بحث سن الزواج في القانون الدولي

سن الزواج في القانون الدولي

بدأت فكرة القانون الدولي الحديث[1] في القرن السادس عشر كمجموعة قواعد غير ملزمة لتنظيم العلاقات بين الدول ذات السيادة الكاملة وبالاحرى الدول الغربية, وخصوصا في امور الحرب والسلام والتفاهم على توزيع المستعمرات وكانت القوة بكل معانيها ، من الامور المؤثرة في خلق قواعد هذا القانون . وكانت تعتبر الدول فقط هي الاشخاص المخاطبة بقواعد هذا القانون التنظيمي والمشكوك في الزاميتة انذاك والمحددة بصورة ضيقة المجالات التي تدخل ضمن نطاق قواعده وأحكامه.
إلا أن الحربين العالميين وما تلى ذلك من إنشاء عصبة الامم ، ثم الأمم المتحدة، وازدياد الحاجة الدولية الى قواعد اكثر الزامية لتنظيم العلاقات الدولية . وظهور الحاجة الى حماية دولية للانسان باعتباره انساناً ، كل ذلك أدى الى الدفع باتجاه تغيير كبير في قواعد القانون الدولي وأحكامه سواء في المجالات التي ينظمها أم في الاشخاص المخاطبين بأحكامه أم في إلزامية قواعد هذا القانون .
ورغم إننا هنا لا نتحدث عن عدالة التطبيق او القوى الخفية أوالمعلنة التي قد يكون لها مصالح اخرى في الدفع باتجاه هذه التغيرات في هيكلية القانون الدولي العام ، الا اننا نوصف بايجاز ما حدث لقواعد هذا القانون ومجالته . فمع تزايد التطور في مجال الاتصالات والانتقال وسرعة حركة البضائع والاشخاص والاموال والافكار بين الدول وتشابك المصالح الاقتصادية والسياسية وغيرها من انواع المصالح بدت فكرة سيادة الدولة تبدو اقل منعة، واصبح الفرد محوراً لكثير من قواعد القانون الدولي العام .هذه القواعد التي تركت عرفيتها لتتجه الى المحافل الدولية المختلفة تنهل مما يصدر فيها من قواعد تشريعية ، وبدأت الاتفاقيات الثنائية تنسحب من الساحة الدولية دافعة ما يسمى الاتفاقيات الجماعية الشارعة لتحل محلها.
وكانت مواضيع الاسرة والزواج من ضمن عشرات المواضيع التي صارت محلا لنقاش وتشريع في المحافل الدولية . لا بل يشاهد ان هناك اتجاها لعولمة هذه القضايا اكثر من كثير من القضايا الاخرى التي لا تقل اهمية عنها [2]. وكانت حقوق الانسان بصورة عامة وحقوق المرأة وحقوق الطفل بصورة خاصة ،هي المدخل لكثير من هذه الاتفاقيات الدولية. 
ولتعلق قضايا الاسرة والزواج بالدين من جهة او الاعراف المحلية وثقافات الشعوب من جهة ثانية فإنها قوبلت بكثير من الشك والريبة والتحفظ . خصوصا وان القراءة المتأنية لهذه الاتفاقيات يفهم منها انها تعتمد اتجاها ثقافيا أحادي الجانب يمثل ما وصل اليه المجتمع الغربي منذ القرن العشرين من فهم لشكل الاسرة والعلاقات داخلها. ومحاولة من الدول الغربية فرض هذا الفهم ، يساعدهم في ذلك أن التطور التكنولوجي الحاصل في الغرب والإرث الاستعماري والقوة االاقتصادية والقدرة على التأثير الثقافي جعل الكثير من الشعوب تتجه الى قبول نمط الحياة الغربية ومحاولة محاكاته مع مايفرضه واقع الحياة الحضرية المعاصرة من تأثير في دعم هذا الاتجاه.
لانريد ان تتخذ موقفا مسبقا من قبول او رفض ما في هذه الاتفاقيات والتي كان لتحديد سن الزواج نصيباً منها . ولكن قبل الدخول في ما يتعلق بموضوع سن الزواج ومحاولة وضع تحديد له في هذه الاتفاقيات الدولية يجب ان نتطرق لبعض المسائل العامة المتعلقة بالموضوع .
