تاريـخُ التشــريعـات والنُظـم القانونيّـة في فلســطينْ (الحلقــة السـادســة)

قانون-بحلول العصر النحاسي (الكالكوليت chalcolithic) الذي امتد من سنة 5000 ق.م. حتى سنة 3000 ق.م، كان الكنعانيّون القدماء قد اعتادوا على حياة التجمعات السكانيّة بعد أن هجروا المغاور والكهوف.
هؤلاء كانوا رواداً للحضارة الزراعية البدائيّة، وعبدوا الثالوثٍ السماوي: الشمسُ والقمر والزهرة, وفي هذا العصر بدئوا بصناعة الفخار واستخدام الأدوات الصوّانية والنحاسيّة، وفي فلسطين الكثير من المواقع التي تدل على هذا العصر أهمها المنطقة الواقعة شرقي البحر الميت، والمنطقة والواقعة بجوار مدن: نابلس، ومجدّو، وبيسان، وبئر السبع، حيث عثُر على عدد كبير من الدمى والتماثيل المصنوعة من العاج وعلى عددٍ كبير من الحليّ النحاسيّة.

في تلك العصور الغابرة، تدخّلت الحروب في صنع الزعيم، وتنصيب الملك، وبناء الدولة؛ بعد أن كانت القبائل الكنعانية القديمة لا تعرف الولاء سوى ما لرأس الأسرة على أسرته من سلطـان، فإن نشبت الحروب فيما بينهم، اختاروا أشجع مقاتليهم ليولوه القيادة ويطيعونه طاعةً عمياء، حتى إذا ما فرغوا من حربهم، عزلوه وأرجعوه إلى عمله وحجمه السابق. 

أمّا في أوقات السلم بين تلك القبائل، فالسلطة والنفوذ معقودين للكهنة أو السحرة؛ فلما تطوّرت المدنيّة، اختل هذا التوازن، وبدأت الجماعات المتضامنة فيما بينها تحتكم للعصبية القبلية وتغير على بعضها البعض حتى داخل القبيلة الواحدة، وظهرت المنازعات على حيازة الأرض وملكيتها، خاصة بعد الاعتماد على الزراعة، وبروز الملكية كصورة مألوفة لدى أغلب القبائل، بحيث اشتقت الملكية وظائفها من وظائف المقاتل والشيخ الوالد والكاهن والساحر، فكانت تلك القبائل البدائية محكومة بالكلمة في وقت السلم، وبالسيف وقت الحروب.

وقد شهدت بلاد الكنعانيين خلال تلك العصور توافقاً غريباً ما بين القانون والعقائد الأسطورية، فتعاونا معاً على حكم الأفراد تارة، أو تعاقبا الواحد بعد الآخر على تحقيق ذلك.

لقد عرف الكنعانيون في هذا العصر كغيرهم من الشعوب البدائية، مبدأ أن القوّة تنشئ الحق وتحميه، بوصفها محور العلاقات بينهم كجماعات متناحرة، تحكمهم قواعد الانتقام الفردي، وأن ما وجد لديهم من تقاليد كان يستهدف فرض النظام والحدّ من اللجوء للقوّة في معظم الأحيان، على الرغم من أن حياتهم كانت سلسلة من الحروب، والمنازعات على الملكية والدم، فكل اعتداء على ما يعتقده الشخص حقاً له يعتبره إهانة لا يغسلها سوى القوة، سواء في ذلك اعتداء على البدن أو المال، مثل نزاع على حيازة شيء معين(1) أو ملكيّة بئر للمياه أو مكان للكلأ أو امتناع عن تنفيذ اتفاق أو اختطاف امرأة إلى آخر ذلك من الخصوصيات، وإذا ادعى شخص حقاً قبل الغير استوفاه بنفسه.

