بقلم أ.د. حكمت شبر
برزت فكرة الغاء عقوبة الاعدام في العراق بعد الاحتلال الامريكي, حيث لم تكن واردة في ظل وجود الدولة العراقية طوال ثمانين عاماً, كما ان جميع الدولة العربية والاسلامية تطبق هذه العقوبة بحق القتلة والمجرمين الحتات.
لقد ازدادت الحاجة الى تطبيق عقوبة الاعدام بعد تفاقم الجرائم المختلفة في المجتمع العراقي وفي مقدمتها الجرائم الارهابية التي ترتكب كل يوم تقريبا بحق الابرياء من ابناء شعبنا من قبل مجرمين لا يعرفون الرحمة فيعمدون الى قتل الناس على الهوية القومية او المذهبية بل يعمدون الى ذبحهم بسبب آراء تكفيرية بحق المذاهب والاديان الاخرى متنكرين لمبادئ الدين الحنيف وما يقول به القرآن الكريم والنبي (ص) حيث حرم قتل النفس إلا بالحق {من قتل نفساً بغير نفس أو فساداً في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً}, كيف نواجه مثل هذه الجرائم البشعة, ولا يغرب عن بالنا ان الجرائم الاخرى وجدت لها مرتعا خصبا في ظل غياب الامن, الذي لم تحافظ عليه الدولة المحتلة لاسباب لازلنا نجهلها منذ احتلال العراق ولحد الان, فجرائم الخطف والاغتصاب والقتل العمد ترتكب كل ساعة في مختلف المدن العراقية ونرى الجيش المحتل يطلق سراح المجرمين بعد ايام قليلة من اعتقالهم مما شجع ويشجع على الاستمرار في ارتكاب الجرائم.
ولابد لنا من القاء الضوء على هذه الجرائم وكيفية مكافحتها والعقوبة الواجبة بحق من ارتكبها في ضوء.
- 1- القانون الدولي العام.
- 2- الشريعة الاسلامية.
- 3- موقف القانون العراقي والاجهزة الامنية والقضائية.
القانون الدولي العام من الجرائم ضد الانسانية:
لقد عرف القانون الدولي العام محاكمات عديدة لمجرمي الحرب النازيين من الالمان والفاشيست من اليابانيين في محاكمات نورمبرج وطوكيو. وقد ادين قادة الحرب في الجرائم المرتكبة في قبلهم ونفذ بهم حكم الاعدام, وقد تطور القانون الدولي العام تطوراً كبيراً فيما يتعلق بجرائم الحرب الابادة والاغتصاب والتعذيب وانتهاك حقوق الانسان, وتم التوقيع على العديد من المعاهدات المتعددة الاطراف الخاصة بهذه الجرائم, كمعاهدة تحريم ابادة الجنس البشري لعام 1948م, واعلان حقوق الانسان لعام 1949م, ومن ثم مواثيق حقوق الانسان لعام 1966م, وكذلك معاهدات جنيف الاربعة الخاصة بالتعامل مع المدنيين اثناء الحرب والبروتوكولات المعدلة لهذه الاتفاقيات لعام 1977م, وغيرها من المعاهدات المهمة والتي توجت بمعاهدة روما لعام 1998م, التي أنشأت محكمة الجنايات الدولية المختصة بمعاقبة الابادة والاغتصاب والتعذيب.
ان هذا السجل من المعاهدات الخاصة بحماية الانسان في وقت السلم والحرب اسست لفرع جديد من فروع القانون الدولي يسمى (القانون الدولي الانساني), الذي يعنى برعاية حقوق الانسان في السلم والحرب, ويوقع العقوبات على مرتكبي الجرائم ضد الانسانية.
لقد تطورت قواعد القانون الدولي التي كانت بعيدة عن التدخل في شؤون الدولة الداخلية, الى التدخل لأسباب انسانية ضد مرتكبي الجرائم اللاإنسانية بحق شعوبهم كما نصت على ذلك المادة (8) من ميثاق محكمة الجنايات الدولية, واصبح من يرتكب جرائم الابادة بحق شعبه وكذلك الجرائم الاخرى المتمثلة بالاغتصاب والتعذيب والقتل والتشريد والتهجير, كما رأينا مؤخراً في قرار مجلس الامن حول مجرمي قبائل (الجنجويد) ومن تعاون معهم من السلطات السودانية ممن ارتكب جرائم الابادة والاغتصاب والتعذيب والتهجير بحق سكان دارفور, بحيث ينتظر ان يحاكموا قريبا على مثل هذه الجرائم. ان ذلك يعد تطوراً مهماً في ملاحقة مجرمي الحرب من الحكام واعوانهم ممن تحصنوا سابقاً بحصاناتهم الداخلية وتجنبوا العقوبات الدولية. كما ان محاكمات مجرمي الحرب في يوغسلافيا ورواندا تدل على ان من يرتكب هذه الجرائم لا يمكن ان يسلم من العقاب الدولي, حتى لو سلم من عقاب قوانينه الداخلية.
