التوازن بين حرية الإعلام والمبادئ القضائية والنظامية

نظراً لانعقاد (ملتقى القضاء والإعلام) في مدينة الرياض، والذي أقامته وزارة العدل، وبحضور معالي وزير الثقافة والإعلام، وذلك ضمن المراحل العلمية لمشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير مرفق القضاء، فقد رأيت تأجيل باقي سلسلة (قراءة علمية لفتاوى عصرية) إلى وقت لاحق، حيث إنني قدمت فيه ورقة عمل بعنوان: (الحرية الإعلامية، المفهوم والضوابط)، فرأيت نشرها هنا باختصار وذلك لتعميم الفائدة، وعليه فأقول:

إن مفهوم الحرية الإعلامية يعني حق الحصول على المعلومات من أي مصدر مشروع، والحق في نشر الأخبار والأفكار دون قيود، وضوابط، الحرية الإعلامية تعني القيود التي تحفظ الحرية الإعلامية من جهة، وتمنع تجاوزها الحدود المشروعة من جهة أخرى، ولا تناقض بين الحرية الإعلامية وبين ضوابطها، لأن الحرية تعني عدم التكميم، والضوابط تعني عدم الانفلات.

والحرية من المسلّمات الشرعية التي وردت في الكتاب والسنة، والتاريخ الإسلامي، ولكنها بضابطين رئيسيين؛ أحدهما ألا يُعتدى على حدود الخالق بارتكاب ما حرمه الله بالإجماع الثابت، وثانيهما ألا يُعتدى على حدود المخلوقين بارتكاب ما يمس بضروراتهم الخمس من دين أو نفس أو عرض أو مال أو عقل، وباستيفاء الأمرين تنطلق الحريات والحقوق بلا موانع دينية أو دنيوية.

وعليه فلا يجوز أن يفرض على أحد اجتهاد فردي أو حتى جماعي، وإلا فيعد انتهاكًا للحرية الشخصية فضلًا عن الحريات العامة، ما لم يكن قانونًا ملزمًا لمصلحة الجميع، وأما ترجيحات الأفراد والجماعات فليست ملزمة إلا لمُصدرها ما لم يعتمدها ولي الأمر ويأمر بالإلزام بها، ولا يجوز الافتئات على تشريع السماء، أو تقنين الأرض فيما هو دنيوي لا يعارض الشريعة، وإلزام الخلق به.

ومن المسلّم به في القضاء مبدأ العلانية لضمان الشفافية والنزاهة، حيث ورد في المادة رقم (61) من نظام المرافعات الشرعية النص التالي: (تكون المرافعة علنية إلا إذا رأى القاضي من تلقاء نفسه أو بناء على طلب أحد الخصوم إجراءها سراً محافظة على النظام، أو مراعاة للآداب العامة، أو لحرمة الأسرة)، وعلى ذلك فلكل أحد من الناس حق حضور الجلسات سوى ما ذكر، وما دام قد جاز حضور العموم فيجوز نشره للعموم، وما لم يقرر القاضي سرية الجلسة فتبقى العلنية على أصلها ويكون النشر جائزاً بذلك، وما دام الحضور مكفولا للجميع فلا يمنع من نشر ما يدور فيه إلى خارج مجالس القضاء للجميع.

ولذا نجد بعض المحاكمات العالمية تبث مباشرة في بعض وسائل الإعلام المسموعة والمرئية كدليل على العدالة والنزاهة، وعلى ذلك فلا يمنع في الأصل من النشر الإعلامي لما يدور من المداولات القضائية، كما يجوز النشر لما بعد الحكم وقطعيته من باب أولى، بشرط أن يكون النشر لنقل الصورة إلى المتلقي دون أن تكون المادة المنشورة موجهة وإنما بكل حياد وتجرد وموضوعية.

وقد اشترطت الفقرة رقم (7) من المادة رقم (9) من نظام المطبوعات والنشر بأن: (يراعى عند إجازة المطبوعات ألا تُفشى وقائع التحقيقات أو المحاكمات، إلا بعد الحصول على إذن من الجهة المختصة)، والمفهوم هنا من منطوق المادة هو الذي يُفشى مما يعد غير مَفشيّ من السريات بخلاف العلنيات، وقد أُكد هذا المفهوم في اللائحة التنفيذية حيث جاءت المادة رقم (73) في الفصل الثالث منها تحت عنوان (المسائل المحظور نشرها أو تداولها) عبر الفقرة (ز) النص على أنه: (لا يجوز نشر وقائع التحقيقات، أو المحاكمات المتعلقة بالأحوال الشخصية وغيرها، إلا بعد الحصول على إذن من الجهة المختصة)، وهنا أطلق الحظر في شأن وقائع التحقيقات ولكنه قيد الحظر في وقائع المحاكمات بما له علاقة بالخصوصيات بخلاف العموميات، وذلك لكون التحقيقات تقتضي (مصلحتها) كونها “سرية” بخلاف المحاكمات التي تقتضي (عدالتها) كونها “علنية”.