ولكن يجب أن نلاحظ أن المنازعات في بداية الأمر كانت نادرة الحدوث، فمن ناحية كانت مطالب الإنسان وحاجاته في ذلك المجتمع ضئيلة جداً وعدد السكان محدود، ومعدل تكاثرهم يكاد يكون ثابتاً، ومن ناحية أخرى كانت موارد الطبيعة تكفي لسد هذه الحاجات، بل وتزيد.

وبتطوّر العادات والتقاليد واستقرارها نسبيّاً لدى هؤلاء، وجد ما يسمى بنظام الأسرة والملكية والعقوبات، وهي تقاليد لم يكن مصدَرها تشريع صادر من السلطة العامة، ولا اجتهادات فقهيّة أو قضائيّة، ولا أوامر سماوية، بل تقاليد مبنيّة على القوّة المجرّدة من أي أساس أخلاقي، صنعتها الضرورة وظروف الحياة كتعبيرٍ عن غرائز الإنسان في أدنى صورها، فأضحت قواعد سلوك رغم افتقارها إلى طابع العمومية والتجريد، وعدم ارتباطها بعنصر الجزاء المنظّم، بل بجزاءاتٍ توقَّع ضد من يخالف تقاليد الجماعة، إلا أنها حظيت باحترامٍ كبير لدى هؤلاء لأسباب كثيرة، أهمها، أن تكرار التقاليد البدائية بالنظر للثبات النسبي للمجتمع وعدم تغيّر ظروفه الاقتصاديّة والاجتماعيّة إلا نادراً أثر هام في فرض هالة من الاحترام، بل والتقديس في بعض الأحيان على هذه التقاليد ، وهي تقاليد متكرّرة أمدّت المجتمع بقدرٍ كبيرٍ من الثبات والاستقرار، على الرغم من عدم وجود سلطة عامة تجبر الأفراد على احترام هذه التقاليد، إلا أن هذه الجماعات استحسنتها أو استهجنت الفعل الذي يقترفه أحد أفرادها، وهذا ما أدى بمجمله إلى تكوين ما يشبه الرأي العام، كدافعٍ لإلزام الأفراد باحترام تقاليد الجماعة . المستقرة نسبيّاً.

كما ساهمت طقوس السحر والديانة البدائية من ناحية أخرى على الحفاظ على تلك التقاليد وعدم مخالفتها، نتيجة ما توّلد لدى الأفراد في أواخر هذا العصر من قناعاتٍ بأن مخالفتهم لتلك التقاليد قد تعرّضهم لانتقام الآلهة عن طريق السحرة والكهنة المحلّيين .
كل ذلك أدى لاحقاً إلى تمتّع رؤساء الجماعات في المجتمعات البدائية بنوعً من النفوذ والتأثير على أعضاء الجماعة، مما مكّنهم من إلزامهم على عدم الخروج على تقاليد الجماعة، سواء عن طريق الاقتناع في معظم الحالات، أو عن طريق القسر بما يمتلكونه من وسائل حفظ النظام في مجتمعاتهم تلك.

ومن الوسائل الفعالة لحفظ النظام، قيام الجماعة عن طريق السحرة أو الهنة أو الشيوخ بإنزال العقوبات على من يرتكب فعلاً يمسّ بكيان الجماعة أو باستقرارها، وعلى رأسها الأفعال المخالفة لتقاليد الزواج بالاغتراب أو الاقتراب وإلحاق الأذى بطريق السحر؛ وبتطور المجتمع زادت تلك الأفعال التي تعتبر ماسة بكيان المجتمع، ومن ثم لم يترك أمرها إلى الانتقام الفردي (2).

وكانت الأموال الثابتة لدى هؤلاء، ومن ضمنها البيوت، تباع وتشترى وتؤجر أو ترهن بحسب رغبة مالكها، ولأجل إثبات حق مالكها فيها، كانوا يثبتون أحجاراً مكتوبة على واجهة البيت في بعض الأحيان، يدوّن عليها اسم مالك البيت، والبنّاء الذي بنى البيت، والزمان الذي بني فيه، والحجر عندهم في مقام سند التملك في أيامنا هذه، وهو ما نلاحظه على معظم البيوت في فلسطين حتى اليوم، كما كانت تلك الأحجار توضع على حدود الحقول والبساتين، على شكل علامات، وذلك منعاً لكل تجاوز قد يقع على الملك من الغرباء.