اذن القانون الدولي الانساني بأحكامه ومعاهداته يقف بالمرصاد لمن يتجاوز على حقوق الانسان فما هو موقف القانون الدولي من الوضع في العراق وبشكل خاص من عقوبة الاعدام الذي يطالب البعض بإلغائها لا يمكن لنا ان نتجاهل الحقائق الدامغة التي تواجهنا كل يوم والمتمثلة بالاحتلال الامريكي للعراق. وقد اضفى مجلس الامن الشرعية على هذا الاحتلال الاجنبي ومعدومة السيادة حتى التحرير من هذا الاحتلال فهل يجوز للدولة المحتلة ان تتصرف كما تشاء في العراق البلد المحتل.
كلا ثم كلا فهي ملتزمة بقواعد واحكام اتفاقيات جنيف لعام 1949م, والعدلة ببرتوكولات جنيف لعام 1977م, والتي تقضي بحماية السكان المدنيين في زمن الاحتلال والتعامل معهم بشكل انساني لا يجيز للمحتل ان يتصرف بحقهم تصرفات لا انسانية ويتجاوز على حقوقهم وممتلكاتهم وعلى اشخاصهم , بل ان المادة (64), من الاتفاقية الثالثة تفرض على المحتل ان يحافظ على ديمومة وتطبيق القوانين الجنائية للبلد المحتل دون تغيير إلا فيما يتعلق بأمن جيشه وقواته, كما ان نص المادة (68), يفرض على المحتل تطبيق عقوبة الاعدام في حالات الجرائم الدولية والمتعددة, والتخريب والتجسس. لذا فان ما قام به (بريمر) الحاكم المدني من ايقاف العمل بعقوبة الاعدام لا يستند الى الشرعية ولا يمكن لأية قوة ان توقف عقوبة الاعدام بحق مجرمي الحرب والابادة من قادة الحكم الاسود في العراق المظلوم وشعوب مسالمة وجارة لنا, ارتكب صدام بحقها جرائم حبية تتمثل باستخدام الغازات والمواد البيلوجية المحرمة دولياً وجرائم حرب بحق الاسرى والمدنيين اثناء احتلال الكويت كالتعذيب والاغتصاب وغيرها من الجرائم,
كما لا يمكن ان يغيب الزمن قوة القانون ازاء هؤلاء المجرمين فهي لا تسقط بالتقادم مطلقاً, كما وانهم يخضعون لقانون الجنائي العراقي للجرائم التي ارتكبت بحق الشيعة والاكراد, وهذه الجرائم البشعة التي خلفت في الانفال وانتفاضة آذار 1991م, مئات المقابر الجماعية, فكيف يراد منا ان نلغي عقوبة الاعدام بمن ارتكب هذه الجرائم والداخلية, كما لا يمكن ان تلغي الاعداد بحق المخربين والارهابيين من اعوان صدام, الذين ساهموا معه في جرائمه بحق الشعب العراقي, وهم يقومون بالوقت الحاضر بارتكاب ابشع الجرائم بحق شعبنا منفذين تعليمات ووصايا قائدهم بالاستمرار بإبادة الشعب العراقي, وكذلك بحق التكفيريين من العرب الذين يرتكبون جرائم التفخيخ الانتحارية ويحرضون ويشتركون فيها فمن قتل (95) انسانا هل يمكن الرأفة به؟ ومن ذبح العشرات من المواطنين العراقيين هل يمكن ان يفلت من عقوبة الاعدام؟ ومن قتل الاطفال والشيوخ والنساء علة الهوية هل يمكن ان ينجو من عقوبة الاعدام؟ كلا فالقيم الانسانية تدعو لتطبيق اقسى العقوبات بحق هؤلاء عقاباً لهم على جرائمهم وردعاً للآخرين عن الاستمرار بهذه الجرائم.