ولذا نجد أن نظام الإجراءات الجزائية قد أكد على سرية التحقيقات بخلاف المحاكمات، ولكن يحظر نشر ما له علاقة بحرمة الحياة الخاصة أو الأسرار الشخصية، وقد ورد هذا في عدة أنظمة أخرى كنظام مكافحة جرائم المعلوماتية ونظام المحاماة وغيرهما، وعليه فإفساح المجال أمام الإعلام لخدمة القضاء يعتبر من الأمور الحضارية، وله آثاره الإيجابية عند الانضباط، ولكن هناك بعض الانتهازيين الذين يستغلون هذا الأمر للضغط على القضاء وتهييج الرأي العام للحصول على أحكام معينة، ولذا فلابد مع الحرية الإعلامية من ضبط الممارسات بما يُجرِّم الاستعداء على القضاء أو أحد أطراف القضية، لأجل أن يكون الإعلام في خدمة القضاء وليس في خدمة الأطراف المتنفذين على حساب ميزان العدل وهيبة العدالة..

وهناك فرق بين نشر أي معلومات حول أي قضية كخبر إعلامي مجرد في وسائل الإعلام، وبين النشر لحمل القضاء على حكم معين، فالأول حق بنص النظام كون المحاكمات علنية ما لم يقرر سريتها، والثاني جريمة يعاقب عليها، لأن أصل العلانية في الأنظمة السعودية مستنبط من المبادئ العامة، ومن نصوصها المادة رقم 182 من نظام الإجراءات الجزائية.

ولا يمكن استبعاد ممثلي وسائل الإعلام من حضور المحاكمات سواء بصفتهم الشخصية أو المهنية ما دام عملهم منضبطاً بالأحكام الشرعية والأنظمة المرعية ومراعياً للخصوصيات الفردية وحرمة الحياة الشخصية، لاعتبار أن واجب الصحافة هو إعلام الجمهور بمجريات الأحداث وتحقيق مناط أوسع لمقصود العلنية ومصالحها العامة مع مراعاة الحقوق الخاصة لأطراف القضية، لا سيما وأن النصوص النظامية التي تحكم العلاقة بين القضاء والإعلام واضحة وتتسم بالمرونة والسعة أخذاً في الاعتبار مبدأ علانية الجلسات الذي يكفل للجميع الاطلاع على سير المرافعة، وهو ما يجيز التحدث عنها بضوابطه المنصوص عليها، وإلا كان النص الوارد بشأن العلانية مفرغاً من محتواه في حال منعنا للنشر الإعلامي للمحاكمات مطلقاً.

ولكن لا يعني هذا السماح بنقل خلاف ما دار من حقائق في المحاكمات العلنية، وعندما يحصل خلاف ذلك عند النشر فيكون المنع والعقوبة لهذا السبب وليس للنشر من حيث الأصل لكونه جائزاً ابتداءً، كما أن للنشر الإعلامي فوائد كثيرة، ويجب أن نجلب مصالح النشر ونتلافى سلبياته، ولا نقف في وجه السلطة الرابعة التي هي من صمامات الأمان ووسائل الإصلاح وآليات التنمية الوطنية، وإنما بالتهذيب والتطوير ليحقق النشر الأهداف السامية للرسالة العدلية والنزاهة القضائية والشفافية القانونية، على ألا يكون هناك أي تعليق أو نقد أو إبداء لرأي مصادم للحصانة القضائية، واحترام الأحكام بدرجات تقاضيها وطريقة مداولاتها، وعدم السماح بالتشكيك في ذلك؛ لكون القضاء أهم صمامات أمان المجتمع، وإذا فقدت الثقة فيه اهتزت عدالته؛ فيلحق البلاء الجميع، وهو المستقر في جميع البلاد؛ لأن للقضاء حصانته واستقلاله واحترامه وتقديره، وللمتظلم اللجوء للدرجات القضائية التي تكفل العدالة للجميع.

وأوصي بإقامة دورات مهنية مكثفة ودائمة للإعلاميين المتخصصين في الشأن القضائي؛ من أجل أن يجيدوا طريقة مزاولة عملهم الإعلامي القضائي، ويعرفوا حدود حريته، كما أوصي بالتوافق على ميثاق شرف إعلامي تتبناه هيئة الصحفيين ويكون ملزماً لجميع وسائل الإعلام؛ لأننا رأينا كيف يُنال أحياناً من القضاء والقضاة بمعلومات متسرعة ومغلوطة، وأخطر منه تدويل بعض القضايا عالمياً مما يعد خيانة وطنية..

التوازن بين حرية الإعلام والمبادئ القضائية والنظامية – مقال قانوني هام