ومن ضمن تلك الممتلكات، مقابر دفن الموتى، والتي اعتبرت ملكاً خاصاً بصاحب القبر، وبعشيرته، فلا يجوز دفن غريب فيها، إلا بإذن من أهل الميت وذوي قرابته وًمن أصحاب المقبرة، وقد دلّت الحفريات على وجود كتابات تلعن من يتجاوز على ملكية القبر وعلى حق المقبور فيه، وتتوعده بالويلات والثبور وعظائم الأمور، وترجو من الآلهة أن تنزل بمن يزيل أحجار القبور عن أماكنها عذابها وغضبها، وتعدّ شواخص القبورّ شهادة لقبر المتوفى وسند تملك للقبر أو للمقبرة، فلا يجوز الاعتداء على ذلك القبر، لأنه ملك خاص (3).
بقلم المستشار/ أحمد المبيض
كلمات دلالية: تاريـخُ, التشــريعـات ,والنُظـم القانونيّـة, في فلســطينْ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لمزيد من التفصيل: أنظر: د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، دار الساقي بيروت-لبنان، الطبعة الرابعة 1422هـ/ 2001م، الجزء الثاني، الفصل الثامن والخمسون الملك والاعتداء عليه ص 654.
والملكية حق محترم لدى الإنسان البدائي، ولصاحب الملكية حق المحافظة على ما يملك والدفاع عنه.
وتدخل في ملكية الإنسان كل ما ملكه أو استولى عليه ولم ينتزعه منه أحد، مثل الغنائم والسلب والأسر وما شابه ذلك. وعلى المالك الدفاع عن حقه في ملكه وإثباته.
ومن أنواع الملكية: تملك العقار، وبقية الأشياء الثابتة، والأموال المنقولة.
والملكية نوعان: ملكية ثابتة وملكية متنقلة.
ومن النوع الأول العقار،مثل الدور والأرض.
ومن النوع الثاني المال، وهو المواشي بالنسبة للمزارعين، والرعاة وأهل المدن، وأثاث البيت، سواء كان البيت مستقراً مثل بيوت أهل المدن أو متنقلاً مثل بيوت أهل الريف والمراعي.
وأغلب ملك الرعاة هو ملك متنقل.
وذلك لأن الحياة التي يحيونها هي حياة تنقل، أما الملك الثابت، أي الأرض، فإنه ملك لهم ما داموا فيه، فإذا ارتحلوا عنه، انتقلت ملكيتهم إلى الأرض الجديدة الني ينزلون بها فيمتلكونها طوعاً، أي من غير مقاومة، أو بالقوة.
ويدخل في باب الملك كل شيء وضع ليستفاد منه أو ليدل على حماية ملك، أو يفهم من وضعه انه ذو فائدة وان له صاحباً، كجدران الأملاك وحيطان البساتين أو سور القرى أو الرجم، وهي أحجار القبور.
وقد عثر المنقبون على الرجم في مواضع مختلفة من فلسطين، كتب عليها: أن لعنة الآلهة على من يرفع هذا الحجر عن موضعه وعلى من يغيره أو يأخذه أو يتصرف به، كما سألوا الآلهة بأن تنزل الأمراض ومنها العمى والبرص وأنواع الأذى، والشر بكل من يتطاول على هذه الرجم، أو على معالم القبور أو القبور وذلك لأنها ملك، ولا يجوز لأحد التصرف بملك غيره بأي وجه من الوجوه.
(2) د. صوفي أبو طالب، تاريخ النظم القانونية والاجتماعية، مصدر سابق، ص 34 وما بعدها. (3) د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، مصدر سابق.

(3) د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، مصدر سابق.