1- ما هو موقف الشريعة الاسلامية من عقوبة الاعدام.
كان الانسان محط اهتمام وعناية الرسالات السماوية وفي مقدمتها الشريعة الاسلامية التي أولت الانسان كل معاني الرحمة ومنحه العناية اللائقة به على اعتباره هدفاً وجدت وانزلت كل الرسالات السماوية من أجله لتنظيم شؤونه بما يتلائم وحياته الطبيعية, فلم تجز الشريعة الاسلامية التجاوز عليه أو الاعتداء على شخصه وماله وعرضه وحرمت تحريماً مطلقاً قتله إلا بالحق.
كما ان القصاص من اقدم انظمة العقوبات التي عرفها عراق الحضارات القديمة , فقد فرضت شريعة حمورابي القصاص في قانونها ونصت على الاعدام في حالة القتل, وجاءت نصوص القرآن الكريم واضحة وصريحة في انزال العقاب العادل بمن يرتكب جريمة القتل بدون مسوغ شرعي, جاء في الاية الكريمة {ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب} (البقرة: 179), ونص هذه الآية واضح وصريح لا لبس فيه, اذان الله عز وجل أراد للمسلمين تنفيذ القصاص بحق القاتل الذي يجب ان يعاقب في الدنيا قبل الاخرة لتسببه في حرمان انسان بريء من حياته, وكذلك تمثل هذا العقاب بردع الاخرين من ارتكاب جريمة القتل, ولعلني لا اغالي اذا قلت ان هناك غاية في منتهى الاهمية بفرض هذه العقوبة على المجرمين تتمثل في قضية الثأر وآثارها السلبية المقيتة في المجتمعات العربية المتخلفة, والتي اعتمدت الثأر سلوك في تعاملها لمدة طويلة حتى الوقت الحاضر, وفي التاريخ دلالات ومصاديق لما يخلفه الثأر من مآس فكم دامت حرب البسوس بين القبائل العربية بسبب اللجوء الى الثأر المتأتي من قتل بصبر.
لقد نمت وتطورت هذه المأساة في الوجدان العربي بشكل رهيب وادت الى الفرقة والتناحر بين القبائل العربية , حتى انها اضرت الى تحريم الثأر والقتل في الاشهر الحرم, وعدما جاء الرسول الكريم (ص) برسالة القرآن التي وحدت القبائل المتناحرة تحت راية الاسلام, تم تحريم القتل من دون حق وجعل القصاص بيد الشرع الاسلامي, ولا ندري كيف سولت للمتطرفين انفسهم ممن يدعون الاسلام زوراً الدعوى الى القتل والاغتصاب وقطع الرؤس باسم الاسلام دين سماحة والعدالة.
2- موقف القانون والقضاء العراقي من عقوبة الاعدام.
كان قانون العقوبات العراقي وفي مختلف ادوار الدولة العراقية منذ تأسيسا وحتى الوقت الحاضر يأمر بالإعدام في حالات القتل العمد مع سبق الاصرار وتعدد القتول والقتل عند السرقة والسلب الخ من العوامل المشددة التي تجعل القاضي يطبق عقوبة الاعدام ولكن ظروف الاحتلال التي مرت بالبلد واساءة إدارة الدولة من قبل المحتلين, حيث عمت الفوضى جميع مرافق الحياة ووقع السلب والنهب وتجاوز الارهابيون كل الحدود وفي نفس الوقت حلت الدولة المحتلة جميع الاجهزة الامنية التي كانت تسهر على تطبيق وتنفيذ القانون مما زاد من انتشار الجريمة داخل العراق. ومما زاد الطين بلة الموقف القانوني وقفه حاكم العراق بايقاف تنفيذ عقوبة الاعدام مما جعل الامور تزداد سوء وتتكاثر الجريمة بمختلف اشكالها.
لقد كان الحكم آنذاك خاضعاً لإرادة الحاكم المحتل لذلك أوقف العمل بهذه العقوبة ومما زاد الطين بلة ان القضاة ولأسباب لا علاقة لها بالعقوبة وقفوا موقفاً سلبياً إزاء تطبيقها, فقد حكموا بأحكام مخفضة على مجرمين وإرهابيين عتاة يستحقون الاعدام الف مرة. بل ان الدولة العراقية اصدرت قانون الطوارئ الذي يشدد ويسرع في تطبيق العقوبات الصارمة بحق من يتجاوز على القانون بالرغم من الاعتراضات التي جاءت تنتقد صدور هذا القانون باسم تطبيق الديمقراطية الخ من الشعارات التي يلجأ إليها أعداء العراق لتبرير الجريمة والارهاب في الاراضي العراقية. فلماذا توقف القضاة عن تطبيق هذه العقوبة هنالك ثلاث اسباب كما أرى لعبت دوراً مهما في التأثير على موقف القضاة.