فمن خلال استقراء الاتفاقيات الدولية وما كتب حول الموضوع يمكن ان يتبين ان هناك اتجاها متزايدا لعولمة هذه القضايا . ووضع قواعد ملزمة تراعيها الدول في اصدار او تعديل تشريعاتها المتعلقة بالاسرة والزواج . يلازم ذلك وضع أطر تنفيذية ورقابية دولية لمراقبة مدى التزام هذه الدول بهذه الأطر.
يقابل ذلك قيام الدول بالدفاع عن طريق التحفظات او وضع المرونة التشريعية في التطبيقات أو غير ذلك من أساليب عند شعور الدول بعدم توافق هذه الاتفاقيات في بعض بنودها مع مصالحها أو القيم التي تؤمن بها .
ولما كانت الدول الاكثر قوة هي وراء الدفع باتجاه الإلزام بهذه الاتفاقيات، في اكثر الأحيان ، فان ذلك يترافق مع ممارسة ضغوط متنوعة الاشكال .
ومما يمكن ملاحظته بوضوح في الاتفاقيات الدولية الخاصة بمواضيع الاسرة والمراة والطفل والتي ارتبط بها موضوع سن الزواج كأحد المواضيع التي عالجتها الاتفاقيات ما يلي: 
1. التجاوز الخطير للصلاحيات في الطلب من الدول الاعضاء تعديل قوانينها لا بل حتى دساتيرها. فمثلا المادة( 2/أ ) من اتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز ضد المرأة المسماة (سيداو ) نصت على ” . . . ادماج مبدأ المساواة بين الرجل والمراة في دساتيرها الوطنية او تشريعاتها المناسبة …” [3]
2. تشكيل اللجان الدائمة التي تمارس الضغوط على الدول وتطالب بتقارير دورية توضح فيها الدول ماتم انجازه على مستوى الاتفاقية , مثل المادة (22) من الاتفاقية اعلاه التي تنص على ” يحق للوكالات المتخصصة ان توفد من يمثلها لدى النظر في تنفيذ ما يقع في نطاق اعمالها من احكام هذه الاتفاقية وللجنة ان تدعو الوكالات المتخصصة الى تقديم تقارير عن تنفيذ الاتفاقية في المجالات التي تقع في نطاق اعمالها” . 
3. رفض إدراج تحفظات بصورة قاطعة في الاتفاقية ، أو ان تص الاتفاقية على أن التحفظ لا يجوز غذا ما كان يتعارض مع هدف الاتفاقية .
4. أن اكثر هذه الاتفاقيات تتلائم مع نمط الحياة الغربي .وفهمه لشكل الاسرة والزواج.مثل النظر للمرأة كفرد وليس عضو في أسرة.[4]
5. ولكن قد لا تتعارض كثير من بنود هذه الاتفاقيات مع موقف الشريعة الاسلامية . مثل تحديد سن للزواج الذي قال به تيار أصيل من الفقه الاسلامي، وأخذت به بعض التشريعات في دول إسلامية منذ أمد ٍبعيد.[5] وقد ناقشت بعض البحوث هذه الاتفاقيات بصورة نقدية هادفة بينت بعض إيجابياتها وبينت السلبيات فيها .[6] 
ويعتبر البروتوكول الاختياري [7] الملحق باتفاقية سيداو من ابرز اشكال التدخل عندما سمح بمادته الاولى باختصاص اللجنة الخاصة بالقضاء على التمييز ضد المراة في تلقي التبليغات من الافراد والمجموعات او نيابة عنهم والتي ” يزعمون فيها انهم ضحايا لانتهاك اي من الحقوق الواردة في الاتفاقية على يدي تلك الدولة الطرف…” 
اننا هنا امام سلطة اعلى من سلطات اي دولة من قبل لجنة تابعة لتنفيذ اتفاقية من ضمن الالاف من الاتفاقيات التي توقعها الدول [8] .
ويوضح احد المقالات المهمة التي عنت بهذا الموضوع ان التدخل يكون على مستويين [9] الاول سلبي وهو الحصول على تعهدات من الدول بالامتناع عن اي عمل او ممارسة تتعارض مع الاتفاقيات والثاني إيجابي ، يتمثل في التدخل لفرض تدابير تشريعية ووضع جزاءات (عقوبات ).
