعلية لأديب الشيشكلي عام 1950.
وطبق هذا الدستور في فترتين تمتد إحداها من تاريخ اقراره وحتى 29 /11/1951 تاريخ انقلاب أديب الشيشكلي، وبعد سقوط نظامه في 25/2/1954 وحتى قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958.
ولكن ما يميز هذا الدستور عن غيره من الدساتير السورية أنه وأثناء إعداده من قبل الجمعية التأسيسية، قام صراع عنيف في الجمعية حول دين الدولة. ومع أن هذا النقاش لا مبرر له أصلاً لأن الدولة مجرد شخصية اعتبارية, والدين لا يكون إلا لإنسان مدرك وعاقل, فإن الهدف كان سياسياً بالدرجة الأولى، ألبس لباس الدين،
وانتهى النقاش إلى الأخذ بحل وسط وهو النص على أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام” والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، وموازنة هذه النصوص بإعلان أن حرية الاعتقاد مصونة وتحترم الدولة جميع الأديان السماوية، وأن “الأحوال الشخصية” للطوائف الدينية مصونة ومرعية. واصطبغت الديباجة بصبغة دينية واضحة: فالجمعية التأسيسية إنما اجتمعت “بإرادة الله” واستمساك الدولة بالإسلام ومثله العليا, وبناء الدولة على أسس من الأخلاق القويمة التي جاء بها “الإسلام والأديان السماوية الأخرى” ومكافحة الإلحاد وانحلال الأخلاق.
أما دستور الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 فقد كان موجزاً لدستور 1950 فيما خلا توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية والقضاء على النظام البرلماني نهائياً في سورية واستبعاد تعدد الأحزاب. وبعد انهيار الوحدة نتيجة انقلاب 28 أيلول1961 وقيام ثورة الثامن من آذار عام 1963 بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، فقد مر الحكم في هذه الفترة بثلاث مراحل تقابلها أربعة دساتير، ثلاثة منها مؤقتة هي دساتير 1964 و1969 و1971، والرابع هو الدستور السابق الذي صدر عام 1973. ويمكن رسم الخطوط الكبرى للدساتير الثلاثة الأولى السابقة على تكريس مبدأ قيادة الحزب الواحد والقيادة الجماعية وإن كان دستور عام 1971 قد أشار إلى التعلق بالتراث القومي وذكر أن الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع.
وكذلك الأمر في دستور عام 1973 الذي نص إضافة على ذلك، أن دين رئيس الجمهورية هو الإسلام.
ونصّ الدستور الحالي الذي صدر في 27 شباط 2012، في المادة الثالثة على أن:
1ـ دين رئيس الجمهورية الإسلام.
2ـ الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع.
3ـ تحترم الدولة جميع الأديان, وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام.
4 ـ الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية.
وفي المادة التاسعة منه ينص على أن: يكفل الدستور التنوع الثقافي للمجتمع السوري بجميع مكوناته وتعدد روافده, باعتباره تراثاً وطنياً يعزر الوحدة الوطنية في إطار وحدة أراضي الجمهورية العربية السورية. وما ورد في المادة الثانية والأربعين من أن: “حرية الاعتقاد مصونة وفقاً للقانون”.
لذلك نجد أن المشرع الدستوري السوري استلهم في صياغة قواعده الدستورية السابقة والحالية منهجاً توفيقياً بين مفهوم العلمانية المجردة وبين الاتجاهات التقليدية المحافظة, بما يحقق الموازنة بين التنوع الفكري والثقافي والعقائدي للمجتمع السوري, وحرية الأفراد والجماعات في إطار الوحدة الوطنية؛ فهو فيما خلا الإشارة إلى دين رئيس الجمهورية كان دستوراً علمانياً وتتوافر فيه كل الشروط الواردة في مناقشات المجلس الفرنسي لدستور عام 1946 لتعريف العلمانية. وقد أدرجت هذه المادة في الدساتير السورية لاعتبارات سياسية بالدرجة الأولى وألبست لباس الدين على اعتبار أن هذه المادة ليس لها تأثير أو ترجمة تشريعية أو دستورية؛ فالمدقق لصلاحيات رئيس الجمهورية الواردة في الفصل الثاني من الباب الثالث يجد أنه ليس لانتماء رئيس الجمهورية الديني أو معتقده دوراً أو صلة في ممارسة مهامه, فهو يمارس السلطة التنفيذية عن الشعب كله، وليس عن دين أو معتقد دون غيره, ويسهر على احترام الدستور والسير المنتظم للسلطات العامة وحماية الوحدة الوطنية وبقاء الدولة.
القانونية أمل عبد الهادي مسعود
مقال قانوني حول العلمانية في الدستور
إعادة نشر بواسطة لويرزبوك