- 1- موقف المحتل أخطا المحتل الامريكي ومنذ البداية كثيراً في معالجته للجرائم العادية والارهابية ومعاقبة المجرمين بعقوبة الاعدام. حتى ان سلطات المحتل كانت تطلق سراح المجرم الذي ارتكب جريمة القتل والارهاب بعد القاء القبض عليه بفترة قصيرة بدون التحقيق معه ومحاكمته وكنا نسمع بتبريرات لا تستند الى الاسانيد القانونية, كالرفق بالانسان وتطبيق حقوقه في هذه الحالات, واعتقد جازماً ان سلطات الاحتلال لعبت ولا زالت تلعب دوراً مهما في ايقاف هذه العقوبة تطبق في الكثير من الولايات الامريكية..
فلماذا تمنع في بلدنا؟ ولعلي لا اجانب الواقع اذا قلت ان الجرائم التي ارتكبت من قبل الامريكان تجاوزت عشرات الالوف من ضحايا الشعب العراقي المبتلى دائماً بمثل هذه الجرائم. ولكن للقضاء العراقي لا يملك الوسيلة لمحاكمة هؤلاء الجنود والضباط لما يتمتعون به من حصانة وكأنها في عهود الكولونالية التي كانت تمنع محاكمة الغربيين أمام المحاكم الشرقية. فأي قاعدة دولية تمنح هؤلاء الحصانة إزاء القوانين الوطنية . ان القانون الدولي يفرض على المحتل ان يحترم قوانين وانظمة الدولة المحتلة ولا يتعدى على الناس المسالمين ولا يتجاوز على حياتهم واملاكهم ومعتقداتهم. كما ان الاتفاقية الاخيرة التي وقعت في روما عام 1998م, ودخلت حيز التنفيذ تأمر بمحاكمة مجرمي الحرب على جرائمهم وما اكثرها في العراق, حتى ان الحكومة الانتقالية السابقة تعرضت الى ضغط كبير من قبل المحتلين الامريكان في الانسحاب من الاتفاقية حتى لا تقيم الدولة العراقية او المواطنين العراقيين الدعوى امام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي.
وعلى هذا الاساس ارى بأننا لازلنا فاقدين لعناصر سيادتنا وممنوعين بالقوة من تطبيق القوانين العادلة بحق من يتجرأ أو يتجاوز على حقوقنا ولذلك نجد ان هذا الموقف الضعيف للحكومة العراقية يجب ان يتغير لنستعيد من خلاله كامل السيادة في تطبيق القوانين في بلادنا.
- 2- موقف القضاء والحكومة العراقية. ان القاضي العراقي وهو يرى في كل يوم جرائم القتل التي ترتكب بحق قضاء شرفاء نذروا انفسهم لخدمة العدالة وقضية شعبهم, فكم من قاض قتل قبل ان يطبق عقوبة الاعدام بحق المجرمين والارهابيين من عراقيين وأجانب فالخوف الذي ينتاب قضاتنا من القتلة والارهابيين هو سبب في ضعف موقفهم من تطبيق عقوبة الاعدام بحق من يستحقها ممن قتل واغتصب, كما ان الحكومة الموقرة قاصرة في تأمين سلامة هؤلاء القضاة وعوائلهم من المجرمين العتاة المنفلتين في شوارعنا يرتكبون يومياً عشرات جرائم القتل بحق ابناءنا من قضاة ومسؤولين , أفلا تستطيع من توفر لنفسها ولأعضاء الحكم والوزراء من الحمايات القوية ان تقوم بتوفير حمايات لمن اوكلت إليه حماية القانون وتطبيقه بحق القتلة, واعتقد ان الحكومة الحالية قادرة على توفير مثل هذه الحماية حتى يستطيع القضاة تنفيذ واجباتهم بدون خوف أو وجل على حياتهم وحياة افراد عوائلهم …ليتمكنوا بعد ذلك من تطبيق العدالة بدون خوف او وجل.