واننا رغم اعتراضنا على بعض نصوص هذه الاتفاقيات إلا إننا لا نرى أنه يجب إتخاذ موقف مسبق من هذه الاتفاقيات ورفضها جملة ًأو الاعتقاد بصورة مطلقة أنها تصطدم بأحكام الشريعة الاسلامية . ففي موضوع بحثنا الخاص عن سن الزواج نرى أن ما جاءت به الاتفاقيات الدولية في هذه المسألة لا يزيد عما أخذت به كثير من القوانين وتيار أصيل في الفقه الإسلامي . الا ان الذي ان يتجه له النقاش هو مبدأ التدخل وطلب تعديل الدستور أوالقوانين الوطنية ومدى تلائم ذلك مع قواعد القانون الدولي اومدى تلائم ذلك أو تعارضه مع مبدا السيادة، والذي ذكرنا سابقا انه قد اصبح اقل منعة .حيث يحتاج الامر نقاشا موسعا على مستوى الفقه الدستوري وفقه القانون الدولي العام .
أما على المستوى الاسلامي فإن الأمر يحتاج الى عمل فقهي منظم ومؤسسي، لمناقشة الاحكام والافكار الواردة في هذه الاتفاقيات ،والبحث في مدى توافق ما ورد ويرد فيها مع الشريعة الاسلامية وروح العصر الذي نعيشه وما يختلف معهما ، مع التفرقة بين ما هي احكام قطعية في الشريعة وبين ما ورثناه من إجتهادات ومعالجات لفقهائنا الأوائل لمشاكل زمانهم التي واجهوها بعقول نيرة وأورثونا كل هذا التراث الفقهي الغني . 
الاساليب التي تتبعها الدول لتفادي بعض الاحكام التي لا تلائمها : 
لمواجه ضغوط المنظمات الدولية فقد أعتمدت الدول عدة أساليب متاحة أمامها لتجنب الاحكام التي لا تروقها من هذه الاتفاقيات.إن الاسلوب الاول الذي دأبت الدول على استعماله هو التحفظ ،[10] والتحفظ هو وسيلة قانونية تتجنب فيها الدولة المتحفظة بعض احكام الاتفاقية (وله محاسنه ومساوئه في الاتفاقيات إذا ما نظر اليه بشكل مجرد).
ولا تقوم الدول الاسلامية او العربية بابداء التحفظات فقط بل إن الدول الغربية لها تحفظتها على كثير من الاتفاقيات عندما ترى فيها انتهاكاً لسيادتها او لاعتبارات اخرى .[11] 
وإبداء التحفظات يمثل محاولة الدول للمحافظة على الموازنة بين المتطلبات العالمية المتمثلة بالأفكار والاحكام والاهداف التي تمثلها هذه الاتفاقيات من جهة مع متطلبات السيادة التي تمتلكها الدولة والنظام العام [12]الذي يمثل مجموعة من القيم والافكار والمبادئ التي يقوم عليها النظام السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي للدولة من جهة أخرى.
وقد وضعت كثير من الدول الاسلامية تحفظات على المعاهدات التي تتعلق بالاسرة والزواج فيما يخص مخالفتها للشريعة الاسلامية او بالنسبة لتعلقها فيما يخص السيادة .
اما الاسلوب الثاني لمحاولة ايجاد التوازن فيكون عن طريق تاخير التصديق على الاتفاقية وتاخير اصدار القوانين المتعلقة بها . وهو اسلوب قد يكون غير فعال واحيانا تقوم به الدول بشكل غير مقصود. 
اما الاسلوب الثالث فهو أن الدولة قد تتبنى ما جاءت به الاتفاقية وتضع تشريعاتها بصورة متوافقة معه ، ولكن ليس لانه قد جاءت به هذه الاتفاقيات بقدر ماهو اقتناع بحاجة الدولة الى هذا التشريع او لاتفاقه مع القيم التي يتبناها المجتمع او الدين او القيم التي يلزم بها.
ففي موضوع سن الزواج مثلا فان كثير من الدول الاسلامية عدلت قوانينها او اصدرت قوانين جديدة حددت بموجبه سن الزواج , ولكن هذا لايعني مطلقا انه خضوع للضغوط الدولية فقط , وانما لان هناك قناعة متزايدة بان هذا التحديد لسن الزواج لا يتعارض مع نصوص قاطعة في الشريعة الاسلامية وانه محل اجتهاد فقهي أصيل وانه يتلائم مع المتطلبات المعاصرة للمجتمعات الاسلامية التي تعاني في اغلبها من مشكلة تاخر الزواج او العنوسة بصورة اكبر.
[1] لا نتكلم هنا عن النشئة الحقيقية لهذا القانون على يد الفقهاء المسلمين مثل محمد بن الحسن الشيباني(ت 189هج). وإنما نقصد القانون الدولي العام بشكله الحديث والذي بدأ منذ خمسة قرون تقريبا أنظر _حامد سلطان القانون الدولي العام في وقت السلم _دار النهضة العربية -القاهرة _1976_ص9 ومابعدها . وص 24 وما بعدها 
[2] -مثل منع الاحتكار , والاستقلال الاقتصادي 
[3] – اتفاقية القضاء على جميع اشكال التميز ضد المراة اعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للامم المتحدة 34180 والمؤرخ في 18 كانون الاول ديسمبر 1979 منشورة على موقع مكتبة مينسيوتا (بالغة العربية 9) – التفاقيات الخاصة بحقوق الانسان . 
[4] أنظر مقالة الاثار المترتبة علىإلغاء التحفظات على إتفاقية سيداو .إعداد جمعية العفاف الخيرية الاردنية منشورة على الموقع (WWW.IICWC.COM) 
[5] انتقد المقال القيم السابق ذكره موقف اتفاقية سيداو من سن الزواج وهو ما لانتفق فيه رغم اتفاقنا مع أجزاء أخرى من تلك المقالة . 
[6] أنظر على سبيل المثال بحث أ .سيدة محمود _ الطفل في الاتفاقيات الدولية رؤية نقدية في ضوء الشريعة الاسمية _ منشور على الموقع (WWW.IICWC.COM) 
[7] – البروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز ضد المراة –اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للامم المتحدة (الدورة الرابعة والخمسون )بتاريخ 9تشرين الاول 1999 (منشور باللغة العربية على مكتبة مينسوتا لحقوق الانسان ) 
[8] -لم توقع على هذا البروتوكول من الدول العربية سوى ليبيا وسبع دول اسلاميةاخرى . انضر 0(مذكرة توضيحية باهم القضايا التي تناولتها اتفاقيات المراة الدولية ) بحث منشور على موقع اللجنة الاسلامية لشؤون المراة والطفل(.(WWW.IICWC.COM 
[9] -نفس المصدر السابق ذكره اعلاه . 
[10] -عرفت المادة (الثانيةد) من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات لسنة 1969 التحفظ بانه ( اعلان من جانب واحد ايا كانت صيغته او تسميته يصدرعن الدولة عند توقيعها او تصديقها او قبولها او انضمامها الى معاهدة , وتهدف به استبعاد او تعديل الاثر القانوني لاحكام معينة في المعاهدة من حيث سريانها على الدولة ) أنظر د . عصام العطية القانون الدولي العام – وزارة التعليم العالي بغداد -2007- ص111 
[11] [11] مثل تحفظ فرنسا والمانيا على ديباجة اتفاقية سيداو بالنسبة لحق تقرير المصير لتضمنها “عناصر جدلية”[11]، او تحفظ هولندا على نفس الامر” لعدم رغبتها بادراج مسائل سياسية في الديباجة “- وتحفظت بريطانيا على المادة (1) المتعلقة بتعريف التميز ضد المراة , وتحفظت فرنسا على المادة (7) فيما يخص حق الانتخاب لمن اكتسبوا الجنسية الفرنسية ،او تحفظ الولايات المتحدة ضمن عدة تحفظات على المعاهدة الدولية لحقوق المدنية والسياسية بالنسبة لايقاع عقوبة الاعدام 
-جعفر عبد الرزاق – التحفضات الغربية على معاهدات حقوق الانسان منشور على الموقع( (WWW.salahrazaq.ir.ae/mka-m4-2.htm 
[12] – يعبر فقهاء اصول القانون عادة عن صعوبة وضع تعريف محدد لفكرة النظام العام .